وَلِهَذَا صَحَّتْ إِضَافَةُ بَيْنَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تُضَافُ لِلضَّمِيرِ الدَّالِّ عَلَى مُتَعَدِّدٍ وَإِنْ كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي نَحْوِ بَيْنِهَا. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٦١].
وَجَاءَ فِي جَوَابِهِمْ بِهَذَا الْإِطْنَابِ دُونَ أَنْ يَقُولَ مِنْ أَوَّلِ الْجَوَابِ إِنَّهَا عَوَانٌ تَعْرِيضًا بِغَبَاوَتِهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى تَكْثِيرِ التَّوْصِيفِ حَتَّى لَا يَتْرُكَ لَهُمْ مَجَالًا لِإِعَادَةِ السُّؤَالِ.
فَإِنْ قُلْتَ: هُمْ سَأَلُوا عَنْ صِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ السِّنِّ؟
وَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ مِنْ سُؤَالهمْ الْآتِي ب مَا هِيَ أَيْضًا أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ تَدَرُّبِهَا عَلَى الْخِدْمَةِ؟
قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا هِيَ اخْتِصَارًا لِسُؤَالِهِمُ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَيَانِ وَهَذَا الِاخْتِصَارُ مِنْ إِبْدَاعِ الْقُرْآنِ اكْتِفَاءً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا حُكِيَ فِي الْقُرْآنِ مُرَادِفَ سُؤَالِهِمْ فَيَكُونُ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ أَوَّلَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَغْرَاضُ النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الدَّوَابِّ هُوَ السِّنُّ فَهُوَ أَهَمُّ صِفَاتِ الدَّابَّةِ وَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنِ اللَّوْنِ ثُمَّ سَأَلُوا السُّؤَالَ الثَّانِيَ الْمُبْهَمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا مَقَاصِدُ النَّاسِ مِنَ الدَّوَابِّ غَيْرُ حَالَةِ الْكَرَامَةِ أَيْ عَدَمِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ضَعِيفٌ إِذْ قَدْ تَخْدِمُ الدَّابَّةُ النَّفِيسَةُ ثُمَّ يُكْرِمُهَا مَنْ يَكْتَسِبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَزُولُ آثَارُ الْخِدْمَةِ وَشَعَثُهَا.
وَقَوْلُهُ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ الْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ وَمَوْقِعُهَا هُنَا مَوْقِعُ قِطْعِ الْعُذْرِ مَعَ الْحَثِّ عَلَى الِامْتِثَالِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:

قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
أَيْ فَقَدْ حَصَلَ مَا تَعَلَّلْتُمْ بِهِ مِنْ طُولِ السَّفَرِ. وَالْمَعْنَى فَبَادِرُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَهُوَ ذبح الْبَقَرَة، و (مَا) مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ حَذْفِ جَارِّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، فَتَوَسَّلُوا بِحَذْفِ الْجَارِّ إِلَى حَذْفِ الضَّمِيرِ.
وَفِي حَثِّ مُوسَى إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بَعْدَ مَا كُلِّفُوا بِهِ مِنَ اخْتِيَارِهَا عَوَانًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مَا غَيْرِ مُرَادٍ مِنْهَا صِفَةٌ مُقَيَّدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْمُبَادَرَةِ بِالذَّبْحِ حِينَئِذٍ عَلِمْنَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَا كُلِّفُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ أَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ فَاقِعَةً وَأَنْ تَكُونَ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجُدَرِيَّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي مَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَرَ كَانَ قَدْرَ الْحِمَّصِ. رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَصَى الَّتِي رُمِيَ بِهَا أَصْحَابُ الْفِيلِ حَصًى مِثْلَ الْحِمَّصِ حُمْرًا بحتمة (أَي سَواد) كَأَنَّهَا جِزْعُ ظَفَارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَأَى مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ عِنْد أم هاني نَحْوَ قَفِيزٍ مُخَطَّطَةٍ بِحُمْرَةٍ بِالْجِزْعِ الظَّفَارِيِّ.
وَالْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ وَهُوَ جَمْعُ عَصْفَةٍ. وَالْعَصْفُ إِذَا دَخَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَأَكَلَتْهُ دَاسَتْهُ بِأَرْجُلِهَا وَأَكَلَتْ أَطْرَافَهُ وَطَرَحَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ يَانِعًا. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ أَصْحَابِ الْفِيلِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ وَالْقُوَّةِ كَيْفَ صَارُوا مُتَسَاقِطِينَ عَلَى الْأَرْضِ هَالِكِينَ.


الصفحة التالية
Icon