الَّذِينَ انْتَسَبُوا إِلَى الْيَهُودِ وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا. ثُمَّ صَارَ اسْمُ الْيَهُودِ مُطْلَقًا عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ بَدِينِ التَّوْرَاةِ قَالَ تَعَالَى:
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الْبَقَرَة: ١١٣] الْآيَةَ وَيُقَالُ تَهَوَّدَ إِذَا اتَّبَعَ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «يُولَدُ الْوَلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَبَوَاهُ هما اللَّذَان يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»
. وَيُقَالُ هَادَ إِذَا دَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الْأَنْعَام: ١٤٦]. وَأما مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٥٦] مِنْ قَوْلِ مُوسَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فَذَلِكَ بِمَعْنَى الْمَتَابِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُوَ اسْمُ جمع نصرى (فتح فَسُكُونٍ) أَوْ نَاصِرِيٍّ نِسْبَةً إِلَى النَّاصِرَةِ وَهِيَ قَرْيَةٌ نَشَأَتْ مِنْهَا مَرْيَمُ أُمُّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ خَرَجَتْ مَرْيَمُ مِنَ النَّاصِرَةِ قَاصِدَةً بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَوَلَدَتِ الْمَسِيحَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَلِذَلِكَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَدْعُونَهُ يَشُوعَ النَّاصِرِيَّ أَوِ النَّصْرِيَّ فَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ أَتْبَاعِهِ بِالنَّصَارَى.
وَأما قَوْله: وَالصَّابِئِينَ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى صِيغَة جمع صابىء بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ صَابٍ مَنْقُوصًا فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالصَّابِئُونَ لَعَلَّه جمع صابىء وصابىء لَعَلَّهُ اسْمُ فَاعِلِ صَبَأَ مَهْمُوزًا أَيْ ظَهَرَ وَطَلَعَ، يُقَالُ صَبَأَ النَّجْمُ أَيْ طَلَعَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْهَمْزِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ تَخْفِيفِ الْهَمْزِ فِي غَيْرِهَا تَخْفِيفٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَوَافُقُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمَعْنَى. وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرَنْجِ (١) أَنَّهُمْ سُمُّوا صَابِئَةً لِأَنَّ دِينَهُمْ أَتَى بِهِ قَوْمٌ مِنْ سَبَأٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَجَعَلُوهَا جَمْعَ صَابٍ مِثْلَ رَامٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ قَالُوا: لِأَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ مَالُوا عَنْ كُلِّ دِينٍ إِلَى دِينِ عِبَادَةِ النُّجُومِ (وَلَوْ قِيلَ لِأَنَّهُمْ مَالُوا عَنْ أَدْيَانٍ كَثِيرَةٍ إِذِ اتَّخَذُوا مِنْهَا دِينَهُمْ كَمَا سَتَعْرِفُهُ لَكَانَ أَحْسَنَ). وَقِيلَ إِنَّمَا خَفَّفَ نَافِعٌ هَمْزَةَ (الصَّابِينَ) فَجَعَلَهَا يَاءً مِثْلَ قِرَاءَته سَأَلَ سائِلٌ [المعارج: ١]، وَمِثْلُ هَذَا التَّخْفِيفِ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَخْفِيفِ الْهَمْزِ الْمُتَحَرِّكِ بَعْدَ حَرْفٍ مُتَحَرِّكٍ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ كَلِمَةِ الصَّابِي أَوِ الصَّابِئَةِ أَوْ مَا تَفَرَّعَ مِنْهَا هُوَ لَفْظٌ قَدِيمٌ مِنْ لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ أَوْ سَامِيَّةٍ قَدِيمَةٍ هِيَ لُغَةُ عَرَبِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ مِنَ الْعِرَاقِ وَفِي «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ
_________
(١) انْظُر جَدِيد لاروس باللغة الفرنسية. [.....]
حَقَائِقِ الْهَدْيِ وَعَقَائِدِ الصَّوَابِ وَإِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى فَهْمِهَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ.
وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عُطِفَ عَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ خُصُوصُهُ خُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الصَّبْرَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَمَا يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمَ مِنْ أَذًى فِي نَفْسِهِ فِي إِقَامَةِ بَعْضِ الْحَقِّ.
وَحَقِيقَةُ الصَّبْرِ أَنَّهُ: مَنْعُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَشْتَهِيهِ أَوْ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَحْصِيلِهِ (إِنْ كَانَ صَعْبَ الْحُصُولِ فَيَتْرُكُ مُحَاوَلَةَ تَحْصِيلِهِ لِخَوْفِ ضُرٍّ يَنْشَأُ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَخَوْفِ غَضَبِ اللَّهِ أَوْ عِقَابِ وُلَاةِ الْأُمُورِ) أَوْ لِرَغْبَةٍ فِي حُصُولِ نَفْعٍ مِنْهُ (كَالصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ رَغْبَةً فِي تَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ).
وَمن الصَّبْر الصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُسْلِمُ إِذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ مِنِ امْتِعَاضِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِهِ أَوْ مِنْ أَذَاهُمْ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَقُولُ لِآمِرِهِ: هَلَّا نَظَرْتَ فِي أَمْرِ نَفْسِكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ كَالصَّبْرِ عَلَى تَجَشُّمِ السَّهَرِ فِي اللَّهْوِ وَالْمَعَاصِي، وَالصَّبْرِ عَلَى بَشَاعَةِ طَعْمِ الْخَمْرِ لِشَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ الصَّبْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحَمُّلَ مُنْبَعِثٌ عَنْ رُجْحَانِ اشْتِهَاءِ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي تَركهَا.
وَقل اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، فَالْعَقَائِدُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأَخْلَاقُ الدِّينِيَّةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَقِّ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَتَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ مُنْدَرِجَةٌ فِي الصَّبْرِ.
وَالتَّخَلُّقُ بِالصَّبْرِ مِلَاكُ فَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَمْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي مُخَالَفَتِهَا تَعَبٌ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مَلَكَةً لِمَنْ رَاضَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:



الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا