وَهَذَا الْمَذْهَبُ وُقُوفٌ مَعَ قِيَاسِ الْوَضْعِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ إِثْبَاتَ كَادَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي تَقْرِيرِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ نَفْيَهَا يَصِيرُ إِثْبَاتًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَعْرَابِ حَتَّى أَلْغَزَ فِيهِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ:

أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَة أَنْت فِي لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودَ
إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي صُورَةِ الْجَحْدِ أَثْبَتَتْ وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَقَدِ احْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ جَرَتْ فِي هَذَا نَادِرَةٌ أَدَبِيَّةٌ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَهِيَ أَنَّ عَنْبَسَةَ الْعَنْسِيَّ الشَّاعِرَ قَالَ: قَدِمَ ذُو الرُّمَّةِ الْكُوفَةَ فَوَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ بِالْكُنَاسَةِ (١) يُنْشِدُ قَصِيدَتَهُ الْحَائِيَّةَ الَّتِي أَوَّلُهَا:
أَمَنْزِلَتَيْ ميّ سَلام عَلَيْكُم عَلَى النَّأْيِ وَالنَّائِي يَوَدُّ وَيَنْصَحُ
حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ فِيهَا:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وَكَانَ فِي الْحَاضِرِينَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فَنَادَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ يَا غَيْلَانُ أَرَاهُ قَدْ بَرِحَ قَالَ: فَشَنَقَ نَاقَتَهُ وَجَعَلَ يَتَأَخَّرُ بِهَا وَيَتَفَكَّرُ ثُمَّ قَالَ: «لَمْ أَجِدْ» عِوَضَ «لَمْ يَكَدْ» قَالَ عَنْبَسَةُ: فَلَمَّا انْصَرَفْتُ حَدَّثْتُ أَبِي فَقَالَ لِي: أَخْطَأَ ابْنُ شُبْرُمَةَ حِينَ أَنْكَرَ عَلَى ذِي الرُّمَّةِ، وَأَخْطَأَ ذُو الرُّمَّةِ حِينَ غَيَّرَ شِعْرَهُ لِقَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: إِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النُّور: ٤٠] وَإِنَّمَا هُوَ لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ- مِنْهُمْ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي وَعَبْدُ الْقَاهِرِ وَابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» - إِلَى أَنَّ أَصْلَ كَادَ أَنْ يَكُونَ نَفْيُهَا لِنَفْيِ الْفِعْلِ بِالْأَوْلَى كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ إِلَّا أَنَّهَا قَدْ يُسْتَعْمَلُ نَفْيُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بَعْدَ بُطْءٍ وَجَهْدٍ وَبَعْدَ أَنْ كَانَ بَعِيدًا فِي الظَّنِّ أَنْ يَقَعَ وَأَشَارَ عَبْدُ الْقَاهِرِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ جَرَى فِي الْعُرْفِ وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ بِأَنْ تُشَبَّهَ حَالَةُ مَنْ فَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَ عَنَاءٍ بِحَالَةِ مَنْ بَعُدَ عَنِ الْفِعْلِ فَاسْتَعْمَلَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَى حَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي حَالَةِ الْمُشَبَّهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَجْعَلُونَ نَحْوَ قَوْلِهِ فَذَبَحُوها قَرِينَةً عَلَى هَذَا الْقَصْدِ.
قَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» :«وَتُنْفَى كَادَ إِعْلَامًاُُ
_________
(١) الكناسة: بِضَم الْكَاف أَصله اسْم لما يكنس، وَسمي بهَا ساحة بِالْكُوفَةِ مثل المربد بِالْبَصْرَةِ.
وَشَهْرُ بَشَنْسَ يَبْتَدِئ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ نِيسَانَ (أَبْرِيلَ) وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا يَنْتَهِي يَوْمَ ٢٥ مِنْ شَهْرِ (إِيَارَ- مَايُهْ).
وَطُلُوعُ الثُّرَيَّا عِنْدَ الْفَجْرِ وَهُوَ يَوْمُ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ بَشَنْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ. قَالَ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ: فَالصَّيْفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ نِصْفُ السَّنَةِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَالسَّنَةُ بِالتَّحْقِيقِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: الصَّيْفُ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ الرَّبِيعَ، وَيَلِيهِ الْقَيْظُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَيَلِيهِ الْخَرِيفُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَيَلِيهِ الشِّتَاءُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلِاصْطِلَاحَيْنِ. وَاصْطِلَاحُ عُلَمَاءَ الْمِيقَاتِ تَقْسِيمُ السَّنَةِ إِلَى رَبِيعٍ وَصَيْفٍ وَخَرِيفٍ وَشِتَاءٍ، وَمَبْدَأُ السَّنَةِ الرَّبِيعُ هُوَ دُخُولُ الشَّمْسِ فِي
بُرْجِ الْحَمَلِ، وَهَاتَانِ الرحلتان هما رحلتا تِجَارَةٍ وَمِيرَةٍ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَهِّزُهُمَا فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ مِنَ السَّنَةِ إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ ثُمَّ الْيَمَنِ يَبْلُغُونَ بِهَا بِلَادَ حِمْيَرَ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ يَبْلُغُونَ بِهَا مَدِينَةَ بُصْرَى مِنْ بِلَادِ الشَّامِ.
وَكَانَ الَّذِينَ سَنَّ لَهُمْ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنهم كَانُوا تعتريهم خَصَاصَةٌ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ أَهْلُ بَيْتٍ طَعَامًا لِقُوتِهِمْ حَمَلَ رَبُّ الْبَيْتِ عِيَالَهُ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خِبَاءً وَبَقُوا فِيهِ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا وَيُسَمَّى ذَلِكَ الِاعْتِفَارَ (بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ وَقِيلَ بِالدَّالِ عِوَضَ الرَّاءِ وَبِفَاءٍ) فَحَدَثَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَصَابَتْهُمْ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَهَمُّوا بِالِاعْتِفَارِ فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ هَاشِمًا لِأَنَّ أَحَدَ أَبْنَائِهِمْ كَانَ تِرْبًا لِأَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ، فَقَامَ هَاشِمٌ خَطِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَقَالَ: إِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ حَدَثًا تَقِلُّونَ فِيهِ وَتَكْثُرُ الْعَرَبُ وَتَذِلُّونَ وَتَعِزُّ الْعَرَبُ وَأَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَالنَّاسُ لَكُمْ تَبَعٌ وَيَكَادُ هَذَا الِاعْتِفَارُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ، ثُمَّ جَمَعَ كُلَّ بَنِي أَبٍ عَلَى رِحْلَتَيْنِ لِلتِّجَارَاتِ فَمَا رَبِحَ الْغَنِيُّ قَسَّمَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ مِنْ عَشِيرَتِهِ حَتَّى صَارَ فَقِيرُهُمْ كَغَنِيِّهِمْ، وَفِيهِ يَقُولُ مَطْرُودٌ الْخُزَاعِيُّ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ هَلَّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنَافِ
الْآخِذُونَ الْعَهْدَ مِنْ آفَاقِهَا وَالرَّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
وَالْخَالِطُونَ غَنِيَّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِيِِ