وَقد أَشَارَ لذَلِك قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَة: ١٨].
وَقَدْ تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلِاحْتِجَاجِ لِقَوْلِهِمْ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعُمُومِ (نَفْسٍ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الْمُقْتَضِي أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَهُوَ عُمُومٌ لَمْ يَرِدْ مَا يُخَصِّصُهُ عِنْدَهُمْ. وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ.
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلطَّائِعِينَ وَالتَّائِبِينَ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ،
لم يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَهَذَا اتِّفَاقٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ ابْتِدَاءً، وَالْخِلَافُ فِي الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَعِنْدَنَا تَقَعُ الشَّفَاعَةُ لَهُم فِي حط السَّيِّئَاتِ وَقْتَ الْحِسَابِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِ جَهَنَّمَ لِمَا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِك
كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لكل نبيء دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَقَدِ ادَّخَرْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي»
وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي نَقْلِ كَلَامِهِ.
وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا شَفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ كَهَاتِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: ٤٨]. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٥٤] مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: ١٨] قَالُوا وَالْمَعْصِيَةُ ظُلْمٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء:
٢٨] وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُرْتَضًى، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا [غَافِر: ٧].
وَالْجَوَابُ عَنِ الْجَمِيعِ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْكَافِرِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ:
لِمَنِ ارْتَضى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ إِذْنًا فِي الشَّفَاعَةِ كَمَا قَالَ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:
٢٣] وَإِلَّا لَكَانَ الْإِسْلَامُ مَعَ ارْتِكَابِ بَعْضِ الْمَعَاصِي مُسَاوِيًا لِلْكُفْرِ وَهَذَا لَا تَرْضَى بِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا فَدُعَاءٌ لَا شَفَاعَةٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنِ الَّذِي دَعَا الْمُعْتَزِلَةَ إِلَى إِنْكَارِ الشَّفَاعَةِ مُنَافَاتُهَا لِخُلُودِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فِي الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِهِمُ الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْعَاصِي حُكْمَ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا وَحُكْمَ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تُنَافِي هَذَا الْأَصْلَ، فَمَا تَمَسَّكُوا مِنَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ التَّأْبِيدِ وَمُقَابَلَةِ أَدِلَّةِ أهل السّنة أَمْثَالهَا.
و «مَا» مُبْتَدَأٌ وَ «لَنَا» خَبَرُهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَنَا. وَجُمْلَةُ «أَلَّا نُقَاتِلَ» حَالٌ وَهِيَ قَيْدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ لَا يَثْبُتُ لَنَا شَيْءٌ فِي حَالَةِ تَرْكِنَا الْقِتَالَ. وَهَذَا كَنَظَائِرِهِ فِي قَوْلك: مَالِي لَا أفعل أَو مَالِي أَفْعَلُ، فَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ مَجْرُورَةٌ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِفِي أَوْ لَامِ الْجَرِّ، مُتَعَلِّقٍ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَنا.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ أُخْرِجْنا حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِوَجْهِ الْإِنْكَارِ، أَيْ إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ تَرْكِ الْقِتَالِ لِأَنَّ أَسْبَابَ حُبِّ الْحَيَاةِ تَضْعُفُ فِي حَالَةِ الضُّرِّ وَالْكَدَرِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَبْنَاءِ.
وَعَطْفُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الدِّيَارِ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْعَادِ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِهِ، وَعَلَى إِبْعَادِهِ مِنْ بَيْنِ مَا يُصَاحِبُهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى جَعْلِ الْوَاوِ عَاطِفَةً عَامِلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَأَبْعَدَنَا عَنْ أَبْنَائِنَا.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَخْ. جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَوَلَّوْا عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ تَمَنَّوْا قِتَالَ أَعْدَائِهِمْ وَفَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [الْبَقَرَة: ٢٤٩] إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا
الْقِتَالَ خُيِّلُوا أَنَّهُمْ مُحِبُّونَ لَهُ ثُمَّ نَكَصُوا عَنْهُ. وَمِنْ أَحْسَنِ التَّأْدِيب قَوْلُ الرَّاجِزِ:
مَنْ قَالَ لَا فِي حَاجَة | مسؤولة فَمَا ظَلَمْ |
وَإِنَّمَا الظَّالِمُ من | يَقُولُ لَا بَعْدَ نَعَمْ |
هَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ حَادِثُ انْتِقَالِ نِظَامِ حُكُومَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصِّبْغَةِ الشُّورِيَّةِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا عِنْدَهُمْ بِعَصْرِ الْقُضَاةِ إِلَى الصِّبْغَةِ الْمَلَكِيَّةِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِعَصْرِ الْمُلُوكِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُدُودِ سَنَةِ ١٣٨٠ قَبْلَ الْمِيلَادِ الْمَسِيحِيِّ، خَلَفَهُ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، الَّذِي عَهِدَ لَهُ مُوسَى فِي آخِرِ حَيَاتِهِ بِأَنْ يَخْلُفَهُ فَلَمَّا صَارَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى يُوشَعَ جَعَلَ
يُصْغُوا إِلَى مَنْ
يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَأَقْبَلُوا عَلَى النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ فَاهْتَدَوْا وَآمَنُوا، وَأَمَّا الَّذِينَ آثَرُوا حُظُوظَ الدُّنْيَا فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَتَوَقَّعُوا غَضَبَ مُرْسِلِهِ فَبَقُوا فِي ضَلَالِهِمْ.
فَمَا صَدَقَ: «مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَشُوا رَبَّهُمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ فَأَفَادَ حِرْمَانَ الْكَفَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَتَمَّ التَّذْيِيلُ.
وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ، تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرْعَوْا حق الربوبية إِذْ لَمْ يَخْشَوْا رَبَّهُمْ فَهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ.