الْمُضَافِ إِلَيْهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ. وَمَعْنَى السُّجُودِ عِنْدَ الدُّخُولِ الِانْحِنَاءُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِأَنَّ بَابَهَا قَصِيرٌ كَمَا قِيلَ، إِذْ لَا جَدْوَى لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّجُودِ مُطْلَقُ الِانْحِنَاءِ لِإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ كَيْلَا يَفْطِنَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَوْسَسَةِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهَا التَّوْرَاةُ وَيَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ الْمَأْمُورُ بِهِ سُجُودَ الشُّكْرِ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مُتَجَسِّسِينَ لَا فَاتِحِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَصِيَّةَ مُوسَى فَدَخَلُوا يزحفون على أستاهم كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِظْهَارَ الزَّمَانَةِ فَأَفْرَطُوا فِي التَّصَنُّعِ بِحَيْثُ يَكَادُ أَنْ يَفْتَضِحَ أَمْرُهُمْ لِأَنَّ بَعْضَ التَّصَنُّعِ لَا يُسْتَطَاعُ اسْتِمْرَارُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا حِطَّةٌ الْحِطَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ وَهُوَ الْخَفْضُ وَأَصْلُ الصِّيغَةِ أَنَّ تَدُلَّ عَلَى الْهَيْئَةِ وَلَكِنَّهَا هَنَا مُرَادٌ بِهَا مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْعَجْزِ أَوْ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ السُّؤَّالِ وَالشَّحَّاذِينَ كَيْلَا يَحْسِبَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ حِسَابًا وَلَا يَأْخُذُوا حَذَرًا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ قَوْلًا يُخَاطِبُونَ بِهِ أَهْلَ الْقَرْيَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْحِطَّةِ سُؤَالُ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا أَيِ اسْأَلُوا اللَّهَ غُفْرَانَ ذُنُوبِكُمْ إِنْ دَخَلْتُمُ الْقَرْيَةَ. وَقِيلَ: مِنَ الْحَطِّ بِمَعْنَى حَطِّ الرِّحَالِ أَيْ إِقَامَةٍ أَيِ ادْخُلُوا قَائِلِينَ إِنَّكُمْ نَاوُونَ الْإِقَامَةَ بِهَا إِذِ الْحَرْبُ وَدُخُولُ دِيَارِ الْعَدُوِّ يَكُونُ فَتْحًا وَيَكُونُ صُلْحًا وَيَكُونُ لِلْغَنِيمَةِ ثُمَّ الْإِيَابِ. وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ بَعِيدَانِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ تُنَافِي الْقَوْلَ بِأَنَّهَا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَا يَرْتَفِعُ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ نَحْوَ سَقْيًا وَرَعْيًا وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الْمَدْحُ أَوِ التَّعَجُّبُ لِقُرْبِهِمَا مِنَ الْخَبَرِ دُونَ الدُّعَاءِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ الله.
و (حطة) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ نَحْوَ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ وصبر جَمِيلٌ.
وَالْخَطَايَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ وَلَامُهَا مَهْمُوزَةٌ فَقِيَاس جمعهَا خطائيء بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ فَعَائِلَ
فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْهَمْزَتَانِ قُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِأَنَّ قَبْلَهَا كَسْرَةً أَوْ لِأَنَّ فِي الْهَمْزَتَيْنِ ثِقَلًا فَخَفَّفُوا الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا يَاءً ثُمَّ قَلَبُوهَا أَلِفًا إِمَّا لِاجْتِمَاعِ ثِقَلِ الْيَاءِ مَعَ ثِقَلِ صِيغَةِ الْجَمْعِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ جَائِيَ اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ جَائِي لِأَنَّ هَمْزَةَ جَائِي زَائِدَة وهمزة خطائيء أَصْلِيَّةٌ فَفَرُّوا بِتَخْفِيفِهِ إِلَى قَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فَعَلُوا فِي يَتَامَى وَوَجَدُوا لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّحِيحَةِ نَظِيرًا وَهُوَ طَهَارَى جَمْعُ طَاهِرَة. والخطيئة فعيلة بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ لِأَنَّهَا مَخْطُوءٌ بِهَا أَيْ مَسْلُوكٌ بِهَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أم رَأسه، وَهِي أَعلَى الدِّمَاغ، وهاوِيَةٌ سَاقِطَة من قَوْلهم سقط على أُمُّ رَأْسِهِ، أَيْ هَلَكَ.
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ: تَهْوِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَضَمِيرُ هِيَهْ عَائِدٌ إِلَى هاوِيَةٌ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، إِذْ مُعَادُ الضَّمِيرِ وَصْفُ هَالِكَةٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْمُ جَهَنَّمَ كَمَا فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُلَقَّبِ مُعَوِّذَ الْحُكَمَاءِ:

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى (هَاوِيَةٌ) وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا قَعْرُ جَهَنَّمَ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ فِي هِيَهْ اسْتِخْدَامٌ أَيْضًا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَالْهَاءُ الَّتِي لَحِقَتْ يَاءَ (هِيَ) هَاءُ السَّكْتِ، وَهِي هَاءٌ تُجْلَبُ لِأَجْلِ تَخْفِيفِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، فَمِنْهُ تَخْفِيفٌ وَاجِبٌ تُجْلَبُ لَهُ هَاءُ السَّكْتِ لُزُومًا، وَبَعْضُهُ حَسَنٌ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وَذَلِكَ فِي كُلِّ اسْمٍ أَوْ حَرْفٍ بِآخِرِهِ حَرَكَةُ بِنَاءٍ دَائِمَةٌ مِثْلَ: هُوَ، وَهِيَ، وَكَيْفَ، وَثُمَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [١٩].
وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوا النُّطْقَ بِهَذِهِ الْهَاءِ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ.
وَجُمْلَةُ: نارٌ حامِيَةٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ، وَالْمَعْنَى: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ.
وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَوَصْفُ نارٌ بِ حامِيَةٌ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِأَنَّ النَّارَ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَمْيِ فوصفها بِهِ وصف بِمَا هُوَ من مَعْنَى لَفْظِ نارٌ فَكَانَ كَذِكْرِ الْمُرَادِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الْهمزَة: ٦].


الصفحة التالية
Icon