ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَثَارَهُ مَا شَنَّعَ بِهِ حَالُهُمْ مِنْ لُزُومِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ لَهُمْ وَالْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ. وَأَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ وَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ |
وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (١) «وَالَّذِي حَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ لَيْسَتْ تَثْنِيَتُهَا وَجَمْعُهَا وَتَأْنِيثُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ الْمَوْصُولَاتُ وَلِذَلِكَ جَاءَ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ» اهـ قِيلَ أَرَادَ بِهِ أَنَّ جَمْعَ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَتَثْنِيَتَهَا لَمْ يَكُنْ بِزِيَادَةِ عَلَامَاتٍ بَلْ كَانَ بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ فَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهَا فِي مَعْنَى بَعْضٍ أَسْهَلَ إِذَا كَانَ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ قَلِيلُ الْجَدْوَى لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالْمَجَازِ سَوَاءٌ كَانَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي مَعْنَى آخَرَ أَوْ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةٍ فِي مَعْنَى أُخْرَى فَلَا حُسْنَ يَخُصُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِيمَا يَظْهَرُ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَا مَوْضُوعٌ لِجِنْسٍ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ. وَالَّذِي مَوْضُوعٌ لِجِنْسٍ مَا عُرِفَ بِصِلَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْإِطْلَاقِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَإِنَّ مَا يَقَعُ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولَاتِ لِلْمُثَنَّى نَحْوَ ذَانِ وَلِلْجَمْعِ نَحْوَ أُولَئِكَ، إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ لَا أَنَّهُ تَثْنِيَةُ مُفْرَدٍ، وَجَمْعُ مُفْرَدٍ، فَذَا يُشَارُ بِهِ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَلَا عَكْسَ فَلِذَلِكَ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ الْمُفْرَدِ مِنْهَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ سَبَبِيَّةٌ أَيْ أَنَّ كُفْرَهُمْ وَمَا مَعَهُ كَانَ سَبَبًا لِعِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِغَضَبِ اللَّهِ وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ
مَا وَقَعُوا فِيهِ.
_________
(١) فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَة: ٦٨].
اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَمَبْدَؤُهُ إِذَا صَارَ ظِلُّ الْجِسْمِ مِثْلَهُ بَعْدَ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَيَمْتَدُّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الْجِسْمِ مِثْلَيْ قَدْرِهِ بَعْدَ الظِّلِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ. وَذَلِكَ وَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَالْعَصْرُ مَبْدَأُ الْعَشِيِّ. وَيَعْقُبُهُ الْأَصِيلُ وَالِاحْمِرَارُ وَهُوَ مَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ | اصُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ |
الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَهِيَ الْحَرَكَةُ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْقَسَمِ بِالضُّحَى وَبِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبِالْفَجْرِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَوِّيَّةِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِتَغَيُّرِ تَوَجُّهِ شُعَاعِ الشَّمْسِ نَحْوَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَهَيَّأُ النَّاسُ لِلِانْقِطَاعِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ فِي النَّهَارِ كَالْقِيَامِ عَلَى حُقُولِهِمْ وَجَنَّاتِهِمْ، وَتِجَارَاتِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَيُذَكِّرُ بِحِكْمَةِ نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَمَا أَلْهَمَ اللَّهُ فِي غَرِيزَتِهِ مِنْ دأب على الْعَمَل وَنِظَامٍ لِابْتِدَائِهِ وَانْقِطَاعِهِ. وَفِيهِ يَتَحَفَّزُ النَّاسُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى بُيُوتِهِمْ لِمَبِيتِهِمْ وَالتَّأَنُّسِ بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ. وَهُوَ مِنَ النِّعْمَةِ أَوْ مِنَ النَّعِيمِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِمِثْلِ الْحَيَاةِ حِينَ تَدْنُو آجَالُ النَّاسِ بَعْدَ مُضِيِّ أَطْوَارِ الشَّبَابِ وَالِاكْتِهَالِ وَالْهِرَمِ.
وَتَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ أَيْ كُلِّ عَصْرٍ.
وَيُطْلَقُ الْعَصْرُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُوَقَّتَةِ بِوَقْتِ الْعَصْرِ. وَهِيَ صَلَاةٌ مُعَظَّمَةٌ. قِيلَ: هِيَ الْمُرَادُ بِالْوُسْطَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: ٢٣٨].
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ».
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَذَكَرَ «وَرَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً بَعْدَ الْعَصْرِ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ»
وَتَعْرِيفُهُ عَلَى هَذَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ مِثْلَ الْعَقَبَةِ.
وَيُطْلَقُ الْعَصْرُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَة لوُجُود جبل مِنَ النَّاسِ، أَوْ ملك أَو نبيء، أَوْ دِينٍ، وَيُعَيَّنُ بِالْإِضَافَةِ، فَيُقَالُ: عَصْرُ الْفِطَحْلِ، وَعَصْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَصْرُ الْإِسْكَنْدَرِ، وَعَصْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ هَذَا الْإِطْلَاقَ هُنَا وَيَكُونَ