الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى الْيَقِينِ كَثِيرٌ جِدًّا، قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ يَصِفُ صَيَّادًا رَمَى حِمَارَ وَحْشٍ بِسَهْمٍ (١) :

فَأَرْسَلَهُ مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أَنَّهُ مُخَالِطُ مَا بَين الشرا سيف جَائِفُ
وَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ سَرَاتُهُمْ بِالْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّجِ
فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ وَبَيْنَ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ.
وَالْمُلَاقَاةُ وَالرُّجُوعُ هُنَا مَجَازَانِ عَنِ الْحِسَابِ وَالْحَشْرِ أَوْ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَالثَّوَابِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ اللِّقَاءِ- وَهُوَ تَقَارِبُ الْجِسْمَيْنِ، وَحَقِيقَةَ الرُّجُوعِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَكَانٍ خَرَجَ مِنْهُ الْمُنْتَهِي- مُسْتَحِيلَةٌ هُنَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَخِ التَّعْرِيضُ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَحْرِيضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى التَّهَمُّمِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى جَعْلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا لِلْمُسْلِمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ تَعْرِيضًا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَالْمُلَاقَاةُ مُفَاعَلَةٌ مَنْ لَقِيَ، وَاللِّقَاءُ الْحُضُورُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: ٣٧] وَالْمُرَادُ هُنَا الْحُضُورُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحِسَابِ أَيِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٢٣] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣١] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ.
[٤٧]
_________
(١) أَوْس بن حجر- بحاء مُهْملَة وجيم مفتوحتين، ويغلط من يضم حاءه ويسكن جيمه- وَهُوَ من فحول شعراء بني تَمِيم فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ فَحل مُضر قبل النَّابِغَة وَزُهَيْر، فَلَمَّا نبغ زُهَيْر والنابغة أخملاه. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة أَولهَا:
تنكر بعدِي من أُمَيْمَة صَائِف فبرك فأعلى تولب فالمخالف
وصائف وبرك وتولب والمخالف أَسمَاء بقاع، وَقد ذكر فِي أَثْنَائِهَا وصف الصياد لحِمَار الْوَحْش فَقَالَ:
فأمهله حَتَّى إِذا أَن كأنّه معاطي يَد من جمة المَاء غارف

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ مَعْنًى صَرِيحٍ وَتَعْرِيضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٢٣].
[٢٤٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٣] إِلَى آخِرِهَا، وَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: ٢٤٦] الْآيَةَ، قُصِدَ بِهِ الِاسْتِطْرَادُ لِلْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِوَجْهِ اللَّهِ فِي طُرُقِ الْبِرِّ، لِمُنَاسَبَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ يَسْتَدْعِي إِنْفَاقَ الْمُقَاتِلِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِدَّةِ وَالْمَئُونَةِ مَعَ الْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ الْوَاجِدِ فَضْلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِإِعْطَاءِ الْعِدَّةِ لِمَنْ لَا عِدَّةَ لَهُ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُعْسِرِينَ مِنَ الْجَيْشِ، وَفِيهَا تَبْيِينٌ لِمَضْمُونِ
جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: ٢٤٤] فَكَانَتْ ذَاتَ ثَلَاثَةِ أَغْرَاضٍ.
وَالْقَرْض إِسْلَافُ الْمَالِ وَنَحْوِهِ بِنِيَّةِ إِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْبَذْلِ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ، فَيَشْمَلُ بِهَذَا الْمَعْنَى بَذْلَ النَّفْسِ وَالْجِسْمِ رَجَاءَ الثَّوَابِ، فَفِعْلُ (يُقْرِضُ) مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْضِيضِ وَالتَّهْيِيجِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْخَيْرِ كَأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ لَا يَدْرِي مَنْ هُوَ أَهْلُ هَذَا الْخَيْرِ وَالْجَدِيرُ بِهِ، قَالَ طَرَفَةُ:
فسيّر سَهْما راشه بمناكب لؤام ظِهَار فَهُوَ أعجف شائف
إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ
وَ (ذَا) بَعْدَ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ كَمَا تَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتَ شَخْصًا لَا تَعْرِفُهُ: (مَنْ ذَا) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ الْكَلَامِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِأَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِفْهَامِ كَانَ اسْتِعْمَالُ (ذَا) بَعْدَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِشَارَةِ الْمَجَازِيَّةِ بِأَنْ يَتَصَوَّرَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذِهْنِهِ شَخْصًا مَوْهُومًا مَجْهُولًا صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ فَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ وَتَطَّلُبِ مَعْرِفَةِ فَاعِلِهِ وَلِكَوْنِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يُلَازِمُ ذِكْرَ فِعْلٍ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، قَالَ النُّحَاةُ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّهُمْ وَكُوفِيُّهُمْ: بِأَنَّ (ذَا) مَعَ الِاسْتِفْهَامِ تَتَحَوَّلُ إِلَى اسْمٍ مَوْصُولٍ مُبْهَمٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، فَعَدُّوهُ اسْمَ مَوْصُولٍ، وَبَوَّبَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» فَقَالَ: «بَابُ إِجْرَائِهِمْ ذَا وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي
وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر: ١٤].
وَحُنَفَاءُ: جَمْعُ حَنِيفٍ، وَهُوَ لَقَبٌ لِلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ شَرِيكٍ قَالَ تَعَالَى:
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ١٦١].
وَهَذَا الْوَصْفُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مَعَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي مُلِئَتِ التَّوْرَاةُ بِتَمْجِيدِهِ وَاتِّبَاعِ هَدْيِهِ.
وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ.
وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ: مَفْرُوضٌ فِي التَّوْرَاةِ فَرْضًا مُؤَكَّدًا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِاللَّامِ الْمُسَمَّاةِ (لَامَ أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ فَهُوَ فِي تَأْوِيلِ مُفْرَدٍ، أَيْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، أَيْ وَالْمَذْكُورُ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
ودِينُ الْقَيِّمَةِ يَجُوزُ أَن تكون إِضَافَته عَلَى بَابِهَا فَتَكُونَ الْقَيِّمَةِ مُرَادًا بِهِ غير المُرَاد بدين مِمَّا هُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ مِمَّا يُضَافُ إِلَيْهِ دِينُ أَيْ دِينُ الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ أَوْ دِينُ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا التَّقْدِيرَ أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَدَّرِ مَوْجُودٌ فِي اللَّفْظِ قَبْلَهُ. وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِأَحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ الدِّينُ الْقَيِّمُ قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الرّوم: ٣٠- ٣١].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ صُورِيَّةً مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَهِيَ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَصْلُهُ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَأَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى تَأْوِيلِ دِينٍ بِمِلَّةٍ أَوْ شَرِيعَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلَ تَاءِ عَلَّامَةِ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمُرَادُ بِدِينِ الْقَيِّمَةِ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْقَيِّمَةُ: الشَّدِيدَةُ الِاسْتِقَامَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ هُوَ دِينُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَصَالِحِيِ الْأُمَمِ وَهُوَ عَيْنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: ٦٧] وَقَالَ


الصفحة التالية
Icon