وَقَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْخُشُوعِ، وَالْخُشُوعُ لُغَةً هُوَ الانزواء والانخفاض قا النَّابِغَةُ:
وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ أَيْ زَالَ ارْتِفَاعُ جَوَانِبِهِ. وَالتَّذَلُّلُ خُشُوعٌ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْلَةَ الْحَارِثِيُّ:
فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ | لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ |
وَالْمُرَادُ بِالْخَاشِعِ هُنَا الَّذِي ذَلَّلَ نَفْسَهُ وَكَسَرَ سُورَتَهَا وَعَوَّدَهَا أَنْ تَطْمَئِنَّ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَتَطْلُبَ حُسْنَ الْعَوَاقِبِ وَأَنْ لَا تَغْتَرَّ بِمَا تُزَيِّنُهُ الشَّهْوَةُ الْحَاضِرَةُ فَهَذَا الَّذِي كَانَتْ تِلْكَ صِفَتَهُ قَدِ اسْتَعَدَّتْ نَفْسُهُ لِقَبُولِ الْخَيْرِ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَاشِعِينَ هُنَا الْخَائِفُونَ النَّاظِرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ فَتَخِفُّ عَلَيْهِمُ الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي الصَّبْرِ مِنَ الْقَمْعِ لِلنَّفْسِ وَمَا فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْتِزَامِ أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ وَطَهَارَةٍ فِي أَوْقَاتٍ قَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهَا اشْتِغَالٌ بِمَا يَهْوَى أَوْ بِمَا يُحَصِّلُ مِنْهُ مَالًا أَوْ لَذَّةً. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ | إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ |
وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْخُشُوعِ هُنَا عَلَى خُصُوصِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِسَبَبِ الْحَالِ الْحَاصِلِ فِي النَّفْسِ بِاسْتِشْعَارِ الْعَبْدِ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى حَسْبَمَا شَرَحَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ الْأَوَّلِ مِنَ «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلُ» وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١، ٢]، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ وَكَمَالِ الْمُصَلِّي فَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ هُوَ الْمُخَفِّفَ لِكُلْفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْتَعِينِ بِالصَّلَاةِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى الْخَاشِعِينَ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
وَهِيَ صِلَةٌ لَهَا مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ فَفِيهَا مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْخَاشِعِينَ وَمَعْنَى بَيَانِ مَنْشَأِ خُشُوعِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظَّنِّ هُنَا الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ وَإِطْلَاقُ الظَّنِّ فِي كَلَامُُِ
السَّكْتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مَجَازًا عَنِ الْإِنْذَارِ بِالْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ حَقِيقَةٌ، أَيْ أَرَاهُمُ اللَّهُ مَهَالِكَ شَمُّوا مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ، ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَحْيَاهُمْ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا حَقِيقِيًّا بِوَحْيِ اللَّهِ، لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَوْتُ مَوْتٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلتَّحْقِيرِ شَتْمًا لَهُمْ، وَرَمَاهُمْ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَثَبَّتَ فِيهِمْ رُوحَ الشَّجَاعَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مَوْعِظَةُ الْمُسْلِمِينَ بِتَرْكِ الْجُبْنِ، وَأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَدْفَعُ الْمَوْتَ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضُرِبَ بِهِمْ هَذَا الْمَثَلُ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ خَائِفِينَ مِنَ الْمَوْتِ، فَلَمْ يُغْنِ خَوْفُهُمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَأَرَاهُمُ اللَّهُ الْمَوْتَ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، لِيَصِيرَ خُلُقُ الشَّجَاعَةِ لَهُمْ حَاصِلًا بِإِدْرَاكِ الْحِسِّ. وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنَ الْقِصَّةِ هُوَ أَنَّهُمْ ذَاقُوا الْمَوْتَ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفِرَارَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَأَنَّهُمْ ذَاقُوا الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الْأَحْزَاب: ١٦].
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا بَثُّ خُلُقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ شَكَرُوا اللَّهَ عَلَى مَا آتَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسَّرَ لَهُمْ مَا هُوَ صَعْبٌ.
وَجُمْلَةُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا تَمْهِيدٌ لَهَا كَمَا عَلِمْتَ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِي النَّظْمِ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عَطْفًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَلَوْلَا طُولُ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦]، لَقُلْنَا: إِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ اتِّصَالَ الْغَرَضَيْنِ يُلْحِقُهَا بِهَا بِدُونِ عَطْفٍ.
وَجُمْلَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ حَثٌّ عَلَى الْقِتَالِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ تَرْكِهِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ: ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. وَقُدِّمَ وَصْفُ سَمِيعٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ عَلِيمٌ، اهْتِمَامًا بِهِ هُنَا لِأَنَّ مُعْظَمَ أَحْوَالِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَسْمُوعَةِ، مِثْلَ جَلَبَةِ الْجَيْشِ وَقَعْقَعَةِ السِّلَاحِ وَصَهِيلِ الْخَيْلِ. ثُمَّ ذُكِرَ وَصْفُ عَلِيمٌ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَفِيهَا مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مِثْلُ خُلُقِ الْخَوْفِ، وَتَسْوِيلِ النَّفْسِ الْقُعُودَ عَنِ الْقِتَالِ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَهُوَ إِبْطَالٌ بِطْرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي الْجَدَلِ، أَيْ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّكُمْ مُوصُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَا تَنْفَكُّونَ عَنْهُ حَتَّى تَأْتِيَكُمُ الْبَيِّنَةُ، فَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ مَا يُنَافِي مَا جَاءَ بِهِ كتابكُمْ لِأَن كِتَابُكُمْ يَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِهِ، فَذَلِكَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي دِينِكُمْ.
فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: ٤] إِلَخْ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ١]. وَالْمَعْنَى وَالْحَالُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ أَتَتْهُمْ إِذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَا صَدَّقَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا من وسط أخواتهم وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ»، وَقَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ».
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُسْنَدِ لِلْمَجْهُولِ مُفِيدٌ مَعْنَيَيْنِ، أَيْ مَا أُمِرُوا فِي كِتَابِهِمْ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ. فَالْمَعْنَى: وَمَا أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ إِلَى آخِرِهِ.
فَإِنَّ التَّوْرَاةَ أَكَّدَتْ عَلَى الْيَهُودِ تَجَنُّبَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَتْ بِالصَّلَاةِ، وَأَمَرَتْ بِالزَّكَاةِ أَمْرًا مُؤَكَّدًا مُكَرَّرًا. وَتِلْكَ هِيَ أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ، وَالْإِنْجِيلُ لَمْ يُخَالِفِ التَّوْرَاةَ أَوِ الْمَعْنَى وَمَا أُمِرُوا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَثَلِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ كِتَابُهُمْ، فَلَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
وَنَائِبُ فَاعِلِ أُمِرُوا مَحْذُوفٌ لِلْعُمُومِ، أَيْ مَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَكْثُرُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦] وَقَوْلِهِ:
وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧١]، وَسَمَّاهَا بَعْضُ النُّحَاةِ لَامَ (أَنْ).
وَالْإِخْلَاصُ: التَّصْفِيَةُ وَالْإِنْقَاءُ، أَيْ غَيْرَ مُشَارِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ مَعَهُ غَيْرَهُ.