أَحْوَالِهِمْ وَتَكَتُّمُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّخْلِيطِ بِسَبَبِ قَهْرِ الْأُمَمِ الَّتِي تَغَلَّبَتْ عَلَى بِلَادِهِمْ، فَالْقِسْمُ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَيْهِمُ الْفُرْسُ اخْتَلَطَ دِينُهُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ، وَالَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِم الرّوم اخْتَلَّ دِينُهُمْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي كِتَابِ «الْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ» : قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الطَّاهِرِ (يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ التَّنُوخِيَّ الْقَيْرَوَانِيَّ) مَنَعُوا ذَبَائِحَ الصَّابِئَةِ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْنِي صَابِئَةَ الْعِرَاقِ، الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى بِلَادِهِمْ عَلَى دِينِ الْمَجُوسِيَّةِ).
وَفِي «التَّوْضِيحِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْفَرْعِيِّ» فِي بَابِ الذَّبَائِحِ «قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: لَا تُؤْكَل ذَبِيحَة الصابىء وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ» وَفِيهِ فِي بَابِ الصَّيْدِ «قَالَ مَالِكٌ لَا يُؤْكَل صيد الصابىء وَلَا ذَبِيحَتُهُ».
وَفِي «شَرْحِ عَبْدِ الْبَاقِي عَلِي خَلِيلٍ» :«إنّ أَخذ الصابىء بِالنَّصْرَانِيَّةِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَتَزَوَّجُ الْمُسْلِمُ الْمَرْأَةَ الصَّائِبَةَ».
قَالَ الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعُقُودِ وَسُورَةِ بَرَاءَةَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّابِئَةَ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ الصَّابِئَةُ الَّذِينَ هُمْ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. قَالَ
الْجَصَّاصُ: الصَّابِئَةُ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِهَذَا الِاسْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَانْتِحَالُهُمْ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ أَعْنِي الَّذِينَ هُمْ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ وَكَسْكَرَ فِي سَوَادِ وَاسِطَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَالَّذِينَ بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ فِي شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَاهَدَ قَوْمًا مِنْهُمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ نَصَارَى تِقْيَةً، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ وَكَسْكَرَ وَيُسَمِّيهِمُ النَّصَارَى يُوحَنَّا سِيَّةَ وَهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، وَيَنْتَحِلُونَ كُتُبًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى شِيثَ وَيَحْيَى. وَمَنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مِنَ الصَّابِئِينَ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَهُمُ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ لَا يَنْتَمُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَأَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: إِنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَكَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ اهـ. كَلَامُهُ.
عَلَيْهَا، وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ أَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَيْهَا فِي النِّدَاءِ اهـ. قُلْتُ: وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ بَنَى الْحَرِيرِيُّ قَوْلَهُ فِي «الْمَقَامَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ» :«صَهْ يَا عُقَقُ، يَا مَنْ هُوَ الشَّجَا وَالشَّرَقُ».
وَهُمَزَةٌ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَمْزِ. وَهُوَ أَنْ يَعِيبَ أَحَدٌ أَحَدًا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالشِّدْقِ أَوْ بِالرَّأْسِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ عِنْدَ تَوَلِّيهِ، وَيُقَالُ: هَامِزٌ وَهَمَّازٌ، وَصِيغَةُ فُعَلَةٍ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ.
وَوَقَعَ هُمَزَةٍ وَصَفًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ شَخْصٍ هُمَزَةٍ، فَلَمَّا حُذِفَ مَوْصُوفُهُ صَارَ الْوَصْفُ قَائِمًا مَقَامَهُ فَأُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلِّ).
وَلُمَزَةٌ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اللمز وَهُوَ المواجعة بِالْعَيْبِ، وَصِيغَتُهُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ مَلَكَةٌ لِصَاحِبِهِ كَمَا فِي هُمَزَةٍ.
وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ مِنْ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ، وَمَنْ عَامَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ.
فَمَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَهْلِ دِينِهِ فَإِنَّهَا خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَهِيَ ذَمِيمَةٌ تَدْخُلُ فِي أَذَى الْمُسْلِمِ وَلَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأَذَى وَتَكَرُّرِهِ وَلَمْ يَعُدْ مِنَ الْكَبَائِرِ إِلَّا ضَرْبُ الْمُسْلِمِ. وَسَبُّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِدْمَانُ هَذَا الْأَذَى بِأَنْ يَتَّخِذَهُ دَيْدَنًا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِدْمَانِ الصَّغَائِرِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَأَتْبَعَ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ لِزِيَادَةِ تَشْنِيعِ صِفَتَيْهِ الذَّمِيمَتَيْنِ بِصِفَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ. وَإِنَّمَا ينشأ ذَلِك عَن بُخْلِ النَّفْسِ وَالتَّخَوُّفِ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولُ أُولَئِكَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَمْزِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْزِهِمُ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّهُمْ سَبَبُ نُزُولِ السُّورَةِ لِتَعْيِينِهِمْ فِي هَذَا الْوَعِيدِ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَمَعَ مَالًا نَعْتٌ آخَرُ وَلَمْ يُعْطَفِ الَّذِي بِالْوَاوِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ عَطْفٍ