الْإِعْرَابِ دُونَ مُخَالَفَتِهِ مُصْحَفَ عُثْمَانَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ الْوَاحِدُ قَدْ قَرَأَ بِوَجْهَيْنِ لِيُرِيَ صِحَّتَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ قَصْدًا لِحِفْظِ اللُّغَةِ مَعَ حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ بِهَا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ اخْتِيَارًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا يَقَعُ فِي «كِتَابَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ» مِنْ نَقْدِ بَعْضِ طُرُقِ الْقُرَّاءِ، عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ نَقْدِهِمْ نَظَرًا، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِرَاءَةَ بِالْإِمَالَةِ مَعَ ثُبُوتِهَا عَنِ الْقُرَّاءِ، وَهِيَ مروية عَن مقرىء الْمَدِينَةِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ عَنْهُ وَانْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ أَهْلُ مِصْرَ، فَدَلَّتْ كَرَاهَتُهُ عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقَارِئَ بِهَا مَا قَرَأَ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١] عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ: يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «طسينَ مِيمُ» بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ «طسين» وَضَمِّ الْمِيمِ الْأَخِيرَةِ كَمَا يُقَال هَذَا معديكرب اهـ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ. قُلْتُ: وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ مَا دَامَتْ كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ وَجُمَلُهُ مَحْفُوظَةً عَلَى نَحْوِ مَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا شَذُّوا مِنْهُمْ، كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَثْبَتَهُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ، رَأَى أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى اتِّبَاعه وَترك قِرَاءَة مَا خَالَفَهُ، وَجَمَعَ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَأَحْرَقَهَا وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ.
قَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ «تَفْسِيرِهِ» «كَانَ عَلِيٌّ طُولَ أَيَّامِهِ يَقْرَأُ مُصْحَفَ عُثْمَانَ وَيَتَّخِذُهُ إِمَامًا». وَقُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ فِعْلُ عُثْمَانَ إِتْمَامًا لِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ جَمْعِهِ الْقُرْآنَ الَّذِي كَانَ يُقْرَأُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ نَسَخَهُ فِي مَصَاحِفَ لِتُوَزَّعَ عَلَى الْأَمْصَارِ، فَصَارَ الْمُصْحَفُ الَّذِي كُتِبَ لِعُثْمَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ قِرَاءَةٍ تُوَافِقُهُ وَصَارَ مَا خَالَفَهُ مَتْرُوكًا بِمَا يُقَارِبُ الْإِجْمَاعَ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» :«كَانَتْ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاحِدَةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَيُقَالُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى جِبْرِيلَ» اهـ. وَبَقِيَ الَّذِينَ قَرَأُوا قِرَاءَاتٍ مُخَالِفَةً لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ يَقْرَأُونَ بِمَا رَوَوْهُ لَا يَنْهَاهُمْ أَحَدٌ عَنْ قِرَاءَتِهِمْ وَلَكِنْ يَعُدُّونَهُمْ شُذَّاذًا وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا قِرَاءَتَهُمْ فِي
مَصَاحِفَ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الْوَاقِعَة: ٢٩] عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِي «الْكَشَّاف» و «الْقُرْطُبِيّ» - قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «وطلح مَنْضُودٍ» بِعَيْنٍ فِي مَوْضِعِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ قَارِئٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فَقَالَ: وَمَا شَأْنُ الطَّلْحِ؟ إِنَّمَا هُوَ «وَطَلْعٍ»
النَّاسِ، وَتَفْضِيلِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اسْتِقْبَالِ أَفْضَلِ بُقْعَةٍ، وَتَأْيِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَأَمْرِهِمْ بِالِاسْتِخْفَافِ بِالظَّالِمِينَ وَأَنْ لَا يَخْشَوْهُمْ، وَتَبْشِيرِهِمْ بِأَنَّهُ أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الِامْتِثَالِ لِلْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ كَالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ وَالذِّكْرَ بِهِمَا تَهْيِئَةُ النُّفُوسِ إِلَى عَظِيمِ الْأَعْمَالِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهُ أَمَرَهُمْ هُنَا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا عَوْنٌ لِلنَّفْسِ عَلَى عَظِيمِ الْأَعْمَالِ، فَنَاسَبَ تَعْقِيبَهَا بِهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ من قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ مُشْعِرٌ بِأَنَّ أُنَاسًا مُتَصَدُّونَ لِشَغْبِهِمْ وَتَشْكِيكِهِمْ وَالْكَيْدِ لَهُمْ، فَأُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَكُلُّهَا مُتَمَاسِكَةٌ مُتَنَاسِبَةُ الِانْتِقَالِ عَدَا آيَةِ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: شاكِرٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: ١٥٨] فَسَيَأْتِي تَبْيِينُنَا لِمَوْقِعِهَا.
وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِخَبَرٍ مُهِمٍّ عَظِيمٍ، فَإِنَّ شَأْنَ الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَهُولُ الْمُخَاطَبَ أَنْ يُقَدَّمَ قبلهَا مَا يهيء النَّفْسَ لِقَبُولِهَا لِتَسْتَأْنِسَ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَفْجَأَهَا.
وَفِي افْتِتَاحِ هَذَا الْخِطَابِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ سَيُعْقَبُ بِالنَّدْبِ إِلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ وَبَلْوًى شَدِيدَةٍ، وَذَلِكَ تَهْيِئَةٌ لِلْجِهَادِ، وَلَعَلَّهُ إِعْدَادٌ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْمَغَازِي كَانَ قُبَيْلَ زَمَنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِذْ كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ فِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَتْ غَزْوَةُ بُوَاطَ وَالْعُشَيْرَةِ وَبَدْرٍ الْأُولَى فِي رَبِيعٍ وَجُمَادَى مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قِتَالٌ، وَكَانَتْ بَدْرٌ الْكُبْرَى فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَتْ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِنَحْوِ شَهْرَيْنِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] أَنَّ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي أَنَّ نَاسًا قُتِلُوا قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، أَنَّهُ تَوَهُّمٌ
مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنِ الْبَرَاءِ، فَإِنَّ أَوَّلَ قَتْلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَهِيَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِنَحْوِ شَهْرَيْنِ، وَالْأَصَحُّ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيءُ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» الْحَدِيثَ فَلَمْ يَقُلِ: (الَّذِينَ قُتِلُوا). فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَهْيِئَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِلصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْحَرْبِ، وَتَحْبِيبٌ لِلشَّهَادَةِ إِلَيْهِمْ.
ضَجَرٍ.
فَالْإِيمَانُ يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ وَأَفْعَالِ الْبِرِّ، وَالَّذِي يَأْتِي تِلْكَ الْمَأْمُورَاتِ يُثَبِّتُ نَفْسَهُ بِأَخْلَاقِ
الْإِيمَانِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ الْآيَةُ تَحْرِيضًا عَلَى تَكْرِيرِ الْإِنْفَاقِ.
وَمُثِّلَ هَذَا الْإِنْفَاقُ بِجَنَّةٍ بِرُبْوَةٍ إِلَخ، وَوَجْهُ الشّبَه هُوَ الهيأة الْحَاصِلَةُ مِنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ تَكَامَلَ بِهَا تَضْعِيف الْمَنْفَعَة، فالهيأة الْمُشَبَّهَةُ هِيَ النَّفَقَةُ الَّتِي حَفَّ بهَا طلب رَضِي اللَّهِ وَالتَّصْدِيقُ بِوَعْدِهِ فَضُوعِفَتْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً أَوْ دُونَهَا فِي الْكَثْرَة، والهيأة الْمُشَبَّهَةُ بهَا هِيَ هيأة الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ الْمَكَانِ الَّتِي جَاءَهَا التَّهْتَانُ فَزَكَا ثَمَرُهَا وَتَزَايَدَ فَأُكْمِلَتِ الثَّمَرَةُ، أَوْ أَصَابَهَا طَلٌّ فَكَانَتْ دُونَ ذَلِكَ.
وَالْجَنَّةُ مَكَانٌ مِنَ الْأَرْضِ ذُو شَجَرٍ كَثِيرٍ بِحَيْثُ يُجَنُّ أَيْ يستر الْكَائِن فِيهِ فَاسْمُهَا مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَّ إِذَا سَتَرَ، وَأَكْثَرُ مَا تُطْلَقُ الْجَنَّةُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى ذَاتِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ الْمُخْتَلِفِ الْأَصْنَافِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مَغْرُوسًا نَخِيلًا بَحْتًا فَإِنَّمَا يُسَمَّى حَائِطًا. وَالْمُشْتَهِرُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ غَيْرِ النَّخِيلِ هُوَ الْكَرْمُ وَثَمَرُهُ الْعِنَبُ أَشْهَرُ الثِّمَارِ فِي بِلَادِهِمْ بَعْدَ التَّمْرِ، فَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَالطَّائِفِ. وَمِنْ ثِمَارِهِمُ الرُّمَّانُ، فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ مَعَهَا قِيلَ لَهَا جَنَّةٌ أَيْضًا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يُرَادُ بِهَا حَائِطُ النَّخْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ١٤١] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ. فَعَطَفَ النَّخْلَ عَلَى الْجَنَّاتِ، وَذَكَرَ الْعَرِيشَ وَهُوَ مِمَّا يُجْعَلُ لِلْكَرْمِ، هَذَا مَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِحَبَّةٍ ثُمَّ بِجَنَّةٍ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ.
وَالرَّبْوَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا مَكَانٌ مِنَ الْأَرْضِ مُرْتَفِعٌ دُونَ الْجُبَيْلِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ بِرُبْوَة بِضَمِّ الرَّاءِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَتَخْصِيصُ الْجَنَّةِ بِأَنَّهَا فِي رَبْوَةٍ لِأَنَّ أَشْجَارَ الرُّبَى تَكُونُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا وَأَزْكَى ثَمَرًا فَكَانَ لِهَذَا الْقَيْدِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا قُوَّةُ وَجْهِ الشَّبَهِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ ضِعْفَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ بِهِ الرَّاجِعُ إِلَى تَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ فِي تَخَيُّلِ السَّامِعِ.
ضَمْنِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ سُكُوتُهَا مُنْكَرٍ يَقَعُ، وَلَا عَنْ مَعْرُوفٍ يُتْرَكُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِنْ كَانَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِمَعْنَى الشَّرْعِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ مِنَ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ فِي هَذَا النَّوْعِ بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعَاتِ الْمُنْعَقِدَةِ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَيْهِ سُفُسْطَائِيٌّ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْكَرًا إِلَّا بَعْدَ إِثْبَاتِ حُكْمِهِ شَرْعًا، وَطَرِيقُ إِثْبَاتِ حُكْمِهِ الْإِجْمَاعُ، فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى مُنْكَرٍ عِنْدَ اللَّهِ خَطَأً مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مُنْكَرًا حَتَّى يَنْهَى عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمْ هُوَ غَايَةُ وُسْعِهِمْ.
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ قَدْ غَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فَنَبَّهَهُمْ هَذَا الْعَطْفُ إِلَى إِمْكَانِ تَحْصِيلِهِمْ عَلَى هَذَا الْفَضْلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُتَرَدِّدُونَ فِي أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانَ مُخَيْرِيقُ مُتَرَدِّدًا زَمَانًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ تَرَدَّدُوا فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ.
وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَصَدَ بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ قَلِيلٌ
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَآمَنَ بِي الْيَهُودُ كُلُّهُمْ»
. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ (آمَنَ) هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوِ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ لَقَبٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي مِنْهُ أُطْلِقَتْ صِلَةُ الَّذِينَ

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٣٧ إِلَى ٣٩]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، جِيءَ بِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ جَرَى ذِكْرُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَمُنَاسَبَةُ إِرْدَافِ التَّحْرِيضِ على الْإِحْسَان بالتحذير مِنْ ضِدِّهِ وَمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ مِنْ كُلِّ إِحْسَانٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَقُوبِلَ الْخُلُقُ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر.
فَيكون قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً، وَحُذِفَ خَبَرُهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَقُصِدَ الْعُدُولُ عَنِ الْعَطْفِ: لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، وَلِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْعُمُومِ، وَفَائِدَةِ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أَعَتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا وَأَعْتَدْنَا ذَلِكَ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالِهِمْ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ مَعْطُوفَةً أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مَحْذُوفَةَ الْخَبَرِ أَيْضًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالهم رثاء النَّاسِ قَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ. وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ إِلَى الْعَطْفِ مِثْلُ نُكْتَةِ مَا قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النِّسَاء: ٣٦] فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَجُمْلَةُ وَأَعْتَدْنا مُعْتَرِضَةٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ.
وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ بَخِلَ مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَيُقَالُ الْبَخَلُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ- وَهُوَ مَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْبَاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ-.
عِيسَى ابْنًا لِلَّهِ وَمَرْيَمَ صَاحِبَةً لِلَّهِ- سُبْحَانَهُ-، وَجَعَلُوا مَعْنَى الرُّوحِ عَلَى مَا بِهِ تَكَوَّنَتْ حَقِيقَةُ الْمَسِيحِ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ مِنْ نَفْسِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ عِيسَى مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ الرِّسَالَةِ وَالْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ، لَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَا يُزَادُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ كَوْنِ الْمَسِيحِ ابْنًا لِلَّهِ وَاتِّحَادِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ وَكَوْنِ مَرْيَمَ صَاحِبَةً.
وَوَصْفُ الْمَسِيحِ بِأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَصْفٌ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ فَفِي صَدْرِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَة، والكلامة كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ- ثُمَّ قَالَ- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا». وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْآنُ وَأَثْبَتَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْإِنْجِيلِيَّةِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَثَرُ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَالْكَلِمَةُ هِيَ التَّكْوِينُ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِ (كُنْ). فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّكْوِينِ مَجَازٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِكَلِمَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ.
وَوَصْفُ عِيسَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِتَكْوِينِهِ التَّأْثِيرُ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي تَكْوِينِ الْأَجِنَّةِ، فَكَانَ حُدُوثُهُ بِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، فَيَكُونُ فِي كَلِمَتُهُ فِي الْآيَةِ مَجَازَانِ: مَجَازُ حَذْفٍ، وَمَجَازُ اسْتِعَارَةٍ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.
وَمَعْنَى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أَوْصَلَهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوعِيَ فِي الضَّمِيرِ تَأْنِيثُ لَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا عِيسَى، أَوْ أَرَادَ كَلِمَةَ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَوَصْفُ عِيسَى بِأَنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَصْفٌ وَقَعَ فِي الْأَنَاجِيلِ. وَقَدْ أَقَرَّهُ اللَّهُ هُنَا، فَهُوَ مِمَّا نَزَلَ حَقًّا.
وَمَعْنَى كَوْنِ عِيسَى رُوحًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ رُوحَهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي هِيَ عَنَاصِرُ الْحَيَاةِ، لَكِنَّهَا نُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى مَرْيَمَ بِدُونِ تَكَوُّنٍ فِي نُطْفَةٍ فَبِهَذَا امْتَازَ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَرْوَاحِ. وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ عِيسَى لَمَّا غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِهِ الْمَلَكِيَّةُ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ، كَأَنَّ حُظُوظَ الْحَيَوَانِيَّةِ مُجَرَّدَةٌ عَنْهُ. وَقِيلَ: الرُّوحُ النَّفْخَةُ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّفْسَ رُوحًا وَالنَّفْخَ رُوحًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَذْكُرُ لِرَفِيقِهِ أَنْ يُوقِدَ نَارًا بِحَطَبٍ:
وَمَعْنَى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ إِبْقَاءُ حِلِّيَّتِهِ لِأَنَّهُ حَلَالٌ مِنْ قَبْلِ الْإِحْرَامِ. وَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وَالصَّيْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصِيدِ لِيَجْرِيَ اللَّفْظُ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ فِي مَوَاقِعِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ قَتْلُهُ، أَيْ إِمْسَاكُهُ مِنَ الْبَحْرِ.
وَالْبَحْرُ يَشْمَلُ الْأَنْهَارَ وَالْأَوْدِيَةَ لِأَنَّ جَمِيعَهَا يُسَمَّى بَحْرًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ الْآيَةَ. وَلَيْسَ الْعَذْبُ إِلَّا الْأَنْهَارَ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ. وَصَيْدُ الْبَحْرِ: كُلُّ دَوَابِّ الْمَاءِ الَّتِي تصاد فِيهِ، فَيَكُونُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ سَبَبَ مَوْتِهَا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا. فَأَمَّا مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْمَاءِ فَلَيْسَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ كَالضُّفْدَعِ وَالسُّلَحْفَاةِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. أَمَّا الْخِلَافُ فِيمَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَا يُؤْكَلُ، فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذكره، لأنّ الْآيَة لَيْسَتْ بِمُثْبِتَةٍ لِتَحْلِيلِ
أَكْلِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَلَكِنَّهَا مُنَبِّهَةً عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَطَعامُهُ عُطِفَ عَلَى صَيْدُ الْبَحْرِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْبَحْرِ، أَيْ وَطَعَامُ الْبَحْرِ، وَعَطْفُهُ اقْتَضَى مُغَايَرَتَهُ لِلصَّيْدِ. وَالْمَعْنَى: وَالْتِقَاطُ طَعَامِهِ أَوْ وَإِمْسَاكُ طَعَامِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ «طَعَامِهِ». وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-: أَنَّ طَعَامَ الْبَحْرِ هُوَ مَا طَفَا عَلَيْهِ مِنْ مَيْتَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُ مَوْتِهِ إِمْسَاكَ الصَّائِدِ لَهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ طَعَامِ الْبَحْرِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يُلَائِمُ سِيَاقَ الْآيَةِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا أَكْلَ مَا يُخْرِجُهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا، وَيَرُدُّ قَوْلَهُمْ مَا
ثَبَتَ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْحُوتِ الْمُسَمَّى الْعَنْبَرَ، حِينَ وَجَدُوهُ مَيِّتًا، وَهُمْ فِي غَزْوَةٍ، وَأَكَلُوا مِنْهُ، وَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَكَلَ مِنْهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَانْتَصَبَ مَتاعاً عَلَى الْحَالِ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ. وَالتَّمَتُّعُ: انْتِفَاعٌ بِمَا يَلَذُّ وَيَسُرُّ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ مُتَنَاوِلِينَ الصَّيْدَ، أَيْ مَتَاعًا لِلصَّائِدِينَ وَلِلسَّيَّارَةِ.
وَالسَّيَّارَةُ: الْجَمَاعَةُ السَّائِرَةُ فِي الْأَرْضِ لِلسَّفَرِ وَالتِّجَارَةِ، مُؤَنَّثُ سَيَّارٍ، وَالتَّأْنِيثُ
الْعُمُومِ، إِذْ لَيْسَ قَوْلُ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ بِمَنْسُوبٍ إِلَى جَمِيعِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى.
وَالْمَعْنَى: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَيْ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَعَبَّرَ بِالْمَجِيءِ عَنِ الْإِعْلَامِ بِالْآيَةِ أَوْ تِلَاوَتِهَا تَشْبِيهًا لِلْإِعْلَامِ بِمَجِيءِ الدَّاعِي أَوِ الْمُرْسَلِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْتَنِعِينَ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مُعْجِزَاتٍ عَيْنِيَّةٍ مِثْلَ مُعْجِزَةِ مُوسَى وَمُعْجِزَةِ عِيسَى، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] لِجَهْلِهِمْ بِالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَصْرِيفِ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥٠، ٥١]
وَقَالَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ»
الْحَدِيثَ.
وَأُطْلِقَ عَلَى إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لَدَيْهِمْ بِالْإِيتَاءِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِذْ قِيلَ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَمَّا كَانَتْ لِإِقْنَاعِهِمْ بِصِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْبَهَتِ الشَّيْءَ الْمُعْطَى لَهُمْ.
وَمَعْنَى: مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ مِثْلَ مَا آتَى اللَّهُ الرُّسُلَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا لِأَقْوَامِهِمْ. فَمُرَادُهُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُمْ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: ٥٢]. رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، قَالَ للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ النُّبُوءَةُ لَكَنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ لِأَنِّي أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مَالًا وَوَلَدًا وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ
: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ أَجْمَعِينَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ لِئَلَّا يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لِوَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُجْرِي الْعُمُومَ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْمَجْمُوع دون الْجمع، كَمَا يَقُولُونَ: قَتَلَتْ تَمِيمٌ فُلَانًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ النَّابِغَةُ فِي شَأْنِ بَنِي حُنٍّ (بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ) :
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بالجوّ عنْوَة [١٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٩]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
الْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الْأَعْرَاف: ١٨] الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، فَالنِّدَاءُ وَالْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ يُقَالُ: أَيْ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ اخْرُجْ مِنْهَا وَقَالَ لِآدَمَ وَيا آدَمُ اسْكُنْ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضَ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا كَانَ لِبَعْضِ كَلَامِهِ اتِّصَالٌ وَتَنَاسُبٌ مَعَ بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ الْآخَرُ، مَعَ اتِّحَادِ مَقَامِ الْكَلَامِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَ مُتَعَدِّدِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيُقْبِلُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْهُمْ بِكَلَامٍ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجُلِ وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كَانَ ابْنُ الرَّجُلِ عَسِيفًا عَلَيْهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْجَارِيَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى زَوْجَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»،
وَمِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي قَوْله تَعَالَى: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٨، ٢٩] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْعَزِيزِ عَطَفَ خِطَابَ امْرَأَتِهِ عَلَى خِطَابِهِ لِيُوسُفَ.

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٢٠ إِلَى ١٢٦]

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
عَطْفٌ عَلَى فَغُلِبُوا وَانْقَلَبُوا [الْأَعْرَاف: ١١٩]، فَهُوَ فِي حَيِّزِ فَاءِ التَّعْقِيبِ، أَيْ:
حَصَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَقِبَ تَلَقُّفِ الْعَصَا مَا يَأْفِكُونَ، أَيْ: بِدُونِ مُهْلَةٍ، وَتَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَسُجُودُ السَّحَرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَصِيرِهِمْ صَاغِرِينَ، وَلَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ وَهُوَ زَمَنُ انْقِدَاحِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسِّحْرِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْأَعْمَالِ السِّحْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا تَلَقُّفَ عَصَا مُوسَى لِحِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ جَزَمُوا بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ السَّاحِرِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى وَأَيْقَنُوا أَنَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى حَقٌّ، فَلِذَلِكَ سَجَدُوا، وَكَانَ هَذَا خَاصًّا بِهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ الْحَاضِرِينَ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالضَّمِيرِ الَّذِي قَبْلَهُ الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لِلسَّحَرَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي سُرْعَةِ الْهُوِيِّ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ: لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ سَجَدُوا بِدُونِ تَرَيُّثٍ وَلَا تَرَدُّدٍ.
وَبُنِيَ فِعْلُ الْإِلْقَاءِ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ أَنْفُسُهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ.
وساجِدِينَ حَالٌ، وَالسُّجُودُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ لِإِلْقَاءِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ يُقْصَدُ مِنْهَا الْإِفْرَاطُ فِي التَّعْظِيمِ، وَسُجُودُهُمْ كَانَ لِلَّهِ الَّذِي عَرَفُوهُ حِينَئِذٍ بِظُهُورِ مُعْجِزَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالدَّاعِي إِلَيْهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَإِلْقَاءُ الشَّيْءِ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٠].
وَإِنَّمَا رُتِّبَ نَبْذُ الْعَهْدِ عَلَى خَوْفِ الْخِيَانَةِ، دُونَ وُقُوعهَا، لِأَن شؤون الْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ الظُّنُونِ وَمَخَائِلِ الْأَحْوَالِ وَلَا يُنْتَظَرُ تَحَقُّقُ وُقُوعِ الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّهُ إِذَا تَرَيَّثَ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي ذَلِكَ يَكُونُونَ قَدْ عَرَّضُوا الْأُمَّةَ لِلْخَطَرِ، أَوْ لِلتَّوَرُّطِ فِي غَفْلَةٍ وَضَيَاعِ مَصْلَحَةٍ، وَلَا تُدَارُ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ بِمَا يُدَارُ بِهِ الْقَضَاءُ فِي الْحُقُوقِ، لِأَنَّ
الْحُقُوقَ إِذَا فَاتَتْ كَانَتْ بَلِيَّتُهَا عَلَى وَاحِدٍ، وَأَمْكَنَ تَدَارُكُ فَائِتِهَا. وَمَصَالِحُ الْأُمَّةِ إِذَا فَاتَتْ تَمَكَّنَ مِنْهَا عَدُوُّهَا، فَلِذَلِكَ عُلِّقَ نَبْذُ الْعَهْدِ بِتَوَقُّعِ خِيَانَةِ الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: «خُذِ اللِّصَّ قَبْلَ يَأْخُذَكَ»، أَيْ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لِصٌّ.
وعَلى سَواءٍ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَبْذًا عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (انْبِذْ) أَيْ حَالَةَ كَوْنِكَ عَلَى سَوَاءٍ.
وعَلى فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ فَهِيَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَدْخُولَهَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْتَلَى عَلَيْهِ.
وسَواءٍ وَصْفٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦]. وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِوَاءِ مَعَ مَعْنَى (عَلَى) الطَّرِيقُ، فَعُلِمَ أَنَّ سَواءٌ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَصْفُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى ذاتِ أَلْواحٍ [الْقَمَر: ١٣]، أَيْ سَفِينَةٍ ذَات أَلْوَاح. وَقَوله النَّابِغَةِ:
كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا أَيِ الْحَيَّةُ ذَاتُ الصَّفَا.
وَوَصْفُ النَّبْذِ أَوِ النَّابِذِ بِأَنَّهُ عَلَى سَوَاءٍ، تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمَاشِي عَلَى طَرِيقٍ جَادَّةٍ لَا الْتِوَاءَ فِيهَا، فَلَا مُخَاتَلَةَ لِصَاحِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٩] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ، فِي ضِدِّهِ: هُوَ يَتْبَعُ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، أَيْ يُرَاوِغُ وَيُخَاتِلُ.
وَالْمَعْنَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ نَبْذًا وَاضِحًا عَلَنًا مَكْشُوفًا.
لَيْلَةً. وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ مَعَ الْآخَرِينَ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيّ» و «صَحِيح مُسْلِمٍ» طَوِيلٌ أَغَرُّ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ».
وخُلِّفُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ خَلَفَ الْمُخَفَّفِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَرَاءَ غَيْرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلْفِ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْوَرَاءُ. وَالْمَقْصُودُ بَقِيَ وَرَاءَ غَيْرِهِ. يُقَالُ:
خَلَفَ عَنْ أَصْحَابِهِ إِذَا تَخَلَّفَ عَنْهُم فِي المشيء يَخْلُفُ بِضَمِّ اللَّامِ فِي الْمُضَارِعِ، فَمَعْنَى خُلِّفُوا خَلَفَهُمْ مُخَلِّفٌ، أَيْ تَرَكَهَمْ وَرَاءَهُ وَهُمْ لَمْ يُخَلِّفُهُمْ أَحَدٌ وَإِنَّمَا تَخَلَّفُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خُلِّفُوا بِمَعْنَى خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْلِيفُهُمْ تَخْلِيفًا مَجَازِيًّا اسْتُعِيرَ لِتَأْخِيرِ الْبَتِّ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنِ الْقَضَاءِ فِي شَأْنِهِمْ فَلَمْ يَعْذُرْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا آيَسَهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ كَمَا آيَسَ الْمُنَافِقِينَ. فَالتَّخْلِيفُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِرْجَاءِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ فَسَّرَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الْمَرْوِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» فَقَالَ: وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقُبِلَ مِنْهُ. اه.
يَعْنِي لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى خَلَّفَهُمْ أَحَدٌ، أَيْ جَعَلَهُمْ خَلَفًا وَهُوَ تَخْلِيفٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ لَمْ يُقْضَ فِيهِمْ. وَفَاعِلُ التَّخْلِيفِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَبِنَاءُ فِعْلِ خُلِّفُوا لِلنَّائِبِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَتَعْلِيقُ التَّخْلِيفِ بِضَمِيرِ الثَّلاثَةِ مِنْ بَابِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ:
تَعْلِيقُهُ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣].
وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ كَعْبٌ بِهِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْغَايَةِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ لِأَنَّ تَخَيُّلَ ضِيقِ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَضِيقِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ غَايَةٌ لِإِرْجَاءِ أَمْرِهِمُ انْتَهَى عِنْدَهَا التَّخْلِيفُ، وَلَيْسَ غَايَةً لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ، لِأَنَّ تَخَلُّفَهُمْ لَا انْتِهَاءَ لَهُ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَهُ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَرَادَ بِهِ إِظْهَارَ رِفْقِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ.
وَمَعْنَى فَعُمِّيَتْ فَخَفِيَتْ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، إِذْ شُبِّهَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْهَا الْمُخَاطَبُونَ كَالْعَمْيَاءِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي لِلْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى: الْخَفَاءِ عدي فعل (عميت) بِحَرْفِ (عَلَى) تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ. وَفِي ضِدِّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء:
٥٩]، أَيْ آتَيْنَاهُمْ آيَةً وَاضِحَةً لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهَا لِأَنَّهَا آيَةٌ مَحْسُوسَةٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَحْدُهُمْ إِيَّاهَا ظُلْمًا فَقَالَ: فَظَلَمُوا بِها [الْإِسْرَاء: ٥٩].
وَمِنْ بَدِيعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُنَا أَنَّ فِيهَا طِبَاقًا لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِمْ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧]. فَقَابَلَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَهُمْ مُقَابَلَةً بِالْمَعْنَى وَاللَّفْظِ إِذْ جَعَلَ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ مِنْ قَبِيلِ الْعَمَى.
وَعَطْفُ (عُمِّيَتْ) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ إِيتَائِهِ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ وَبَيْنَ خَفَائِهَا عَلَيْهِمْ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ.
وَجُمْلَةُ أَنُلْزِمُكُمُوها سَادَّةُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ عُلِّقَ عَنِ الْعَمَلِ بِدُخُولِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فَعْلُ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ. وَتَقْدِير الْكَلَام: قَالَ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى آخِرِهِ أَتَرَوْنَ أَنُلْزِمُكُمْ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَكَانَ لَهُ
أَعْوَانٌ عَلَيْهِ وَهُمْ أَتْبَاعُهُ فَأَرَادَ أَنْ لَا يُهْمِلَ ذِكْرَ أَتْبَاعِهِ وَأَنَّهُمْ أَنْصَارٌ لَهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَهِيبَ بِهِمْ. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ تَحْقِيرِ الْآخَرِينَ إِيَّاهُمْ.

[٩٤- ٩٨]

[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٩٤ الى ٩٨]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً
التَّقْدِيرُ: فَخَرَجُوا وَارْتَحَلُوا فِي عِيرٍ.
وَمَعْنَى فَصَلَتِ ابْتَعَدَتْ عَنِ الْمَكَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩].
وَالْعِيرُ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهِيَ الْعِيرُ الَّتِي أَقْبَلُوا فِيهَا مِنْ فِلَسْطِينَ.
وَوِجْدَانُ يَعْقُوبَ ريح يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلْهَامٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ بِشَارَةً لَهُ إِذْ ذَكَّرَهُ بِشَمِّهِ الرِّيحَ الَّذِي ضَمَّخَ بِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ خُرُوجِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ وَهَذَا مِنْ صِنْفِ الْوَحْيِ بِدُونِ كَلَامِ مَلَكٍ مُرْسَلٍ. وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [سُورَة الشورى: ٥١].
وَالرِّيحُ: الرَّائِحَةُ، وَهِيَ مَا يَعْبَقُ مِنْ طِيبٍ تُدْرِكُهُ حَاسَّةُ الشَّمِّ.
وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَر بإن وَاللَّامِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِنْكَارِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ.
وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ، أَيْ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِي لَتَحَقَّقْتُمْ ذَلِكَ.
وَالتَّفْنِيدُ: النِّسْبَةُ لِلْفَنَدِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِلَالُ الْعقل من الخرف.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ وَبَقِيَتِ الْكِسْرَةُ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ هُمُ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُمْ لِظُهُورِ الْمُرَادِ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا أَبْنَاءَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَيْهِ.
فِي النَّاسِ وَفِي غَوَايَتِكَ إِيَّاهُمْ وَهِيَ أَنَّكَ لَا تُغْوِي إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَوْ أَنَّكَ تُغْوِي مَنْ عَدَا عِبَادِي الْمُخْلِصِينَ.
ومُسْتَقِيمٌ نَعْتٌ لِ صِراطٌ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَاسْتُعِيرَتِ الِاسْتِقَامَةُ لِمُلَازَمَةِ الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ.
وعَلَيَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوُجُوبِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْفِعْل الدَّائِم الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [سُورَة اللَّيْل: ١٢] أَيْ أَنَّا الْتَزَمْنَا الْهُدَى لَا نَحِيدُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا يُرْسَلُ مِنَ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَيَّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ- عَلَى أَنَّهَا (عَلَى) اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْيَاءِ وَتَنْوِينِهَا- عَلَى أَنَّهُ وَصَفٌ مِنَ الْعُلُوِّ وُصِفَ بِهِ صِرَاطٌ، أَيْ صِرَاطُ شَرِيفٍ عَظِيمِ الْقَدْرِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ سُنَّةً فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا، أَيْ مَائِلًا لِلْغَوَايَةِ مُكْتَسِبًا لَهَا دُونَ مَنْ كَبَحَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّرِّ. فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ وَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ عَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالٍ وَعَلِمَ أَنَّ الْهُدَى فِي خِلَافِهِ فَإِذَا تُوِفِّقَ وَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْهُدَى وَصَرَفَ إِلَيْهِ عَزْمُهُ قَوِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ، وَإِذَا مَالَ إِلَى الضَّلَالِ وَاسْتَحْسَنَهُ وَاخْتَارَ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهِ صَارَ مُتَهَيِّئًا إِلَى الْغَوَايَةِ فَأَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ فَغَوَى. فَالِاتِّبَاعُ مَجَازٌ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ وَاسْتِحْسَانِ الرَّأْيِ كَقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [سُورَة آل عمرَان: ٣١].
وَإِطْلَاقُ الْغاوِينَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَاوِيًا بِالْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ لِسُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَعَلُّقُ نَفْيِ السُّلْطَانِ بِجَمِيعِ الْعِبَادِ، ثُمَّ اسْتِثْنَاءُ مَنْ كَانَ غَاوِيًا. فَلَمَّا كَانَ سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا عَلِمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ
تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٩] وَقَالَ: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يُونُس: ٤٧].
عَلَى أَنَّ مَعْنَى (حَتَّى) يُؤْذِنُ بِأَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ مُتَّصِلَةٌ بِالْعَذَابِ شَأْنَ الْغَايَةِ، وَهَذَا اتِّصَالٌ عُرْفِيٌّ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَعْثَةُ مِنْ مُدَّةٍ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَالْإِمْهَالِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ هُنَا عَذَابَ الدُّنْيَا وَكَمَا يَقْتَضِيهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْآيَةِ بَعْدَهَا.
عَلَى أَنَّنَا إِذَا اعْتَبَرْنَا التَّوَسُّعَ فِي الْغَايَةِ صَحَّ حَمْلُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا يَعُمُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَوُقُوعُ فِعْلِ مُعَذِّبِينَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ لِتَفْصِيلِ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنَ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْشِدَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ. وَهِيَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى انْتِفَاءِ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ مِنَ الله إِلَى قوم، فَهِيَ حُجَّةٌ لِلْأَشْعَرِيِّ نَاهِضَةٌ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى إِيصَالِ الْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ. فَوُجُودُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ عِنْدَهُمْ وَاجِبَانِ بِالْعَقْلِ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعَطَّلَ وَلَا عُذْرَ لَهُ بَعْدَ بَعْثَةِ رَسُولٍ.
وَتَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُرَادَ بِالرَّسُولِ الْعَقْلُ تَطَوُّحٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ وَإِغْمَاضٌ عَنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ نَبْعَثَ إِذْ لَا يُقَالُ بَعَثَ عَقْلًا بِمَعْنَى جَعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فِي سُورَة النِّسَاء [١٦٥].
مِنَ الْوَحْيِ إِذَا أَرَادَ إِبْلَاغَ بَعْضِ مَا فِي عِلْمِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَفِي هَذَا رَدُّ عَجُزِ السُّورَةِ عَلَى صَدْرِهَا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ لِأَجْلِ قَوْلِ الْيَهُودِ لرَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَيْفَ تَقُولُ، أَيْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٥].
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ: فِي كِتَابِكُمْ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: ٢٦٩] ثُمَّ تَقْرَءُونَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي... الْآيَةَ.
وَكَلِمَاتُ اللَّهِ: مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ مِمَّا يُوحِي إِلَى رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغُوهُ، فَكُلُّ مَعْلُومٍ يُمْكِنُ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ. فَإِذَا أُخْبِرَ بِهِ صَارَ كَلِمَةً، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ كَلِمَاتٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنْهَا وَلَوْ شَاءَ لَأَخْبَرَ بِغَيْرِهِ، فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَاتِ عَلَيْهَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَان: ٢٧]. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِإِثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَلِإِثْبَاتِ التَّعَلُّقِ الصُّلُوحِيِّ لِصِفَةِ الْعِلْمِ. وَقَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِهَذَا التَّعَلُّقِ.
وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ مَا يُخْبِرُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ أَحَدِ رُسُلِهِ أَنْ يُكْتَبَ حِرْصًا عَلَى بَقَائِهِ فِي الْأُمَّةِ، شُبِّهَتْ مَعْلُومَاتُ اللَّهِ الْمُخْبَرُ بِهَا وَالْمُطْلَقُ عَلَيْهَا كَلِمَاتٌ بِالْمَكْتُوبَاتِ، وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ الْمِدَادُ الَّذِي بِهِ الْكِتَابَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْمِدَادِ تَخْيِيلٌ كَتَخَيُّلِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ. فَيَكُونُ مَا هُنَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَالْحَذِرُ مِنْهُ.
وَالشَّرْطُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ إِلَخْ... شَرْطٌ
عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَهُ لِأَجْلِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ شِدَّةِ خَشْيَتِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ ادّعوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا لَهُمْ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُمْ ادعوا مَا يُوجِبُ لِقَائِلِهِ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى حَدِّ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥].
وَعُدِلَ عَنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ إِلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِيجَازِ. وَأُدْخِلَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيقِ بِنِسْبَتِهِ الشَّرْطَ لِأَدَاتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَدَارَةِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ بِمَنْ ثَبُتَ لَهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِدَعْوَى عَامَّةِ النَّصَارَى إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْرِيضُ فَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ جَهَنَّمُ يَجْزِي الْمُثْبِتِينَ لِلَّهِ شَرِيكًا.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ.
[٣٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٠]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ- بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَلَمْ يَرَ بِدُونِ وَاوِ عَطْفٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَلَمْ تَثْبُتِ الْوَاوُ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَالْتَزَمَ قُرَّاءُ مَكَّةَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْوَاوِ إِلَى أَنْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأُهْمِلَتْ غَيْرُ قِرَاءَتِهِ.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ أَجَابُوا دَعْوَةَ رَسُولِهِمْ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِ قَوْمِ هُودٍ قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٣، ٥٤]، وَقَوْلِ قَوْمِ صَالِحٍ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ
آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ
[هود: ٦٢].
وَقَوْلُهُ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ كَفَرُوا نَعْتٌ ثَانٍ لِ الْمَلَأُ فَيَكُونُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤].
وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّعْتَ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِهِ الصِّفَتَانِ الْمَعْطُوفَتَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ.
وَاللِّقَاءُ: حُضُورُ أَحَدٍ عِنْدَ آخَرَ. وَالْمُرَادُ لِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحِسَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [٤٥].
وَإِضَافَة بِلِقاءِ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) أَيِ اللِّقَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْإِتْرَافُ: جَعْلُهُمْ أَصْحَابَ تَرَفٍ. وَالتَّرَفُ: النِّعْمَةُ الْوَاسِعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٣].
وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمَا الْبَاعِثُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ يَنْفِي عَنْهُمْ تَوَقُّعَ الْمُؤَاخَذَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَثَرْوَتُهُمْ وَنِعْمَتُهُمْ تُغْرِيهِمْ بِالْكِبْرِ وَالصَّلَفِ إِذْ أَلِفُوا أَنْ يَكُونُوا سَادَةً لَا تَبَعًا، قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَقَبَّلُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُهُمْ مِنَ اتِّقَاءِ عَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَطَلَبِهِمُ النَّجَاةَ بِاتِّبَاعِهِمْ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
وَمَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ تُنَافِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَسُولًا مِنَ اللَّهِ فَأَتَوْا بِالْمَلْزُومِ وَأَرَادُوا لَازِمَهُ.
بِالِاقْتِضَابِ مَعْنَى الْقَطْعِ (أَيِ الْحَذْفِ مِنَ الْكَلَامِ) أَيْ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ «يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ تَقْدِيرُهُ إِلَخْ»، كَانَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِي «الْكَشَّافِ» :«وَلَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أعباء نذارة جَمِيع الْقُرَى وَلَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَبِيئًا يُنْذِرُهَا، وَإِنَّمَا قَصَرْنَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَعَظَّمْنَاكَ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ (أَيْ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ) فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالتَّصَبُّرِ» اه. وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: «وَمَدَارُ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِمَا يُثْبِتُ عُمُومَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: ١].
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَالطِّيبِيِّ إِلَّا بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمُهِمِّ أَغْرَاضِ السُّورَةِ دُونَ
بَيَانِ مُنَاسَبَتِهَا لِلَّتِي قَبْلَهَا.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] الْآيَةَ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ إِبْطَالَ طَعْنِهِمْ فَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: ٣٢] انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ الْقُرْآنِ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفَ اسْتَأْصَلَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبُوهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ أُمَمٍ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَارَ إِلَى تَحَرُّجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ بِقَوْلِهِ:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الْفرْقَان: ٤٣].
وَتَسَلْسُلِ الْكَلَامِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ، وَبِحَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ، أَمَارَةٌ عَلَى رَحْمَةِ غَيْثِهِ الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْمَوَاتُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اشْتِمَالُ التَّفْرِيعِ عَلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَجاهِدْهُمْ بِهِ.
وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ اتِّصَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] أَنَّ فِي بَعْثِ نَذِيرٍ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُجَزَّأً فَلَوْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَقَالَ الَّذين كفرُوا: لَوْلَا أُرْسِلَ رَسُولٌ وَاحِدٌ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا فَإِنَّ مَطَاعِنَهُمْ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فِي سُورَة حم فصلت
مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: ٨٧] لِأَنَّ الْفَزَعَ مُقْتَضٍ الْحَشْرَ وَالْحُضُورَ لِلْحِسَابِ. وَ (مَنْ) فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ شَرْطِيَّةٌ.
وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْحَسَنَةِ وبِالسَّيِّئَةِ لِلْمُصَاحَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا: أَنَّهُ ذُو الْحَسَنَةِ أَوْ ذُو السَّيِّئَةِ. وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ [١٦٠]. فَالْمَعْنَى هُنَا:
مَنْ يَجِيءُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مِنْ فَاعِلِي الْحَسَنَةِ وَمَنْ جَاءَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السَّيِّئَةِ، فَالْمَجِيءُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النَّمْل: ٨٧] وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هُنَا لِلْجِنْسِ وَهُوَ يُحْمَلُ عَلَى أَكْمَلِ
أَفْرَادِهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ، أَيْ مَنْ تَمَحَّضَتْ حَالَتُهُ لِلْحَسَنَاتِ أَوْ كَانَتْ غَالِبَ أَحْوَالِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ حَالَتُهُ مُتَمَحِّضَةً لِلسَّيِّئَاتِ أَوْ غَالِبَةً عَلَيْهِ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.
وخَيْرٌ مِنْها اسْمُ تَفْضِيلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ (مِنَ) التَّفْضِيلِيَّةُ، أَيْ فَلَهُ جَزَاءٌ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: ١٦٠] أَوْ خَيْرٌ مِنْهَا شَرَفًا لِأَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهَا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ تَبْيِينُ قَوْلِهِ آنِفًا إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: ٨٧].
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَهْلَ الْحَسَنَاتِ، أَيْ تَمَحَّضُوا لَهَا أَوْ غَلَبَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ غَلَبَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُمْ مِنَ النَّوْعِ الْمَغْفُورِ بِالْحَسَنَاتِ أَوِ الْمَدْحُوضِ بِالتَّوْبَةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، أَيْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمْ وَغَطَّتْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ أَوْ تَمَحَّضُوا لِلسَّيِّئَاتِ بِأَنْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ أَوْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ وَالشَّقَاءِ. وَبَيْنَ أَهْلِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ فِي دَرَجَات الثَّوَاب ودركات الْعِقَابِ. وَجُمَّاعُ أَمْرِهَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أَثَرُهَا يَوْمَئِذَ عَاجلا أَو بِالآخِرَة، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أَثَرهَا السيء بِمِقْدَارِهَا وَمِقْدَارِ مَا مَعَهَا مِنْ أَمْثَالِهَا وَمَا يُكَافِئُهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ أَضْدَادِهَا فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الْأَنْبِيَاء: ٤٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى (يَوْمَ) مِنْ يَوْمَئِذٍ وَإِضَافَةِ (يَوْمَ) إِلَى إِذْ فَفُتْحَةُ (يَوْمَ) فُتْحَةُ بِنَاءٍ، لِأَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ
كَقَوْلِ عُمَرَ يَوْمَ السَّقِيفَة: «وَكنت زوّقت فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ» أَيْ فِي عَقْلِي وَبَاطِنِي.
وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْلِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ فَيَكُونُ ظَرْفًا لِمَصْدَرِ يَتَفَكَّرُوا، أَيْ تَفَكُّرًا مُسْتَقِرًّا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَمَوْقِعُ هَذَا الظَّرْفِ مِمَّا قَبْلَهُ مَوْقِعُ مَعْنَى الصِّفَةِ لِلتَّفَكُّرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّفَكُّرُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ فَذُكِرَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِتَقْوِيَةِ تَصْوِيرِ التَّفَكُّرِ وَهُوَ كَالصِّفَةِ الْكَاشِفَةِ لِتُقَرِّرَ مَعْنَى التَّفَكُّرِ عِنْدَ السَّامِعِ، كَقَوْلِهِ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: ٤٨] وَقَوْلِهِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨]، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ عَلَى هَذَا مُبَيِّنَةً لِجُمْلَةِ يَتَفَكَّرُوا إِذْ مَدْلُولُهَا هُوَ مَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَاف: ١٨٤].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَتَفَكَّرُوا تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ، أَيْ يَتَدَبَّرُوا وَيَتَأَمَّلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ الذَّوَاتُ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] فَإِنَّ حَقَّ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَحَقُّقَ الْبَعْثِ أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٨٥] أَيْ فِي دَلَالَةِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ أَنْفُسِهِمْ إِذِ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: فِي دَلَالَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَةَ أَنْفُسِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَى دَلَالَةِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ لِأَنَّ أَنْفُسِهِمْ مَشْمُولَةٌ لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْخَلْقِ وَدَالَّةٌ عَلَى مَا فِي الأَرْض، وَكَذَلِكَ يُطلق مَا فِي الْأَرْضِ دَالٌّ عَلَى خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ.
وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَ تَعْلِيقُ فَعْلِ يَتَفَكَّرُوا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ لِوُجُودِ النَّفْيِ
بَعْدَهُ. وَمعنى خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ: أَنَّ خَلْقَهُمْ مُلَابِسٌ لِلْحَقِّ.
وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ مَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ حِكْمَةً لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعِلَّةً لَهُ، وَحَقُّ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَنَوْعٍ هُوَ مَا يَحِقُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ مِنَ الْكَمَالِ فِي خَصَائِصِهِ وَأَنَّهُ بِهِ

[٤٥- ٤٦]

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ٤٥ الى ٤٦]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦)
هَذَا النداء الثَّالِث للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَبْلَغَهُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَاتِهِ، وَبِالْنِدَاءِ الثَّانِي مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَزْوَاجِهِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالتَّذْكِيرِ، نَادَاهُ بِأَوْصَافٍ أَوْدَعَهَا سُبْحَانَهُ فِيهِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَزِيَادَةِ رِفْعَةِ مِقْدَارِهِ وَبَيَّنَ لَهُ أَرْكَانَ رِسَالَتِهِ، فَهَذَا الْغَرَضُ هُوَ وَصْفُ تَعَلُّقَاتِ رِسَالَتِهِ بِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
وَذُكِرَ لَهُ هُنَا خَمْسَةُ أَوْصَافٍ هِيَ: شَاهَدٌ. وَمُبَشِّرٌ. وَنَذِيرٌ. وَدَاعٍ إِلَى اللَّهِ. وَسِرَاجٌ مُنِيرٌ. فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَنْطَوِي إِلَيْهَا وَتَنْطَوِي عَلَى مَجَامِعِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنِ أَوْصَافِهِ الْكَثِيرَةِ.
وَالشَّاهِدُ: الْمُخْبِرُ عَنْ حُجَّةِ الْمُدَّعِي الْمُحِقِّ وَدَفْعِ دَعْوَى الْمُبْطِلِ، فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ بِصِحَّةِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنَ الشَّرَائِعِ وَبَقَاءِ مَا هُوَ صَالِحٌ لِلْبَقَاءِ مِنْهَا وَيَشْهَدُ بِبُطْلَانِ مَا أُلْصِقَ بِهَا وَبِنَسْخِ مَا لَا يَنْبَغِي بَقَاؤُهُ مِنْ أَحْكَامِهَا بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى:
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَفِي حَدِيثِ الْحَشْرِ: «يَسْأَلُ كل رَسُول هَل بَلَّغَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ اللَّهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ»
...
الْحَدِيثَ.
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ أَيْضًا عَلَى أُمَّتِهِ بِمُرَاقَبَةِ جَرْيِهِمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي حَيَاتِهِ وَشَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١] فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى الْمُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ وَعَلَى الْمَعْرِضِينَ عَنْهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَجَابَ لِلدَّعْوَةِ ثُمَّ بَدَّلَ.
وَفِي حَدِيثِ الْحَوْضِ: «لِيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَعَرَفْتُهُمُ
اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ تَبًّا وَسُحْقًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي»

يَعْنِي: أَحْدَثُوا الْكُفْرَ وَهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ كَمَا
فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»
. فَلَا جَرَمَ كَانَ وَصْفُ الشَّاهِدِ أَشْمَلَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِهَذِهِ الْأَمَةِ، وَبِوَصْفِ كَوْنِهِ خَاتَمًا لِلشَّرَائِعِ وَمُتَمِّمًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ.
وَالِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ وَالِافْتِعَالُ دَالٌّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْفِعْلِ أَيْ فَبَادَرُوا.
والصِّراطَ: الطَّرِيقُ الَّذِي يُمْشَى فِيهِ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الِاسْتِبَاقِ إِلَيْهِ عَلَى حَذْفِ (إِلَى) بِطَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْكِتَابِ:
تَمُرُّونَ الديار وَلم تعرجوا أَرَادَ: تَمُرُّونَ عَلَى الدِّيَارِ.
أَوْ عَلَى تَضْمِينِ «اسْتَبَقُوا» مَعْنَى ابْتَدَرُوا، أَيِ ابْتَدَرُوا الصِّرَاطَ مُتَسَابِقِينَ، أَيْ مُسْرِعِينَ لِمَا دَهَمَهُمْ رَجَاءَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا فَلَمْ يُبْصِرُوا الطَّرِيقَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٧].
وَ «أَنَّى» اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى (كَيْفَ) وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يُبْصِرُونَ وَقَدْ طُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ، أَيْ لَوْ شِئْنَا لِعَجَّلْنَا لَهُمْ عُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا يرتدعون بهَا فيقلعوا عَنْ إِشْرَاكِهِمْ.
وَالْمَسْخُ: تَصْيِيرُ جِسْمِ الْإِنْسَانِ فِي صُورَةِ جِسْمٍ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٥].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ بِبَقِيَّةِ مَسْخٍ.
وَالْمَكَانَةُ: تَأْنِيثُ الْمَكَانِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْبُقْعَةِ كَمَا قَالُوا: مُقَامٌ وَمُقَامَةٌ، وَدَارٌ وَدَارَةٌ، أَيْ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَا الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا فِي مَكَانِهِمُ الَّذِي أَظْهَرُوا فِيهِ التَّكْذِيبَ بِالرُّسُلِ فَمَا اسْتَطَاعُوا انْصِرَافًا إِلَى مَا خَرَجُوا إِلَيْهِ وَلَا رُجُوعًا إِلَى مَا أَتَوْا مِنْهُ بَلْ لَزِمُوا مَكَانَهُمْ لِزَوَالِ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَسْخِ.
وَكَانَ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا رُجُوعًا، وَلَكِنْ عَدَلَ إِلَى وَلا يَرْجِعُونَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ فَجُعِلَ قَوْلُهُ وَلا يَرْجِعُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ «مَا اسْتَطَاعُوا» وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى مُضِيًّا لِأَنَّ فِعْلَ اسْتَطَاعَ لَا يَنْصِبُ الْجُمَلَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمَا
آخِرِهَا، أَيْ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا مِنْ جَهَنَّمَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَكَبِّرِينَ. وَهَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّقْوَى تُنَافِي التَّكَبُّرَ لِأَنَّ التَّقْوَى كَمَالُ الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ وَتَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْكِبْرُ مَرَضٌ قَلْبِيٌّ بَاطِنِيٌّ فَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ مُلْقِيًا صَاحِبَهُ فِي النَّارِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] فَضِدُّ أُولَئِكَ نَاجُونَ مِنْهَا وَهُمُ الْمُتَّقُونَ إِذِ التَّقْوَى تَحُولُ دُونَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ الَّتِي مِنْهَا الْكِبْرُ، فَالَّذِينَ اتَّقَوْا هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ فَفِعْلُ اتَّقَوْا مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَالْمَفَازَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا لِلْفَوْزِ وَهُوَ الْفَلَاحُ، مِثْلَ الْمَتَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [النبأ: ٣١]، وَلِحَاقُ التَّاءِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ٢]. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي اسْمِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨٨]، وَالْبَاءُ
لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْفَوْزِ أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوْزِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ اسْمًا لِلْفَلَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
لِوِرْدٍ تَقْلِصُ الْغِيطَانُ عَنْهُ يَبُذُّ مَفَازَةِ الْخِمْسِ الْكَمَالِ
سُمِّيَتْ مَفَازَةً بِاسْمِ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَيِ النَّجَاةُ وَتَأْنِيثُهَا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، وَسَمَّوْهَا مَفَازَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ حَلَّ بِهَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ عَدُوُّهُ، كَمَا قَالَ الْعُدَيْلُ:
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تنالني بِسَاط بأيدي أَنا عجات عَرِيضُ
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي). وَالْمَفَازَةُ: الْجَنَّةُ. وَإِضَافَةُ مَفَازَةٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالْفَوْزِ حَتَّى عُرِفَ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فَازَ فَوْزَ فُلَانٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفازَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِمَفَازَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّ
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَقَوْلِهِ: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ، جِيءَ بِالْمَوْصُولِ مَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جِيءَ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي، وَقَدْ يظْهر فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ بِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ الْكَلِمَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي هَذَا التَّخَالُفِ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاخْتِلَافُ لِغَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ دَقِيقٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي وَأِخَوَاتِهِ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْمَوْصُولَاتِ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ يُعَيَّنُ بِحَالَةٍ مَعْرُوفَةٍ هِيَ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، فَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بِصِلَتِهِ.
وَأَمَّا مَا الْمَوْصُولَةُ فَأَصْلُهَا اسْمٌ عَامٌّ نَكِرَةٌ مُبْهَمَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى صِفَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النِّسَاء: ٥٨] عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ إِذْ قَدَّرُوهُ: نِعْمَ شَيْئًا يعظكم بِهِ. فَمَا نكرَة تَمْيِيز ل (نِعْمَ) وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ بِهِ صِفَةٌ لِتِلْكَ النَّكِرَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: ٢٣] الْمُرَادُ: هَذَا شَيْءٌ لَدَيَّ عَتِيدٌ، وَأَنْشَدُوا:
لِمَا نَافِعٍ يَسْعَى اللَّبِيبُ فَلَا تَكُنْ لِشَيْءٍ بَعِيدٍ نَفْعُهُ الدَّهْرَ سَاعِيًا
أَيْ لِشَيْءٍ نَافِعٍ، فَقَدْ جَاءَتْ صِفَتُهَا اسْمًا مُفْرَدًا بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بَقَوْلِهِ: لِشَيْءٍ بَعِيدٍ نَفْعُهُ، ثمَّ يعرض لما التَّعْرِيفُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِجُمْلَةٍ فَتَعَرَّفَتْ بِصِفَتِهَا وَأَشْبَهَتِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي مُلَازَمَةِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ مَا مَوْصُولَةً فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِيثَارُ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَمَا وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى بِحَرْفِ مَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّهَا شَرَائِعُ بَعُدَ الْعَهْدُ بِهَا فَلَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إِلَّا إِجْمَالًا فَكَانَتْ نَكِرَاتٍ لَا تَتَمَيَّزُ إِلَّا بِصِفَاتِهَا، وَأَمَّا إِيثَارُ الْمُوحَى بِهِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ الَّذِي فَلِأَنَّهُ شَرْعٌ مُتَدَاوَلٌ فِيهِمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ. فَالتَّقْدِيرُ: شَرَعَ لَكُمْ شَيْئًا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَشَيْئًا
وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَالشَّيْءَ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْكَ. وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا. وَفِي الْعُدُولِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بَعْدَ قَوْلِهِ شَرَعَ لَكُمْ الْتِفَاتٌ.
وَذَكَرَ فِي جَانِبِ الشَّرَائِعِ الْأَرْبَعِ السَّابِقَةِ فِعْلَ وَصَّى وَفِي جَانِبِ شَرِيعَة
وَاسْتَهْزَءُوا بِهَا وَبِوَعِيدِهِ فَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَقُرَيْشٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ حَالَهُمْ مِثْلُ الْحَالِ الْمَحْكِيَّةِ عَن أُولَئِكَ فليتهيّأوا لِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَلِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِخْلَاصِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ فِي قالُوا أَجِئْتَنا [الْأَحْقَاف: ٢٢] وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَوَاهِبِ عُقُولِهِمْ.
وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ مَعَ أَنَّ مُفَادَهُ لَا شَكَّ فِيهِ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْجِيبِ.
وَالتَّمْكِينُ: إِعْطَاءُ الْمَكِنَةِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ) وَهِيَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ. يُقَالُ: مَكَّنَ مِنْ كَذَا وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: مَكَّنَهُ فِي كَذَا، إِذَا جَعَلَ لَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى مَدْخُولِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ فَيُفَسَّرُ بِمَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الظَّرْفِ قَالَ تَعَالَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦].
فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا لَهُمُ الْقُدْرَةَ فِي الَّذِي لَمْ نُمَكِّنْكُمْ فِيهِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يُمَكَّنُ فِيهِ الْأَقْوَامُ وَالْأُمَمُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [٦] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا.
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ فِيما مَوْصُولَةٌ. وإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ.
وَمَعْنَى مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ: مَكَّنَّاكُمْ فِي مِثْلِهِ أَوْ فِي نَوْعِهِ فَإِنَّ الْأَجْنَاسَ وَالْأَنْوَاعَ مِنَ الذَّوَاتِ حَقَائِقُ مَعْنَوِيَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ مَوَاهِبُهَا وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِوُجُودِهَا فِي الْجُزْئِيَّاتِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ مَكَّنَّاكُمْ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الصَّادِقِ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي مُكِّنَتْ مِنْهَا عَادٌ. وَمِنْ بَدِيعِ النَظْمِ أَنْ جَاءَ النَّفْيُ هُنَا بِحَرْفِ إِنْ النَّافِيَةِ مَعَ أَنَّ النَّفْيَ بِهَا أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا مِنَ النَّفْيِ بِ (مَا) النَّافِيَةِ قَصْدًا هُنَا لِدَفْعِ الْكَرَاهَةِ مِنْ تَوَالِي مِثْلَيْنِ فِي النُّطْقِ وَهُمَا (مَا) الْمَوْصُولَةُ وَ (مَا) النَّافِيَةُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ عَوَّضُوا الْهَاءَ
عَنِ الْأَلِفِ فِي (مَهْمَا)، فَإِنَّ أَصْلَهَا: (مَا مَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا)
وَالْإِمْدَادُ: إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنْ نَوْعٍ نَافِعٍ فِيمَا زِيدَ فِيهِ، أَيْ زِدْنَاهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْهَنِيءِ فَاكِهَةً وَلَحْمًا مِمَّا يَشْتَهُونَ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَاللِّحُومِ الَّتِي يشتهونها، أَي ليوتي لَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَرْغَبُونَ فِيهِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا اشْتَهَى.
وَخَصَّ الْفَاكِهَةَ وَاللَّحْمَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ مَنَحَهُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَذَّةَ نَشْوَةِ الْخَمْرِ وَالْمُنَادَمَةِ عَلَى شُرْبِهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَحْسَنِ اللَّذَّاتِ فِيمَا أَلِفَتْهُ نُفُوسُهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ التَّرَفِ فِي الدُّنْيَا إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ كَسَرُوا سَوْرَةَ حِدَّتِهَا فِي الْبَطْنِ بِالشِّوَاءِ مِنَ اللَّحْمِ قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ قَرْنَ الثَّوْرِ:
سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ وَيَدْفَعُونَ لَذْغَ الْخَمْرِ عَنْ أَفْوَاهِهِمْ بِأَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَيُسَمُّونَهَا النُّقْلَ- بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا- وَيَكُونُ مِنْ ثِمَارٍ وَمَقَاثٍ.
وَلِذَلِكَ جِيءَ بِقَوْلِهِ: يَتَنازَعُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ إِلَخْ. وَالتَّنَازُعُ أُطْلِقَ عَلَى التَّدَاوُلِ وَالتَّعَاطِي. وَأَصْلُهُ تَفَاعُلٌ مِنْ نَزْعِ الدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ عِنْدَ الِاسْتِقَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا وَرَدُوا لِلِاسْتِقَاءِ نزع أحدهم دلوا مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ نَاوَلَ الدَّلْوَ لِمَنْ حَوْلَهُ وَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ يَنْزِعُ مِنَ الْبِئْرِ لِلْمُسْتَقِينَ كُلِّهِمْ يَكْفِيهِمْ تَعَبَ النَّزْعِ، وَيُسَمَّى الْمَاتِحَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَزْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا بِنْتي شُعَيْبٍ لَمَّا رَأَى انْقِبَاضَهُمَا عَنِ الِانْدِمَاجِ فِي الرِّعَاءِ. وَذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ نَزْعَهُ عَلَى الْقَلِيبِ ثُمَّ نَزْعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ نَزْعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ أَوْ جُعِلَ مَجَازًا عَنِ الْمُدَاوَلَةِ وَالْمُعَاوَرَةِ فِي مُنَاوَلَةِ أَكْؤُسِ الشَّرَابِ، قَالَ الْأَعْشَى:
نَازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا وَخَمْرَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَصُبُّ لِبَعْضٍ الْخَمْرَ وَيُنَاوِلُهُ إِيثَارًا وَكَرَامَةً.
وَقِيلَ: تَنَازُعُهُمُ الْكَأْسَ مُجَاذَبَةُ بَعْضِهِمْ كَأْسَ بَعْضٍ إِلَى نَفْسِهِ لِلْمُدَاعَبَةِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الْمُدَاعَبَةِ عَلَى الطَّعَامِ:
أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ صَارَ جَدِيرًا بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنْهُ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٥].
[١٨]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ١٨]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ إِلَى قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: ١٤- ١٦] وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [المجادلة: ٦]. كَمَا سَبَقَ آنِفا فِي هَذَا السُّورَةِ، أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ.
وَحَلِفُهُمْ لِلَّهِ فِي الْآخِرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٢٣].
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ فِي صِفَةِ الْحَلِفِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُشْرِكِينَ، وَفِي كَوْنِهِ حَلِفًا عَلَى الْكَذِبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ تَعَالَى فِتْنَةً فِي آيَة الْأَنْعَام [٢٣] بقوله تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
وَمَعْنَى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ يَظُنُّونَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ حَلِفَهُمْ يُفِيدُهُمْ تَصْدِيقَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حَصَّلُوا شَيْئًا عَظِيمًا، أَيْ نَافِعًا.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ شِدَّةُ التَّلَبُّسِ بِالْوَصْفِ وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَحُذِفَتْ صِفَةُ شَيْءٍ لِظُهُورِ مَعْنَاهَا مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ عَلَى شَيْءٍ نَافِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: ٦٨].
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»
. وَهَذَا يَقْتَضِي تَوَغُّلَهُمْ فِي النِّفَاقِ وَمُرُونَتَهُمْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ بَعْثِهِمْ لِأَنَّ نُفُوسَهُمْ خَرَجَتْ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا مُتَخَلِّقَةً بِهِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تَكْتَسِبُ تَزْكِيَةً أَوْ خُبْثًا فِي عَالَمِ التَّكْلِيفِ. وَحِكْمَةُ إِيجَادِ النُّفُوسِ فِي الدُّنْيَا هِيَ تَزْكِيَتُهَا وَتَصْفِيَةُ
فَقَدْ يَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ صَادَفَ مَقَالَةً مِنْ مَقَالَاتِهِمْ هَذِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَثْنَائِهَا وَقَدْ يَكُونُ نُزُولُهَا لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْملك: ٢٥] بِأَنْ قَارَنَهُ كَلَامٌ بَذِيءٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا: أَبْعَدَ هَلَاكِكَ يَأْتِي الْوَعْدُ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِمَاتَةُ، وَمُقَابَلَةُ أَهْلَكَنِيَ بِ رَحِمَنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَوْ رَحِمْنَا بِالْحَيَاةِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْحَيَاةَ رَحْمَةٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَجَلَ مِنَ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَخِّرِ اللَّهُ أَجْلَ نَبِيئَهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ أَشْرَفُ الرُّسُلِ لِحِكَمٍ أَرَادَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ»
، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَكْمَلَ الدِّينَ الَّذِي أَرَادَ إِبْلَاغَهُ فَكَانَ إِكْمَالُهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ اسْتِمْرَارُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِصِّيصِيَّةً خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا أَتَمَّ اللَّهُ دِينَهُ رَبَا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْقَى غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِنُزُولِ الْوَحْيِ فَنَقَلَهُ اللَّهُ إِلَى الِاتِّصَالِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ١- ٣]. وَلِلَّهِ دَرُّ عَبَدِ بَنِيِ الْحَسْحَاسِ فِي عَبْرَتِهِ بقوله:
رَأَيْت لمنايا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مُرْصَدًا
وَقَدْ عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ، إِذْ قَالَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْح: ٤]، وَبِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَهِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ رُوحَهُ الزَّكِيَّةَ كُلَّمَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَإِنَّمَا سَمَّى الْحَيَاةَ رَحْمَةً لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، لِأَنَّ فِي حَيَاتِهِ نِعْمَةً لَهُ وَلِلنَّاسِ مَا دَامَ اللَّهُ مُقَدِّرًا حَيَاتَهُ، وَحَيَاةُ الْمُؤْمِنِ رَحْمَةٌ لِأَنَّهُ تَكْثُرُ لَهُ فِيهَا بَرَكَةُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ إِنْكَارِيٌّ أَنْكَرَ انْدِفَاعَهُمْ إِلَى أُمْنِيَاتٍ وَرَغَائِبَ لَا يَجْتَنُونَ مِنْهَا نَفْعًا وَلَكِنَّهَا مِمَّا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهُا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ مَفْعُولَاهُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ
بِالْاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ نَاجِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ إِنْ هَلَكَتُ وَهَلَكَ مَنْ مَعِي، فَهَلَاكُنَا لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ الْمُعَدَّ لِلْكَافِرِينَ.
لِتُودَعَ فِي أَجْسَادِهَا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُ يَقُومُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
والْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الرُّوحُ، أَيْ وَيَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا.
وَالصَّفُّ اسْمٌ لِلْأَشْيَاءِ الْكَائِنَةِ فِي مَكَانٍ يُجَانِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْخَطِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فِي سُورَةِ طه [٦٤]، وَفِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٣٦]، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأَصْلُهُ لِلْمُبَالَغَةِ ثُمَّ صَارَ اسْمًا، وَإِنَّمَا يَصْطَفُّ النَّاسُ فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ فَصَفُّ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ لَهُ.
وَالْإِذْنُ: اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُفِيدُ إِبَاحَةَ فِعْلٍ لِلْمَأْذُونِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: أَذِنَ لَهُ، إِذَا اسْتَمَعَ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الإنشقاق: ٢]، أَي استمعت وأطاعت لِإِرَادَةِ
اللَّهِ. وَأَذِنَ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْأُذُنِ وَهِيَ جَارِحَةُ السَّمْعِ، فَأَصْلُ مَعْنَى أَذِنَ لَهُ: أَمَالَ أُذُنَهُ، أَيْ سَمْعَهُ إِلَيْهِ يُقَالُ: أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا كَفَرِحَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لَازِمِ السَّمْعِ وَهُوَ الرِّضَى بِالْمَسْمُوعِ فَصَارَ أَذِنَ بِمَعْنَى رَضِيَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَوْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ، وَأَبَاحَ فِعْلَهُ، وَمَصْدَرُهُ إِذْنٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ فَكَأَنَّ اخْتِلَافَ صِيغَةِ الْمَصْدَرَيْنِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَمُتَعَلَّقُ أَذِنَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَا يَتَكَلَّمُونَ، أَيْ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْكَلَامِ.
وَمعنى أذن الرحمان: أَنَّ مَنْ يُرِيدُ التَّكَلُّمَ لَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْ تَعْتَرِيهِ رَهْبَةٌ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَلَامِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ اللَّهَ فَأَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهُ إِذَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ لِلِاسْتِئْذَانِ فَإِنَّ الْإِلْهَامَ إِذْنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي الْعَامِلِ الْأُخْرَوِيِّ فَإِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ اسْتَأْذَنَ اللَّهَ فَأَذِنَ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ إِحْجَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الِاسْتِشْفَاعِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
فِي الْحَدِيثِ: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدَ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ».
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: ٢٨]، أَيْ لِمَنْ عَلِمُوا


الصفحة التالية
Icon