وَقَدْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» :«أَمَّا الْيَوْمَ فَكُلُّ أَحَدٍ يَخْتَرِعُ لِلْآيَةِ سَبَبًا، وَيَخْتَلِقُ إِفْكًا وَكَذِبًا، مُلْقِيًا زِمَامَهُ إِلَى الْجَهَالَةِ، غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي الْوَعِيدِ» وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ مِمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ» اهـ.
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا لَيْسَ الْمُفَسِّرُ بِغِنًى عَنْ عِلْمِهِ لِأَنَّ فِيهَا بَيَانُ مُجْمَلٍ أَوْ إِيضَاحُ خَفِيٍّ وَمُوجَزٍ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ وَحْدَهُ تَفْسِيرًا، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ الْمُفَسِّرَ عَلَى طَلَبِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي بِهَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أَتَى، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [آل عمرَان: ١٨٨] فَأَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَائِلًا: «إِنَّمَا دَعَا النَّبِيءُ الْيَهُودَ فَسَأَلَهَمُ عَلَى شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمرَان: ١٨٧، ١٨٨] الْآيَاتِ».
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: ١٥٨] فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا، لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما اهـ.
وَمِنْهَا مَا يُنَبِّهُ الْمُفَسِّرَ إِلَى إِدْرَاكِ خُصُوصِيَّاتٍ بَلَاغِيَّةٍ تَتْبَعُ مُقْتَضَى الْمَقَامَاتِ فَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا يُعِينُ عَلَى تَصْوِيرِ مَقَامِ الْكَلَامِ كَمَا سَنُنَبِّهُكَ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَقَدْ تَصَفَّحْتُ أَسْبَابَ النُّزُولِ الَّتِي صَحَّتْ أَسَانِيدُهَا فَوَجَدْتُهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْهَا عَلَى عِلْمِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ لِلْمُفَسِّرِ، وَهَذَا مِنْهُ تَفْسِيرُ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: ١١]،
داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: ١٦]، وَهَذَا هُوَ فِقْهُ اللُّغَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّافُ»، وَأَمَّا مَا خَالَفَهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَخْلِيطِ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّفَصِّيَ مِنْ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِنْدَ قَاطِبَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْعُلَمَاءِ، إِلَّا خِلَافًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَصَارَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُقْتَضِيًا أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ حُجَّةً لِمُشَابَهَتِهِ لِلْحُجَّةِ فِي سِيَاقِهِمْ إِيَّاهُ مَسَاقَ الْبُرْهَانِ أَيْ فَاسْتِثْنَاءُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِحُجَّةٍ أَيْ بِمَا يُشْبِهُ الْحُجَّةَ، فَحَرْفُ إِلَّا يَقْتَضِي تَقْدِيرَ لَفْظِ حُجَّةٍ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ لَيْسَ ببدع لاسيما مَعَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ يُخَالِفُ الْأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَشْغَبُونَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ مَعْطُوفٌ على
قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا وَهُوَ أَنَّهُ تَعْلِيلُ الِامْتِثَالِ فَالْمَعْنَى أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِاسْتِيفَاءِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُكُمْ إِلَى أَفْضَلِ بَيْتٍ بُنِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِامْتِثَالِ مَا أُمِرْنَا بِهِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ الِاسْتِقَامَةُ وَبِهَا دُخُول الْجنَّة. وَقد روى التِّرْمِذِيّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِتْمَامِ النِّعْمَةِ دُخُول الْجنَّة»، أَي غَايَة إتْمَام النِّعْمَة عَلَيْنَا دُخُولُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَاهَا (١) فَالْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ هُنَا إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا إِتْمَامُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ نَاقِصًا، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَة: ١٢٤] أَيِ امْتَثَلَهُنَّ امْتِثَالًا تَامًّا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهَا ثُمَّ فَعَلَ بَعْضًا آخَرَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ وَلِتَكُونَ نِعْمَتِي نِعْمَةً وَافِرَةً فِي كُلِّ حَالٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ عَطْفٌ عَلَى وَلِأُتِمَّ أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ امْتِثَالِكُمْ فَيَحْصُلُ الِاهْتِدَاءُ مِنْكُمْ إِلَى الْحَقِّ. وَحَرْفُ لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ مَعْنَى الرَّجَاءِ وَهُوَ قُرْبُ ذَلِكَ وَتَوَقُّعُهُ. وَمَعْنَى جَعْلِ ذَلِكَ الْقُرْبِ عِلَّةً أَنَّ اسْتِقْبَالَهُمُ الْكَعْبَةَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُعْتَدِينَ فِي
_________
(١) فَإِن
الحَدِيث عَن معَاذ قَالَ: مر النبيء بِرَجُل يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك تَمام نِعْمَتك قَالَ تَدْرِي مَا تَمام النِّعْمَة؟ تَمام النِّعْمَة دُخُول الْجنَّة والفوز من النَّار
مَسَائِلِ الْحَجْبِ مِنَ الْفَرَائِضِ، وَبِحَسَبِ الْأَحْوَجِيَّةِ إِلَى الْمَالِ، كَتَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى لِأَنَّهُ يَعُولُ غَيْرَهُ وَالْأُنْثَى يَعُولُهَا غَيْرُهَا. وَالْتَفَتَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ فَتَرَكَ لَهُمْ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ أَمْوَالِهِمْ يُعَيِّنُونَ مَنْ يَأْخُذُهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى شَرْطِ أَلَّا يَكُونَ وَارِثًا، حَتَّى لَا يَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى تَنْفِيلِ وَارِثٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الِانْتِزَاعِ انْتِزَاعًا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْمُوَاسَاةِ بِالصَّدَقَاتِ وَالْعَطَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَإِسْلَافِ الْمُعْسِرِ بِدُونِ مُرَابَاةٍ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ انْتِزَاعُ أَعْيَانِ الْمَمْلُوكَاتِ مِنَ الْأُصُولِ فَالِانْتِزَاعُ لَا يَعْدُو انْتِزَاعَ الْفَوَائِدِ بِالْعَدَالَةِ وَالْمُسَاوَاةِ.
وَجُمْلَةُ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَتَنْكِيرُ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ أَقَلُّ قَوْلٍ مَعْرُوفٍ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، أَيْ لَا يُنْكِرُونَهُ. فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْحَسَنُ وَهُوَ ضِدُّ الْأَذَى.
وَالْمَغْفِرَةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا التَّجَاوُزُ عَنِ الْإِسَاءَةِ أَيْ تَجَاوُزُ الْمُتَصَدِّقِ عَنِ الْمُلِحِّ أَوِ الْجَافِي فِي سُؤَالِهِ إِلْحَاحَهُ أَوْ جَفَاءَهُ مِثْلَ الَّذِي يَسْأَلُ فَيَقُولُ: أَعْطِنِي حَقَّ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيُرَادُ بِهَا أَيْضًا تَجَاوُزُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الذُّنُوبِ بِسَبَبِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ إِذَا كَانَ مَعَهَا قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْأَذَى يُوشِكُ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلتَّذْكِيرِ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَتَخَلَّقَ بِهِمَا الْمُؤْمِنُونَ وَهُمَا: الْغِنَى الرَّاجِعُ إِلَيْهِ التَّرَفُّعُ عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَطِيَّةِ بِمَا يُبَرِّدُ غَلِيلَ شُحِّ نَفْسِ الْمُعْطِي، وَالْحِلْمُ الرَّاجِعُ إِلَيْهِ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنْ رُعُونَةِ بَعْضِ الْعُفَاةِ.
وَالْإِبْطَالُ جَعْلُ الشَّيْءِ بَاطِلًا أَيْ زَائِلًا غَيْرَ نَافِعٍ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ. فَمَعْنَى بُطْلَانِ الْعَمَلِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا أَمْ كَانَ مُتَطَوَّعًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا فَبُطْلَانُهُ عَدَمُ إِجْزَائِهِ بِحَيْثُ لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ مِنْ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ وَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَّ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ مِنَ الْعَمَلِ. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُتَطَوَّعًا بِهِ رَجَعَ الْبُطْلَانُ إِلَى عَدَمِ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنِ اعْتِبَارِ ثَوَابِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا جَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.
وَالْمُشْرِكِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: ٥٩] وَقَوْلِهِ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [الْمَائِدَة: ٧٤] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمرَان: ٦٦] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: ٦٨] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمرَان: ٧٩] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمرَان: ٨١] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها [آل عمرَان: ٩٣] وَقَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
[آل عمرَان: ٩٦]، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْثَالٍ وَمَوَاعِظَ وَشَوَاهِدَ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْإِخْبَارِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَيْ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْوَاقِعِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ بَيَّنَتْ عَقَائِدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفَصَّلَتْ أَحْوَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِنَ الْحَقِّ اسْتِحْقَاقُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لِمَا عُومِلَ بِهِ عَدْلًا من الله، وَلذَا قَالَ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ النَّاسَ وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لِفَعَلَهُ، لَكِنَّهُ وَعَدَ بِأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدًا فَحَقَّ وَعْدُهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الظُّلْمَ إِذْ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَتِهِ.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا لِإِفَادَةِ تَقْوَى الْحُكْمِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ إِرَادَةِ ظُلْمِ الْعَالَمِينَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنْكِيرُ (ظُلْمًا) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ جِنْسِ الظُّلْمِ عَنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَا يُعَدُّ ظُلْمًا فِي مَجَالِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مُنْتَفٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] عَطْفٌ عَلَى التَّذْيِيلِ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يُرِيدُ صَلَاحَ حَالِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِإِضْرَارِهِمْ إِلَّا لِلْجَزَاءِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ. فَلَا يُرِيدُ ظُلْمَهُمْ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا فَلَا يَفُوتُهُ ثَوَابُ مُحْسِنٍ وَلَا جَزَاءُ مُسِيءٍ.
وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي بَعْدَ الْأَوْلَى
مُخَالَفَةً لِدَلِيلِ الْأَصْلِ فَاقْتَضَى تَأْوِيلَ مَعْنَى الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا يَطَّرِدُ كَوْنُهُ بِيَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُطَلِّقُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمَسُوقُ لَهُمَا الْكَلَامُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَقْصِدَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحَكَمَيْنِ، فَوَاجِبُ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْظُرَا فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ نَظَرًا مُنْبَعِثًا عَنْ نِيَّةِ الْإِصْلَاحِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ الْإِصْلَاحُ فَذَلِكَ وَإِلَّا صَارَا إِلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ وَعَدَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا إِذَا نَوَيَا الْإِصْلَاحَ، وَمَعْنَى التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إِرْشَادُهُمَا إِلَى مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَالْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ أَطْمَنُ لَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَصَرَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَنَدًا لِتَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ رَسُولَانِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا زَادَ عَلَى أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ نِيَّةَ الْإِصْلَاحِ تَكُونُ سَبَبًا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا، وَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ مُتَطَوِّحًا عَنْ مُفَادِ التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ يَبْعَثُهُمَا الزَّوْجَانِ وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا، أَيْ إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ مِنْ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِصْلَاحَ أَمْرِهِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى تَيْسِيرِ عَوْدِ مُعَاشَرَتِهِمَا إِلَى أَحْسَنِ حَالِهَا. وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى قَصْرِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ التَّفْرِيقِ: لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الزَّوْجَيْنِ الْإِصْلَاحَ تُحَقِّقُهُ، وَإِرَادَتَهُمَا الشِّقَاقَ وَالشَّغَبَ تَزِيدُهُمَا، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعْيِينِ خُطَّةِ الْحَكَمَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَسْأَلَةُ التَّحْكِيمِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْه.

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٦٨ إِلَى ١٦٩]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: ١٦٧]، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَعْرِفَةَ جَزَاءِ هَذَا الضلال قبيّنته هَذِهِ الْجُمْلَةُ.
وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ دُونَ أَنْ يُذْكَرَ ضَمِيرُهُمْ لِتُبْنَى عَلَيْهِ صِلَةُ وَظَلَمُوا، وَلِأَنَّ فِي تَكْرِيرِ الصِّلَةِ تَنْدِيدًا عَلَيْهِمْ. وَيَجِيءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ظُلْمُ النَّفْسِ، وَظُلْمُ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ، كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَال الْقُرْآن كَقَوْلِه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ فِي الْأَنْوَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ، كَظُلْمِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَظُلْمِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَعْذِيبِهِمْ فِي اللَّهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ، وَمُصَادَرَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالنِّفَاقِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْخِدَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ارْتِكَابُ الْمَفَاسِدِ وَالْجَرَائِمِ مِمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ صِيغَةُ جُحُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، فَهِيَ تَقْتَضِي تَحْقِيقَ النَّفْيِ، وَقَدْ نُفِيَ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ تَحْذِيرًا مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ نِيطَ بِالْوَصْفِ وَلَمْ يُنَطْ بِأَشْخَاصٍ مَعْرُوفِينَ، فَإِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا. وَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا: إِنْ كَانَ طَرِيقا يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ وَاضِحٌ: أَيْ لَا يهْدِيهم طَرِيقا بوصلهم إِلَى مَكَانٍ إِلَّا طَرِيقًا يُوَصِّلُ إِلَى جَهَنَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الطَّرِيقِ الْآيَاتُ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦]. فَنَفْيُ هَدْيِهِمْ إِلَيْهِ
مَا قَتله، أَي يكافىء وَيُعَوِّضُ مَا قَتَلَهُ. وَإِسْنَادُ الْجَزَاءِ إِلَى الْمِثْلِ إِسْنَادٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةً، أَيْ فَجَزَاءٌ هُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ:
٣٧]. وَهَذَا نَظْمٌ بَدِيعٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النِّسَاء: ٩٢]، أَيْ فَلْيُحَرِّرْ رَقَبَةً. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ فَلْيُجْزَ مِثْلَ مَا قَتَلَ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّعَمُ هُوَ الْمُعَوَّضَ لَا الْعِوَضَ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ فِعْلُ (جَزَى) بِالْبَاءِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمُعَوَّضِ بِنَفْسِهِ. تَقُولُ: جَزَيْتُ مَا أَتْلَفْتُهُ بِكَذَا دِرْهَمًا، وَلَا تَقُولُ: جَزَيْتُ كَذَا دِرْهَمًا بِمَا أَتْلَفْتُهُ، فَلِذَلِكَ اضْطَرَّ الَّذِينَ قَدَّرُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى جَعْلِ لَفْظِ (مِثْلِ) مُقْحَمًا. وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِمْ: «مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ»، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وَسَكَتَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ وَقَرَّرَ الْقُطْبُ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» عَلَى لُزُومِ جَعْلِ لَفْظِ مِثْلُ مُقْحَمًا وَأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، يَعْنِي نَظِيرَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] وَكَذَلِكَ ألزمهُ إِيَّاه التفتازانيّ، وَاعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي كَلَامِهِ بِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بِصَدَدِ بَيَانِ الْجَزَاءِ لَا بِصَدَدِ بَيَانِ أَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ مَا قَتَلَ. وَهُوَ اعْتِذَارٌ ضَعِيفٌ. فَالْوَجْهُ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ أَصْلِهِ. وَقَدِ اجْتَرَأَ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ:
أَنْ لَا وَجْهَ لِقِرَاءَةِ الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ وَهْمٌ مِنْهُ وغفلة من وُجُوهِ تَصَارِيفِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ فَجَزاءٌ مِثْلُ بِتَنْوِينِ (جَزَاءٌ).
وَرَفْعُ (مِثْلُ) عَلَى تَقْدِيرِ: فَالْجَزَاءُ هُوَ مِثْلُ، عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ
الْمَفْعُولِ، أَيْ فَالْمَجْزِيُّ بِهِ الْمَقْتُولَ مِثْلُ مَا قَتَلَهُ الصَّائِدُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوضِع الصّفة لجواء أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ، أَيْ بِتَعْيِينِهِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ كُلُّ أَحَدٍ مَعْرِفَةَ صِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ فَوَكَّلَ اللَّهُ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى الْحُكْمَيْنِ. وَعَلَى الصَّائِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ صِفَةُ الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ فَيَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَيْهِمَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجِيبَاهُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْهُمَا وَهُمَا يُعَيِّنَانِ الْمِثْلَ وَيُخَيِّرَانِهِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمِثْلَ أَوِ الطَّعَامَ أَوِ الصِّيَامَ، وَيُقَدِّرَانِ لَهُ مَا هُوَ قَدْرُ الطَّعَامِ إِنِ اخْتَارَهُ.
(١٢٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٢] فَلَهَا حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، لِبَيَانِ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ اسْتِمْرَارِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَكْرُ أَكَابِرِ قريتهم بالرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَصَرْفُهُمُ الْحِيَلَ لِصَدِّ الدَّهْمَاءَ عَنْ مُتَابَعَةِ دَعْوَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وكَذلِكَ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ بِتَأْوِيلِ كَذلِكَ الْمَذْكُورِ.
وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ هَذَا الْجَعْلِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مَضَتْ أَكَابِرَ يَصُدُّونَ عَنِ الْخَيْرِ، فَشَبَّهَ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ مِنْ أَهِلِ مَكَّةَ فِي الشِّرْكِ بِأَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ فِي أَهْلِ الْقُرَى فِي الْأُمَمِ الْأُخْرَى، أَيْ أَنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِبِدْعٍ وَلَا خَاصٍّ بِأَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ، فَإِنَّهُ سُنَّةُ الْمُجْرِمِينَ مَعَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ.
فَالْجَعْلُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَوَضْعِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ سُنَنُ خَلْقِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِ الشَّرِّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْقُرَى.
وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَدَاوَةِ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، لِأَنَّهُمْ لِبَسَاطَةِ طِبَاعِهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْخَيْرَ تَقَبَّلُوهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُرَى، فَإِنَّهُمْ لِتَشَبُّثِهِمْ بِعَوَائِدِهِمْ وَمَا أَلِفُوهُ، يَنْفِرُونَ مِنْ كُلِّ مَا يُغَيِّرُهُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَة: ١٠١] فَجَعَلَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْرَابِ نِفَاقًا مُجَرَّدًا، وَالنِّفَاقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا مَارِدًا.
وَقَدْ يَكُونُ الْجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَهُوَ تَصْيِيرُ خَلْقٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ تَصْيِيرُ مَخْلُوقٍ إِلَى صِفَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّ تَصَارُعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَكُونُ بِمِقْدَارِ غَلَبَةِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى أَهْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْخَيْرِ انْقَبَضَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا انْعَكَسَ الْأَمْرُ انْبَسَطَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَكَثَرُوا.
وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ اسْتُحِقَّ التَّقْدِيمُ فَإِنَّ الْمَجْرُورَ إِذَا قُدِّمَ قَدْ يُفِيدُ مَعْنًى قَرِيبًا مِنَ الشَّرْطِيَّةِ، كَمَا فِي
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ»
وَفِي رِوَايَةٍ جَزَمَ تَكُونُوا مَعَ عَدَمِ مُعَامَلَةِ عَامِلِهِ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِعَلَامَةِ الْجَزْمِ فَلَمْ يُرْوَ «يُوَلَّى» إِلَّا بِالْأَلْفِ فِي آخِرِهِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْجَزْمِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ، إِذْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التّقديم منافيا لِتَصْدِيرِ لَامِ الْقَسَمِ فِي جُمْلَتِهَا، عَلَى أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ ذَلِكَ فَقَدْ خُولِفَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْقعُود عَن كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ
كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
قُعُودًا لَدَى أَبْيَاتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ
أَيْ مُلَازِمِينَ أبياتا لغَيرهم يرد الْجُلُوسَ، إِذْ قَدْ يَكُونُونَ يَسْأَلُونَ وَاقِفِينَ، وَمَاشِينَ، وَوَجْهُ الْكِنَايَةِ هُوَ أَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْيَاءَ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ، فَيَقْعُدُ الْمُلَازِمُ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمُسْتَجِيرِ اسْمُ الْقَعِيدِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَعِيدِ عَلَى الْمُلَازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: ١٧] أَيْ مُلَازِمٍ إِذِ الْمَلَكُ لَا يُوصَفُ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ.
وَلَمَّا ضُمِّنَ فِعْلُ: لَأَقْعُدَنَّ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ انْتَصَبَ صِراطَكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى لَأَقْعُدَنَّ تَقْدِيرُهُ: فَامْنَعَنَّ صِرَاطَكَ أَوْ فَأَقْطَعَنَّ عَنْهُمْ صِرَاطَكَ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ كَقَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: ٥].
وَإِضَافَةُ الصِّرَاطِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ على تَقْدِير اللّام أَيِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ لَكَ أَيِ الَّذِي جَعَلْتُهُ طَرِيقًا لَكَ، وَالطَّرِيقُ لِلَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْعَازِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ إِلَى مَقْصِدٍ يَنْفَعُهُ وَسَعْيِهِ إِذَا اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقِهِ قَاطِعُ طَرِيقٍ مَنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ.
الْخَبَرِ الْمَقَامُ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِإِلْقَاءِ آلَاتِ سِحْرِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى مِثْلُهُمْ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ طه، جَعَلَ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ إِلْقَاؤُكُ أَوْ إِلْقَاؤُنَا، وَلَمَّا كَانَ الْوَاقِعُ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ الْفَائِدَةَ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ، فَلَا يَحْسُنُ الْإِخْبَارُ بِهَا مِثْلَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى غَيْرِ الْإِخْبَارِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّخْيِيرُ أَيْ: إِمَّا أَنْ تَبْتَدِئَ بِإِلْقَاءِ آلَاتِ سِحْرِكَ وَإِمَّا أَن نبتدىء، فاختير أَنْت أحد مرين وَمِنْ هُنَا جَازَ جَعْلُ الْمَصْدَرَيْنِ الْمُنْسَبِكَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ تَخْيِيرٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا قَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَجَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ طه، أَيِ: اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أَوْ كَوْنَنَا الْمُلْقِينَ، أَيْ: فِي الْأَوَّلِيَّةِ، ابْتَدَأَ السَّحَرَةُ مُوسَى بِالتَّخْيِيرِ فِي التَّقَدُّمِ إِظْهَارًا لِثِقَتِهِمْ بِمَقْدِرَتِهِمْ وَأَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ، سَوَاء ابْتَدَأَ السَّحَرَة مُوسَى بِالْأَعْمَالِ أَمْ كَانُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ، وَوَجْهُ دَلَالَةِ التَّخْيِيرِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّقَدُّمَ فِي التَّخْيِيلَاتِ وَالشَّعْوَذَةِ أَنَجَحُ لِلْبَادِئِ لِأَنَّ بَدِيهَتَهَا تَمْضِي فِي النُّفُوسِ وَتَسْتَقِرُّ فِيهَا، فَتَكُونُ النُّفُوسُ أَشَدَّ تَأَثُّرًا بِهَا مِنْ تَأَثُّرِهَا بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا، وَلَعَلَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَرَادُوا أَنْ يَسْبُرُوا مِقْدَارَ ثِقَةِ مُوسَى بِمَعْرِفَتِهِ مِمَّا يَبْدُو مِنْهُ مِنَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ أَوْ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُقَدَّمَ، فَإِنَّ لِاسْتِضْعَافِ النَّفْسِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي اسْتِرْهَابِهَا وَإِبْطَالِ حِيلَتِهَا، وَقَدْ جَاءُوا فِي جَانِبِهِمْ بِكَلَامٍ يَسْتَرْهِبُ مُوسَى وَيُهَوِّلُ
شَأْنَهُمْ فِي نَفْسِهِ، إِذِ اعْتَنَوْا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَوَاتِهِمْ بِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الدَّلَالَةِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِتَأْكِيدِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَصْلُحُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ دَلُّوا عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي أَنْ يُلْقُوا سِحْرَهُمْ قَبْلَ مُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِى إِظْهَارَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ، خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي جَوَابِ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلْقُوا اسْتِخْفَافٌ بِأَمْرِهِمْ إِذْ مَكَّنَهُمْ مِنْ مُبَادَاةِ إِظْهَارِ تَخْيِيلَاتِهِمْ وَسِحْرِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَوَّى نَفْسَ مُوسَى بِذَلِكَ الْجَوَابِ لِتَكُونَ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ أَوْقَعَ حُجَّةٍ وَأَقْطَعَ مَعْذِرَةٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ فِي أَمْرِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِيَّاهُمْ بِالتَّقَدُّمِ مَا يَقْتَضِي تَسْوِيغَ مُعَارَضَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالْكُفْرِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فَلَيْسَ فِي مُعَارَضَتِهِمْ إِيَّاهُ تَجْدِيدُ كُفْرٍ، وَلِأَنَّهُمْ جَاءُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فَلَيْسَ الْإِذْنُ لَهُمْ تَسْوِيغًا، وَلَكِنَّهُمْ خَيَّرُوهُ فِي التَّقَدُّمِ أَوْ يَتَقَدَّمُوا فَاخْتَارَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا
النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ، وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، وإنّما وَصفهم ب شَرَّ الدَّوَابِّ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَعْوَةِ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَمُعْجِزَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْطَعُ، وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ، فَمَنْ يَجْحَدُهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِمَا لَا عَقْلَ لَهُ، وَقَدِ انْدَرَجَ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي جِنْسِ شَرَّ الدَّوَابِّ.
وَتَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الْأَنْفَال:
٢٢] الْآيَةَ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ.
وَالْفَاءُ فِي فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَطَفَتْ صِلَةً عَلَى صِلَةٍ، فَأَفَادَتْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصِّلَةِ، وَأَنَّهَا تَمَامُ الصِّلَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلْإِيمَاءِ، أَيْ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَاسْتَمَرَّ كُفْرُهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ عَطَفَ هُنَا بِالْفَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ إِجْرَاءِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، وَأَتَى بِصِلَةِ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ ثُبُوتِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْجُوٍّ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ.
فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ مَعَ عَدَمِ إِيلَاءِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ، لِقَصْدِ إِفَادَةِ تَقْوِيَةِ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، أَيِ الَّذِينَ يَنْتَفِي الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ انْتِفَاءً قَوِيًّا فَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهُ أَشَدَّ الِابْتِعَادِ.
وَلَيْسَ التَّقْدِيمُ هُنَا مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الصِّلَةِ، وَلِأَنَّ
الْأَكْثَرَ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ، إِذَا لَمْ يَقَعِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَقِبَ حَرْفِ النَّفْيِ، أَنْ لَا يُفِيدَ تَقْدِيمُهُ إِلَّا التَّقَوِّيَ، دُونَ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢٧٢] إِذْ لَا يُرَادُ وَأَنْتُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَدَلًا مُطَابِقًا، فَالَّذِينَ عَاهَدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وتعدية عاهَدْتَ بِمن لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْتِزَامًا مِنْ جَانِبِهِمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ أَخَذْتُ مِنْهُ عَهْدًا، أَيِ الْتِزَامًا،

[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٥]

وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ [التَّوْبَة: ١١٤] لِاعْتِذَارٍ عَنِ النَّبِيءِ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي اسْتِغْفَارِهِمَا لِمَنِ اسْتَغْفَرَا لَهُمَا مِنْ أُولِي الْقُرْبَى كَأَبِي طَالِبٍ وَآزَرَ وَمِنَ الْأُمَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِأَنَّ فِعْلَهُمَا ذَلِكَ مَا كَانَ إِلَّا رَجَاءً مِنْهُمَا هدى من استغفرا لَهُ، وَإِعَانَةً لَهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمَا الثَّابِتُ عَلَى كُفْرِهِ إِمَّا بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِ تَرْكَا الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَا الرِّسَالَةَ وَنَصَحَا لِمَنِ اسْتَغْفَرَا لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى مَهَّدَ اللَّهُ لَهُمَا الِاعْتِذَارَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التَّوْبَة: ١١٣] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: ١١٤]. وَفِي ذَلِكَ مَعْذِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أُولِي قَرَابَتِهِمْ قَبْلَ هَذَا النَّهْيِ. فَهَذَا مِنْ بَابِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣].
وَفِيهِ تَسْجِيلٌ أَيْضًا لِكَوْنِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ أَحْرِيَاءَ بِقَطْعِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مَا قَطَعُوهُ عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَمْهَلُوهُمْ وَوَعَدُوهُمْ وَبَيَّنُوا لَهُمْ وَأَعَانُوهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا طُغْيَانًا.
وَمَعْنَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَعَادَةِ جَلَالِهِ أَنْ يَكْتُبَ الضَّلَالَ لِقَوْمٍ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوهَا، أَيْ يَتَجَنَّبُوهَا. فَهُنَالِكَ يُبَلِّغُ رُسُلَهُ أَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى يَتْرُكُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا قَالَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام-: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦] وَلَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ الضَّلَالَ لِقَوْمٍ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ وَاهْتَدَوْا إِلَيْهِ لِعَمَلٍ عَمِلُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ الْعَمَلِ.
ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنِ اسْتَغْفَرُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ وُرُودِ النَّهْيِ وَظُهُورِ
فَقَدْ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ كَالظِّبَاءِ وَالْمَهَا وَالطَّوَاوِيسِ، فَإِنِ ارْتَقَوْا عَلَى ذَلِكَ تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ وَإِجَادَةِ الرِّمَايَةِ وَالْمُجَالَدَةِ وَالشَّجَاعَةِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِأَنْ تُعَدَّ فِي أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَلَكِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّهَا آلَاتٌ لِإِنْقَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَبِدُونِ ذَلِكَ تَكُونُ آلَاتٍ لِإِنْفَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّيِّئَةِ مِثْلَ شَجَاعَةِ أَهْلِ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالشُّطَّارِ، وَمِثْلَ الْقُوَّةِ عَلَى خَلْعِ الْأَبْوَابِ لِاقْتِحَامِ مَنَازِلِ الْآمِنِينَ.
وَإِنَّمَا الْكَمَالُ الْحَقُّ هُوَ زَكَاءُ النَّفْسِ وَاسْتِقَامَةِ الْعَقْلِ، فَهُمَا السَّبَبُ الْمُطَّرِدُ لِإِيصَالِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَهُمَا تَكُونُ الْقُوَى الْمُنَفِّذَةُ خَادِمَةً كَالشَّجَاعَةِ لِلْمُدَافِعِينَ عَنِ الْحَقِّ وَالْمُلْجِئِينَ لِلطُّغَاةِ عَلَى الْخُنُوعِ إِلَى الدِّينِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ وَغَيْبَةِ الصَّوَابِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْمَعْصُومِ، وَهُوَ مَقَامُ النُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ.
فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مَنْ قَوْمِ نُوحٍ لَمَّا قَصَّرُوا عَنْ إِدْرَاكِ أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَتَطَلَّبُوا الْأَسْبَابَ مِنْ غَيْرِ مَكَانِهَا نَظَرُوا نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مِنْ جِنْسِ غَيْرِ الْبَشَرِ، وَتَأَمَّلُوهُ وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْا فِي أَجْسَامِهِمْ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ مَنْ هُمْ أَجْمَلُ وُجُوهًا أَوْ أَطْوَلُ أَجْسَامًا.
مِنْ أجل ذَلِك أخطأوا الِاسْتِدْلَالَ فَقَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فَأَسْنَدُوا الِاسْتِدْلَالَ إِلَى الرُّؤْيَةِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اسْتِدْلَالَهُمْ ضَرُورِيًّا مِنَ الْمَحْسُوسِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ، أَيْ مَا نَرَاكَ غَيْرَ إِنْسَانٍ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لِلنَّاسِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمْ
جَوَارِحَ أَوْ قَوَائِمَ زَائِدَةً.
وَالْبَشَرُ- مُحَرَّكَةً-: الْإِنْسَانُ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا. قَالَ الرَّاغِبُ: «عَبَّرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِالْبَشَرِ اعْتِبَارًا بِظُهُورِ بَشَرَتَهُ وَهِيَ جِلْدُهُ مِنَ الشَّعْرِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ» أَيْ وَالرِّيشُ. وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ
قَلِيلٌ لِلِامْتِيَارِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ. وَطَلَبُوا التَّصَدُّقَ مِنْهُ تَعْرِيضًا بِإِطْلَاقِ أَخِيهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ إِذْ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ تَعْلِيلٌ لِاسْتِدْعَائِهِمُ التصدّق عَلَيْهِم.
[٨٩- ٩٣]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٨٩ إِلَى ٩٣]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ.
وهَلْ مُفِيدَةٌ لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ. فَهُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى مَا يعلمونه محققا من أفعالهم مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخِيهِ، أَيْ أَفْعَالَهُمُ الذَّمِيمَةَ بِقَرِينَةِ التَّوْبِيخِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِنْيَامِينَ فَهِيَ مَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُ بِهِ مَعَ أَخِيهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْإِهَانَةِ الَّتِي تُنَافِيهَا الْأُخُوَّةُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ الزَّمَنَ زَمَنَ جَهَالَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ صَلُحَ حَالُهُمْ مِنْ بَعْدُ. وَذَلِكَ إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِنْ كَانَ صَار نبيئا أَوْ بِالْفِرَاسَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ حَرِيصِينَ عَلَى رَغَبَاتِ أَبِيهِمْ فِي طَلَبِ
وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّكَ رَجِيمٌ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِ إِخْرَاجِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَ (إِنَّ) مُؤْذِنَةٌ بِالتَّعْلِيلِ. وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى سَبَبِ إِخْرَاجِهِ مِنْ عَوَالِمِ الْقُدُسِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ وَصفه بالرجيم متلوث الطَّوِيَّةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ، أَيْ حَيْثُ ظَهَرَ هَذَا فِيكَ فَقَدْ خَبُثَتْ نَفْسُكَ خُبْثًا لَا يُرْجَى بَعْدَهُ صَلَاحٌ فَلَا تَبْقَى فِي عَالَمِ الْقُدُسِ وَالنَّزَاهَةِ.
وَالرَّجِيمُ: الْمَطْرُودُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَقَارَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [سُورَة الْحجر: ١٧].
وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ:
إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ.
واللَّعْنَةَ: السَّبُّ بِالطَّرْدِ. وَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ تَمَكُّنُ اللَّعْنَةِ وَالشَّتْمِ مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَقَعُ فَوْقَهُ.
وَجُعِلَ يَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ غَايَةً لِلَّعْنِ اسْتِعْمَالًا فِي مَعْنَى الدَّوَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ أَبَدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي أَنَّ اللَّعْنَةَ تَنْتَهِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُفُهَا ضِدُّهَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّعْنَةَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يُلَاقِيَ جَزَاءَ عَمَلِهِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ من اللَّعْنَة.
[٣٦- ٣٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٨]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
سُؤَالُهُ النَّظِرَةَ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ مَلْعُونٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَاضَ بِهِ خُبْثُ جِبِلَّتِهِ الْبَالِغُ نِهَايَةِ الْخَبَاثَةِ الَّتِي لَا يَشْفِيهَا إِلَّا دَوَامُ الْإِفْسَادِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الرَّغْبَةُ مُجْلِبَةً لِدَوَامِ شِقْوَتِهِ.
وَأَصْلُ إِطْلَاقِ الطَّائِرِ عَلَى هَذَا: إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمُونَ السِّهَامَ الْمَرْقُومَةَ بِأَسْمَاءِ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى صُبَرِ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ الْمُعَدَّةِ لِلتَّوْزِيعِ. فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ السَّهْمُ الْمَرْقُومُ بِاسْمِهِ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ. وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى رَمْيِ السَّهْمِ فِعْلَ الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلسَّهْمِ رِيشًا فِي قُذَذِهِ لِيَخِفَّ بِهِ اخْتِرَاقُهُ الْهَوَاءَ عِنْدَ رَمْيِهِ مِنَ الْقَوْسِ، فَالطَّائِرُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْحَظِّ مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا يُطْلَقُ اسْمُ السَّهْمِ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ مَا.
وَإِمَّا مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ لِمَعْرِفَةِ بَخْتٍ أَوْ شُؤْمِ الزَّاجِرِ مِنْ حَالَةِ الطَّيْرِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فَأُطْلِقَ الطَّائِرُ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
وَالْإِلْزَامُ: جَعَلَهُ لَازِمًا لَهُ، أَيْ غَيْرَ مُفَارِقٍ، يُقَالُ: لَزِمَهُ إِذَا لَمْ يُفَارِقْهُ.
وَقَوْلُهُ: فِي عُنُقِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَالْقُرْبِ، أَيْ عَمَلُهُ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ تُقَلِّدُهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالْعُنُقِ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ تُوضَعُ فِي عُنُقِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَالشِّعْرُ قَلَّدْتُهُ سَلامَة ذَا فا ئش وَالشَّيْءُ حَيْثُمَا جُعِلَا (١)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالَةٍ لَعَلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَهِيَ وَضْعُ عَلَامَاتٍ تُعَلَّقُ فِي الرِّقَابِ لِلَّذِينَ يُعَيَّنُونَ لِعَمَلٍ مَا أَوْ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، كَمَا قَالَ بَشَّارٌ:
كَتَبَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي مَوْضِعَ الْخَاتم من أَهله الذِّمَمِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عُنُقِهِ تَمْثِيلًا بِالْبَعِيرِ الَّذِي يُوسَمُ فِي عُنُقِهِ بِسِمَةٍ كَيْلَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، أَوِ الَّذِي يُوضَعُ فِي عُنُقِهِ جَلْجَلٌ لِكَيْلَا يَضِلَّ عَنْ صَاحِبِهِ.
_________
(١) كَذَا فِي تَفْسِير ابْن عَطِيَّة، وَالَّذِي فِي ديوَان الْأَعْشَى:
فلدتك الشّعْر يَا سَلامَة ذَا التفضال وَالشَّيْء حَيْثُمَا جعلا
[.....]
أَعْمَالًا تَقَرَّبُوا بِهَا لِلْأَصْنَامِ يَحْسَبُونَهَا مُبَلِّغَةً إِيَّاهُمْ أغراضا وَقد أخطؤوها وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ خَيْرًا.
وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى سَعْيِهِمْ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَعْنَى: الَّذِينَ ضَلُّوا فِي سَعْيِهِمْ.
وَبَيْنَ يَحْسَبُونَ ويُحْسِنُونَ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِمَا فِي مَبْحَث الجناس.
[١٠٥]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ١٠٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥)
جُمْلَةٌ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِئَلَّا يَلْتَبِسُوا بِغَيْرِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥].
وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا بَعْدِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ حُكْمٍ بِسَبَبِ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ.
وَالْآيَاتُ: الْقُرْآنُ وَالْمُعْجِزَاتُ.
وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ وَالدَّحْضُ.
وَقَوْلُهُ: رَبِّهِمْ يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي نُونِ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ أَنَّهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ
الْإِضْمَارِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا، وَيَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
لِفَظَاعَتِهِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ كَمَا بُنِيَ عَلَى نَظِيرِهِ السَّابِقِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَيْهِ دَلِيلُ اسْتِحَالَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَهَذَا بُنِيَ عَلَيْهِ دَلِيلُ بُطْلَانٍ بِشَهَادَةِ الشَّرَائِع سابقها وَلَا حَقّهَا، فَلَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَيْ، هَاتُوا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنْ شَوَاهِدِ الشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ.
وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧٤].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُهُ وَإِعْلَانُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَاطَبُ الْمُغَالَطَةَ فِيهِ وَلَا فِي مَضْمُونِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [١١]، أَيْ أَنَّ كُتُبَ الذِّكْرِ أَيِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ فِي مُتَنَاوَلِ النَّاسِ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِي أَحَدٍ مِنْهَا أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً. وَإِضَافَةُ ذِكْرُ إِلَى مَنْ مَعِيَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَهُمُ الْمُذَكَّرُونَ- بِفَتْحِ الْكَافِ-.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ مَعِيَ مَعِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ، أَيْ مَنْ مَعِيَ من الْمُسلمين، فَمَا صدق (مِنَ) الْمَوْصُولَةِ الْأُمَمُ، أَيْ هَذَا ذِكْرُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ مَعِي، أَيِ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ لِأَجْلِكُمْ. فَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١٠]. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ الْقُرْآنُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فَمَعْنَاهُ ذِكْرُ الْأُمَمِ الَّذِينَ هُمْ قَبْلِيَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ الْمَعْرُوفَةِ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَكِتَابُ لُقْمَانَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ
فِي [آلِ عِمْرَانَ: ١٨].

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
الِاسْتِوَاءُ: الِاعْتِلَاءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَإِطْلَاقُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فِي دَاخِلِ السَّفِينَةِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعِلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْفُلْكِ أَنَّهُ دُخُولٌ. وَأُتِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ إِيذَانًا بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْفُلْكِ فَهُوَ تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ.
وَالتَّنْجِيَةُ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: الْإِنْجَاءُ مِنْ أَذَاهُمْ وَالْكَوْنِ فِيهِمْ لِأَنَّ فِي الْكَوْنِ بَيْنَهُمْ مُشَاهَدَةَ كُفْرِهِمْ وَمَنَاكِرِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ.
وَالظُّلْمُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان:
١٣]، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ نُوحًا وَالْمُؤْمِنِينَ بِشَتَّى الْأَذَى بَاطِلًا وَعُدْوَانًا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِنْجَاءً لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَقَلُّوا بِجَمَاعَتِهِمْ فَسَلِمُوا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِأَعْدَائِهِمْ.
وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا سَهَّلَ لَهُ مِنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ وَأَنْ يَسْأَلَهُ نُزُولًا فِي مَنْزِلٍ مُبَارَكٍ عَقِبَ ذَلِكَ الترحل، وَالدُّعَاء بذلك يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ سَلَامَةٍ مِنْ غَرَقِ السَّفِينَةِ. وَهَذَا كَالْمَحَامِدِ الَّتِي يُعَلِّمُهَا الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الشَّفَاعَةِ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَتَقَبَّلُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَفِيهَا مَعْنَى تَعْلِيلِ سُؤَالِهِ ذَلِكَ.
بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ. وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ غَلَبَ جَمْعُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْخَيْرِ وَإِفْرَادُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْعَذَابِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُشُرًا بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَكُلُّهَا مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ كَمَا يُنْشَرُ الثَّوْبُ الْمَطْوِيُّ لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الشِّينِ جَمْعَ بَشُورٍ مِنَ التَّبْشِيرِ لِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٧].
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا- لِنُحْيِيَ- ونُسْقِيَهُ- ولَقَدْ صَرَّفْناهُ لِلدَّاعِي الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ آنِفًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا [الْفرْقَان:
٤٥، ٤٦].
وَالْمُرَادُ بِ رَحْمَتِهِ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ بِمَا يُنْبِتُهُ مِنَ الشَّجَرِ وَالْمَرْعَى.
وَجُمْلَةُ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ أَرْسَلَ الرِّياحَ إِلَخْ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا. وَضَمِيرُ أَنْزَلْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩].
وَالطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ صَبُورٌ.
وَمَاءُ الْمَطَرِ بَالِغٌ مُنْتَهَى الطَّهَارَةِ إِذْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ شَيْءٌ يُكَدِّرُهُ أَوْ يُقَذِّرُهُ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْقَى الْمِيَاهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ جَمِيعِ الْجَرَاثِيمِ فَهُوَ الصَّافِي حَقًّا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ بَالِغُ نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْمِيَاهِ وَوَصْفُ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ إِذِ الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى صِيغَةِ فَعُولٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي الْوَصْفِ، فَاقْتِضَاؤُهُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ اقْتِضَاءٌ الْتِزَامِيٌّ
أَتَوْهُ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي فَهُوَ كَقَوْلِه فَفَزِعَ.
[٨٨]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٨]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)
الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ حَكَتْ حَادِثًا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً عَطْفًا عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] أَيْ وَيَوْمَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً إِلَخْ.. وَجَعَلُوا الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةً، وَمَرَّ السَّحَابِ تَشْبِيهًا لِتَنَقُّلِهَا بِمَرِّ السَّحَابِ فِي السُّرْعَةِ، وَجَعَلُوا اخْتِيَارَ التَّشْبِيهِ بِمُرُورِ السَّحَابِ مَقْصُودًا مِنْهُ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ حَالِ الْجِبَالِ حِينَ ذَلِكَ الْمُرُورِ بِحَالِ السَّحَابِ فِي تَخَلْخُلِ الْأَجْزَاءِ وَانْتِفَاشِهَا فَيَكُونُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: ٥]، وَجَعَلُوا الْخَطَابَ فِي قَوْلِهِ تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَرَى، وَجَعَلُوا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: ٤٧]. فَلَمَّا أَشْكَلَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ تَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ دَكِّ الْجِبَالِ وَنَسْفِهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَارِعَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى أَوْ قُبَيْلَهَا، فَأَجَابُوا بِأَنَّهَا تَنْدَكُّ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُسَيَّرُ يَوْمَ الْحَشْرِ لِقَوْلِهِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً إِلَى أَنْ قَالَ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [طه: ١٠٥- ١٠٨] لِأَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ إِسْرَافِيلُ (وَفِيهِ أَنَّ لِلِاتِّبَاعِ أَحْوَالًا كَثِيرَةً، وَلِلدَّاعِي مَعَانِيَ أَيْضًا).
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا نَسْفُ الْجِبَالِ وَدَكُّهَا وَبَسُّهَا. وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا عَطْفَ وَتَرَى الْجِبالَ عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] حَتَّى يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ عَمَلُ لَفْظِ (يَوْمَ) بَلْ يَجْعَلُوهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الْمَذْكُورَةُ أُولَى حَاصِلَةً ثَانِيًا.
وَجَعَلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ صُنْعَ اللَّهِ إِلَخْ مُرَادًا بِهِ تَهْوِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ وَتَسْيِيرَ الْجِبَالِ مِنْ عَجِيبِ قُدْرَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الصُّنْعَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَا فِي مَادَّة صنع مِنْ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنَّ الْإِتْقَانَ إِجَادَةٌ، وَالْهَدْمَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِتْقَانٍ.
الْحَالَيْنِ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.
فِيهِ أَدَبٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِكَيْ لَا يُعَلِّلُوا الْحَوَادِثَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا وَيَنْتَحِلُوا لَهَا عِلَلًا تُوَافِقُ الْأَهْوَاءَ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الدَّجَاجِلَةُ مِنَ الْكُهَّانِ وَأَضْرَابِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِنُهُ فِي خُطَبِهِ فَقَدْ كُسِفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّاسُ: كُسِفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَخَطَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ»
. وَكَانَ مِنْ صِنَاعَةِ الدَّجَلِ أَنْ يَتَلَقَّنَ أَصْحَابُ الدَّجَلِ الْحَوَادِثَ الْمُقَارِنَةَ لِبَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَزْعُمُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تَنْفَعُ أَقْوَامًا وَتَضُرُّ بِآخَرِينَ، وَلِهَذَا كَانَ التَّأْيِيدُ بِنَصْرِ الرُّومِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعُودًا بِهِ مِنْ قَبْلُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَنَّهُ مُتَحَدًّى بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا مُدَّعًى بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْوُعُودِ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ إِلَخْ أَيْ: وَيَوْمَ إِذْ يَغْلِبُونَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أَيْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا غَلَبُوهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَكَانَ غَلَبُهُمُ السَّابِقُ أَيْضًا بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الرُّومِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ هَذَا التَّعَاقُبَ وَهِيَ تَهْيِئَةُ أَسْبَابِ انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ إِذَا حَارَبُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَشْرِ دِينِ اللَّهِ فِي بِلَادَيْهِمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى إِذْ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَئِذٍ مَحْذُوفَةٌ عُوِّضَ عَنْهَا التَّنْوِينُ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ إِذْ يَغْلِبُونَ يفرح الْمُؤْمِنُونَ، فَيوم مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَعَامِلُهُ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأُضِيفَ النَّصْرُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ النَّصْرِ وَأَنَّهُ عِنَايَةٌ لِأَجْلِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ النَّصْرَ الْمَذْكُورَ فِيهَا عَامٌّ بِعُمُومِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ مَنْ يَشاءُ فَكُلُّ مَنْصُورٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ، أَيْ مَنْ يَشَاءُ نَصْرَهُ لِحِكَمٍ
لِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ جِبْرِيلَ أُرْسِلَ إِلَى عَلِيٍّ وَلَكِنَّهُ شُبِّهَ لَهُ مُحَمَّدٌ بِعَلِيٍّ إِذْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهُ بِالْآخَرِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ (وَكَذَبُوا) فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أَثْبَتُوا الرِّسَالَةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوهُ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَتُشْبِهُ طُقُوسُ الْبَهَائِيَّةِ طُقُوسَ الْمَاسُونِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْبَهَائِيَّةَ تَنْتَسِبُ إِلَى التَّلَقِّي مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَبِذَلِكَ فَارَقَتِ الْمَاسُونِيَّةِ وَعُدَّتْ فِي الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ وَلَمْ تُعَدَّ فِي الْأَحْزَابِ.
وَانْتَصَبَ رَسُولَ اللَّهِ مَعْطُوفًا عَلَى أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ عَطْفًا بِالْوَاوِ الْمُقْتَرِنَةِ بِ لكِنْ لِتُفِيدَ رَفْعَ النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى عَامِلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخَاتِمَ النَّبِيئِينَ بِكَسْرِ تَاءِ خاتَمَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خَتَمَ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالْخَاتَمِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فِي أَنَّ ظُهُوَرَهُ كَانَ غلقا للنبوءة.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢)
إِقْبَالٌ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَشْغَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ، أَيْ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْ مُمَارَاةِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ عَنْ سَبِّهِمْ فِيمَا يُرْجِفُونَ بِهِ فِي قَضِيَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْتَاضُوا عَنْ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ خَيْرًا لَهُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَة: ٢٠٠]، أَي خير مِنَ التَّفَاخُرِ بِذِكْرِ آبَائِكُمْ وَأَحْسَابِكُمْ، فَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَأَبْعَدُ عَنْ أَنْ تَثُورَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ثَائِرَةُ فِتْنَةٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَهَذَا مِنْ نَحْو قَوْله لنبيّئه وَدَعْ أَذاهُمْ [الْأَحْزَاب: ٤٨] وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَام: ١٠٨]، فَأُمِرُوا بِتَشْغِيلِ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ بِمَا يَعُودُ بِنَفْعِهِمْ وَتَجَنُّبِ مَا عَسَى أَنْ يُوقِعَ فِي مُضِرَّةٍ.
وَفِيهِ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ خَوْضَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَامَةٌ عَلَى النِّفَاقِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخَالِفُونَ أَمْرَ رَبِّهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا.
فَإِنَّ كَلِمَةَ (أَمْدَحْهُ) لَا تُعَدُّ مُتَنَافِرَةَ الْحُرُوفِ عَلَى أَنَّ تَكْرِيرَهَا أَحْدَثَ عَلَيْهَا ثِقْلًا مَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَى (١) الْمَجْعُولِ مِثَالًا لِلتَّنَافُرِ فَإِنَّ تَنَافُرَ حُرُوفِهِ انْجَرَّ إِلَيْهِ مِنْ تَعَاقُبِ ثَلَاثَةِ حُرُوفٍ: السِّينِ وَالشِّينِ وَالزَّايِ، وَلَوْلَا الْفَصْلُ بَيْنَ السِّينِ وَالشِّينِ بِالتَّاءِ لَكَانَ أَشَدَّ تَنَافُرًا.
وَمُوجِبَاتُ التَّنَافُرِ كَثِيرَةٌ وَمَرْجِعُهَا إِلَى سُرْعَةِ انْتِقَالِ اللِّسَانِ فِي مَخَارِجِ حُرُوفٍ شَدِيدَةِ التَّقَارُبِ أَوِ التَّبَاعُدِ مَعَ عَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهَا مِنْ صِفَاتِ الْحُرُوفِ مِنْ: جَهْرٍ وَهَمْسٍ، أَوْ شِدَّةٍ وَرِخْوٍ، أَوِ اسْتِعْلَاءٍ وَاسْتِفَالٍ، أَوِ انْفِتَاحٍ وَانْطِبَاقٍ، أَوْ إِصْمَاتٍ وَانْذِلَاقٍ. وَمِنْ حَرَكَاتِهَا
وَسَكَنَاتِهَا وَلَيْسَ لِذَلِكَ ضَابِطٌ مُطَّرِدٌ وَلَكِنَّهَ مِمَّا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى ذَوْقِ الْفُصَحَاءِ. وَقَدْ حَاوَلَ ابْنُ سِنَانٍ الْخَفَاجِيِّ إِرْجَاعَهُ إِلَى تَقَارُبِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فَرَدَّهُ ابْنُ الْأَثِيرِ عَلَيْهِ بِمَا لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ.
وَإِذَا اقْتَضَى الْحَالُ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ إِيثَارَ كَلِمَةٍ بِالذِّكْرِ إِذْ لَا يَعْدِلُهَا غَيْرُهَا فَعَرَضَ مِنْ تَصَارِيفِهَا عَارِضُ ثِقَلٍ لَا يَكُونُ حَقُّ مُقْتَضَى الْحَالِ الْبَلَاغِيِّ مُوجِبًا إِيرَادَهَا.
وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، فَسَرَتْ إِجْمَالَ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْعَهْدَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَ أَنْ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرِيَّةٌ.
وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ: عِبَادَةُ مَا يَأْمُرُ بِعِبَادَتِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا.
وَجُمْلَةُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وَقَدْ أَغْنَتْ أَنْ عَنْ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ للْمُبَالَغَة، أَي عداوته وَاضِحَةٌ، وَوَجْهُ وُضُوحِهَا أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا رَاقَبَ عَوَاقِبَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوَسْوِسُهَا لَهُ نَفْسُهُ وَاتَّهَمَهَا وَعَرَضَهَا عَلَى وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَجَدَهَا عَوَاقِبَ نَحِسَةً، فَوَضَحَ لَهُ أَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ وَأَنَّ الَّذِي وَسْوَسَ بِهَا عَدُوٌّ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَدُودًا لَمَا أَوْقَعَهُ فِي
_________
(١) تَمَامه: تضل العقاص فِي مثنى ومرسل. [.....]
وَ (إنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ إِنَّ الْمُشَدَّدَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ فَارِقَةٌ بَيْنَ إَنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِن) النافية.
ولَمِنَ السَّاخِرِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كُنْتُ لَسَاخِرَةً، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧].
وَمَعْنَى أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ الِاعْتِذَارِ وَالتَّنَصُّلِ، تُعِيدُ أَذْهَانُهُمْ مَا اعْتَادُوا الِاعْتِذَارَ بِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] وَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ لِقَصْدِ إِفْحَامِ النَّبِيءِ حِينَ يَدْعُوهُمْ فَبَقِيَ ذَلِكَ التَّفْكِيرُ عَالِقًا بِعُقُولِهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ. وَالْكَلَامُ فِي مِنَ
الْمُتَّقِينَ
مثله فِي لَمِنَ السَّاخِرِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا: حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَهُوَ تَمَنٍّ مَحْضٌ. ولَوْ فِيهِ لِلتَّمَنِّي، وَانْتَصَبَ فَأَكُونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي.
وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٢]، أَيْ كَرَّةً إِلَى الدُّنْيَا فَأُحْسِنَ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُسِيئِينَ. وَقَدْ حُكِيَ كَلَامُ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ عَلَى تَرْتِيبِهِ الطَّبِيعِيِّ فِي جَوَلَانِهِ فِي الْخَاطِرِ بِالِابْتِدَاءِ بِالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا أَوْقَعَتْ فِيهِ نَفسهَا، ثمَّ بالاعتذار وَالتَّنَصُّلِ طَمَعًا أَنْ يُنْجِيَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ بِتَمَنِّي أَنْ تَعُودَ إِلَى الدُّنْيَا لِتَعْمَلَ الْإِحْسَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]. فَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي النَّظْمِ هُوَ أَحْكَمُ تَرْتِيبٍ وَلَوْ رُتِّبَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِهِ لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلُّدِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْخَاطِرِ حِينَمَا يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاء والخطابة».
لِأَخِيهِ فَلَمَّا نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ لِأَخِيهِ أَخٌ فَقَدْ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ أَخٌ، وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْإِبْهَامِ وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ.
وَقَدْ شَمِلَ نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ إِبْطَالَ مَا نَسَبُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَهُوَ مُنَاسَبَةُ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ:
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً الْآيَةَ.
وَحَدِيثُ سُقْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَيْ خَبَرُ اسْتِسْقَائِهِ لِقُرَيْشٍ أَنَّ رُقَيْقَةَ بِنْتَ أَبِي صَيْفِيٍّ قَالَتْ: تَتَابَعَتْ عَلَى قُرَيْشٍ سُنُونَ أَقْحَلَتِ الضَّرْعَ وَأَدَقَّتِ الْعَظْمَ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمَةٌ إِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ هَذَا النَّبِيءَ الْمَبْعُوثَ مِنْكُمْ قَدْ أَظَلَّتْكُمْ أَيَّامُهُ أَلَا فَانْظُرُوا رَجُلًا مِنْكُمْ وَسِيطًا عِظَامًا جِسَامًا أَبْيَضَ أَوْطَفَ الْأَهْدَابِ سَهْلَ الخدّين أشمّ العرين فَلْيُخْلِصْ هُوَ وَوَلَدُهُ، أَلَا وَفِيهِمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ لِدَاتُهُ وَلِيَهْبِطْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ فَلْيَشُنُّوا مِنَ الْمَاءِ وَلْيَمَسُّوا مِنَ الطِّيبِ ثُمَّ لْيَرْتَقُوا أَبَا قُبَيْسٍ فَلْيَسْتَسْقِ الرَّجُلُ وَلْيُؤَمِّنُوا فَعِثْتُمْ مَا شِئْتُمْ» إِلَخْ.
قَالُوا: وَكَانَ مَعَهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَن يكون شَيْء مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْمِثْلُ يُحْمَلُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَفْرَادِهِ، قَالَ فَخْرُ الدِّينِ «الْمِثْلَانِ: هُمَا اللَّذَانِ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ» اهـ. فَلَا يُسَمَّى مِثْلًا حَقًّا إِلَّا الْمُمَاثِلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَأَجْزَائِهَا وَلَوَازِمِهَا دُونَ الْعَوَارِضِ، فَالْآيَةُ نَفَتْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مُمَاثِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي صِفَاتِ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُهَا ذَوَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقَاتِ فِي مَحْسُوسِ ذَوَاتِهَا فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَبِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوَارِحِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ عِنْدَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا نُسَمِّيهِ بِالْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتُوهُ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِذْ لَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.
وَإِذْ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُوهِمَةِ
وَالْمَعْنَى: ائْتِنَا بِالْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ، أَيْ عَذَابِ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّمَا صَرَفُوا مُرَادَ هُودٍ بِالْعَذَابِ إِلَى خُصُوصِ عَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَبِهَذَا يُؤْذِنُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً [الْأَحْقَاف: ٢٤] وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ٢٤].
وَأَرَادُوا: ائْتِنَا بِهِ الْآنَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَكْذِيبٍ بِأَنَّ عِبَادَةَ آلِهَتِهِمْ تَجُرُّ لَهُمُ الْعَذَابَ.
ومِنَ الصَّادِقِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ بِالصِّدْقِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٤]، أَيْ إِنْ كُنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مِنَ الَّذِينَ صَدَقُوا، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ فَمَا أَنْتَ بصادق فِيهِ.
[٢٣]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٣]
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)
لَمَّا جَعَلُوا قَوْلَهُمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْأَحْقَاف: ٢٢] فَصْلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ كَوْنِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تُوجِبُ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلهم فَأْتِنا مُقْتَضِيًا الْفَوْرَ، أَيْ طَلَبَ تَعْجِيلِهِ لِيَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ إِظْهَارِ صِدْقِهِ لَهُمْ.
وَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ بِالْعَذَابِ إِلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ فِي إِتْيَانِ الْعَذَاب أَن يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُعَجِّلَهُ، أَوْ جَعَلُوا الْعَذَابَ فِي مَكِنَتِهِ يَأْتِي بِهِ مَتَى أَرَادَ، تَهَكُّمًا بِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ إِنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تُعَاوُنًا وَتُطَاوُعًا، أَيْ فَلَا تَتَأَخَّرْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الِاقْتِضَاءِ قَوْلُهُ لَهُمْ حِينَ نُزُولِ الْعَذَابِ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ٢٤] فَلِذَلِكَ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ عِلْمُ وَقْتِ إِتْيَانِ الْعَذَابِ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِلْمُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ، أَو التَّعْرِيف عوض عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَقْتِ الْعَذَابِ. وَهَذَا الْجَوَابُ يَجْرِي
عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِأَنَّ جَمِيعَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِوَقْتِهِ.
وَالْحَصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ كَقَوْلِهِ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: ١٨٧] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا
بِإِظْهَارِ أَن مَا أوتوه مِنَ الْكَرَامَةِ عِوَضٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كَمَا آذَنَتْ بِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ مَنْ يُسْدِي نِعْمَةً إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ: لَا فَضْلَ لِي عَلَيْكَ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُكَ، أَوْ نَحْو ذَلِك.
[٢٠]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٢٠]
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطّور: ١٩]، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ، أَيْ وَهُمْ فِي حَالِ إِكْلَةِ أَهْلِ التَّرَفِ الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ وَقَدْ وَصَفَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣١] بِقَوْلِهِ: أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً أَي لحز الطَّعَام وَالثِّمَار.
وَفِي الحَدِيث «أمّا أَنا فَلَا آكل مُتكئا»
وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ وَمَرَازِبَةُ الْفُرْسِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ وَكَذَلِكَ كَانَ أَبَاطِرَةُ الرُّومَانِ وَكَذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ الْأَعْشَى:
نَازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا وَخَمْرَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ
والسّرر: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَهُوَ مَا يُضْطَجَعُ عَلَيْهِ.
وَالْمَصْفُوفَةُ: الْمُتَقَابِلَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ مُجْتَمِعِينَ لِلتَّأَنُسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الصافات: ٤٤].
وَجُمْلَةُ وَزَوَّجْناهُمْ عَطْفٌ عَلَى مُتَّكِئِينَ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَمَعْنَى زَوَّجْناهُمْ: جَعَلْنَا كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُمْ زَوْجًا، أَيْ غَيْرَ مُفْرَدٍ، أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِنِسَاءٍ حُورٍ عِينٍ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ جَعَلْنَا حُورًا عِينًا مَعَهُمْ، وَلَمْ يُعَدِّ فِعْلَ زَوَّجْناهُمْ إِلَى بِحُورٍ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَاب: ٣٧]، لِأَنَّ (زَوَّجْنَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى: أَنْكَحْنَاهُمْ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ عَقْدَ النِّكَاحِ لِنُبُوِّ الْمُرَادِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَالتَّزْوِيجُ هُنَا وَارِدٌ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ الْمُفْرَدِ زَوْجًا وَلَيْسَ واردا بِمَعْنَاهُ الْمَنْقُول عَنْهُ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، وَلَيْسَ الْبَاءُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ زَوَّجْناهُمْ بِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: قَرَنًّا، وَلَا هُوَ
ثُمَّ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ الْآيَةَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ أَيْ بَعْضًا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ.
وَ (إِذْ) ظَرْفِيَّةٌ مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ فَحِينَ لَمْ تَفْعَلُوا فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ.
وَفَاءُ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ.
وَجُمْلَةُ وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ (إِذْ) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ: خَفَّفْنَا عَنْكُمْ وَأَعْفَيْنَاكُمْ مِنْ أَنْ تُقَدِّمُوا صَدَقَةً قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفَاءُ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عَاطِفَةٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ وَحَافِظُوا عَلَى التَّكَالِيفِ الْأُخْرَى وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. أَيْ فَذَلِكَ لَا تَسَامُحَ فِيهِ، قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ كُلَّمَا ثَقُلَ عَلَيْهِم فعل مِمَّا كُلِّفُوا بِهِ يُعْفَوْنَ مِنْهُ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ سَابِقَةً عَلَى الْأَمْرِ بِصَدَقَةِ النَّجْوَى عَلَى الْأَصَحِّ كَانَ فِعْلُ آتُوا مُسْتَعْمَلًا فِي طَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلُ فِعْلِ فَأَقِيمُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَكْثُرُ وُقُوعُ الْفَاءِ بَعْدَ (إِذْ) وَمُتَعَلِّقِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [١١]. وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٦].
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي طَاعَةِ الله وَرَسُوله.
[١٤، ١٥]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥)
هَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ هِيَ تُوَلِّيهِمُ الْيَهُودَ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهَلِ مِلَّتِهِمْ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهَلِ الشِّرْكِ.
وَالْانْتِقَالُ هُنَا إِلَى الْاسْتِدْلَالِ بِفُرُوعِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ الْاسْتِدْلَالِ بِأُصُولِهَا، وَمِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِفُرُوعِ أَعْرَاضِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَصْلِهَا، فَمِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، إِلَى الْاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَمَدَارِكِهِ، وَقَدِ أُتْبِعَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ بِخَمْسَةٍ مِثْلِهِ بِطَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ بِدُونِ عَاطِفٍ اهْتِمَامًا بِمَا بَعْدَ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ مَقَالَةٍ يُبَلِّغُهَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، الَخْ.
وَالضَّمِيرُ هُوَ إِلَى الرَّحْمنِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠].
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ.
وَإِفْرَادُ السَّمْعَ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُصْدَرٌ، أَيْ جعل لكم حاسة السَّمْعِ، وَأَمَّا الْأَبْصارَ فَهُوَ جَمْعُ الْبَصَرِ بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧] والْأَفْئِدَةَ الْقُلُوبُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُقُولُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ إِلَى آخِرِهِ قَصْرُ إِفْرَادٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ لِشِرْكِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ شَارَكَتِ اللَّهَ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِعْطَاءِ الْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ.
وقَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ فِي
حَالِ إِهْمَالِكُمْ شُكْرَهَا.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ فِي مَوْضِعِ فَاعِلِ قَلِيلًا لِاعْتِمَادِ قَلِيلًا عَلَى صَاحِبِ حَالٍ. وقَلِيلًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالْعَدَمِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقٌ مِنْ ضُرُوبِ الْكِنَايَةِ وَالْاقْتِصَادِ فِي الْحُكْمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فِي [الْبَقَرَةِ: ٨٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٥٥]، وَتَقُولُ الْعَرَبُ:
هَذِهِ أَرْضٌ قَلما تنْبت.
[٢٤]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٤]
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
عَنْ سَقْطِ الْقَوْلِ وَسُفْلِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٢٥] لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ وَالْهَذَيَانُ وَسَقْطُ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُورَدُ عَنْ رَوِيَّةٍ وَلَا تَفْكِيرٍ.
وَالْكِذَّابُ: تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ آنِفًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً هُنَا مُشَدَّدًا، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ هُنَا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَانْتُصِبَ جَزاءً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفازاً وَأَصْلُ الْجَزَاءِ مَصْدَرُ جَزَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُجَازَى بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، فَالْجَزَاءُ هُنَا الْمُجَازَى بِهِ وَهُوَ الْحَدَائِقُ وَالْجَنَّاتُ وَالْكَوَاعِبُ وَالْكَأْسُ.
وَالْجَزَاءُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَزَاءُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيِّ وَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: جَزَيْنَا الْمُتَّقِينَ.
وَإِضَافَةُ رَبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ بِذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِكْرَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ إِسْدَاءَ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى الْمُتَّقِينَ كَانَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ صَادِرًا مِنْ لَدُنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِكَرَمِ هَذَا الْجَزَاءِ وَعِظَمِ شَأْنِهِ.
وَوصف الْجَزَاء بعطاء وَهُوَ اسْم لم يُعْطَى، أَيْ يُتَفَضَّلُ بِهِ بِدُونِ عِوَضٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا جُوزُوا بِهِ أَوْفَرُ مِمَّا عَمِلُوهُ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمَفَازِ وَمَا فِيهِ جَزَاءً شُكْرًا لَهُمْ وَعَطَاءً كَرَمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جُعِلَ ثَوَابُهَا أَضْعَافًا.
وحِساباً: اسْمُ مَصْدَرِ حَسَبَ بِفَتْحِ السِّينِ يَحْسُبُ بِضَمِّهَا، إِذَا عَدَّ أَشْيَاءَ وَجَمِيعُ مَا تَصَرَّفَ مِنْ مَادَّةِ حَسَبَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَعْنَى الْعَدِّ وَتَقْدِيرِ الْمِقْدَارِ، فَوَقَعَ حِساباً صِفَةَ جَزاءً، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ كَثِيرٌ مُقَدَّرٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْوَصْفُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ،


الصفحة التالية
Icon