مُحَافَظَةً عَلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَوَاتَ لِلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَسْأَلَةُ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَعَلَّنَا نَتَعَرَّضُ لَهَا فِي سُورَةِ ص وَفِيهَا تَمْحِيصٌ.
وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناها نَكالًا عَادَ فِيهِ الضَّمِيرُ عَلَى الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً. وَالنَّكَالُ بِفَتْحِ النُّونِ الْعِقَابُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَرْدَعُ الْمُعَاقَبَ عَنِ الْعَوْدِ لِلْجِنَايَةِ وَيَرْدَعُ غَيْرَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مِثْلِهَا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَكَلَ إِذَا امْتَنَعَ وَيُقَالُ نَكَّلَ بِهِ تنكيلا ونكالا معنى عَاقَبَهُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْعَوْدِ. وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا مَا قَارَنَهَا مِنْ مَعَاصِيهِمْ وَمَا سَبَقَ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الْفِعْلَةَ كَانَتْ آخِرَ مَا فَعَلُوهُ فَنَزَلَتِ الْعُقُوبَةُ عِنْدَهَا وَلِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الْأُمَمِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا وَلِمَا خَلْفَهَا مِنَ الْأُمَمِ الْبَعِيدَةِ. وَالْمَوْعِظَةُ مَا بِهِ الْوَعْظُ وَهُوَ التَّرْهِيبُ من الشَّرّ.
[٦٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٦٧]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧)
تَعَرَّضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِقِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ قِلَّةِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِمْ وَمِنَ الْإِعْنَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِيهَا إِمَّا لِلتَّفَصِّي مِنَ الِامْتِثَالِ وَإِمَّا لِبُعْدِ أَفْهَامِهِمْ عَنْ مَقْصِدِ
الشَّارِعِ وَرَوْمِهِمُ التَّوْقِيفَ عَلَى مَا لَا قَصْدَ إِلَيْهِ. قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [الْبَقَرَة: ٧٢] الْآيَة وَإِنَّ قَوْلَ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً نَاشِيءٌ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّ قَوْلَ مُوسَى قُدِّمَ هُنَا لِأَنَّ خِطَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ قَدْ نَشَأَ عَنْهُ ضَرْبٌ مِنْ مَذَامِّهِمْ فِي تَلَقِّي التَّشْرِيعِ وَهُوَ الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَمْرِ حِينَ ظَنُّوهُ هُزُؤًا وَالْإِعْنَاتُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَأُرِيدَ مِنْ تَقْدِيمِ جُزْءِ الْقِصَّةِ تَعَدُّدُ تَقْرِيعِهِمْ، هَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْمُوَجِّهُونَ لِكَلَامِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا وَجَّهُوا بِهِ تَقْدِيمَ جُزْءِ الْقِصَّةِ لَا يَقْتَضِي إِلَّا تَفْكِيكَ الْقِصَّةِ إِلَى قِصَّتَيْنِ تُعَنْوَنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ مَعَ بَقَاءِ التَّرْتِيبِ، عَلَى أَنِ الْمَذَامَّ قَدْ تُعْرَفُ بِحِكَايَتِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا بِنَحْوِ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وَقَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: ٧١].
فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ أَشَارَتِ الْأُولَى وَهِيَ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا إِلَى أَمْرِ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَهَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا التَّوْرَاةُ فِي السِّفْرِ الرَّابِعِ وَهُوَ سِفْرُ التَّشْرِيعِ الثَّانِي (تَثْنِيَةٌ) فِي الْإِصْحَاحِ ٢١ أَنَّهُ «إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ فَإِنَّ أَقْرَبَ الْقُرَى إِلَى مَوْقِعِ الْقَتِيلِ
إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ تَكْرِيمُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إرهاصا لنبوءته إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَامَ مَوْلِدِهِ.
وَأَصْحَابُ الْفِيلِ: الْحَبَشَةُ الَّذِينَ جَاءُوا مَكَّةَ غَازِينَ مُضْمِرِينَ هَدْمَ الْكَعْبَةِ انْتِقَامًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَجْلِ مَا فَعَلَهُ أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ النَّسِيءِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَكَانَ خَبَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ أَنَّ الْحَبَشَةَ قَدْ مَلَكُوا الْيَمَنَ بَعْدَ وَاقِعَةِ الْأُخْدُودِ الَّتِي عَذَّبَ فِيهَا الْمَلِكُ ذُو نُوَاسٍ النَّصَارَى، وَصَارَ أَمِيرُ الْحَبَشَةِ عَلَى الْيَمَنِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: (أَبْرَهَةُ) وَأَنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى كَنِيسَةً عَظِيمَةً فِي صَنْعَاءَ دَعَاهَا الْقَلِيسَ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَكسر اللَّام بعد مَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ،
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهَا بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ). وَفِي «الْقَامُوسِ» بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَفْتُوحَةً وَسُكُونِ الْيَاءِ. وَكَتَبَهُ السُّهَيْلِيُّ بِنُونٍ بَعْدَ اللَّامِ وَلَمْ يَضْبُطْهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعَانِي الْقَلْسِ لِلِارْتِفَاعِ. وَمِنْهُ الْقَلَنْسُوَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ أَعْرِفْ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ لِلْكَنِيسَةِ وَلَعَلَّ لَفْظَ كَنِيسَةٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مُعْرَّبٌ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَمًا وَضَعُوهُ لِهَذِهِ الْكَنِيسَةِ الْخَاصَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا دُونَ الْكَعْبَةِ فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَكَانُوا أَهْلَ النَّسِيءِ لِلْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٧]، قَصَدَ الْكِنَانِيُّ صَنْعَاءَ حَتَّى جَاءَ الْقَلِيسَ فَأَحْدَثَ فِيهَا تَحْقِيرًا لَهَا لِيَتَسَامَعَ الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ وَأَزْمَعَ غَزْوَ مَكَّةَ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ خَارِجَ مَكَّةَ لَيْلًا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغَمَّسُ (كَمُعَظَّمٍ مَوْضِعٌ قُرْبَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ) أَوْ ذُو الْغَمِيسِ (لَمْ أَرَ ضَبْطَهُ) وَأَرْسَلَ إِلَى عَبَدِ الْمُطَّلِبِ لِيُحَذِّرَهُ مِنْ أَنْ يُحَارِبُوهُ وَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ آلَهُ وَجَمِيعَ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى الْجِبَالِ الْمُحِيطَةِ بِهَا خَشْيَةً مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ هَيَّأَ جَيْشَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَاكِبًا فِيلًا وَجَيْشُهُ مَعَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَتَهَيَّأُ لِذَلِكَ إِذْ أَصَابَ جُنْدَهُ دَاءٌ عُضَالٌ هُوَ الْجُدَرِيُّ الْفَتَّاكُ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْأَنَامِلُ، وَرَأَوْا قَبْلَ ذَلِكَ طَيْرًا تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ لَا تُصِيبُ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ وَهِيَ طَيْرٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ فَهَلَكَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ وَأَدْبَرَ بَعْضُهُمْ وَمَرِضَ (أَبْرَهَةُ) فَقَفَلَ رَاجِعًا إِلَى صَنْعَاءَ مَرِيضًا، فَهَلَكَ فِي صَنْعَاءَ وَكَفَى اللَّهُ أَهْلَ مَكَّةَ أَمْرَ عَدُوِّهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْمُوَافِقِ لِشَهْرِ شُبَاطَ (فِبْرَايِرَ)


الصفحة التالية
Icon