قُلْتَ: لِمَاذَا ذُكِرَ هُنَا بِلَفْظِ الْحَقِّ؟ وَهَلَّا قِيلَ قَالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْبَيَانِ أَوْ بِالثَّبْتِ؟
قُلْتُ: لَعَلَّ الْآيَةَ حَكَتْ مَعْنَى مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْيَهُودُ لِمُوسَى بِلَفْظٍ هُوَ فِي لُغَتِهِمْ مُحْتَمِلٌ لِلْوَجْهَيْنِ فَحَكَى بِمَا يُرَادِفُهُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى قِلَّةِ اهْتِمَامِهِمْ بِانْتِقَاءِ الْأَلْفَاظِ النَّزِيهَةِ فِي مُخَاطَبَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعِنا، فَنُهِينَا نَحْنُ عَنْ أَنْ نَقُولَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا [الْبَقَرَة: ١٠٤] وَهُمْ لِقِلَّةِ جَدَارَتِهِمْ بِفَهْمِ الشَّرَائِعِ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ فِي الْأَمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ دُونَ بَيَانِ صِفَاتِهَا تَقْصِيرًا كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ كَالْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ فَجَعَلُوا يَسْتَوْصِفُونَهَا بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَاسْتَكْمَلُوا مُوسَى لَمَّا بَيَّنَ لَهُمُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا أَغْرَاضُ النَّاسِ فِي الْكَسْبِ لِلْبَقَرِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ فِي عِلْمِ النَّبِيءِ بِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَالًا فِيهِ، فَلِذَا مَدَحُوهُ بَعْدَ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمُ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْمُمْتَحِنُ لِلتِّلْمِيذِ بَعْدَ جَمْعِ صُوَرِ السُّؤَالِ: الْآنَ أَصَبْتَ الْجَوَابَ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ وَغَيْرِهِ فِي التَّشْرِيعِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُسلمُونَ أَن يقعلوا فِي فَهْمِ الدِّينِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ وَذُمُّوا لِأَجْلِهِ.
فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.
عَطَفَتِ الْفَاءُ جُمْلَةَ فَذَبَحُوها عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ فَوَجَدُوهَا أَوْ فَظَفِرُوا بِهَا أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ الِاقْتِصَارِيِّ، وَلَمَّا نَابَ الْمَعْطُوفُ فِي الْمَوْقِعِ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ صَحَّ أَنْ نَقُولَ الْفَاءُ فِيهِ لِلْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ فِيهَا فَاءٌ لِلْفَصِيحَةِ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ إِنَّ فَاءَ الْفَصِيحَةِ مَا أَفْصَحَتْ عَنْ مُقَدَّرٍ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِذِكْرِ حَالٍ مِنْ سُوءِ تَلَقِّيهِمُ الشَّرِيعَةَ، تَارَةً بِالْإِعْرَاضِ وَالتَّفْرِيطِ، وَتَارَةً بِكَثْرَةِ التَّوَقُّفِ وَالْإِفْرَاطِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأُصُولِ التَّفَقُّهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْأَخْذُ بِالْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي مَعْنَى التَّشْرِيعِ دُونَ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ ذَبَحُوا أَيَّةَ بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِمْ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوِ اعْتَرَضُوا أدنى بقرة فدبحوها لَكَفَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
وَفِي سَنَدِهِ عُبَادَةُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ
وَقَالَ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»
وَبَيَّنَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ مَا يَفْعَلُهُ فِي شَأْنِهَا
فَقَالَ
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِيلافِ بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهِيَ تَخْفِيفٌ للهمزة الثَّانِيَة. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «لِإِلَافٍ» الْأَوَّلَ بِحَذْفِ الْيَاءِ الَّتِي أَصْلُهَا هَمْزَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقَرَأَهُ إِيلافِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ مِثْلَ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «لِيلَافِ قُرَيْشٍ» بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ «إِلَافِهِمْ» بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَرَأَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي «لِإِأْلَافِ» وَفِي «إِأْلَافِهِمْ»، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّ تَحْقِيقَ الْهَمْزَتَيْنِ لَا وَجْهَ لَهُ.
قُلْتُ: لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي عَرَفْنَاهَا نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ عَاصِمًا مُوَافِقٌ لِلْجُمْهُورِ فِي جَعْلِ ثَانِيَةِ الْهَمْزَتَيْنِ يَاءً، فَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَقَدْ كُتِبَ فِي الْمُصحف «إلفهم» بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَأَمَّا الْأَلِفُ الْمَدَّةُ الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ فَلَمْ تُكْتَبْ فِي الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْمَدَّاتِ مِثْلِهَا، وَالْقِرَاءَاتُ رِوَايَاتٌ وَلَيْسَ خَطُّ الْمُصْحَفِ إِلَّا كالتذكرة للقارىء، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ سَنَّهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ عُيِّنُوا لِنَسْخِ الْمَصَاحِفِ وَإِضَافَةِ «إِيلَافِ» إِلَى قُرَيْشٍ عَلَى مَعْنَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِأَنَّهُ هُنَا أُطْلِقَ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ لِتِلْكَ الْعَادَةِ فَهِيَ إِضَافَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ.
وَقُرَيْشٌ: لَقَبُ الْجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُ بُطُونًا كَثِيرَةً وَهُوَ فِهْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ.
هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّسَّابِينَ وَمَا فَوْقَ فِهْرٍ فَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ، وَلُقِّبَ فِهْرٌ بِلَقَبِ قُرَيْشٍ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ تَصْغِيرُ قَرْشٍ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ) اسْمُ نَوْعٍ مِنَ الْحُوتِ قَوِيٌّ يَعْدُو عَلَى الْحِيتَانِ وَعَلَى السُّفُنِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّسَّابِينَ: إِنَّ قُرَيْشًا لَقَبُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سُئِلَ من قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ: مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ».
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا وَلَدَ النَّضِرِ بْنِ كنَانَة لَا نقفو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا»
. فَجَمِيعُ أَهْلِ مَكَّةَ هُمْ قُرَيْشٌ وَفِيهِمْ كَانَتْ مَنَاصِبُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُوَزَّعَةً بَيْنَهُمْ وَكَانَتْ بَنُو كِنَانَةَ بِخَيْفِ مِنًى. وَلَهُمْ مَنَاصِبُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ خَاصَّةً مِنْهَا النَّسِيءُ.
وَقَوْلُهُ: إِيلافِهِمْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ «إِيلَافِ قُرَيْشٍ» وَهُوَ مِنْ أُسْلُوبِ


الصفحة التالية
Icon