وَقَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَهُوَ مَحَلُّ التَّذْكِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِلَخْ فَالْمَاضِي مُسْتَعْمَلٌ فِي بَابِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ وَقَدْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلتَّكَلُّمِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ وَرَجَّحَهُ هُنَا سَبْقُ مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى. وَعُطِفَتِ الْفَاءُ عَلَى مَحْذُوفٍ إِيجَازًا، أَيْ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَوْ فَعَزَمْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، عَلَى حَدِّ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء:
٦٣] أَيْ فَضَرَبَ، وَعَطَفَ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى تَعْقِيبِ جُرْمِهِمْ بِتَوْبَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ تَأْخِيرِهَا إِلَى مَا بَعْدَ اسْتِئْصَالِ جَمِيعِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ بَلْ نَسَخَ ذَلِكَ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ قَلِيلًا أَوْ دُونَ الْعَمَلِ بِهِ وَفِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِمْ إِذْ حَصَلَ الْعَفْوُ عَنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ بِدُونِ تَكْلِيفِهِمْ تَوْبَةً شَاقَّةً بَلِ اكْتِفَاءً بِمُجَرَّدِ نَدَمِهِمْ وَعَزْمِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِذَلِكَ.
وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ فَتابَ عَلَيْكُمْ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِمَا فِيهِ مِنْ لُزُومِ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ غَيْرِ وَاضِحِ الْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ فَعَلْتُمْ يَتُبْ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّي هَذِهِ الْآيَةَ عَنْ مَحَلِّ النِّعْمَةِ الْمُذَكَّرِ بِهِ إِلَّا تَضَمُّنًا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ خَبَرٌ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي عِظَمِ جُرْمِهِمْ حَالُ مَنْ
يَشُكُّ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَمَعَ التَّوَّابَ مَعَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كَانَتْ بِالْعَفْوِ عَنْ زَلَّةِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ وَهِيَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا الْغَفَّارُ، وَبِالنَّسْخِ لِحُكْمِ قَتْلِهِمْ وَذَلِكَ رَحْمَةٌ فَكَانَ لِلرَّحِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ هُنَا وَلَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الثَّنَاء.
[٥٥، ٥٦]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٦]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى نَشَأَتْ بَعْدَ عِقَابٍ عَلَى جَفَاءِ طَبْعِ فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ هُوَ قَوْلُهُ:
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَأْسِيسٌ لِبِنَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْبَقَرَة: ٥١] الْآيَةَ. وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَسْلَافُ الْمُخَاطَبِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.
وَمُتَعَلِّقُ «شَهِيدٌ» مَحْذُوفا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، أَيْ بِدَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: عَلى ذلِكَ بِمَعْنَى: مَعَ ذَلِكَ، أَيْ مَعَ ذَلِكَ الْكُنُودِ هُوَ عَلِيمٌ بِأَنَّهُ رَبُّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ لَا لِلْكُنُودِ، فَحَرْفُ عَلى بِمَعْنَى (مَعَ) كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَان: ٨] وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
فَبَقِينَا على الشّناءة تنم | نَا حصون وعرة قَعْسَاءُ |
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسُفْيَانُ: ضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «رَبِّهِ»، أَيْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يُسَوِّغُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَلَعَلَّهُمَا رَأَيَا جَوَازَ الْمَحْمَلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى.
وَتَقْدِيمُ عَلى ذلِكَ عَلَى «شَهِيد» للاهتمام والتعجيب وَمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ.
وَالشَّدِيدُ: الْبَخِيلُ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ رَاثِيًا:
حَذَرْنَاهُ بِأَثْوَابٍ فِي قَعْرِ هُوَّةٍ | شَدِيدٍ عَلَى مَا ضَمَّ فِي اللَّحْدِ جُولُهَا |
عَقِيلَةُ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَاللَّامُ فِي لِحُبِّ الْخَيْرِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْخَيْرُ: الْمَالُ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: ١٨].
وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي خُلُقِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ لِأَجْلِ حُبِّهِ الْمَالَ، أَيِ الِازْدِيَادِ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى:
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩].
وَتَقْدِيمُ لِحُبِّ الْخَيْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِغَرَابَةِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ،
وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَحُبُّ الْمَالِ يَبْعَثُ عَلَى مَنْعِ الْمَعْرُوفِ، وَكَانَ الْعَرَبُ يُعَيِّرُونَ بِالْبُخْلِ وَهُمْ مَعَ