لَوْ كَانَ مُبْتَدَأً لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ (١) :«وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (٢) لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى تَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِرَاءَتَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَوْجِيهٌ يُخَالِفُ الْآخَرَ، كَقِرَاءَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمرَان: ٣٦] بِضَمِّ التَّاءِ أَوْ سُكُونِهَا».
وَأَنَا أَرَى أَنَّ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِهَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْآيَةِ غَالِبًا فَيَقُومُ تَعَدُّدُ الْقِرَاءَاتِ مَقَامَ تَعَدُّدِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَة أحرف فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»
اهـ.
وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ يَرْجِعُ إِلَى اعتبارين: أحد هما اعْتِبَارُ الْحَدِيثِ مَنْسُوخًا وَالْآخَرُ اعْتِبَارُهُ مُحْكَمًا.
فَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ، وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنِ وَهْبٍ قَالُوا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبَاحَ اللَّهُ للْعَرَب أَن يقرأوا الْقُرْآنَ بِلُغَاتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهَا الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَزَالَ الْعُذْرُ لِكَثْرَةِ الْحِفْظِ وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَامَتِ الرُّخْصَةُ مُدَّةَ حَيَاةِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِمَّا نُسِخَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ أَوْ بِوِصَايَةٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَبِنَهْيِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَقْرَأَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: ١٧٨]
_________
(١) «الْبَحْر» ٨/ ٢٢٦. [.....]
(٢) أَي أَبُو عَليّ.
وَكَأَنَّ مُرَاعَاةَ هَذَيْنِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ فِي كَلِمَةِ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي دَعَا الشَّيْخَ عَبَدَ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» إِلَى الْحُكْمِ بِحُسْنِ وَقْعِ كَلِمَةِ شَيْءٍ فِي بَيْتِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَبَيْتِ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ، وَبِقِلَّتِهَا وَتَضَاؤُلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

لَوِ الْفَلَكُ الدَّوَّارُ أَبْغَضْتَ سَعْيَهُ لَعَوَّقَهُ شَيْءٌ عَنِ الدَّوَرَانِ
لِأَنَّهَا فِي بَيْتِ أَبِي الطَّيِّبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعْنَى التَّقْلِيلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَلَا التَّنْوِيعِ لِقِلَّةِ جَدْوَى التَّنْوِيعِ هُنَا إِذْ لَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ مُعَوِّقَ الْفَلَكِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا.
وَالْمُرَادُ بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا مَعَانِيهَا الْمُتَبَادِرَةُ وَهِيَ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنِ الْقِلَّةِ وَتَأَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَأَمَّا الْجُوعُ فَكَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ قِلَّةِ الْأَزْوَادِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ مَا يَنْشَأُ عَنْ قِلَّةِ الْعِنَايَةِ بِنَخِيلِهِمْ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى الْغَزْوِ، وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ يَكُونُ بِقِلَّةِ الْوِلَادَةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ نِسَائِهِمْ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
شُعَبُ الْعِلَافِيَّاتِ بَيْنَ فُرُوجِهِمْ وَالْمُحْصَنَاتُ عَوَازِبُ الْأَطْهَارِ
وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى يَمْدَحُ هَوْذَةَ بْنَ عَلِيٍّ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ بِكَثْرَةِ غَزَوَاتِهِ:
أَفِي كُلِّ عَام أَنْت حاشم غَزْوَةٍ تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْمَجْدِ رِفْعَةٌ لِمَا ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نِسَائِك
وَكَذَلِكَ نَقْصُ الْأَنْفُسَ بِالِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا يُصِيبُهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ مَصَائِبَ تَرْجِعُ إِلَى هَاتِهِ الْأُمُورِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَمْوَالِ يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: ١٨٨] فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ [آل عمرَان: ١٠] فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧).
وَجُمْلَة: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، وَالْخطاب للرسول عَلَيْهِ
السَّلَام بِمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ مِمَّنْ شَمِلَهُ قَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ وَهُوَ عَطْفُ إِنْشَاءٍ عَلَى خبر وَلَا ضير فِيهِ عِنْدَ مَنْ تَحَقَّقَ أَسَالِيبَ الْعَرَبِ وَرَأَى فِي كَلَامِهِمْ كَثْرَةَ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَعَكْسِهِ.
وَالْأَمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ فَتَكُونَ الْآيَةُ فِي الْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، أَو للنَّدْب وَهِي فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أَوْ هُوَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الطَّلَبِ فَتَشْمَلُ الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، وَالْأَدِلَّةُ الْأُخْرَى تُبَيِّنُ حُكْمَ كُلٍّ. وَالْقَيْدُ بِالطَّيِّبَاتِ يُنَاسِبُ تَعْمِيمَ النَّفَقَاتِ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ خِيَارُ الْأَمْوَالِ، فَيُطْلَقُ الطَّيِّبُ عَلَى الْأَحْسَنِ فِي صِنْفِهِ. وَالْكَسْبُ مَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ بسعيه كالتجارة وَالْإِجَارَة وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّيْدِ. وَيُطْلَقُ الطَّيِّبُ عَلَى الْمَالِ الْمُكْتَسَبِ بِوَجْهٍ حَلَالٍ لَا يُخَالِطُهُ ظُلْمٌ وَلَا غِشٌّ، وَهُوَ الطَّيِّبُ عِنْدَ اللَّهِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ- وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طِيبًا- تَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ»
الْحَدِيثَ،
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»
. وَلَمْ يَذْكُرِ الطَّيِّبَاتِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ اكْتِفَاء عَنهُ بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَسِيمِهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالطَّيِّبَاتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرَجْنا لَكُمْ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ مِمَّا اكْتَسَبَهُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ بِالْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْخَبِيثَةَ تُحَصَّلُ غَالِبًا مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ أَوِ التَّحَيُّلِ عَلَيْهِمْ وَغِشِّهِمْ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الثَّمَرَاتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْأَرْضِ غَالِبًا.
وَالْمُرَادُ بِمَا أُخْرِجَ مِنَ الْأَرْضِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا يُعَالَجُ بِأَسْبَابِهِ كَالسَّقْيِ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ بِمَا أَوْجَدَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَدَّ الْمَعَادِنَ دَاخِلَةً فِي مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَتَجِبُ عَلَى الْمَعْدِنِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا بَلَغَ مِقْدَارَ النِّصَابِ، وَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ. وَهُوَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ الْخُمُسُ. وَبَعْضُهُمْ عَدَّ الرِّكَازَ دَاخِلًا فِيمَا
أُخْرِجَ مِنَ الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَأُلْحِقَ فِي الْحُكْمِ بِالْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. ولعلّ المُرَاد بِمَا كَسَبْتُمُ الْأَمْوَالُ الْمُزَكَّاةُ مِنَ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ، وَبِالْمُخْرَجِ مِنَ الْأَرْضِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ الْمُزَكَّاةُ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أَصْلُ تَيَمَّمُوا تَتَيَمَّمُوا، حُذِفَتْ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ فِي الْمُضَارِعِ وَتَيَمَّمَ بِمَعْنَى قَصَدَ وَعَمَدَ.
وَالْخَبِيثُ الشَّدِيدُ سُوءًا فِي صِنْفِهِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرَامِ وَعَلَى الْمُسْتَقْذَرِ قَالَ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: ١٥٧] وَهُوَ الضِّدُّ الْأَقْصَى لِلطَّيِّبِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّدِيءِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَوُقُوعُ لَفْظِهِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الْحَبَلُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَهْدِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٦] وَعَهْدُ اللَّهِ ذِمَّتُهُ، وَعَهْدُ النَّاسِ حِلْفُهُمْ، وَنَصْرُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَحْوَالٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ الَّتِي لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ مُتَلَبِّسِينَ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبُوا بِذِلَّةٍ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الذِّلَّةِ إِلَّا إِذَا تَلَبَّسُوا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِقَبَائِلَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَمَّا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ فَلَا نَصْرَ لَهُمْ. وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا أعزّة بيشرب وَخَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، فَأَصْبَحُوا أَذِلَّةً، وَعَمَّتْهُمُ الْمَذَلَّةُ فِي سَائِرِ أقطار الدُّنْيَا.
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا وَهُوَ مَجَازٌ لِمَعْنَى صَارُوا إِذْ لَا رُجُوعَ هُنَا.
وَالْمَسْكَنَةُ الْفَقْرُ الشَّدِيدُ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْمِسْكِينِ وَهُوَ الْفَقِيرُ، وَلَعَلَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ السُّكُونِ وَهُوَ سُكُونٌ خَيَالِيٌّ أُطْلِقَ عَلَى قِلَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْعَيْشِ. وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ تقديرها لَهُم وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمُغَيَّبٍ لِأَنَّ الْيَهُودَ الْمُخْبِرَ عَنْهُمْ قَدْ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ حِينَ أُخِذَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ، ثُمَّ بِإِجْلَائِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زمن عمر.
مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
الْإِشَارَةُ إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. وَمَعْنَى يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٢١] أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْمُضَاعَفَةُ إِضَافَةُ الضّعف- بِكَسْر الصَّاد- أَيِ الْمَثَلِ، يُقَالُ: ضَاعَفَ وَضَعَّفَ وَأَضْعَفَ، وَهِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيق عِنْد أئمّة اللُّغَةِ، مِثْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَاعَفَ يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفٍ وَاحِدٍ وضعّف يَقْتَضِي ضِعْفَيْنِ. وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠]. وَأَمَّا دَلَالَةُ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ عَلَى مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَرَائِنِ لِحِكْمَةِ الصِّيغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعِفْها، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: يُضاعِفْها- بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ-.
وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ مَا يُزَادُ عَلَى الضِّعْفِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ: مِنْ لَدُنْهُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَسَمَّاهُ أَجْرًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثَوَاب الْهِجْرَة.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تَدُلُّ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: ٣٧] وَقَوْلِهِ: فَساءَ قَرِيناً [النِّسَاء: ٣٨] وَعَنِ التَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: وَماذا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: ٣٩] وَعَنِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: ٤٠] الْآيَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا أَيْقَنْتَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ حَالُ كُلِّ أُولَئِكَ إِذَا جَاءَ الشُّهَدَاءُ وَظَهَرَ مُوجَبُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وعَلى الْعَمَل السيّء، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ ضَمِيرُ (بِكَ) إِضْمَارًا فِي مَقَامِ الْإِظْهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النِّسَاء: ٤٠]، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالٌ عَنْ حَالِ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فَالنَّاسُ بَيْنَ مُسْتَبْشِرٍ وَمُتَحَسِّرٍ، وَعَلَى هَذَا فَضَمِيرُ بِكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَيَقْتَضِيَ أَنْ يُقَالَ: وَجِئْنَا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِزِّ الْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ جَرَّهُمُ الْغُلُوُّ فِي تَقْدِيسِ الْمَسِيحِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ صَارَ نَاسُوتُهُ لَاهُوتًا، بِاتِّحَادِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْمَسِيحُ جَوْهَرَانِ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَشَأَتْ فِيهِمْ عَقِيدَةُ الْحُلُولِ، أَيْ حُلُولِ اللَّهِ فِي الْمَسِيحِ بِعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، ثُمَّ اعْتَقَدُوا اتِّحَادَ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ. هَذَا أَصْلُ التَّثْلِيثِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتْ مَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ أَشَارَ إِلَى جَمِيعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ- وَقَوْلُهُ- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: ٧٢] وَقَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَكَانُوا يَقُولُونَ: فِي عِيسَى لَاهُوتِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَنَاسُوتِيَّةٌ- أَيْ إِنْسَانِيَّةٌ- مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ.
وَظَهَرَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ رَاهِبٌ اسْمه (آريوس) قَالُوا بِالتَّوْحِيدِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَكَانَ فِي زَمَنِ (قسطنطينوس سُلْطَان الرّون بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ). فَلَمَّا تَدَيَّنَ قُسْطَنْطِينُوسُ الْمَذْكُورُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ سَنَةَ ٣٢٧ تَبِعَ مَقَالَةَ (آرِيُوسَ)، ثُمَّ رَأَى مُخَالَفَةَ مُعْظَمِ الرُّهْبَانِ لَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ، فَجَمَعَ مَجْمَعًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ، وَكَانَ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ نَحْوُ أَلْفَيْ عَالٍمٍ مِنَ النَّصَارَى فَوَجَدَهُمْ مُخْتَلِفِينَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَوَجَدَ أَكْثَرَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَالِمًا فَأَخَذَ قَوْلَهُمْ وَجَعَلَهُ أَصْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَنَصَرَهُ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُلَقَّبُ (الْمَلْكَانِيَّةُ) نِسْبَةً لِلْمَلِكِ.
وَاتَّفَقَ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ عِيسَى، وَتَقَمَّصَتْ فِي نَاسُوتِهِ، أَيْ إِنْسَانِيَّتِهِ، وَمَازَجَتْهُ امْتِزَاجَ الْخَمْرِ بِالْمَاءِ، فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ ذَاتًا فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَصَارَتْ تِلْكَ الذَّاتُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْإِلَهُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ الْأَبُ ذُو الْوُجُودِ، وَالثَّانِي الِابْنُ ذُو الْكَلِمَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، وَالثَّالِثُ رُوحُ الْقُدُسِ.
وَصْفَ مَدْحٍ، وَيَكُونُ تَجَنُّبُهُ لِلتَّنَزُّهِ عَنْهُ فَيَكُونُ وَصْفَ ذَمٍّ، كَمَا تَقُولُ:
الْخَمْرُ حَرَامٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قِياماً- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْيَاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ قِيَمًا- بِدُونِ ألف بعد الْيَاء-.
وَالْقِيَامُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَامَ إِذَا اسْتَقَلَّ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيُسْتَعَارُ لِلنَّشَاطِ، وَيُسْتَعَارُ مِنْ ذَلِكَ لِلتَّدْبِيرِ وَالْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ شَأْنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا مُهِمًّا أَنْ يَنْهَضَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣]. وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قِيلَ لِلنَّاظِرِ فِي أُمُورِ شَيْءٍ وَتَدْبِيرِهِ: هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ أَوْ قَائِمٌ عَلَيْهِ، فَالْقِيَامُ هُنَا بِمَعْنَى الصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ قِيَمًا فَهُوَ مَصْدَرُ (قَامَ) عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ- بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ- مِثْلُ شِبَعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَإِنَّمَا أُعِلَّتْ وَاوُهُ فَصَارَتْ يَاءً لِشِدَّةِ مُنَاسَبَةِ الْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ. وَهَذَا الْقَلْبُ نَادِرٌ فِي الْمَصَادِرِ الَّتِي عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ مِنَ الْوَاوِيِّ الْعَيْنِ. وَإِثْبَاتُهُ لِلْكَعْبَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا فِي أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ سَابِقَةٍ كَانَ بِهَا صَلَاحُ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَقَامَتْ بِهَا مَصَالِحُهُمْ، جُعِلَتِ الْكَعْبَةُ هِيَ الْقَائِمَةُ لَهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْقِيَامِ لَهُمْ.
وَالنَّاسُ هُنَا نَاسٌ مَعْهُودُونَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْكَعْبَةِ وَشَعَائِرِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ. وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ مَنَافِعِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فَذَلِكَ تَبَعٌ لِوُجُودِ السُّكَّانِ لَا لِكَوْنِ الْبَيْتِ حَرَامًا، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ التَّسَبُّبُ الْبَعِيدُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا حُرْمَةُ الْكَعْبَةِ وَحُرْمَةُ الْأَشْهُرِ فِي الْحَجِّ لَسَادَ الْخَوْفُ فِي تِلْكَ الرُّبُوعِ فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْأُمَمُ التِّجَارَةَ هُنَالِكَ.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِيَامًا لِلنَّاسِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يُنْزِلَ فِي مَكَّةَ زَوْجَهُ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَأَرَادَ أَنْ تَكُونَ نَشْأَةُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ (وَهُمْ ذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ) فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِيَنْشَأُوا أُمَّةً أَصِيلَةَ الْآرَاءِ عَزِيزَةَ النُّفُوسِ ثَابِتَةَ الْقُلُوبِ، لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنْ
لِلْإِتْيَانِ بالموصول حتّى يوميء إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ صَغَارٌ وَعَذَابٌ لِإِجْرَامِهِمْ.
وَالصَّغَارُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- الذُّلُّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصِّغَرِ، وَهُوَ الْقَمَاءَةُ وَنُقْصَانُ الشَّيْءِ عَنْ مِقْدَارِ أَمْثَالِهِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ ذُلًّا وَعَذَابًا: لِيُنَاسِبَ كِبْرَهُمْ وَعُتُوَّهُمْ وَعِصْيَانَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى.
وَالصَّغَارُ وَالْعَذَابُ يَحْصُلَانِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْهَزِيمَةِ وَزَوَالِ السِّيَادَةِ وَعَذَابِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ
وَالْخَوْفِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التَّوْبَة: ٥٢] وَقَدْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ، فَهَلَكَتْ سَادَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِهَانَتِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَعَذَابِهِمْ فِي جَهَنَّمَ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ صَغَارٌ مُقَدَّرٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ صَغَارٌ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْصُلُ أَثَرُهُ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهُ تَكْوِينٌ لَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَحَبَّهُ ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَأَحَبُّوهُ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ»
، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا إِلَى جَعْلِ الْعِنْدِيَّةِ بِمَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْبَاءُ فِي: بِما كانُوا يَمْكُرُونَ سَبَبِيَّةٌ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ، أَيْ فِعْلِهِمُ الْمَكْرَ، أَوْ مَوْصُولَةٌ: أَيْ بِسَبَبِ الَّذِي كَانُوا يَمْكُرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكْرِ الِاسْمُ، فَيُقَدَّرُ عَائِدٌ مَنْصُوبٌ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْذُوف.
وَالْمُرَادُ بِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الظُّلْمِ: إِمَّا لِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِلْقَائِهَا فِي الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ، وَإِمَّا لِاعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْعِصْيَانَ ظُلْمٌ لِحَقِّ الرَّبِّ الْوَاجِب طَاعَته.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
كَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ بِقُرْبِ نَهْيِ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقُرْبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قُرْبٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ.
وَالْوَسْوَسَةُ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ إِلَّا الْمُدَانِي لِلْمُتَكَلِّمِ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صَائِدًا:
وَسْوَسَ يَدْعُو جَاهِدًا رَبَّ الْفَلَقْ سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعُقُقْ
وَسُمِّيَ إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَةً: لِأَنَّهُ أَلْقَى إِلَيْهِمَا تَسْوِيلًا خَفِيًّا مِنْ كَلَامٍ كَلَّمَهُمَا أَوِ انْفِعَالٍ فِي أَنْفُسِهِمَا. كَهَيْئَةِ الْغَاشِّ الْمَاكِرِ إِذْ يُخْفِي كَلَامًا عَنِ الْحَاضِرِينَ كَيْلَا يُفْسِدُوا عَلَيْهِ غِشَّهُ بِفَضْحِ مَضَارِّهِ فَأَلْقَى لَهُمَا كَلَامًا فِي صُورَةِ التَّخَافُتِ لِيُوهِمَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا وَأَنَّهُ يُخَافِتُ الْكَلَامَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى التَّعْبِيرُ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ بِالْقَوْلِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: ١٢٠] ثُمَّ دَرَجَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَسْمِيَةِ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ خَوَاطِرَ
تَعْرِفُ لَنَا سَبَبًا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَالنَّقْمُ: بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا، الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَرَاهَةُ صُدُورِهِ وَحِقْدٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَمَلِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَتَعِبَ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَلِذَلِكَ قَرَأَهُ الْجَمِيعُ وَما تَنْقِمُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْقِمُهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ، وَهِيَ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِهِمْ فِرْعَوْنَ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً اجْعَلْ لَنَا طَاقَةً لِتَحَمُّلِ مَا تَوَعَّدَنَا بِهِ فِرْعَوْنُ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ مِمَّا لَا تُطِيقُهُ النُّفُوسُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِنُفُوسِهِمْ صَبْرًا قَوِيًّا، يفوق الْمُتَعَارف، فشه الصَّبْرُ بِمَاءٍ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَشُبِّهَ خَلْقُهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِإِفْرَاغِ الْمَاءِ مِنَ الْإِنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاغَ صَبُّ جَمِيعِ مَا فِي الْإِنَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ إِفْرَاغَ الْإِناءِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا حَوَاهُ، فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَكْنِيَّةٍ وَتَخْيِيلِيَّةٍ وَكِنَايَةٍ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٠].
وَدَعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي الْحَيَاةِ، وَلَا مُبَالِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ هِمَّتَهُمْ لَا تَرْجُو إِلَّا النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْفَوْزَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدِ انْخَذَلَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَذَهَبَ وَعِيدُهُ بَاطِلًا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُمْ فَنَجَّاهُمْ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا كَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا، وَلَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَلَا فِي سُورَةِ طَهَ، لِلْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ لِأَنَّ غَرَضَ الْقَصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِمَحَلِّ الْعِبْرَةِ وَهُوَ تَأْيِيدُ اللَّهِ مُوسَى وَهِدَايَةُ السَّحَرَةِ وَتَصَلُبُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ بَعْدَ تَعَرُّضِهِمْ لِلْوَعِيدِ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
رِبَاطًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْرُسُونَ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ رَاكِبِينَ عَلَى أَفْرَاسِهِمْ، كَمَا وَصَفَ ذَلِكَ لَبِيدٌ فِي قَوْلِهِ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمُلُ شِكَّتِي فُرُطٌ وِشَاحِيَ إِنْ رَكَبْتُ زِمَامُهَا
إِلَى أَنْ قَالَ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دُونَهَا جُرَّامُهَا
ثُمَّ أُطْلِقَ الرِّبَاطُ عَلَى مَحْرَسِ الثَّغْرِ الْبَحْرِيِّ، وَبِهِ سَمَّوْا رِبَاطَ (دِمْيَاطَ) بِمِصْرَ، وَرِبَاطَ (الْمُنَسْتِيرِ) بِتُونُسَ، وَرِبَاطَ (سَلَا) بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠٠].
وَجُمْلَةُ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، نَاشِئًا عَنْ تَخْصِيصِ الرِّبَاطِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعُمُّهُ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَأَعِدُّوا.
وَعَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّهُمْ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَكَانَ تَعْرِيفُهُمْ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِتَعْرِيفِهِمْ، وَلِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ وَجْهِ قِتَالِهِمْ وَإِرْهَابِهِمْ، وَمِنْ ذَمِّهِمْ، أَنْ كَانُوا أَعْدَاءَ رَبِّهِمْ، وَمِنْ تَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذْ عُدُّوا أَعْدَاءً لَهُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ تَوْحِيدِهِ وَهُمْ أَعْدَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ صَارَحُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاءُ دِينِ اللَّهِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ وَأَنْصَارُهُ، فَعَطْفُ وَعَدُوَّكُمْ عَلَى عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ عَطْفِ صِفَةِ مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ
وَالْإِرْهَابُ جَعْلُ الْغَيْرِ رَاهِبًا، أَيْ خَائِفًا، فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِذَا عَلِمَ اسْتِعْدَادَ عَدُوِّهِ لِقِتَالِهِ خَافَهُ، وَلَمْ يَجْرَأْ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ هَنَاءً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَمْنًا مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ،
وَالرَّغْبَةُ تُعَدَّى بِحَرْفِ (فِي) فَتُفِيدُ مَعْنَى مَوَدَّةِ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ وَالْحِرْصِ فِيهِ، وَتُعِدِّيَ بِحَرْفِ (عَنْ) فَتُفِيدُ مَعْنَى الْمُجَافَاةِ لِلشَّيْءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: ١٣٠] وَهِيَ هُنَا مُعَدَّاةٌ بِ (عَنْ). أُرِيدَ بِرَغْبَتِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ مَحَبَّتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَحِرْصُهُمْ عَلَى سَلَامَتِهَا دُونَ الْحِرْصِ عَلَى سَلَامَةِ نَفْسِ الرَّسُولِ، فَكَأَنَّهُمْ رَغِبُوا عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ مُلَابِسِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ مُحْتَفِظِينَ بِهَا لِأَنَّهُمْ بِمِقْدَارِ مَنْ يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ يَزْدَادُ تَعَرُّضُ نَفْسِ الرَّسُولِ مِنَ التَّلَفِ قُرْبًا، فَتَخَلُّفُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ عَوْنٌ عَلَى تَقْرِيبِ نَفْسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّلَفِ فَلِذَلِكَ اسْتُعِيرَ لِهَذَا التَّخَلُّفِ لَفْظُ الرَّغْبَةِ عَنْهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنْفُسِهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. نَزَلَ الضَّنُّ بِالْأَنْفُسِ وَالْحَذَرُ مِنْ هَلَاكِهَا بِالتَّلَبُّسِ بِهَا فِي شِدَّةِ التَّمَكُّنِ فَاسْتُعْمِلَ لَهُ حرف بَاء الملابسة. وَهَذِهِ مُلَابَسَةٌ خَاصَّةٌ وَإِنْ كَانَتِ النُّفُوسُ فِي كُلِّ حَالٍ مُتَلَبَّسًا بِهَا. وَهَذَا تَرْكِيبٌ بَدِيعُ الْإِيجَازِ بَالِغُ الْإِعْجَازِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«أُمِرُوا أَنْ يُلَقُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ مَا تَلْقَاهُ نَفْسُهُ عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْلٍ وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ» اه. وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَهْيِيجٌ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى نَفْيِ كَوْنِ التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ ثَابِتًا لَهُمْ، أَيْ أَنَّ مَا يَنَالُونَهُ مِنْ فَضْلٍ وَثَوَابٍ وَأَجْرٍ عَظِيمٍ يَقْضِي بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَالْمَخْمَصَةُ:
الْجُوعُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ بِالْأَرْجُلِ. وَالْمَوْطِئُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلْوَطْءِ. وَالْوَطْءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الدَّوْسُ بِحَوَافِرِ الْخَيْلِ وَأَخْفَافِ الْإِبِلِ وَأَرْجُلِ الْغُزَاةِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَغِيظُ الْعَدُوَّ وَيُغْضِبُهُ لِأَنَّهُ يَأْنَفُ مِنْ وَطْءِ أَرْضِهِ بِالْجَيْشِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ هُنَا مُسْتَعَارًا لِإِذْلَالِ الْعَدُوِّ وَغَلَبَتِهِ وَإِبَادَتِهِ، كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الذُّهْلِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
حَضَرُوا مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ أَحَدُهُمْ، وَاسْتَحْيَا أَحَدُهُمْ، وَأَعْرَضَ الثَّالِثُ «أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»
. وَتَأْكِيدُ الَخَبَرِ بِ (إِنَّ) إِنْ كَانَ اللِّقَاءُ حَقِيقَةً لِرَدِّ إِنْكَارِ قَوْمِهِ الْبَعْثَ، وَإِنْ كَانَ اللِّقَاءُ مَجَازًا فَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ اللِّقَاءِ. وَقَدْ زِيدَ هَذَا التَّأْكِيدُ تَأْكِيدًا بِجُمْلَةِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.
وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ ضِدُّ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ جملَة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أَيْ لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ فَتَحْسَبُونَهُمْ لَا حَضْرَةَ لَهُمْ وَأَنْ لَا تَبِعَةَ فِي طَرْدِهِمْ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَجْهَلُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ تَجْهَلُونَ ذَلِكَ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: قَوْماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَهْلَهُمْ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُمْ كَأَنَّهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
[٣٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٠]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
إِعَادَةُ وَيا قَوْمِ مِثْلُ إِعَادَتِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالنَّصْرُ: إِعَانَةُ الْمُقَاوِمِ لِضِدٍّ أَوْ عَدُوٍّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ فَعُدِّيَ بِ (مِنْ) أَيْ مَنْ يُخَلِّصُنِي، أَيْ يُنْجِينِي مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عِقَابِهِ، لِأَنَّ طَرْدَهُمْ إِهَانَةٌ تُؤْذِيهِمْ بِلَا مُوجِبٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ إِهَانَةَ أَوْلِيَائِهِ.
وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَى قَوْمِهِ فِي إِهْمَالِهِمُ التَّذَكُّرِ، أَيِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَالْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ-.
التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ: أَنْ لَا يَقُولَ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الْمُخَاطَبِ بِهِ اللَّهُ صَرَاحَةً. وَجُمْلَةُ إِنْ شاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ادْخُلُوا وَالْحَالِ مِنْ ضَمِيرِهَا.
وَالْعَرْشُ: سَرِيرٌ لِلْقُعُودِ فَيَكُونُ مُرْتَفِعًا عَلَى سُوقٍ، وَفِيهِ سَعَةٌ تُمَكِّنُ الْجَالِسَ مِنَ الِاتِّكَاءِ. وَالسُّجُودُ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ تَعْظِيمًا لِلذَّاتِ أَوْ لِصُورَتِهَا أَوْ لِذِكْرِهَا، قَالَ الْأَعْشَى:
فَلَمَّا أَتَانَا بُعَيْدَ الْكَرَى سَجَدْنَا لَهُ ورفعنا الْعمار (١)
وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ فَيُعَدَّى إِلَى مَفْعُولِهِ بِاللَّامِ كَمَا فِي الْآيَةِ.
وَالْخُرُورُ: الْهُوِيُّ وَالسُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالَّذِينَ خَرُّوا سُجَّدًا هُمْ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ وَهُمْ أَحَدَ عشر وهم: رأوبين، وشمعون، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَيَسَاكِرُ، وَرِبُولُونُ، وَجَادٌ، وَأَشِيرُ،
وَدَانِ، وَنَفْتَالِي، وَبِنْيَامِينُ. والشَّمْسَ، والْقَمَرَ، تَعْبِيرُهُمَا أَبَوَاهُ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَرَاحِيلُ.
وَكَانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ الْمُلُوكِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مَمْنُوعًا فِي الشَّرَائِعِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى مُسَاوَاةِ النَّاسِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ. وَلِذَلِكَ فَلَا يُعَدُّ قَبُولُهُ السُّجُودَ مِنْ أَبِيهِ عُقُوقًا لِأَنَّهُ لَا غَضَاضَةَ عَلَيْهِمَا مِنْهُ إِذْ هُوَ عَادَتُهُمْ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَخَرُّوا حَالِيَّةً لِأَنَّ التَّحِيَّةَ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا.
وسُجَّداً حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْخُرُورَ يَقَعُ بِكَيْفِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ.
_________
(١) الْعمار- بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم- هُوَ الريحان أَو الآس كَانُوا يحملونه عِنْد تَحِيَّة الْمُلُوك قَالَ النَّابِغَة:
يحيون بالريحان يَوْم السباسب
الْمُسْلِمِينَ، وَالشِّدَّةُ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ. كَمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً
. فَقَالَ جَاهِلٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْهَمَذَانِيُّ: كَلَّا، اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: «فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا أُمَّ لَكَ بِفِيكَ التُّرَابُ»
. وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ. وَهُوَ مُحَمَلٌ كَالْكُرْسِيِّ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُ الِاضْطِجَاعُ عَلَيْهِ.
وَالِاتِّكَاءُ: مَجْلِسُ أَصْحَابِ الدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ لِتَمَكُّنِ الْجَالِسِ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَلُّبِ كَيْفَ شَاءَ حَتَّى إِذَا مَلَّ جِلْسَةً انْقَلَبَ لِغَيْرِهَا.
وَالتَّقَابُلُ: كَوْنُ الْوَاحِدِ قُبَالَةَ غَيْرِهِ، وَهُوَ أُدْخِلَ فِي التَّأَنُّسِ بِالرُّؤْيَةِ وَالْمُحَادَثَةِ.
وَالْمَسُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ.
وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ النَّاشِئُ عَنِ اسْتِعْمَال الْجهد.
[٤٩، ٥٠]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
هَذَا تَصْدِيرٌ لِذِكْرِ الْقَصَصِ الَّتِي أُرِيدَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَا الْمَوْعِظَةُ بِمَا حَلَّ بِأَهْلِهَا، وَهِيَ قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَقِصَّةُ ثَمُودَ.
وَابْتُدِئَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيم- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِمَا فِيهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَقْتَفُوا آثَارَهُ فِي التَّوْحِيدِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [سُورَة الْحجر: ٤].

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ١٧]

وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
ضُرِبَ مِثَالٌ لِإِهْلَاكِ الْقُرَى الَّذِي وُصِفَ سَبَبُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِتَمْثِيلِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي الْكَشْفِ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْذِيرِ الْمَقْصُودِ. وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْقُرَى مُقَدَّمًا بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، ثُمَّ بِتَوْجِيهِ الْأَوَامِرِ إِلَى الْمُتْرَفِينَ ثُمَّ فِسْقِهِمْ عَنْهَا وَكَانَ زُعَمَاءُ الْكَفَرَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ مُتْرَفِينَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: ٢٧] وَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: ٣١].
فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا كَالْفَرْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ إِظْهَارًا لِاسْتِقْلَالِهَا بِوَقْعِ التَّحْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَكَانَ ذَلِك تخريجا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ.
وَ (كَمْ) فِي الْأَصْلِ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْعَدَدِ، وَتُسْتَعْمَلُ خَبَرِيَّةً دَالَّةً عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ تَحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ لِنَوْعِ الْعَدَدِ، وَهِيَ هُنَا خَبَرِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا الْتُزِمَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا لِكَوْنِ أَصْلِهَا الِاسْتِفْهَامَ وَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. ومِنَ الْقُرُونِ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ (كَمْ).
وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ يُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَبِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَمَا هُنَا.
وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»
، أَرَادَ أَهْلَ قَرْنِي، أَيْ أَهْلَ الْقَرْنِ الَّذِي أَنَا فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: ٣٨].
الْحُسْنَى» الْمُتَوَفَّى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ الَّذِي دَخَلَ تُونُسَ عَامَ ١١٨٥ هـ فِي مُقَدِّمَاتِ كِتَابِهِ «مَعَارِجِ النُّورِ» وَفِي رِسَالَةٍ لَهُ سَمَّاهَا «رِسَالَةَ الْفَتْقِ وَالرَّتْقِ».
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعَانِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كل النَّاس وكل عِبْرَةٍ خَاصَّةٍ بِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ فَتَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ لِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ. وَهُوَ عِبْرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي دَقَائِقِهِ فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ. وَهِيَ تَكْوِينُ التَّنَاسُلِ وَتَكْوِينُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا مِنَ الرُّطُوبَةِ وَلَا يَعِيشُ إِلَّا مُلَابِسًا لَهَا فَإِذَا انْعَدَمَتْ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ فَقَدَ الْحَيَاةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْحُمَّى مُفْضِيًا إِلَى الْهُزَالِ ثُمَّ إِلَى الْمَوْتِ.
وَجعل هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
ومِنَ الْماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ أَفَلا يُؤْمِنُونَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِيمَانِهِمُ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بوحدانية الله.
الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ الضَّمِيرِ عَطْفَ بَيَانٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» الْمِصْرَاعَ الْأَوَّلِ وَأَثْبَتَهُ الطِّيبِيُّ كَامِلًا:
هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ وَلِلدَّهْرِ أَيَّامٌ تَجُورُ وَتَعْدِلُ
وَقَوْلُ أبي الْعَلَاء [المعري] :
هُوَ الْهَجْرُ حَتَّى مَا يُلَمَّ خَيَالٌ وَبَعْضُ صُدُودِ الزَّائِرِينَ وِصَالُ
وَمُبَيِّنُ الضَّمِيرِ هُنَا قَوْلُهُ إِلَّا حَياتُنَا فَيَكُونُ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ (إِلَّا) عَطْفَ بَيَانٍ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ حَيَاتُنَا إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وَوَصْفُهَا بِالدُّنْيَا وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى الْبَيَانِ فَلَا يُقَدَّرُ مِثْلُهُ فِي الْمُبَيَّنِ.
وَلَيْسَ هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْمَقَامِ لَهُ. وَلِأَنَّهُ فِي الْآيَةِ مُفَسَّرٌ بِالْمُفْرَدِ لَا بِالْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ فِي بَيْتِ أَبِي الْعَلَاءِ.
وَلِأَنَّ دُخُولَ (لَا) النَّافِيَةِ عَلَيْهِ يَأْبَى مِنْ جَعْلِهِ ضَمِيرَ شَأْنٍ إِذْ لَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ: لَا قِصَّةَ إِلَّا حَيَاتُنَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ (لَا) النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْمِ جِنْسٍ لِتَبْيِينِهِ بِاسْمِ الْجِنْسِ وَهُوَ حَياتُنَا. فَالْمَعْنَى لَيْسَتِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا هَذِهِ، أَيْ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا.
وَالدُّنْيَا: مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، أَيِ الْقَرِيبَةُ بِمَعْنَى الْحَاضِرَةُ.
وَضَمِيرُ حَياتُنَا مُرَادٌ بِهِ جَمِيعَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُهُمْ. فَقَوْلُهُمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا مَعْنَاهُ: يَمُوتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَيَحْيَا قَوْمٌ بَعْدَهُمْ. وَمَعْنَى نَحْيا: نُولَدُ، أَيْ يَمُوتُ مَنْ يَمُوتُ وَيُولَدُ مَنْ يُولَدُ، أَوِ الْمُرَادُ: يَمُوتُ مَنْ يَمُوتُ فَلَا يَرْجِعُ وَيَحْيَا مَنْ لَمْ يَمُتْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَالْوَاوُ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا بَيْنَ مَعْطُوفِهَا وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَعَقَّبُوهُ بِالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ:
وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أَيْ لَا نَحْيَا حَيَاةً بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ نَمُوتُ وَنَحْيا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى إِثْبَاتِ حَيَاةٍ عَاجِلَةٍ وَمَوْتٍ، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مُفِيدٌ لِلِانْحِصَارِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ:
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. وَأَفَادَ صَوْغُ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَقْوِيَةَ مَدْلُولِهِ وَتَحْقِيقَهُ.
مَوْضِعِ الْوَصْفِ فَالْأَكْثَرُ حِينَئِذٍ أَنْ يُخَصَّ بِقَرِيبِ زَوْجِ الرَّجُلِ، وَأَمَا قَرِيبُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ خَتَنٌ لَهَا أَوْ حَمٌ. وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ آصِرَةِ صِهْرٍ وَلَوْ بَعِيدًا. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَا فِي هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ مِنْ دَقَائِقِ نِظَامِ إِيجَادٍ طَبِيعِيٍّ وَاجْتِمَاعِيٍّ بِقَوْلِهِ: وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً، أَيْ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ إِذْ أَوْجَدَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ خَلْقًا عَظِيمًا صَاحِبَ عَقْلٍ وَتَفْكِيرٍ فَاخْتُصَّ بِاتِّصَالِ أَوَاصِرِ النَّسَبِ وَأَوَاصِرِ الصِّهْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلَ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِتَكْوِينِ الْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَتَعَاوُنِهِمْ مِمَّا جَاءَ بِهَذِهِ الْحَضَارَةِ الْمُرْتَقِيَةِ مَعَ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: ١٣].
وَفِي تَرْكِيبِ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً مِنْ دَقِيقِ الْإِيذَانِ بِأَنَّ قُدْرَتَهُ رَاسِخَةٌ وَاجِبَةٌ لَهُ مُتَّصِفٌ بِهَا فِي الْأَزَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ كانَ، وَمَا فِي صِيغَةِ «قَدِيرٍ» مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْقُدْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تَمَامَ الْإِرَادَة وَالْعلم.
[٥٥]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ فِي الشِّرْكِ، أَعْقَبَ ذِكْرَ مَا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ مِنْ إِلْطَافِهِ بِهِمْ فِي تَصَارِيفِ الْكَائِنَاتِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْمَاءَ فَأَنْبَتَ بِهِ الزَّرْعَ وَسَقَى بِهِ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ، مَعَ مَا قَارَنَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ بِذِكْرِ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَنْفَعُ النَّاسَ عَوْدًا إِلَى حِكَايَةِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ.
وَنَفْيُ الضُّرِّ بَعْدَ نَفْيِ النَّفْعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى انْتِفَاءِ شُبْهَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فِي شِرْكِهِمْ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِبَادَةِ إِمَّا رَجَاءُ النَّفْعِ وَإِمَّا اتِّقَاءُ ضُرِّ الْمَعْبُودِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الْأَصْنَامِ بِالْمُشَاهَدَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَعَدَمِ إِجْدَاءِ الدَّلَائِلِ الْمُقْلَعَةِ عَنْهَا فِي جَانِبِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَاللَّامُ فِي تَعْرِيفِ الْكافِرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلُّ كَافِرٍ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ.
وَقَدْ أُدْمِجَ فِي خِلَالِ هَذَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ مَكَّةَ وَتَعْرِيضًا بِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالَّذِي أَسْكَنَهُمْ بِهَا وَحَرَّمَهَا فَانْتَفَعُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَأَشْعَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ فَكَاشَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ مِنْ خَوَاطِرِ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [النَّمْل: ٧٤].
فَلِهَذِهِ النُّكَتِ أَجْرَى عَلَى اللَّهِ صِلَةَ حَرَّمَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ لِلْبَلْدَةِ فَلِذَا لَمْ يَقُلْ: الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الصِّلَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِضَلَالِهِمْ إِذْ عَبَدُوا أَصْنَامًا لَا تَمْلِكُ مِنَ الْبَلْدَةِ شَيْئًا وَلَا أَكْسَبَتْهَا فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَهَذَا كَقَوْلِه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
[قُرَيْش: ٣].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي هُمْ بِهَا لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِمْ بِحُضُورِ مَا هُوَ بَادٍ مِنْهَا لِلْأَنْظَارِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبِقَاعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاشِيَةٌ قَالَ تَعَالَى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [هود: ٦٠] وَقَالَ إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: ٣١].
وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ مَكَّةَ بِاسْمِهَا الْعَلَمِ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِشَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ.
وَتَبْيِينُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِالْبَلْدَةِ لِأَنَّ الْبَلْدَةَ بَهَاءِ التَّأْنِيثِ اسْمٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٍ مَعْرُوفَةٍ مَحُوزَةٍ فَيَشْمَلُ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى نِهَايَةِ حُدُودِ الْحَرَمِ. وَمَعْنَى حَرَّمَها جَعَلَهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ. وَيَعْلَمُ مُتَعَلِّقُ الْمَنْعِ بِسِيَاقِ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْءَ الْمَمْنُوعَ. فَالْمُرَادُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَلْدَةِ تَحْرِيمُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا يُضَادُّ صَلَاحَهَا وَصَلَاحَ مَا بِهَا
مِنْ سَاكِنٍ وَدَابَّةٍ وَشَجَرٍ. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْعُ غَزْوِ أَهْلِهَا وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَإِخَافَتِهِمْ وَمَنْعُ صَيْدِهَا وَقَطْعِ شَجَرِهَا عَلَى حُدُودٍ مَعْلُومَةٍ. وَهَذَا التَّحْرِيمُ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لِتَوْحِيدِهِ وَبِاسْتِجَابَتِهِ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: ١٢٦].
فَالتَّحْرِيمُ يَكُونُ كَمَالًا لِلْمُحَرَّمِ وَيَكُونُ نَقْصًا عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِبَارِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ وَصَفْتِهِ، فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ مَزِيَّةٌ وَتَفْضِيلٌ، وَتَحْرِيمُ الْفَوَاحِشِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ تَحْقِيرٌ لَهَا، وَالْمُحَرَّمَاتُ لِلنَّسْلِ وَالرَّضَّاعِ وَالصِّهْرِ زِيَادَةٌ فِي الْحُرْمَةِ.
وَالنَّظَرُ: هُنَا نَظَرُ الْعَيْنِ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَمُرُّونَ فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الشَّامِ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَفِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ عَلَى دِيَارِ عَادٍ. وَكَيْفِيَّةُ الْعَاقِبَةِ هِيَ حَالَةُ آخِرِ أَمْرِهِمْ مِنْ خَرَابِ بِلَادِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَعْقَابِهِمْ فَعَاضَدَ دَلَالَةَ التَّفَكُّرِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الرّوم: ٨] الْآيَةَ بِدَلَالَةِ الْحِسِّ بِقَوْلِهِ: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ مُعَلِّقُ فعل فَيَنْظُرُوا عَنْ مَفْعُولِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَنْظُرُوا ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ فَقِيلَ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بِخِلَافِ الْعُقْبَى فَهِيَ لِلْخَيْرِ خَاصَّةً إِلَّا فِي مَقَامِ الْمُشَاكَلَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَاقِبَةِ فِي قَوْلِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْأَعْرَافِ [١٢٨]. وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَعِيدًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْهِيلًا لِإِحَالَتِهِمُ الْمُمْكِنَ، حَيْثُ أَيْقَنُوا بِأَنَّ الْفُرْسَ لَا يُغْلَبُونَ بَعْدَ انْتِصَارِهِمْ. فَهَذِهِ آثَارُ أُمَمٍ عَظِيمَةٍ كَانَتْ سَائِدَةً عَلَى الْأَرْضِ فَزَالَ مُلْكُهُمْ وَخَلَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ سَبَبِ تَغَلُّبِ أُمَمٍ أُخْرَى عَلَيْهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَمْثَالُهُمُ الَّذِينَ شَاهَدَ الْعَرَبُ آثَارَهَمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مِثْلِ حَالَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً الْآيَةَ.
كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
كُلُّ أُولَئِكَ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ وَأَكْثَرَ تَعْمِيرًا فِي الْأَرْضِ، وَكُلُّهُمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلٌ، وَكُلُّهُمْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الِاسْتِئْصَالَ، كُلُّ هَذِهِ مَا تُقِرُّ بِهِ قُرَيْشٌ.
أَنَا الرَّبُّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلْأُمَمِ لِنَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ، الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ، أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي وَمَجْدِي لَا أُعْطِيهِ لِآخَرَ».
وَإِلَيْكَ نَظَائِرُ صِفَتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً نَظِيرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ [٢] ) أَنْتِ عَبْدِي وَرَسُولِي (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ سُورَةُ الْكَهْفِ [١] ) سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ سُورَةُ الْأَحْزَابِ [٣] ) لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانِ [١٥٩] ) وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ سُورَةُ لُقْمَانَ [١٩] ) وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ (وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ سُورَةُ فُصِّلَتْ [٣٤] ) وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ سُورَةُ الْعُقُودِ [١٣] ) وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً سُورَةُ الْمَائِدَةِ [٣] ) وَيَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧] فِي ذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُقَابِلًا لِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْآيَةَ [٢] ).
وَلْنُذَكِّرْ هُنَا مَا فِي سِفْرِ أَشْعِيَاءَ وَنُقْحِمُ فِيهِ بَيَانَ مُقَابَلَةِ كَلِمَاتِهِ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
جَاءَ فِي «الْإِصْحَاحِ» الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ أَشْعِيَاءَ: هُوَ ذَا عَبْدَيْ (أَنْتَ عَبْدِي) «الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي (وَرَسُولَيِ) الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعَتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلْأُمَمِ لَا يَصِيحُ (لَيْسَ بِفَظٍّ) وَلَا يَرْفَعُ (وَلَا غَلِيظٍ) وَلَا يُسْمَعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتُهُ (وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ) قَصَبَةٌ مَرْضُوضَةٌ لَا يُقْصَفُ (وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ) وَفَتِيلَةٌ خامدة لَا يطفا (يَعْفُو وَيَصْفَحُ) إِلَى الْأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ (وَحِرْزًا) لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الْأَرْضِ (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ (لِلْأُمِّيِّينَ) أَنَا الرَّبُّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ (سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلُ) وَأَحْفَظُكَ (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ) وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا
فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَهُ أَحْوَالٌ شَتَّى: بَعْضُهَا بِعَدَمِ الِامْتِثَالِ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: ٤٧] الْآيَةَ، وَبَعْضُهَا بِالتَّكْذِيبِ لِمَا يُنْذِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: ٤٨]. وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ طَعْنُهُمْ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ بِأَقْوَالٍ شَتَّى مِنْهَا قَوْلُهُمْ:
هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ، فَلَمَّا تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِإِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدٍ بِالْجَزَاءِ يَوْمَ الْحَشْرِ بِمَا تَعَاقَبَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ عَادَ هُنَا إِلَى طَعْنِهِمْ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، فَقَوْلهم بَلْ هُوَ شاعِرٌ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ شِعْرٌ.
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨]، عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَيَكُونُ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا دون التَّعَرُّض لتنزيهه عَنْ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْغَرَضَ الرَّدُّ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ إِبْطَالَ مَقَالَاتٍ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١، ٤٢].
وَضَمِيرُ عَلَّمْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الرَّدِّ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ.
وَبُنِيَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ بِنَفْيِ تَعْلِيمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِفَادَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعَلَّمٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ
بِشَاعِرٍ. وَانْتَصَبَ الشِّعْرَ على أَن مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ عَلَّمْناهُ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَمُجَرَّدُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ غَالِبًا نَحْوُ عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ. وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ. فَإِذَا دَخَلَهُ التَّضْعِيفُ صَارَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَقَطِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ مَجْرَدَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْمَائِدَة: ١١٠] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ، وَقَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يس
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاسْمِ الْإِشَارَة للتّنْبِيه عَن أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ خَسِرُوا لِأَجْلِ مَا وُصِفُوا بِهِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَتَوَسُّطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ حَصْرِ الْخَسَارَةِ فِيهِمْ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِخَسَارَةِ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَسَارَتِهِمْ فَخَسَارَتُهُمْ أعظم خسارة.
[٦٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٤]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
هَذَا نَتِيجَةُ الْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِثْبَاتِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ لِيَقْرَعَ بِهِ أَسْمَاعَهُمْ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَبَعْدَ تَقَرُّرِهَا عِنْدَهُمْ وَإِنْذَارِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِمَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْحَقَائِقُ أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ مُنَوَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ إِذْ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ قَدْ خَسِئَتْ بِمَا جَبَهَهَا مِنَ الْكَلَام السَّابِق تأييسها لَهُمْ مِنْ مُحَاوَلَةِ صَرْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
وَتَوَسُّطُ فِعْلِ قُلْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَنْهُ لِتَصْيِيرِ الْمَقَامِ لِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَامُ الْكَلَامِ قَبْلَهُ مَقَامَ الْبَيَانِ لِكُلِّ سَامِعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي جَعْلِ التَّفْرِيعِ خَاصًّا بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ وَوَفْرَةِ الْمَعَانِي وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ نُسَمِّيَهُ «تلوين الْبسَاط».
وفَغَيْرَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ بِ أَعْبُدُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَأْمُرُونِّي عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) كَثِيرٌ فَقَوْلُهُ: أَعْبُدُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ أَعْبُدَ فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَأْمُرُونِّي حُذِفَتْ (أَنْ) الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ:
أَلَا أَيُهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ وَنُحَاةِ الْأَنْدَلُسِ.
وَالْجُمْهُورُ يَمْنَعُونَهُ وَيَجْعَلُونَ قَوْلَهُ: أَعْبُدُ هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَفِعْلَ

[١٤]

[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١٤]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما تَفَرَّقُوا تَقْدِيرُهُ: فَتَفَرَّقُوا. وَضَمِيرُ تَفَرَّقُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرٌ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشورى: ١٣] وَهُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ، أَيْ أَوْصَيْنَاهُمْ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِمْ بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ. دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ مَا فِي فعل وَصَّى [الشورى: ١٣] مِنْ مَعْنَى التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْعِلْمُ: إِدْرَاكُ الْعَقْلِ جَزْمًا أَوْ ظَنًّا. وَمَجِيءُ الْعِلْمِ إِلَيْهِمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ بَيَّنُوا لَهُمْ مَضَارَّ التَّفَرُّقِ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً إِلَى قَوْلِهِ: سُبُلًا فِجاجاً فِي سُورَةِ نُوحٍ [٨- ٢٠].
وَإِنَّمَا تَلَّقَى ذَلِكَ الْعِلْمَ عُلَمَاؤُهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ سَبَبُ الْعِلْمِ، أَيْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَجِيء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي كِتَابِهِمْ فَتَفَرَّقُوا فِي اخْتِلَاقِ الْمَطَاعِنِ وَالْمَعَاذِيرِ الْبَاطِلَةِ لِيَنْفُوا مُطَابَقَةِ الصِّفَاتِ، فَيَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: وَمَا تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِمْ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ مَعَ بَيَانِهِمْ لَهُمْ مَفَاسِدِ التَّفَرُّقِ وَأَضْرَارِهِ، أَيْ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عَالِمَيْنِ بِمَفَاسِدِ التَّفَرُّقِ غَيْرَ مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] عَلَى التَّفْسِيرِ الْآخَرِ.
وَذَكَرَ سَبَبَ تَفَرُّقِهِمْ بَقَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ أَيْ تَفَرَّقُوا لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، أَيْ بَيْنِ الْمُتَفَرِّقِينَ، أَيْ لَمْ يُحَافِظُوا عَلَى وَصَايَا الرُّسُلِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لِعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ
الْفَاعِلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ بِالْكَلَامِ كَانَتْ لَوْلَا دَالَّةً على التوبيخ وَنَحْو إِذْ لَا طَائِلَ فِي تَحْضِيضِ الْمُخَاطَبِ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَقَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ:
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا
وَعُومِلَتِ الْأَصْنَامُ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ بِإِطْلَاقِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِمْ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وقُرْباناً مُصْدَرٌ بِوَزْنِ غُفْرَانٍ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ حِكَايَةً لِزَعْمِهِمُ الْمَعْرُوفَ الْمَحْكِيَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]. وَهَذَا الْمَصْدَرُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ اتَّخَذُوا وَمَفْعُولِهِ، ومِنْ دُونِ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِ اتَّخَذُوا. ودُونِ بِمَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ، أَيْ مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ فِي اتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً وَهُوَ حِكَايَةٌ لِحَالِهِمْ لزِيَادَة تشويهها وتشبيعها.
وبَلْ بِمَعْنَى لَكِنْ إِضْرَابًا وَاسْتِدْرَاكًا بَعْدَ التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ مَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً وَلَا قَرَّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لِيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ، أَيْ بَلْ غَابُوا عَنْهُمْ وَقْتَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ.
وَالضَّلَالُ أَصْلُهُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ وَاسْتُعِيرَ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْحُضُورِ اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً، أَيْ غَابُوا عَنْهُمْ وَلَوْ حَضَرُوا لَنَصَرُوهُمْ، وَهَذَا نَظِيرُ التَّهَكُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٦٤].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَذلِكَ إِفْكُهُمْ فَهُوَ فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةِ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ وَقَرِينَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: ضَلُّوا عَنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً مَنْ زَعَمَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِفْكُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.
وَالِافْتِرَاءُ: نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ وَهُوَ ابْتِكَارُ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَيُرَادِفُ الِاخْتِلَاقَ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَرْيِ الْجِلْدِ، فَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي يَقُولُهُ، فَعَطْفُ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ
وَاللُّؤْلُؤُ: الدُّرُّ. وَالْمَكْنُونُ: الْمَخْزُونُ لِنَفَاسَتِهِ عَلَى أَرْبَابِهِ فَلَا يُتَحَلَّى بِهِ إِلَّا فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَوَاكِبِ فَلِذَلِكَ يَبْقَى عَلَى لمعانه وبياضه.
[٢٥- ٢٨]
[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٨]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً [الطّور: ٢٣]. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، أَيْ هُمْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ قَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.
وَلَمَّا كَانَ إِلْحَاقُ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِهِمْ مُقْتَضِيًا مُشَارَكَتَهُمْ إِيَّاهُمْ فِي النَّعِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطّور: ٢١] كَانَ هَذَا التَّسَاؤُلُ جَارِيًا بَيْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْأُصُولِ والذريات سائلين ومسؤولين.
وَضَمِيرُ بَعْضُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَّقِينَ [الطّور: ١٧] وعَلى ذُرِّيَّتُهُمْ [الطّور: ٢١].
وَجُمْلَةُ قالُوا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: ١٢٠] ضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْبَعْضَيْنِ، أَيْ يَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَسَائِلِينَ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ.
وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ ضِدُّ الرَّجَاءِ، وَهَذَا التَّوَقُّعُ مُتَفَاوِتٌ عِنْدَ الْمُتَسَائِلِينَ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ مَا يُوجِبُهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَدَاءِ حَقِّ التَّكْلِيفِ، أَوْ مِنَ الْعِصْيَانِ. وَلِذَلِكَ فَهُوَ أَقْوَى فِي جَانِبِ ذُرِّيَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِأُصُولِهِمْ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ. وَلَعَلَّهُ فِي جَانِبِ الذُّرِّيَّاتِ أَظْهَرُ فِي مَعْنَى الشُّكْرِ لِأَنَّ أُصُولَهُمْ مِنْ أَهْلِهِمْ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذُرِّيَّاتِهِمْ كَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مُشَاهَدَةِ سَيْرِهِمْ فِي الْوَفَاءِ بِحُقُوقِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ أُصُولُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ

[سُورَة المجادلة (٥٨) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ يُشْبِهُ مَوْقِعَ آيَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: ٥]. فَالَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْلِنُونَ بِالْمُحَادَّةِ. وَأَمَّا الْمُحَادُّونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمُ الْمُسِرُّونَ لِلْمُحَادَّةِ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْمُوَالَاةِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَتْ شَيْئًا مِنَ الْخُسْرَانِ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَى حزب الشَّيْطَان الَّذِي هُمْ فِي مُقَدِّمَتِهِ. وَبِهَذَا تَكْتَسِبُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى بَدَلَ الْبَعْضِ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: ١٩]، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخُسْرَانُ الدُّنْيَا أَنْوَاعٌ أَشَدُّهَا عَلَى النَّاسِ الْمَذَلَّةُ وَالْهَزِيمَةُ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ فِي الْأَذَلِّينَ والمغلوبين.
وَاسْتِحْضَارُهُمْ بصلَة إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ فِي الْأَذَلِّينَ فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِإِفَادَةِ مَدْلُولِ الصِّلَةِ أَنهم أَعدَاء لله تَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِفَادَةُ الْمَوْصُولِ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَذَلِّينَ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَعَدُوُّهُ لَا يَكُونُ عَزِيزًا.
وَمُفَادُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي زُمْرَةِ الْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ أَذَلُّونَ، أَيْ شَدِيدُو الْمَذَلَّةِ لِيَتَصَوَّرَهُمُ السَّامِعُ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ يَرَى أَنَّهُمْ أَذَلُّونَ، فَيَكُونُ هَذَا النَّظْمُ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ هُمُ الْأَذَلُّونَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الْوَصْفِ الَّذِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٥].
وَجُمْلَةُ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ
وَأَصْلُ الْغَوْرِ: ذَهَابُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ، مَصْدَرُ غَارَ الْمَاءُ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: عَدْلٍ وَرِضًى. وَالْمَعِينُ:
الظَّاهِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْبِئْرُ الْمَعِينَةُ: الْقَرِيبَةُ الْمَاءِ على وَجه التَّشَبُّه.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَأْتِيكُمْ أَحَدٌ بِمَاءٍ مَعِينٍ: أَيْ غَيْرَ اللَّهِ وَأَكْتَفِي عَنْ ذِكْرِهِ لِظُهُورِهِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠] الْآيَتَيْنِ.
وَقَدْ أُصِيبُوا بِقَحْطٍ شَدِيدٍ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ انْحِبَاسَ الْمَطَرِ يَتْبَعُهُ غَوْرُ مِيَاهِ الْآبَارِ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَهَا مِنَ الْمَاءِ النَّازِلِ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٢١] وَقَالَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الْبَقَرَة: ٧٤].
وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي «بَيَانِهِ» : ، قَالَ: وَعَنْ بَعْضِ الشُطَّارِ (هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ الطَّبِيبُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ) أَنَّهَا (أَيْ هَذِهِ الْآيَةِ) تُلِيَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: تَجِيءُ بِهِ (أَي المَاء) الفؤوس وَالْمَعَاوِلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنَيْهِ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى آيَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً إِلَى قَوْلِهِ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: ٢١- ٣٠].
وَقُرْبُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي تَحَقُّقِهِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بَعِيدٌ، قَالَ تَعَالَى:
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧]، أَيْ لِتَحَقُّقِهِ فَهُوَ كَالْقَرِيبِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ يُصَدَّقُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ الْإِنْذَارُ بِهِ، وَيُصَدَّقُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِ الشِّرْكِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: هُوَ قَتْلُ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ. وَيَشْمَلُ عَذَابَ يَوْمِ الْفَتْحِ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ كَمَا وَرَدَ لَفْظُ الْعَذَابِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: ١٤] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: ٤٧].
ْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ: اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: ٣٩] فَيكون وْمَ يَنْظُرُ
ظَرْفًا لَغوا مُتَعَلقا بنْذَرْناكُمْ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: ٣٨] لِأَنَّ قِيَامَ الْمَلَائِكَةِ صَفًّا حُضُورٌ لِمُحَاسَبَةِ النَّاسِ وَتَنْفِيذِ فَصْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ حِينَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أَيْ مَا عَمِلَهُ سَالِفًا فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الظَّرْفِ تَابِعٌ لَهُ فِي مَوْقِعِهِ.
وَعَلَى كلا الْوَجْهَيْنِ فجملةنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الظَّرْفِ وَمُتَعَلِّقِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أُبْدِلَ مِنْهُ.
وَالْمَرْءُ: اسْمٌ لِلرَّجُلِ إِذْ هُوَ اسْمٌ مُؤَنَّثُهُ امْرَأَةٌ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرْءِ جَرَى عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ خَرَجَ
مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي التَّخَاطُبِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي شُؤُونِ مَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ.
وَالْمُرَادُ: يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ الدَّالِّ عَلَى عُمُومِ التَّكَالِيفِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهَا بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمُسْتَحْضَرُ فِي أَذْهَانِ الْمُتَخَاطِبِينَ عِنْدَ التَّخَاطُبِ.


الصفحة التالية
Icon