وَالْخِطَابُ هُنَا عَلَى نَحْوِ الْخِطَابِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ أَسْلَافِهِمْ لِحَمْلِ تَبِعَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ خُلُقَ السَّلَفِ يَسْرِي إِلَى الْخَلَفِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى وَسَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٧٥].
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِكَشْفِ حَالِ قَاتِلِي هَذَا الْقَتِيلِ مَعَ أَنَّ دَمَهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ دَمٍ طَلٍّ فِي الْأُمَمِ إِكْرَامًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضِيعَ دَمٌ فِي قَوْمِهِ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَبِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَصَدَ الْقَاتِلُونَ اسْتِغْفَالَ مُوسَى وَدَبَّرُوا الْمَكِيدَةَ فِي إِظْهَارِهِمُ الْمُطَالَبَةَ بِدَمِهِ فَلَوْ لَمْ يُظْهِرِ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الدَّمَ فِي أُمَّةٍ لَضَعُفَ يَقِينُهَا بِرَسُولِهَا وَلَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ شَكًّا فِي صِدْقِهِ فَيَنْقَلِبُوا كَافِرِينَ فَكَانَ إِظْهَارُ هَذَا الدَّمِ كَرَامَةً لِمُوسَى وَرَحْمَةً بِالْأُمَّةِ لِئَلَّا تَضِلَّ فَلَا يُشْكَلُ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ قَدْ ضَاعَ دَمٌ فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ الْآتِي لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بِانْتِفَاءِ تَدْبِيرِ الْمَكِيدَةِ وَانْتِفَاءِ شَكِّ الْأُمَّةِ فِي رَسُولِهَا وَهِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
وَقَوله: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
الْإِشَارَةُ إِلَى مَحْذُوفٍ لِلْإِيجَازِ أَيْ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ فَأَخْبَرَ بِمَنْ قَتَلَهُ أَيْ كَذَلِك الْإِحْيَاء يحي اللَّهُ الْمَوْتَى فَالتَّشْبِيهُ فِي التَّحَقُّقِ وَإِنْ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ
الْمُشَبَّهِ أَقْوَى وَأَعْظَمَ لِأَنَّهَا حَيَاةٌ عَنْ عَدَمٍ بِخِلَافِ هَاتِهِ فَالْمَقْصِدُ مِنَ التَّشْبِيهِ بَيَانُ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهِ كَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي:

فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
وَقَوله: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
مِنْ بَقِيَّةِ الْمَقُولِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَدَّرَ وَقُلْنَا لَهُم كَذَلِك يحي اللَّهُ الْمَوْتَى لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لِشَيْءٍ مُشَاهَدٍ لَهُمْ وَلَيْسَ هُوَ اعْتِرَاضًا أُرِيدَ بِهِ مُخَاطَبَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ حَتَّى يُشَبَّهَ بِهِ إِحْيَاءُ اللَّهِ الْمَوْتَى.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
رَجَاءٌ لِأَنْ يَعْقِلُوا فَلَمْ يَبْلُغِ الظَّنُّ بِهِمْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ مَعَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ كُلِّهَا.
وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ فُقَهَائِنَا أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ:
دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مُوجِبًا لِلْقَسَامَةِ وَيَجْعَلُونَ الِاحْتِجَاجَ بِهَا لِذَلِكَ مُتَفَرِّعًا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ إِلَّا سَمَاعُ قَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمَقْتُولِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي أَمْرِ الدِّمَاءِ. وَالتَّوْرَاةُ قَدْ أَجْمَلَتْ أَمْرَ الدِّمَاءِ إِجْمَالًا شَدِيدًا فِي قِصَّةِ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، نَعَمْ إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَىُُ
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْعَهْدِ كَانَ كَالْحَاضِرِ فِي مَقَامِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ على الْكَعْبَة، و «رب الْبَيْتِ» هُوَ اللَّهُ وَالْعَرَبُ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ.
وَأُجْرِيَ وَصْفُ الرَّبِّ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ رَبِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى زِيَادَةً عَلَى نِعْمَةِ تَيْسِيرِ التِّجَارَةِ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُمْ أَهْلَ ثَرَاءٍ، وَهُمَا نِعْمَةُ إطعامهم وأمنهم. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُسِّرَ لَهُمْ مِنْ وُرُودِ سُفُنِ الْحَبَشَةِ فِي الْبَحْرِ إِلَى جَدَّةَ تَحْمِلُ الطَّعَامَ لِيَبِيعُوهُ هُنَاكَ. فَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَخْرُجُونَ إِلَى جَدَّةَ بِالْإِبِلِ وَالْحُمُرِ فَيَشْتَرُونَ الطَّعَامَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ. وَكَانَ أَهْلُ تَبَالَةَ وَجُرَشَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ الْمُخْصِبَةِ يحملون الطَّعَام على الْإِبِل إِلَى مَكَّة فَيُبَاع الطَّعَامَ فِي مَكَّةَ فَكَانُوا فِي سِعَةٍ مِنَ الْعَيْشِ بِوَفْرِ الطَّعَامِ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَذَلِكَ يُسِّرَ لَهُمْ إِقَامَةُ الْأَسْوَاقِ حَوْلَ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهِيَ سُوقُ مَجَنَّةَ، وَسُوقُ ذِي الْمَجَازِ، وَسُوقُ عُكَاظٍ، فَتَأْتِيهِمْ فِيهَا الْأَرْزَاقُ وَيَتَّسِعُ الْعَيْشُ، وَإِشَارَةٌ إِلَى مَا أُلْقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنْ حُرْمَةِ مَكَّةَ وَأَهْلِهَا فَلَا يُرِيدُهُمْ أَحَدٌ بِتَخْوِيفٍ. وَتِلْكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [الْبَقَرَة: ١٣٦] فَلَمْ يَتَخَلَّفْ ذَلِكَ عَنْهُمْ إِلَّا حِينَ
دَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَعْوَتِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ»
، فَأَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ وَقَحْطٌ سَبْعَ سِنِينَ وَذَلِكَ أَوَّلُ الْهِجْرَةِ.
ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُوعٍ وَعَلَى خَوْفٍ مَعْنَاهَا الْبَدِلِيَّةُ، أَيْ أَطْعَمَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْجُوعِ وَآمَنَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْخَوْفِ. وَمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ هُوَ أَنَّ حَالَةَ بِلَادِهِمْ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُهَا فِي جُوعٍ فَإِطْعَامُهُمْ بَدَلٌ مِنَ الْجُوعِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبِلَادُ، وَأَنَّ حَالَتَهُمْ فِي قِلَّةِ الْعَدَدِ وَكَوْنِهِمْ أَهْلَ حَضَرٍ وَلَيْسُوا أَهْلَ بَأْسٍ وَلَا فُرُوسِيَّةٍ وَلَا شَكَّةِ سِلَاحٍ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ
لِغَارَاتِ الْقَبَائِلِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَمْنَ فِي الْحَرَمِ عِوَضًا عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قِلَّتُهُمْ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧].
وَتَنْكِيرُ جُوعٍ وخَوْفٍ لِلنَّوْعِيَّةِ لَا لِلتَّعْظِيمِ إِذْ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ جُوعٌ وَخَوْفٌ مِنْ قَبْلُ، قَالَ مُسَاوِرُ بْنُ هِنْدٍ فِي هِجَاءِ بَنِي أَسَدٍ:


الصفحة التالية
Icon