الْفُصْحَى فَقَوْلُهُ:
وَلا تَعْثَوْا بِوَزْنِ لَا تَرْضَوْا وَمَصْدَرُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِوَزْنِ رِضًى وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَ لَهُ فِي «اللِّسَانِ» مَصَادِرَ الْعُثِيَّ وَالْعِثِيَّ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا مَعَ كَسْرِ الثَّاءِ فِيهِمَا وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِيهِمَا، وَالْعَثَيَانَ بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي لُغَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ عَثَا يَعْثُو مِثْلَ سَمَا يَسْمُو وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ: وَلا تَعْثَوْا بِضَمِّ الثَّاءِ.
وَهُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ وَقِيلَ: هُوَ الْفَسَادُ مُطْلَقًا وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مُفْسِدِينَ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِعَامِلِهَا. وَفِي «الْكَشَّافِ» جَعَلَ مَعْنَى لَا تَعْثَوْا لَا تَتَمَادَوْا فِي فَسَادِكُمْ فَجَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الدَّوَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَكَأَنَّهُ يَأْبَى صِحَّةَ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَحَاوَلَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ لَا تَعْثَوْا وَبَيْنَ مُفْسِدِينَ تَجَنُّبًا لِلتَّأْكِيدِ وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ لَكِن كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ خَالَفَ ذَلِكَ، وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ التَّفْصِيلَ فَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْحَالِ هُوَ مَعْنَى الْعَامِلِ جَعَلَهَا شَبِيهَةً بِالْمُؤَكِّدَةِ لِصَاحِبِهَا كَمَا هُنَا وَخَصَّ الْمُؤَكِّدَةَ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الِاسْمِيَّةِ نَحْوَ زَيْدٌ أَبُوكَ عَطُوفًا وَقَوْلِ سَالِمِ بْنِ دَارَةَ الْيَرْبُوعِيِّ:
أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي | وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ |
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ قَبْلَهَا هُوَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ مَحْضَةً أَوْ مَخْلُوطَةً بِسُوءِ شُكْرِهِمْ وَبِتَرَتُّبِ النِّعْمَةِ عَلَى ذَلِكَ الصَّنِيعِ بِالْعَفْوِ وَنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نِعْمَةً أَيْضًا.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ حَيْرَةٌ فِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفَخْرِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ هُوَ كَالْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ يَعْنِي وَالْإِجَابَةُ إِنْعَامٌ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى دُخُولِ قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ إِعْطَاءَهُمْ مَا سَأَلُوهُ لَمْ يَثْبُتْ وُقُوعُهُ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِي صَدَّرَ الْفَخْرُ بِنَقْلِهِ وَوَجَّهَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ أَنَّ سُؤَالَهُمْ تَعْوِيضَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِالْبَقْلِ وَنَحْوِهِ مَعْصِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كَرَاهَةِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ إِذْ عَبَّرُوا عَنْ تَنَاوُلِهَاُُ
الْخُلُقِ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُحَذَّرُونَ مِنَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْذَرُونَ مِنْ أَنْ يُلْهِيَهُمْ حُبُّ الْمَالِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَيَتَوَقَّعُونَ أَنْ يُفَاجِئَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ لَاهُونَ عَنِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْمُؤْمِنِينَ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الْحَدِيد: ٢٠] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ غَايَةٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِفِعْلِ أَلْهاكُمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: ٩١]، أَيْ دَامَ إِلْهَاءُ التَّكَاثُرِ إِلَى أَنْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، أَيْ اسْتَمَرَّ بِكُمْ طُولَ حَيَاتِكُمْ، فَالْغَايَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِحَاطَةِ
بِأَزْمَانِ الْمُغَيَّا لَا فِي تَنْهِيَتِهِ وَحُصُولِ ضِدِّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا إِلَى الْمَقَابِرِ انْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا.
وَلِكَوْنِ زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِبَارَةً عَنِ الْحُلُولِ فِيهَا، أَيْ قُبُورَ الْمَقَابِرِ.
وَحَقِيقَةُ الزِّيَارَةِ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ حُلُولًا غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ، فَأُطْلِقَ فِعْلُ الزِّيَارَةِ هُنَا تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّ حلولهم فِي الْقُبُور يَعْقُبُهُ خُرُوجٌ مِنْهَا.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي زُرْتُمُ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ مِثْلَ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ لِلْمُتَكَاثِرِ بِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّكَاثُرُ، أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْقُبُورِ تُعِدُّونَهَا. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَا رَوَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ تَفَاخَرُوا بِكَثْرَةِ السَّادَةِ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا آنِفًا، فَتَكُونَ الزِّيَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، أَيْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ لِتَعُدُّوا الْقُبُورَ، وَالْعَرَبُ يُكَنُّونَ بِالْقَبْرِ عَنْ صَاحِبِهِ قَالَ النَّابِغَةُ:
لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بِجِلِّقٍ | وَقَبْرٍ بِصَيْدَاءَ الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ |
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ | قَبْرًا وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ مَنْزِلِ الذَّامِّ |