الْمَقْصِدُ مِنْهُ خَبِيثًا وَهُوَ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى أَعْرَاضِهِنَّ وَلَا يَجِدْنَ بُدًّا مِنَ الْإِجَابَةِ بِحُكْمِ الْأَسْرِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ كِنَايَةً عَنِ اسْتِحْيَاءٍ خَاصٍّ وَلِذَلِكَ أُدْخِلَ فِي الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ ظَاهِرَهُ لَمَا كَانَ وَجْهٌ لِعَطْفِهِ عَلَى تِلْكَ الْمُصِيبَةِ.
وَقِيلَ إِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ الْحَيَاءِ وَهُوَ الْفَرْجُ أَيْ يُفَتِّشُونَ النِّسَاءَ فِي أَرْحَامِهِنَّ لِيَعْرِفُوا هَلْ بِهِنَّ حَمْلٌ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَالَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَقَدْ حَكَتِ التَّوْرَاةُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْصَى الْقَوَابِلَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ.
وَجُمْلَةُ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ هُنَا خُصُوصَ التَّذْبِيحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ لِمَا عَرَفْتَ فَكِلَاهُمَا بَيَانٌ لِسُوءِ الْعَذَابِ فَكَانَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ تُجَاهَ هَذَا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الْبَعْضِ تَخْصِيصًا لِأَعْظَمِ أَحْوَالِ سُوءِ الْعَذَابِ بِالذِّكْرِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطَابِقُ آيَةَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٦] الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ بِالْعَطْفِ عَلَى سُوءَ الْعَذابِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ وَيَسْتَحْيُونَ مُسْتَأْنِفًا لِإِتْمَامِ تَفْصِيلِ صَنِيعِ فِرْعَوْنَ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيَانِ أَوِ الْبَدَلِ لِلْعَذَابِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [الْقَصَص: ٤] فَعَقَّبَ الْفِعْلَيْنِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَاف:
١٦٨] وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ حَقِيقَته بلَاء الثَّوَاب- بِفَتْحِ الْبَاءِ مَعَ الْمَدِّ وَبِكَسْرِهَا مَعَ الْقَصْرِ- وَهُوَ تَخَلُّقُهُ وَتَرَهُّلُهُ وَلَمَّا كَانَ الِاخْتِبَارُ يُوجِبُ الضَّجَرَ وَالتَّعَبَ سُمِّيَ بَلَاءً كَأَنَّهُ يَخْلُقُ النَّفْسَ، ثُمَّ شَاعَ فِي اخْتِبَارِ الشَّرِّ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ إِعْنَاتًا لِلنَّفْسِ، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ إِذَا أُطْلِقَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِّ فَإِذَا أَرَادُوا بِهِ الْخَيْرَ احْتَاجُوا إِلَى قَرِينَةٍ أَوْ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ | وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو |
وَتَعَلَّقَ الْإِنْجَاءُ بِالْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ إِنْجَاءَ سَلَفِهِمْ إِنْجَاءٌ لَهُمْ فَإِنَّهُ لَوْ أَبْقَى سَلَفَهُمْ هُنَالِكَ لَلَحِقَ الْمُخَاطَبِينَ سُوءُ الْعَذَابِ وَتَذْبِيحُ الْأَبْنَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ نَجَّيْنَا آبَاءَكُمْ، أَوْ هُوَ تَعْبِيرٌ عَنِ الْغَائِبِ
أَنَّ الْفِلَسْطِينِيِّينَ لَمَّا عَلِمُوا اتِّحَادَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ تَحْتَ مَلِكٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَّا لِقَصْدِ أَخْذِ الثَّأْرِ
مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَتَخْلِيصِ تَابُوتِ الْعَهْدِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَدَبَّرُوا أَنْ يُظْهِرُوا إِرْجَاعَ التَّابُوتِ بِسَبَبِ آيَاتٍ شَاهَدُوهَا، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ حِدَّةَ بني إِسْرَائِيل تفل إِذَا أُرْجِعَ إِلَيْهِمُ التَّابُوتُ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرُّعْبُ حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ تَمْلِيكِ شَاوُلَ، وَابْتِدَاء ظُهُور الِانْتِصَار بِهِ.
وَالتَّابُوتُ اسْمٌ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ فَوَزْنُهُ فَاعُولٌ، وَهَذَا الْوَزْنُ قَلِيلٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ إِنَّمَا هُوَ مُعَرَّبٌ مِثْلَ نَاقُوسٍ وَنَامُوسٍ، وَاسْتَظْهَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ وَزْنَهُ فَعَلُولٌ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ لِقِلَّةِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فَاؤُهَا وَلَامُهَا حَرْفَانِ مُتَّحِدَانِ: مِثْلَ سَلَسٌ وَقَلَقٌ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا أَثْبَتَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي مَادَّةِ تَوَبَ لَا فِي تَبَتَ.
وَالتَّابُوتُ بِمَعْنَى الصُّنْدُوقِ الْمُسْتَطِيلِ: وَهُوَ صُنْدُوقٌ أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصُنْعِهِ صَنَعَهُ بَصْلَئِيلُ الْمُلْهَمُ فِي صِنَاعَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَنِجَارَةِ الْخَشَبِ، فَصَنَعَهُ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ- وَهُوَ شَجَرَةٌ مِنْ صِنْفِ الْقَرَظِ- وَجَعَلَ طُولَهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا وَعَرْضَهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا وَارْتِفَاعَهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَغَشَّاهُ بِذَهَبٍ مِنْ دَاخِلُ وَمِنْ خَارِجُ، وَصَنَعَ لَهُ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ، وَسَبَكَ لَهُ أَرْبَعَ حَلَقٍ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ، وَجَعَلَ لَهُ عَصَوَيْنِ مِنْ خَشَبٍ مُغَشَّاتَيْنِ بِذَهَبٍ لِتَدْخُلَ فِي الْحَلَقَاتِ لِحَمْلِ التَّابُوتِ، وَجَعَلَ غِطَاءَهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ عَلَى طَرِيقِ الْغِطَاءِ صُورَةً تَخَيَّلَ بِهَا اثْنَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَهَبٍ بَاسِطِينَ أَجْنِحَتَهُمَا فَوْقَ الْغِطَاءِ، وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَضَعَ فِي هَذَا التَّابُوتِ لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ اللَّذَيْنِ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمَا وَهِيَ الْأَلْوَاحُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ [الْأَعْرَاف:
١٥٤].
وَالسَّكِينَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى الِاطْمِئْنَانِ وَالْهُدُوءِ،
وَفِي حَدِيثِ السَّعْيِ إِلَى الصَّلَاةِ «عَلَيْكُمْ بِالسِّكِّينَةِ»
وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ التَّابُوتِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي حَرْبٍ أَوْ سِلْمِ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ وَاثِقَةً بِحُسْنِ الْمُنْقَلَبِ، وَفِيهِ أَيْضًا كُتُبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ مِمَّا تَسْكُنُ لِرُؤْيَتِهَا نُفُوس الْأُمَّةِ وَتَطْمَئِنُّ لِأَحْكَامِهَا، فَالظَّرْفِيَّةُ عَلَى الْأَوَّلِ مَجَازِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي حَقِيقِيَّةٌ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ إِطْلَاقُ السِّكِّينَةِ عَلَى شَيْءٍ شِبْهِ الْغَمَامِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَلَعَلَّهَا مَلَائِكَةٌ يُسَمَّوْنَ بِالسِّكِّينَةِ.
وَالْبَقِيَّةُ فِي الْأَصْلِ مَا يَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُعْظَمِهِ، وَقَدْ بُيِّنَتْ هُنَا بِأَنَّهَا مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَهِيَ بَقَايَا مِنْ آثَارِ الْأَلْوَاحِ، وَمِنَ الثِّيَابِ الَّتِي أَلْبَسَهَا مُوسَى أَخَاهُ
وَانْتَصَبَ أَخْبارَها عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ تُحَدِّثُ وَقَوْلُهُ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ تُحَدِّثُ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهَا أَنْ تُحَدِّثَ أَخْبَارَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَخْبارَها وَأُظْهِرَتِ الْبَاءُ فِي الْبَدَلِ لِتَوْكِيدِ تَعْدِيَةِ فِعْلِ تُحَدِّثُ إِلَيْهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ قَدْ أُجْمِلَتْ أَخْبَارُهَا وَبَيَّنَهَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ.
وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ أَوْجَدَ فِيهَا أَسْبَابَ إِخْرَاجِ أَثْقَالِهَا فَكَأَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا بِكَلَامٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النَّحْل:
٦٨] الْآيَاتِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ أَوْحى بِاللَّامِ لِتَضْمِينِ أَوْحى مَعْنَى قَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت: ١١]، وَإِلَّا فَإِنَّ حَقَّ أَوْحى أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى).
وَالْقَوْلُ الْمُضَمَّنُ هُوَ قَوْلُ التَّكْوِينِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: ٤٠].
وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ فِعْلِ: قَالَ لَهَا إِلَى فِعْلِ أَوْحى لَها لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ تَكْوِينٍ لَا عَنْ قَوْلٍ لَفْظِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وَالْجَوَابُ هُوَ فِعْلُ يَصْدُرُ النَّاسُ وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالتَّذْكِيرِ بِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ أَهْوَالِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ حُصُولِهِ يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّ الزِّلْزَالَ كَانَ إِنْذَارًا بِهَذَا الْحَشْرِ.
وَحَقِيقَةُ يَصْدُرُ النَّاسُ الْخُرُوجُ مِنْ مَحَلِّ اجْتِمَاعِهِمْ، يُقَالُ: صَدَرَ عَنِ الْمَكَانِ، إِذَا تَرَكَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ صُدُورًا وَصَدَرًا بِالتَّحْرِيكِ. وَمِنْهُ الصَّدْرُ عَنِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوِرْدِ، فَأُطْلِقَ هُنَا فِعْلُ يَصْدُرُ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ جَمَاعَاتٍ، أَوِ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الْمَحْشَر إِلَى مآويهم مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، تَشْبِيهًا بِانْصِرَافِ النَّاسِ عَنِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوِرْدِ.