مَوَدَّةَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ أَهْلُ الْقِصَصِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ قَدْ يُوهِمُ الْقَاصِرِينَ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْعُمُومِ مِنْ أَلْفَاظِ تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَالرَّابِعُ:
هُوَ حَوَادِثُ حَدَثَتْ وَفِي الْقُرْآنِ تُنَاسِبُ مَعَانِيَهَا سَابِقَة أَو لَا حقة فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يُوهِمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَوَادِثَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَيَدُلُّ لِهَذَا النَّوْعِ وُجُودُ اخْتِلَافٍ كَثِيرٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ بَحْثِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنَ «الْإِتْقَانِ» فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فَفِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٤] أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً بِأَلِفٍ بَعْدِ لَامِ السَّلَامِ وَقَالَ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ (تَصْغِيرُ غَنَمٍ) فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ (أَيْ ظَنُّوهُ مُشْرِكًا يُرِيدُ أَنْ يَتَّقِيَ مِنْهُمْ بِالسَّلَامِ) وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ الْآيَةَ. فَالْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَقَعَتْ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهَا لَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَازِلَةً فِيهَا بِخُصُوصِهَا وَلَكِنْ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّ قَبْلَهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: ٩٤] وَبَعْدَهَا: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النِّسَاء: ٩٤].
وَفِي تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نِزَاعَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ فِي مَاءِ شِرَاجِ الْحَرَّةِ قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاء: ٦٥] الْآيَةَ قَالَ السَّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ الزَّرْكَشِيِّ قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ لَا أَنَّ هَذَا كَانَ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ؟ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَسَانِيدِ لَا يُدْخِلُونَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ فِي الْمُسْنَدِ.
وَالْخَامِسُ:
قِسْمٌ يُبَيِّنُ مُجْمَلَاتٍ وَيَدْفَعُ مُتَشَابِهَاتٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَة: ٤٤] فَإِذَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّ مَنْ لِلشَّرْطِ أُشْكِلَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَكُونُ الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ كُفْرًا، ثُمَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ النَّصَارَى عَلِمَ أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ
نَقْلِ هَذَا الدِّينِ إِلَى الْأُمَمِ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ يَنَالُهَا كل من تعلّم اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ كَغَالِبِ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَبْلِيغُ الْإِسْلَامِ بِوَاسِطَةِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ فَيَكُونُ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا، وَيَسْهُلُ انْتِشَارُهُ سَرِيعًا.
وَالرَّسُولُ الْمُرْسَلُ فَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ ذَلُولٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مُطَابَقَةِ مَوْصُوفِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: ١٦] فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء.
وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ وَسَمَّاهُ أَوَّلًا آيَاتٍ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ كُلِّ كَلَامٍ مِنْهُ مُعْجِزَةً، وَسَمَّاهُ ثَانِيًا كِتَابًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِتَابَ شَرِيعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: ١٢٩]. عبر بيتلو لِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرٌّ وَقِرَاءَةُ النَّبِيءِ لَهُ مُتَوَالِيَةٌ وَفِي كُلِّ قِرَاءَةٍ يَحْصُلُ عِلْمٌ بِالْمُعْجِزَةِ لِلسَّامِعِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَيُزَكِّيكُمْ إِلَخْ التَّزْكِيَةُ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزَّكَاةِ وَهِيَ النَّمَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي أَصْلِ خِلْقَةِ النُّفُوسِ كَمَالَاتٍ وَطَهَارَاتٍ تَعْتَرِضُهَا أَرْجَاسٌ نَاشِئَةٌ عَنْ ضَلَالٍ أَوْ تَضْلِيلٍ، فَتَهْذِيبُ النُّفُوسِ وَتَقْوِيمُهَا يَزِيدُهَا مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْمُودَعِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: ٤- ٦]،
وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ»
، فَفِي الْإِرْشَادِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْكَمَالِ نَمَاءٌ لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْفِطْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أَيْ يعلمكم الشَّرِيعَة فالكاب هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِتَابَ تَشْرِيعٍ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَيُعَلِّمُكُمْ أُصُولَ الْفَضَائِلِ، فَالْحِكْمَةُ هِيَ التَّعَالِيمُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ وَالْفَسَادِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَأْتِي أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقُدِّمَتْ جُمْلَةُ: وَيُزَكِّيكُمْ عَلَى جُمْلَةِ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ هُنَا عَكْسُ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي حِكَايَةِ قَول إِبْرَاهِيم: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩]، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَدَّمَ فِيهَا مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مَنْفَعَةُ تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمُ اهْتِمَامًا بِهَا وَبَعْثًا لَهَا بِالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ
وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَدَقُّ مِنْ أَنْ نَجْعَلَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ إِنْفَاقِ الْكَافِرِ بِحَالِ تُرَابٍ عَلَى صَفْوَانٍ أَصَابَهُ وَابِلٌ فَجَرَفَهُ، وَأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ هُوَ سُرْعَةُ الزَّوَالِ وَعَدَمُ الْقَرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ
[إِبْرَاهِيم: ١٨] فَإِنَّ مَوْرِدَ تِلْكَ الْآيَةِ مَقَامٌ آخَرُ.
وَلَكَ (١) أَنْ تَجْعَلَ كَافَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي لَفْظِ صَدَقَاتِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ وَحُذِفَ مُضَافٌ بَيْنَ الْكَافِ وَبَيْنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْفَاقًا كَإِنْفَاقِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ.
وَقَدْ رُوعِيَ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ عَكْسُ التَّمْثِيلِ لِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِحَبَّةٍ أَغَلَّتْ سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ.
فَالتَّشْبِيهُ تَشْبِيهُ مُرَكَّبٍ مَعْقُولٍ بِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْأَمَلُ فِي حَالَةٍ تَغُرُّ بِالنَّفْعِ ثُمَّ لَا تَلْبَثُ أَلَّا تَأْتِيَ لِآمِلِهَا بِمَا أَمَّلَهُ فَخَابَ أَمَلُهُ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ رَجَاءِ حُصُولِ الثَّوَابِ لَهُمْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَيَكْثُرُ أَنْ تَعْرِضَ الْغَفْلَةُ لِلْمُتَصَدِّقِ فَيُتْبِعُ صَدَقَتَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى انْدِفَاعًا مَعَ خَوَاطِرَ خَبِيثَةٍ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أُوقِعَ مَوْقِعًا بَدِيعًا مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ تَنْهَالُ بِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فَهُوَ بِمَوْقِعِهِ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ
فَيَكُونَ مُنْدَرِجًا فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَإِجْرَاءُ ضَمِيرِ كَسَبُوا ضَمِيرَ جَمْعٍ لِتَأْوِيلِ الَّذِي يُنْفِقُ بِالْجَمَاعَةِ، وَصَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَثَلِ صَفْوَانٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَثَلٌ عَلَى نَحْوِ مَا جُوِّزَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٩] إِذْ تَقْدِيرُهُ فِيهِ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ فَلِذَلِكَ جَاءَ ضَمِيرُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ رَعْيًا لِلْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُعَادِ مُفْرَدًا، وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ اسْتِينَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مَغَبَّةِ أَمْرِ الْمُشَبَّهِ، وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ تَذْيِيلًا وَفَذْلَكَةً لِضَرْبِ الْمَثَلِ فَهُوَ عَوْدٌ عَنْ بَدْءِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤] إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ.
_________
(١) هَذَا مُقَابل قَوْلنَا فِي الصفحة السَّابِقَة «هُوَ حَال من ضمير تُبْطِلُوا».
فِيهِ، وَمَعْنَى تَفْضِيلِهِمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَا تَقُومُ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لَا يَخْلُو مُسْلِمٌ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، عَلَى حَسْبِ مَبْلَغِ الْعِلْمِ وَمُنْتَهَى الْقُدْرَةِ، فَمِنَ التَّغْيِيرِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِلَى التَّغْيِيرِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ لِأَنَّ وُجُودَ طَوَائِفِ الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ أَوْجَبُ فَضِيلَةٍ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِكَوْنِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مِنْهَا كَمَا كَانَتِ الْقَبِيلَةُ تفتخر بِمَحَامِد طوائقها، وَفِي هَذَا ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِعْلُ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي زَمَنٍ مَضَى، دُونَ دَلَالَةٍ عَلَى اسْتِمْرَارٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ، قَالَ تَعَالَى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: ٩٦] أَيْ وَمَا زَالَ، فَمَعْنَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وُجِدْتُمْ عَلَى حَالَةِ الْأَخْيَرِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَيْ حَصَلَتْ لَكُمْ هَذِهِ الْأَخْيَرِيَّةُ بِحُصُولِ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا، لأنّهم اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ، وَالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى وَجهه، والذبّ عَنهُ النُّقْصَانِ وَالْإِضَاعَةِ لِتَحَقُّقِ أَنَّهُمْ لَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبِهِمْ، وَقَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا اسْتَطَاعَ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، كُلَّمَا سَنَحَ سَانِحٌ يَقْتَضِيهِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا إِذا بنينَا عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
[آل عمرَان: ١٠٤] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا [آل عمرَان: ١٠٥] الْآيَةَ، لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِيمَا مَضَى تَفْعَلُونَهَا إِمَّا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، حِرْصًا عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَاسْتِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ فِي مُصَادَفَتِكُمْ لِمَرْضَاتِهِ وَمُرَادِهِ، وَإِمَّا بِوُجُوبٍ سَابِقٍ حَاصِلٍ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ [الْعَصْر: ٣] وَحِينَئِذٍ فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمرَان: ١٠٤] تَأْكِيدًا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ بِتَأْكِيدِ وُجُوبِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ.
وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ فَإِنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ هُوَ التَّمَدُّحُ بِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ فِي الْحَرْبِ، فَتَزْهَقُ نُفُوسُهُمْ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَعْقَبَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا.
وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ (تُشْرِكُوا) أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَرِيكًا شَيْئًا مِمَّا يُعْبَدُ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: ٢] وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ شَيْئًا
مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ ضَعِيفًا كَقَوْلِهِ: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ٤٢].
وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَان: ١٤]، وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: ١٣، ١٤]، وَلِذَا قَدَّمَ مَعْمُولَ (إِحْسَانًا) عَلَيْهِ تَقْدِيمًا لِلِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ هُنَا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَوَقَعَ الْمَصْدَرُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبِرِّ.
وَشَاعَتْ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْإِحْسَانَ إِنَّمَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِحْسَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَةِ الذَّاتِ وَتَوْقِيرِهَا وَإِكْرَامِهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْبِرِّ وَلِذَلِكَ جَاءَ «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ إِيصَالُ النَّفْعِ الْمَالِيِّ عُدِّيَ بِإِلَى، تَقُولُ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا وَصَلَهُ بِمَال وَنَحْوه.
وَذُو الْقُرْبَى صَاحِبُ الْقَرَابَةِ، وَالْقُرْبَى فُعْلَى، اسْمٌ لِلْقُرْبِ مَصْدَرُ قَرُبَ كَالرُّجْعَى، وَالْمُرَادُ بِهَا قَرَابَةُ النَّسَبِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: ذُو الْقُرْبَى، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ الْوِدِّ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، إِذْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ حَرَّفُوا حُقُوقَ الْقَرَابَةِ فَجَعَلُوهَا سَبَبَ تَنَافُسٍ وَتَحَاسُدٍ وَتَقَاتُلٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ أَرْطَاةُ بن سهية:
وَنَحْو بَنُو عَمٍّ عَلَى ذَاكَ بَيْنَنَا | زَرَابِيٌّ فِيهَا بِغْضَةٌ وَتَنَافُسُ |
وَكَانُوا يُحْسِنُونَ بِالْجَارِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ لَمْ يَكْتَرِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ الْعَاطِفِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ بِالْبَاءِ فِي حِكَايَةِ وَصِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَذِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ٨٣] لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَكَّدَ
لِيَكُونَ تَذْيِيلًا وَتَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ، إِذْ قَدْ تَهَيَّأَ مِنَ الْقَوَارِعِ السَّالِفَةِ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَاتَّسَعَتِ الْمَحَجَّةُ، فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْخَطِيبِ إِذَا تَهَيَّأَتِ الْأَسْمَاعُ، وَلَانَتِ الطِّبَاعُ.
وَيُسَمَّى هَذَا بِالْمَقْصِدِ مِنَ الْخِطَابِ، وَمَا يَتَقَدَّمُهُ بِالْمُقَدِّمَةِ. عَلَى أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ يَعْنِي خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْغَالِبِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّسُولُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. (والحقّ) هُوَ الشَّرِيعَةُ وَالْقُرْآنُ، ومِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَكُمُ، أَوْ صِفَةٌ لِلْحَقِّ، وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ فِيهِمَا، وَتَعْدِيَةُ جَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّ الَّذِي يَجِيءُ مُهْتَمًّا بِنَاسٍ يَكُونُ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَأَيْضًا فِي طَرِيقِ الْإِضَافَةِ مِنْ قَوْلِهِ رَبِّكُمْ تَرْغِيبٌ ثَانٍ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي هُوَ آتٍ مِنْ رَبِّهِمْ، فَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْأَمْرِ
بِالْإِيمَانِ مُفَرَّعًا عَلَى هَاتِهِ الْجُمَلِ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
وَانْتَصَبَ خَيْراً عَلَى تَعَلُّقِهِ بِمَحْذُوفٍ لَازِمِ الْحَذْفِ فِي كَلَامِهِمْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَجَرَى مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَذَلِكَ فِيمَا دَلَّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْكَلَامِ نَحْوَ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النِّسَاء: ١٧١]، وَوَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ، أَيْ تَأَخَّرْ، وَحَسْبُكَ خَيْرًا لَكَ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ | أَوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا. أَسْهَلَا |
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: نُصِبَ بِكَانَ مَحْذُوفَةٍ مَعَ خَبَرِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: يَكُنْ خَيْرًا. وَعِنْدِي:
أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُنْتَقَلُ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى كَفَّارَةِ الطَّعَامِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَزَاءِ، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِطْعَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَنُسِبَ لِابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ كَفَّارَةٌ- بِالرَّفْعِ بِدُونِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى طَعَامٍ- كَمَا قَرَأَ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ. وَالْوَجْهُ فِيهِ إِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ كَوَجْهِ الرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ فَنَجْعَلُ كَفَّارَةٌ اسْمَ مَصْدَرٍ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ وَأُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ يُكَفِّرُهُ طَعَامُ مَسَاكِينَ وَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ مِنَ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ، أَيْ كَفَّارَةٌ مِنْ طَعَامٍ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبُ خَزٍّ، فَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بِمَعْنَى الْمُكَفَّرِ بِهِ لِتَصِحَّ إِضَافَةُ الْبَيَانِ، فَالْكَفَّارَةُ بَيَّنَهَا الطَّعَامُ، أَيْ لَا كَفَّارَةَ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَقَعُ بِأَنْوَاعٍ. وَجَزَمَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَنْوِينِ كَفَّارَةٌ وَرَفْعِ طَعامُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ كَفَّارَةٌ.
وَقَوْلُهُ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عُطِفَ عَلَى كَفَّارَةٌ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّعَامِ. وَالْعَدْلُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْعَدْلِ الْمُسَاوَاةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ كَمَا هُنَا. وَأَمَّا الْعِدْلُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- فَفِي الْمَحْسُوسَاتِ كَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ، وَقِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى طَعامُ مَساكِينَ. وَانْتَصَبَ صِياماً عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّ فِي لَفْظِ الْعَدْلِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ.
وَأَجْمَلَتِ الْآيَةُ الصِّيَامَ كَمَا أَجْمَلَتِ الطَّعَامَ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَقْصَى مَا يُصَامُ فَقَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا يُنْقِصُ عَنْ أَعْدَادِ الْأَمْدَادِ أَيَّامًا وَلَوْ تَجَاوَزَ شَهْرَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَزِيدُ عَلَى شَهْرَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَى عَشَرَةٍ.
وَقَوْلُهُ لِيَذُوقَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ جُعِلَ ذَلِكَ جَزَاءً عَنْ قَتْلِهِ الصَّيْدَ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ.
وَالذَّوْقُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ بِالْكَدَرِ. شَبَّهَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسَ بِذَوْقِ الطَّعْمِ الْكَرِيهِ كَأَنَّهُمْ
لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ | وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا |
تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ | فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ |
وَلَعَلَّ كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ مِنَ الْكَلَامِ لِيَفْرِضَ السَّامِعُونَ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْأَنْعَام: ١١٤].
وَاللَّامُ فِي لِيَمْكُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَضْعِ نِظَامِ وُجُودِ الصَّالِحِ وَالْفَاسِدِ، أَنْ يَعْمَلَ الصَّالِحُ لِلصَّلَاحِ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْفَاسِدُ لِلْفَسَادِ، وَالْمَكْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَادِ أَمْثَالِهِمْ حِكَمٌ جَمَّةٌ،
مِنْهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ شَرَفُ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ وَيَسْطَعُ نُورُهُ، وَيَظْهَرُ انْدِحَاضُ الْبَاطِلِ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْدَ الصِّرَاعِ الطَّوِيلِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْمُسَمَّاةُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ اسْتِعَارَةُ اللَّامِ لِمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨].
وَدَخَلَتْ مَكَّةُ فِي عُمُومِ: كُلِّ قَرْيَةٍ وَهِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْحَاضِرَةُ الَّتِي مُكِرَ فِيهَا، فَالْمَقْصُودُ الْخُصُوصُ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا كَمَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِثْلَهُمْ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ الْخَبَرَ لِقَصْدِ تَذْكِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالْقُرَى مِنْ قَبْلِهَا، مِثْلُ قَرْيَةِ: الْحِجْرِ، وَسَبَأٍ، وَالرَّسِّ، كَقَوْلِهِ: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [الْأَعْرَاف: ١٠١]،
وَبِهِ سَيَتَّضِحُ كَيْفَ انْقَلَبَتِ الْعَدَاوَةُ وِلَايَةً بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَ وَالْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ.
وَجُمْلَة: ثمَّ لآتيناهم (ثُمَّ) فِيهَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهُوَ التَّدَرُّجُ فِي الْأَخْبَارِ إِلَى خَبَرٍ أَهَمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَوْقَعُ فِي غَرَضِ الْكَلَامِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَفَادَتِ التَّرَصُّدَ لِلْبَشَرِ بِالْإِغْوَاءِ، وَالْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَفَادَتِ التَّهَجُّمَ عَلَيْهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ.
وَكَمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِهَيْئَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْإِغْوَاءِ بِالْقُعُودِ عَلَى الطَّرِيقِ، كَذَلِك مُثِّلَتْ هَيْئَةُ التَّوَسُّلِ إِلَى الْإِغْوَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَيْئَةِ الْبَاحِثِ الْحَرِيصِ عَلَى أَخْذِ الْعَدُوِّ إِذْ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى يُصَادِفَ الْجِهَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَخْذِهِ، فَهُوَ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى تَخُورَ قُوَّةُ مُدَافَعَتِهِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ مَسْلَكٌ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ بِحَقِيقَةٍ، وَلَكِنَّهَا مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي مُحَاوَلَةِ النَّاسِ وَمُخَاتَلَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْإِتْيَانَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ فِي المخاتلة وإلّا الْمُهَاجَمَةِ.
وَعُلِّقَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وخَلْفِهِمْ بِحَرْفِ (مِنْ) وعلّق أَيْمانِهِمْ وشمالهم بِحَرْفِ عَنْ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي تَعْدِيَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ، وَأَصْلُ (عَنْ) فِي قَوْلِهِمْ: عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ الْمُجَاوَزَةُ: أَيْ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ مُجَاوِزًا لَهُ وَمُجَافِيًا لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (عَنْ) بِمَعْنَى عَلَى، فَكَمَا يَقُولُونَ: جَلَسَ عَلَى يَمِينِهِ
يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَصْلُهَا الِابْتِدَاءُ يُقَالُ: أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَيْ مِنَ الْمَكَانِ الْمُوَاجِهِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ (مِنْ) بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ الزَّائِدِ يُجَرُّ بِهَا الظَّرْفُ فَلِذَلِكَ جَرَتْ بِهَا الظُّرُوفُ الْمُلَازِمَةُ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ عِنْدَ، لِأَنَّ
وَوُصِفَ السِّحْرُ بِالْعَظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ إِذْ كَانَ مَجْمُوعًا مِمَّا تَفَرَّقَ بَيْنَ سَحَرَةِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَصَائِصِ الْمَسْتُورَةِ بِالتَّوْهِيمِ الْخَفِيَّةِ أَسْبَابُهَا عَن الْعَامَّة.
[١١٧- ١١٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١١٧ إِلَى ١١٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)
جُمْلَةُ: وَأَوْحَيْنا معطوفة على جمل سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَاف: ١١٦]، فَهِيَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ لَمَّا، أَيْ: لَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ لَهُمْ عَصَاكَ.
وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ الدَّالِّ عَلَى سُرْعَةِ مُفَاجَأَةِ شُرُوعِهَا فِي التَّلَقُّفِ بِمُجَرَّدِ إِلْقَائِهَا، وَقَدْ دَلَّ السِّيَاقُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفَتَيْنِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَأَلْقَاهَا فَدَبَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ وَانْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ، دَلَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى الْأَمْرُ بِالْإِلْقَاءِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّلَقُّفُ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْحَيَوَانِ، وَالْعَصَا إِذَا دَبَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ صَارَتْ ثُعْبَانًا بِدُونِ تَبْدِيلِ شَكْلٍ.
وَالتَّلَقُّفُ: مُبَالَغَةٌ فِي اللَّقْفِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَالِازْدِرَادُ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا يَأْفِكُونَهُ. وَالْإِفْكُ: الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ وَيُسَمَّى الزُّورُ إِفْكًا، وَالْكَذِبُ الْمَصْنُوعَ إِفْكًا، لِأَنَّ فِيهِ صَرْفًا عَنِ الْحَقِّ وَإِخْفَاءً لِلْوَاقِعِ، فَلَا يُسَمَّى إِفْكًا إِلَّا الْكَذِبُ الْمُصْطَنَعُ الْمُمَوَّهُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السِّحْرُ إِفْكًا لِأَنَّ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ فَشُبِّهَ بِالْخَبَرِ الْكَاذِبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفُ- بِقَافٍ مُشَدَّدَةٍ-، وَأَصْلُهُ تَتَلَقَّفُ، أَيْ تُبَالِغُ وَتَتَكَلَّفُ اللَّقْفَ
مَا اسْتَطَاعَتْ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ عَلَى صِيغَةِ الْمُجَرَّدِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفُ ويَأْفِكُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ، مَعَ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ، أَيْ: فَإِذَا هِيَ يَتَجَدَّدُ تَلَقُّفُهَا لِمَا يَتَجَدَّدُ وَيَتَكَرَّرُ مِنْ إِفْكِهِمْ. وَتَسْمِيَةُ سِحْرِهِمْ إِفْكًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا مَعْمُولَ لَهُ وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْيِيلَاتٍ وَتَمْوِيهَاتٍ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ هُوَ هُوَ، فَلَا جَدْوَى فِي ادِّعَاءِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَنْقُضُونَ. وَعَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ التَّقْوَى عَنْهُمْ صِفَةٌ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُمْ، وَمَلَكَةٌ فِيهِمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ مِنْ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَوُقُوعُ فِعْلِ يَتَّقُونَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمُّ سَائِرَ جِنْسِ الِاتِّقَاءِ وَهُوَ الْجِنْسُ الْمُتَعَارَفُ مِنْهُ، الَّذِي يتهمّم بِهِ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ وَالْمُتَدَيِّنُونَ، فَيَعُمُّ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَخَشْيَةَ عِقَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَعُمُّ اتِّقَاءَ الْعَارِ، وَاتِّقَاءَ الْمَسَبَّةِ وَاتِّقَاءَ سُوءِ السمعة. فإنّ الخسيس بِالْعَهْدِ، وَالْغَدْرَ، مِنَ الْقَبَائِحِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَحْلَامِ، وَعِنْدَ الْعَرَبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ عَدِمَ مَنْ يَرْكَنُ إِلَى عَهْدِهِ وَحِلْفِهِ، فَيَبْقَى فِي عُزْلَةٍ مِنَ النَّاسِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ قَدْ غَلَبَهُمُ الْبُغْضُ فِي الدِّينِ، فَلَمْ يَعْبَأُوا بِمَا يَجُرُّهُ نَقْضُ الْعَهْدِ، مِنَ الْأَضْرَارِ لَهُمْ.
وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْهُمْ فِيمَا يَأْتِي، لَا جَرَمَ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ نَكَالًا لِغَيْرِهِمْ، مَتَى ظَفِرَ بِهِمْ فِي حَرْبٍ يُشْهِرُونَهَا عَلَيْهِ أَوْ يُعِينُونَ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ.
وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) مَزِيدَةٍ بَعْدَهَا (مَا) لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ وُقُوعِ الشَّرْطِ وَبِذَلِكَ تَنْسَلِخُ (إِنْ) عَنِ الْإِشْعَارِ بِعَدَمِ الْجُرْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ وَزِيدَ التَّأْكِيدُ بِاجْتِلَابِ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَفِي «شَرْحِ الرَّضِيِّ عَلَى الْحَاجِبِيَّةِ»، عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ: لَا يَجِيءُ (إِمَّا) إِلَّا بِنُونِ التَّأْكِيدِ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ [مَرْيَم: ٢٦]. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ
دَخَلَتِ النُّونُ مَعَ إِمَّا: إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِمَّا الَّتِي هِيَ حَرْفُ انْفِصَالٍ فِي قَوْلِكَ:
جَاءَنِي إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو.
وَقُلْتُ: دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَ (إِن) المؤكّدة بِمَا، غَالِبٌ، وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، فَقَدْ قَالَ الْأَعْشَى:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا | إِنَّا كَذَلِك مَا تحفى وَنَنْتَعِلُ |
وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى | لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرًا (٢) |
وَوَصَفَ أَنَاسِيَّ وَهُوَ جَمْعٌ بِكَثِيرٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ مِثْلَ رَفِيقٍ وَكَذَلِكَ قَلِيلٌ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: ٨٦].
وَتَقْدِيمُ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ عَلَى الْأَنَاسِيِّ اقْتَضَاهُ نَسْجُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَحْكَامِ فِي تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، وَلَوْ قُدِّمَ ذِكْرُ أَناسِيَّ لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ. وَلَمْ يُقَدَّمْ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٣٣] لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي لِلتَّقْدِيمِ فَجَاءَ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ.
وَضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَاءً طَهُوراً. وَالتَّصْرِيفُ: التَّغْيِيرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَغْيِيرُ أَحْوَالِ الْمَاءِ، أَيْ مَقَادِيرِهِ وَمَوَاقِعِهِ.
وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَطَرِ مُحَقَّقٌ لَا
_________
(١) هُوَ من قضاعة، إسلامي مَاتَ قَتِيلا فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، قَتله هدبة بن خثرم.
(٢) المملكة: التَّمَلُّك، أَي الْعِزَّة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام، وَالْقصر: الْغَايَة.
أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا كَانَ مُعْجِزَةً لِلْبُلَغَاءِ مِنْ جَانِبِهِ النَّظْمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَدُورُ حَوْلَ الْأَرْضِ فَيَنْشَأُ مِنْ دَوَرَانِهَا نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَحْسُبُونَ الْأَرْضَ سَاكِنَةً. وَاهْتَدَى بَعْضُ عُلَمَاء اليونان إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَتَكَوَّنُ مِنْهَا ظُلْمَةُ نصف الكرة الأرضي تَقْرِيبًا وَضِيَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ وَذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ نَظَرِيَّةً مَرْمُوقَةً بِالنَّقْدِ وَإِنَّمَا كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهَا قَاعِدَةَ أَنَّ الْجِرْمَ الْأَصْغَرَ أَوْلَى بِالتَّحَرُّكِ حَوْلَ الْجِرْمِ الْأَكْبَرِ الْمُرْتَبِطِ بِسَيْرِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ إِقْنَاعِيَّةٌ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مُخْتَلِفَةُ الْمَدَارَاتِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ الْأَصْغَرُ حَوْلَ الْأَكْبَرِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ وَضَبْطِ الْحِسَابِ وَمَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ النَّظَرِيَّةُ إِلَّا فِي الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضِيِّ (غَالِيلِي) الْإِيطَالِيِّ.
وَالْقُرْآنُ يُدْمِجُ فِي ضِمْنِ دَلَائِلِهِ الْجَمَّةِ وَعَقِبَ دَلِيلِ تَكْوِينِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ دَلِيلًا رَمَزَ إِلَيْهِ رَمْزًا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْمُفَسِّرُونَ أَوْ تَسْمَعْ لَهُمْ رِكْزًا.
وَإِنَّمَا نَاطَ دَلَالَةَ تَحَرُّكِ الْأَرْضِ بِتَحَرُّكِ الْجِبَالِ مِنْهَا لِأَنَّ الْجِبَالَ هِيَ الْأَجْزَاءُ النَّاتِئَةُ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَظُهُورُ تَحَرُّكِ ظِلَالِهَا مُتَنَاقِصَةً قَبْلَ الزَّوَالِ إِلَى مُنْتَهَى نَقْصِهَا، ثُمَّ آخِذَةً فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَمُشَاهَدَةُ تَحَرُّكِ تِلْكَ الظِّلَالِ تَحَرُّكًا يُحَاكِي دَبِيبَ النَّمْلِ أَشَدُّ وُضُوحًا لِلرَّاصِدِ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ تَحَرُّكِ قِمَمِهَا أَمَامَ قُرْصِ الشَّمْسِ فِي الصَّباح وَالْمَاء أَظْهَرُ مَعَ كَوْنِ الشَّمْسِ ثَابِتَةً فِي مَقَرِّهَا بِحَسَبِ أرصاد البروج والأنواء.
وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: ٨٦] فَجُعِلَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ وَتَرَى الْجِبالَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهُ لِمَعْنًى يُدْرِكُ هُوَ كُنْهَهُ وَلِذَلِكَ خُصَّ الْخِطَابُ بِهِ وَلَمْ يُعَمَّمْ كَمَا عُمِّمَ قَوْلُهُ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: ٨٦] فِي هَذَا الْخطاب، وادخارا لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ فِي وَقْتِ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدَّقِيقَةِ. فَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي نِظَامِ الْأَرْضِ كَمَا أَطْلَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، اخْتَصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِهَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي قُرْآنِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِهِ للنَّاس مصلحَة حنيئذ
الْإِجْمَالُ.
وَتَفْصِيلُهُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ أَمْرًا لَا ارْتِيَابَ فِيهِ وَأَنَّهُ وَعْدُ اللَّهِ الصَّادِقِ الْوَعْدِ الْقَادِرِ عَلَى نَصْرِ الْمَغْلُوبِ فَيَجْعَلُهُ غَالِبًا، فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ مُرَاهَنَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ نَشَأَتْ عَنْ قُصُورِ عُقُولِهِمْ فَأَحَالُوا أَنْ تَكُونَ لِلرُّومِ بَعْدَ ضَعْفِهِمْ دَوْلَةٌ عَلَى الْفُرْسِ الَّذِينَ قَهَرُوهُمْ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ هُوَ بِضْعُ سِنِينَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ أَعْظَمُ.
فَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ ابْتِدَاءً الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الْوَعْدَ وَرَاهَنُوا عَلَى عَدَمِ
وُقُوعِهِ. وَيَشْمَلُ الْمُرَادُ أَيْضًا كُلَّ مَنْ كَانَ يَعُدُّ انْتِصَارَ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُسْتَحِيلًا، مِنْ رِجَالِ الدَّوْلَةِ وَرِجَالِ الْحَرْبِ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا مُزْدَهِينَ بِانْتِصَارِهِمْ، وَمِنْ أَهْلِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، وَمِنَ الرُّومِ أَنْفُسِهِمْ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْجَمْهَرَةِ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: ٣، ٤].
فَالتَّقْدِيرُ: لَا يَعْلَمُونَ هَذَا الْغَلَبَ الْقَرِيبَ الْعَجِيبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيلَ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ بِأَنْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَصِلُوا إِلَى إِدْرَاكِ الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَفَهْمِ الدَّلَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ كَانَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْعِلْمِ شَبِيهًا بِالْعَدَمِ إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ الْكَمَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّاسِخُونَ أَهْلُ النَّظَرِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَجْهِيلِهِمْ وَهُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ.
وَلَمَّا كَانَ فِي أَسْبَابِ تَكْذِيبِهِمُ الْوَعْدَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَكَانَ عَدُّهُمْ إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ مِنِ الْتِبَاسِ الِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ بِالْمُحَالِ، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَقَادِيرِ النَّادِرَةِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيُقَدِّرُ لَهَا أَسْبَابًا لَيْسَتْ فِي الْحُسْبَانِ فَتَأْتِي عَلَى حَسَبِ مَا جَرَى بِهِ قَدَرُهُ لَا عَلَى حَسَبِ مَا يُقَدِّرُهُ النَّاسُ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يَفْرِضَ الِاحْتِمَالَاتِ كُلَّهَا وَيَنْظُرَ فِيهَا بِالسَّبْرِ وَالتَّقْيِيمِ، أَنْحَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَعْقَبَ إِخْبَارَهُ عَنِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ صِدْقَ وَعْدِ الْقُرْآنِ، بِأَنْ وَصَفَ حَالَةَ عِلْمِهِمْ كُلِّهَا بِأَنَّ قُصَارَى تَفْكِيرِهِمْ مُنْحَصِرٌ فِي ظَوَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَهِي المحسوسات والمجريات
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٤٣]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣)تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَجْلَبَةٌ لِانْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَزَاءِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَلَائِكَتِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذِكْرًا بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ على الْخَيْر الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي وَتَحْقِيقِ الْحُكْمِ. وَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ يُصَلِّي مِنْ قَوْلِ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.
وَالصَّلَاةُ: الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ بِخَيْرٍ، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ الثَّنَاءُ. وَأَمَرَهُ بِتَوْجِيهِ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيِ اُذْكُرُوهُ ليذكركم كَقَوْلِه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٥٢] وَقَوْلُهُ
فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ».
وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: دُعَاؤُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ مُسْتَجَابًا عِنْدَ اللَّهِ فَيَزِيدُ الذَّاكِرِينَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ بِصَلَاتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. فَفِعْلُ يُصَلِّي مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَلَائِكَتِهِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُفِيدُ تَشْرِيكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْعَامِلِ، فَهُوَ عَامِلٌ وَاحِدٌ لَهُ معمولان فَهُوَ مُسْتَعْمل فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ الصَّالِحِ لِصَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ الصَّادِقِ فِي كُلٍّ بِمَا يَلِيقُ بِهِ بِحَسَبِ لَوَازِمِ مَعْنَى الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَكَيَّفُ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَنْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ.
وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا إِلَى دَعْوَى عُمُومِ الْمَجَازِ. وَاجْتِلَابُ يُصَلِّي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَتَجَدُّدِهَا كُلَّمَا تَجَدَّدَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ، أَوْ إِفَادَةِ تَجَدُّدِهَا بِحَسَبِ أَسْبَابٍ أُخْرَى مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُلَاحَظَةِ إِيمَانِهِمْ.
وَفِي إِيرَادِ الْمَوْصُولِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بِحَسَبِ غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ: فَإِمَّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ أَنَّهُمْ لَا يَأْتِيهِمْ خَيْرٌ إِلَّا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلُّ تَفْصِيلٍ لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ دَخَلَ فِي عِلْمِهِمْ، وَمِنْهُ
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ تَوْبِيخُهُمْ بِقِلَّةِ الْعُقُولِ بِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ عَنْ عَدَمِ كَوْنِهِمْ يَعْقِلُونَ، أَيْ يُدْرِكُونَ، إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ لَتَفَطَّنُوا إِلَى إِيقَاعِ الشَّيْطَانِ بِهِمْ فِي مَهَاوِي الْهَلَاكِ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَتَكَوَّنْ فِيهِمْ وَلَا هُمْ كائنون بِهِ.
[٦٣، ٦٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعْبُودَاتٍ يُسَوِّلُهَا لَهُمُ الشَّيْطَانُ، إِذْ تَبْدُو لَهُمْ جَهَنَّمُ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهَا وَيُعَرَّفُونَ أَنَّهَا هِيَ جَهَنَّمُ الَّتِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُنْذَرُونَ بِهَا وَتَذْكُرُ لَهُمْ فِي الْوَعِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ. وَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: اصْلَوْهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالتَّنْكِيرِ.
واصْلَوْهَا أَمْرٌ مِنْ صَلِيَ يَصْلَى، إِذَا اسْتَدْفَأَ بِحَرِّ النَّارِ، وَإِطْلَاقُ الصَّلْيِ عَلَى الْإِحْرَاقِ تَهَكُّمٌ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ هَذَا الْيَوْمَ الْحَاضِرَ وَأُرِيدَ بِهِ جَوَابَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنِ اسْتِبْطَاءِ الْوَعْدِ وَالتَّكْذِيبِ إِذْ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨].
وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا.
[٦٥]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٦٥]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ نَخْتِمُ.
وَالْقَوْلُ فِي لَفْظِ الْيَوْمَ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِهِ بِحُصُولِ هَذَا الْحَالِ الْعَجِيبِ فِيهِ، وَهُوَ انْتِقَالُ النُّطْقِ مِنْ مَوْضِعِهِ الْمُعْتَادِ إِلَى الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ.
وَلَوْ لَمْ يُسْلَكْ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي النَّشْرِ لِهَذَا اللَّفِّ لَفَاتَ التَّعْجِيلُ بِدَحْضِ الْمَعْذِرَةِ، وَلَفَاتَتْ مُقَابَلَةُ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ الْمُجَابِ عَنْهَا بِقَرَائِنِ أَمْثَالِهَا لِمَا عَلِمَتْ مِنْ أَنَّ الْإِبْطَالَ رُوعِيَ فِيهِ قَرَائِنٌ ثَلَاث على وزان أَقْوَالِ النَّفْسِ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ أَقْوَالِ النَّفْسِ كَانَ جَارِيًا عَلَى التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ، فَلَوْ لَمْ يُشَوَّشِ النَّشْرُ لَوَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَدَدِ قَرَائِنِ اللَّفِّ فَتَفُوتُ نُكْتَةُ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ شَأْنُ الْجِدَالِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَرُّكِ.
وَتَرْكِيبُ قَوْلِهِ: وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا أُقْحِمَ فِيهِ فِعْلُ كُنْتَ.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ التَّاءَاتِ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَكَذَلِكَ فَتَحُ الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَتْكَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ الْمُغَلَّبَةِ فِي أَنْ يُرَادَ بِهَا الذُّكُورُ وَيُعْلَمَ أَنَّ النِّسَاءَ مِثْلُهُمْ، مِثْلُ تَغْلِيبِ صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْله: لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦].
[٦٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٠]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
عَطْفٌ عَلَى إِحْدَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: ٥١]، أَيْ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْوِدَادُ الْوُجُوهِ حَقِيقَةً جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَامَةً لَهُمْ وَجَعَلَ بَقِيَّةَ النَّاسِ بِخِلَافِهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اسْوِدَادَ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْمَصِيرِ كَمَا جَعَلَ بَيَاضَهَا عَلَامَةً عَلَى حُسْنِ الْمَصِيرِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ هِيَ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ غَيْرِهِ.
وَالْمَقَالِيدُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ لِخَيْرَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، شُبِّهَتِ الْخَيْرَاتُ بِالْكُنُوزِ، وَأُثْبِتَ لَهَا مَا هُوَ مِنْ مُرَادِفَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْمَفَاتِيحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْخَيْرَاتِ. وَأَمَّا مَا يَتَرَاءَى مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْخَيْرَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بِالْإِعْطَاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالتَّقْتِيرِ وَالتَّبْذِيرِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهِ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَبَسْطُ الرِّزْقِ: تَوْسِعَتُهُ، وَقَدْرُهُ: كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّتِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ هُوَ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ أَنَّ مَشِيئَتَهُ جَارِيَةٌ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمَرْزُوقِينَ مِنْ بَسْطٍ أَوْ قَدْرٍ.
وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى:
٢٧].
[١٣]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١٣]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.
انْتِقَالٌ مِنْ الِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ الْجُثْمَانِيَّةِ إِلَى الِامْتِنَانِ بِالنِّعْمَةِ الرُّوحِيَّةِ بِطَرِيقِ الْإِقْبَالِ عَلَى خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْوِيهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَلِلتَّعْرِيضِ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
فَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَمَعْنَى شَرَعَ أَوْضَحَ وَبَيَّنَ لَكُمْ مَسَالِكَ مَا كَلَّفَكُمْ بِهِ. وَأَصْلُ شَرَعَ جَعَلَ طَرِيقًا وَاسِعَةً، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى سَنِّ الْقَوَانِينِ وَالْأَدْيَانِ فَسُمِّيَ الدّين شَرِيعَة. فشرع هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:
٢١]،
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْهَا، أَيْ فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِصَابَتَهُمْ بِالْعَذَابِ ورأوه عَارض قَالُوا: هَذَا عارِضٌ إِلَى آخِرِهِ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَيُسَمَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ فَصِيحَةً، وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ مَا حَدَثَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ هُودًا وَبَيْنَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَذُكِرَ فِي كُتُبِ تَارِيخِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ شَدِيدٌ سِنِينَ، وَأَنَّ هُودًا فَارَقَهُمْ فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ وَمَاتَ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَقَوْلُهُمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَطَرِ. وَوَرَدَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٢] قَوْلُ هُودٍ لَهُمْ: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَقِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةٌ فِي تَفْسِيرِنَا لِسُورَةِ هُودٍ.
وَضَمِيرُ رَأَوْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَعِدُنا [الْأَحْقَاف: ٢٢]، وَهُوَ الْعَذَابُ. وَأَطْلَقَ عَلَى الْمَرْئِيِّ ضَمِيرَ الْعَذَابِ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ سَبَبُ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا حَمَلَتْهُ الرِّيحُ. وعارِضاً حَالٌ مِنْهُ، وَالْعَارِضُ: السَّحَابُ الَّذِي يَعْتَرِضُ جَوَّ السَّمَاءِ أَيْ رَأَوْهُ كَالْعَارِضِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَارِضَ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَيْفَ قَدْ أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ. ومُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ نعت ل عارِضاً.
وَالِاسْتِقْبَالُ: التَّوَجُّهُ قُبَالَةَ الشَّيْءِ، أَيْ سَائِرًا نَحْوَ أَوْدِيَتِهِمْ.
وَأَوْدِيَةٌ: جَمْعُ وَادٍ جَمْعًا نَادِرًا مِثْلَ نَادٍ وأندية. وَيُطلق الواد عَلَى مَحِلَّةِ الْقَوْمِ وَنُزُلِهِمْ إِطْلَاقًا أَغْلَبِيًّا لِأَنَّ غَالِبَ مُنَازِلِهِمْ فِي السُّهُولِ وَمُقَارِّ الْمِيَاهِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ تَحَاوُرٍ وَرَفْعِ صَوْتِهِ عَلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوَادِي. وَجَمَعَ الْأَوْدِيَةَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَنَازِلِهِمْ وَانْتِشَارِهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاتَّبَعَتْهُمْ بِهَمْزَةِ وَصَلٍ وَبِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى وَبِتَاءٍ بَعْدَ الْعَيْنِ هِيَ تَاءُ تَأْنِيثِ ضَمِيرِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وَأَتْبَعْناهُمْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ التَّاءِ.
وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّتُهُمْ الْأَوَّلُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو ذُرِّيَّاتِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ ذُرِّيَّةٍ فَهُوَ مَفْعُولُ أَتْبَعْناهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيْضًا
لَكِنْ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ اتَّبَعَتْهُمْ، فَيَكُونُ الْإِنْعَامُ عَلَى آبَائِهِمْ بِإِلْحَاقِ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ.
وَقَدْ
رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ (أَيْ فِي الْعَمَلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْقُرْطُبِيِّ) لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ
. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ هُوَ نِعْمَةٌ جَمَعَ اللَّهُ بِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْوَاعَ الْمَسَرَّةِ بِسَعَادَتِهِمْ بِمُزَاوَجَةِ الْحُورِ وَبِمُؤَانَسَةِ الْإِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِاجْتِمَاعِ أَوْلَادِهِمْ وَنَسْلِهِمْ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ التَّأَنُسَ بِأَوْلَادِهِ وَحُبَّهُ اتِّصَالَهُمْ بِهِ.
وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ الْجَعْفَرِيُّ الْمُرْسِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ نَزِيلُ تُونِسَ سَنَةَ ١٠١٣ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَلْفٍ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ «الْأَنْوَارُ النَّبَوِيَّةُ فِي آبَاءِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ» (١) قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْكِتَابِ «قَدْ أَطْلَعَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَوَاسِطَةِ وَالِدِي وَأَنَا ابْنُ سِتَّةِ أَعْوَامٍ مَعَ أَنِّي كُنْتُ إِذَّاكَ أَرُوحُ إِلَى مَكْتَبِ النَّصَارَى لِأَقْرَأَ دِينَهُمْ ثُمَّ أَرْجِعَ إِلَى بَيْتِي فَيُعَلِّمَنِي وَالِدِي دِينَ الْإِسْلَامِ فَكُنْتُ أَتَعَلَّمُ فِيهِمَا (كَذَا) مَعًا وَسِنِّي حِينَ حُمِلْتُ إِلَى مَكْتَبِهِمْ أَرْبَعَةُ أَعْوَامٍ فَأَخَذَ وَالِدِي لَوْحًا مِنْ عُودِ الْجَوْزِ كَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ إِلَيْهِ مُمَلَّسًا مِنْ غَيْرِ طَفَلٍ (اسْمٌ لِطِينٍ يَابِسٍ وَهُوَ طِينٌ لَزِجٌ وَلَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَعَرَبِيَّتُهُ طُفَالٌ كَغُرَابٍ)، فَكتب لي فِيهِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَهُوَ يَسْأَلُنِي عَنْ حُرُوفِ
_________
(١) مخطوط عِنْدِي.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّعْجِيبِ لِأَنَّهُ أَشْنَعُ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ لِعَدَمِ التَّثَبُّتِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
وَأَشَارَ هَذَا إِلَى مَا كَانَ يَحْلِفُهُ المُنَافِقُونَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ إِذَا كُشِفَ لَهُمْ بَعْضُ مَكَائِدِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ [التَّوْبَة: ٥٦]، وَقَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التَّوْبَة: ٦٢] وَقَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ٧٤].
قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَبْتَلٍ (بِنُونٍ فَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ) كَانَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ يُجَالس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرْفَعُ أَخْبَارَهُ إِلَى الْيَهُودِ ويسبّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا بُلِّغَ خَبَرَهُ أَوْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ جَاءَ فَاعْتَذَرَ وَأَقْسَمَ إِنَّهُ مَا فَعَلَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لإعداد الْعَذَاب الشَّديد لَهُمْ، أَيْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِيمَا مَضَى أَعْمَالًا سَيِّئَةً مُتَطَاوِلَةً مُتَكَرِّرَةً كَمَا يُؤذن بِهِ الْمُضَارِعُ مِنْ قَوْلِهِ:
يَعْمَلُونَ.
وَبَيْنَ (يَعْمَلُونَ)، وَ (يَعْلَمُونَ) الْجِنَاسُ الْمَقْلُوبُ قَلْبَ بَعْضٍ.
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ، فَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِقَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَزِيَادَةِ مَكْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا لِأِنَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة: ١٥] وَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي التَّعْلِيلِ.
وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ وَالسُّتْرَةُ، مِنْ جَنَّ، إِذَا اسْتَتَرَ، أَيْ وِقَايَةٌ مِنْ شُعُورِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ صَدِّ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ لِأَنَّهُمْ
وَالْاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَهْزِئُواْ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ [الْإِسْرَاء: ٥١] وَأَتَوْا بِلَفْظِ الْوَعْدُ اسْتِنْجَازًا لَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَعْدِ الْوَفَاءُ.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَلْهَجُونَ بِإِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْحَشْرِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ سَبَإٍ.
وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ سُؤَالَهُمْ بِجُمْلَةٍ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ بَلْ عَلَى ظَاهِرِ الْاسْتِفْهَامِ عَنْ وَقْتِ الْوَعْدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، بِأَنَّ وَقْتَ هَذَا الْوَعْدِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَقَوْلُهُ: قُلْ هُنَا أَمْرٌ بِقَوْلٍ يَخْتَصُّ بِجَوَابِ كَلَامِهِمْ وَفُصِلَ دون عطف بجريان الْمَقُولَ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، وَلَمْ يُعْطَفْ فِعْلُ قُلْ بِالْفَاءِ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ أَمْثَالِهِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمُجَاوَبَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْعِلْمُ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْعِلْمُ بِوَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْلَّامُ الَّتِي تُسَمَّى عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ.
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ بِوُقُوعِ هَذَا الْوَعْدِ لَا أَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى كَوْنِي عَالِمًا بِوَقْتِهِ.
وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُبَيِّنٌ لِمَا أمرت بتبليغه.
[٢٧]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٧]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)
(لَمَّا) حَرْفُ تَوْقِيتٍ، أَيْ سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ فِي وَقْتِ رُؤْيَتِهِمُ الْوَعْدَ.
وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا اقْتَضَتْ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً تَقْدِيرُهَا: فَحَلَّ بِهِمُ الْوَعْدُ فَلَمَّا رَأَوْهُ إِلَخْ، أَي رَأَوْا الْمَوْعُود بِهِ.
وَفُعِلَ رَأَوْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِشَبَهِهِ بِالْمَاضِي فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مِثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَمَّنْ لَا إِخْلَافَ فِي أَخْبَارِهِ فَإِنَّ
لِ رَبِّكَ مِنْ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ [النبأ: ٣٦] والرَّحْمنِ نَعْتٌ ثَانٍ.
وَالرَّبُّ: الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ بِالتَّدْبِيرِ وَرَعْيِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسَمَّاهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ قَدْ يُرَادُ بِهِ سَاكِنُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٤٥]، فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ صِفَاتِ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ لَا صِفَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْخَوَاءُ عَلَى عُرُوشِهَا مِنْ أَحْوَالِ ذَاتِ الْقَرْيَةِ لَا مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانِهَا، فَكَانَ إِطْلَاقُ الْقَرْيَةِ مُرَادًا بِهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ كَائِنَاتٍ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا اللَّهُ وَمَا فِي الْجَوِّ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ حَيَّةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْحِبَةٍ وَأَمْطَارٍ وَمَوْجُودَاتٍ سَابِحَةٍ فِي الْهَوَاءِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصْنُوعَاتِ.
وَأُتْبِعَ وَصْفُ رَبِّ السَّماواتِ بِذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ اسْمُ الرَّحْمنِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّ فِي مَعْنَاهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُفِيضُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلَى الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ هُوَ عَطَاءُ رَحْمَانَ بِهِمْ.
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَلِيلَةِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ مَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَاقِلَةِ، أَوِ الْمَزْعُومِ لَهَا الْعَقْلُ مِثْلَ الْأَصْنَامِ، فَيُتَوَهَّمُ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَسْتَطِيعُ خِطَابَ اللَّهِ وَمُرَاجَعَتَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِلِاحْتِرَاسِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا تُشْعِرُ بِهِ صِلَةُ رَبٍّ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَرْبُوبِينَ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِمْ يُسِيغُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى خِطَابِ الرَّبِّ.
الصفحة التالية