عَنَّا، وَجَزْمُ يُبَيِّنْ فِي جَوَابِ ادْعُ لِتَنْزِيلِ الْمُسَبَّبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ، أَيْ إِنْ تَدْعُهُ يَسْمَعْ فَيُبَيِّنُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: مَا هِيَ حَكَى سُؤَالَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بالسؤال ب (مَا) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُوَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ لِأَنَّ (مَا) يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الصِّفَةِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ حَاتِمًا أَوِ الْأَحْنَفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ وَلَمْ يَعْلَمْ صِفَتَيْهِمَا مَا حَاتِمٌ؟ أَوْ مَا الْأَحْنَفُ؟
فَيُقَالُ: كَرِيمٌ أَوْ حَلِيمٌ.
وَلَيْسَ (مَا) مَوْضُوعَةً لِلسُّؤَالِ عَنِ الْجِنْسِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْوَاقِفِينَ عَلَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فَتَكَلَّفُوا لِتَوْجِيهِهِ حَيْثُ إِنَّ جِنْسَ الْبَقَرَةِ مَعْلُومٌ بِأَنَّهُمْ نَزَّلُوا هَاتِهِ الْبَقَرَةَ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهَا مَنْزِلَةَ فَرْدٍ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لِغَرَابَةِ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِذَبْحِهَا وَظَنُّوا أَنَّ الْمَوْقِعَ هُنَا للسؤال ب (أَي) أَوْ (كَيْفَ) وَهُوَ وَهْمٌ نبه عَلَيْهِ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَاعْتَضَدَ لَهُ بِكَلَامِ «الْمِفْتَاحِ» إِذْ جَعَلَ الْجِنْسَ وَالصِّفَةَ قِسْمَيْنِ لِلسُّؤَالِ بِمَا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلسُّؤَالِ بِمَا لِأَنَّ أَيًّا إِنَّمَا يُسْأَلُ بِهَا عَنْ مُمَيِّزِ الشَّيْءِ عَنْ أَفْرَادٍ مِنْ نَوْعِهِ الْتَبَسَتْ بِهِ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَعَ أَيِّ نَحْوَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ [مَرْيَم: ٧٣] وَأَيُّ الْبَقَرَتَيْنِ أَعْجَبَتْكَ وَلَيْسَ لَنَا هُنَا بَقَرَاتٌ مُعَيَّنَاتٌ يُرَادُ تَمْيِيزُ إِحْدَاهَا.
وَقَوْلُهُ: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ أَكَّدَ مَقُولَ مُوسَى وَمَقُولَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِنَّ لِمُحَاكَاةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ مُوسَى مِنَ الِاهْتِمَامِ بِحِكَايَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَكَّدَهُ بِإِنَّ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَدْلُولُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى مِنْ تَحْقِيقِ إِرَادَتِهِ ذَلِكَ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَا بَدَا مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَتَنَصُّلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ الَّذِي فِي كَلَامِ مُوسَى لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَالَ لِمُوسَى ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى اتِّهَامِهِمُ السَّابِقِ فِي قَوْلهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَة: ٦٧] جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ.
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ وَأُقْحِمَ فِيهِ حَرْفُ (لَا) لِكَوْنِ الصِّفَةِ بِنَفْيِ وَصْفٍ ثُمَّ بِنَفْيِ آخَرَ عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتِ وَصْفٍ وَاسِطَةً بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمَنْفِيَّيْنِ فَلَمَّا جِيءَ بِحَرْفِ (لَا) أُجْرِيَ الْإِعْرَابُ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ (لَا) غَيْرُ عَامِلَةٍ شَيْئًا فَيُعْتَبَرُ مَا قَبْلَ لَا عَلَى عَمَلِهِ فِيمَا بَعْدَهَا سَوَاءٌ كَانَ وَصْفًا كَمَا هُنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥] وَقَوْلُ جُوَيْرِيَةَ أَوْ حُوَيْرِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الرَّامِي:


الشَّدِيدَةِ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ بِتَضْلِيلٍ، أَيْ مُصَاحِبًا لِلتَّضْلِيلِ لَا يُفَارِقُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَبْطَلَهُ إِبْطَالًا شَدِيدًا إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِقُوَّتِهِمْ مَعَ ضَعْفِ أَهْلِ مَكَّةَ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غَافِر: ٣٧] أَيْ ضَيَاعٍ وَتَلَفٍ، وَقَدْ شَمِلَ تَضْلِيلُ كَيْدِهِمْ جَمِيعَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْبَةِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: ١]، أَيْ وَكَيْفَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ صِفَتِهَا كَيْتُ وَكَيْتُ، فَبَعْدَ أَنْ وَقَعَ التَّقْرِيرُ عَلَى مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ كَيْدِهِمْ عُطِفَ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ بِعِلْمِ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى كَيْدِهِمْ تَذْكِيرًا بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَصْدِهِمْ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ، فَذَلِكَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِبَيْتِهِ لِإِظْهَارِ تَوْطِئَتِهِ لِبَعْثَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينِهِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَمَا كَانَ إِرْسَالُ الطَّيْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ تَضْلِيلِ كَيْدِهِمْ، كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ لَهُمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَانِعٌ بَيْتَهُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ فَيَكُونَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ التَّقْرِيرِ الثَّانِي بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَخَصَّ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبْطِلًا لِكَيْدِهِمْ وَكَوْنِهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمَجِيئُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ قُلِبَ زَمَانُهُ إِلَى الْمُضِيِّ لِدُخُولِ حَرْفِ
لَمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فِي سُورَةِ الضُّحَى [٦، ٧]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَيْسَ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ.
وَالطَّيْرُ: اسْمٌ جَمْعُ طَائِرٍ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يرْتَفع فِي الجو بِعَمَلِ جَنَاحَيْهِ. وَتَنْكِيرُهُ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَصَّاصُونَ فِي صِفَتِهِ اخْتِلَافًا خَيَالِيًّا. وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْخَطَاطِيفِ، وَعَنْ غَيْرِهَا أَنَّهَا تُشْبِهُ الْوَطْوَاطَ.
وأَبابِيلَ: جَمَاعَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَبَابِيلُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظَهِ مِثْلَ عَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ وَتَبِعَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ الرُّؤَاسِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: وَاحِدُ


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ أَسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٍ وَلَا عُزْلِ