[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٧]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَقُوا عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى نَسَقِ الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْبَقَرَة: ٧٥] وَمَا بَعْدَهُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ بِقَالُوا عَائِدٌ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ أظهرُوا الْإِيمَان نفاق أَوْ تَفَادِيًا مَنْ مُرِّ الْمُقَارَعَةِ وَالْمُحَاجَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: آمَنَّا وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي ضَمَائِرِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَنَحْوِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الْبَقَرَة: ٢٣٢] لِأَنَّ ضَمِيرَ طَلَّقْتُمُ لِلْمُطَلِّقِينَ وَضَمِيرَ تَعَضُلُوا لِلْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جِهَةُ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَى الصِّنْفَيْنِ، وَمِنْهُ أَن تَقول لَئِن نَزَلْتَ بِبَنِي فُلَانٍ لَيُكْرِمُنَّكَ وَإِنَّمَا يُكْرِمُكَ سَادَتُهُمْ وَكُرَمَاؤُهُمْ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ أَيْ بَعْضُ الْجَمِيعِ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَائِلَ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ لِمَنْ نَافَقَ، ثُمَّ تَلْتَئِمُ الضَّمَائِرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي يَعْلَمُونَ ويُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ بِلَا كُلْفَةٍ وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَيُرَجِّحُهَا عِنْدِي أَنَّ فِيهَا الِاقْتِصَارَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا بِهِ الْحَاجَةُ وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَ وُجُودِ دَلِيلِهِ بِجَنْبِهِ وَهُوَ آمَنَّا.
وَجُمْلَةُ إِذا لَقُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ٧٥] على أَنهم حَالٌ مِثْلَهَا مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَقَدْ قُصِدَ مِنْهَا تَقْيِيدُ النَّهْيِ أَوِ التَّعْجِيبِ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ آخَرُ إِذَا لَقُوا.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذا لَقُوا وهم الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِيَّةِ أَيْ
وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَحْصُلُ مِنْهُمْ مَجْمُوعُ هَذَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّعَجُّبِ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ فَضَمِيرُ بَعْضُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ لَقُوا وَهُمْ عُمُومُ الْيَهُودِ.
ونكتة التَّعْبِير ب قالُوا آمَنَّا مِثْلَهَا فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي أَوَائِل السُّورَة [الْبَقَرَة: ١٤].
وَقَوْلُهُ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ اسْتِفْهَامٌ لِلْإِنْكَارِ أَوِ التَّقْرِيرِ أَوِ التَّوْبِيخِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَقَامَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ جَرَى بَيْنَهُمْ حَدِيثٌ فِي مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ فَاضِحًا لِأَحْوَالِ أَسْلَافِهِمْ وَمَثَالِبِ سِيرَتِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ فَضِيحَةُ أَحْوَالِهِمْ وَذِكْرُ
فَإِطْلَاقُ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى الْمُتَظَاهِرِينَ بِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْفِعْلِ عَلَى صُورَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التَّوْبَة: ٦٤] أَيْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ تَنْزِيلَ سُورَةٍ.
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أَيِ الصَّدَقَةَ أَوِ الزَّكَاةَ، قَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: ٦٧] فَلَمَّا عُرِفُوا بِهَذِهِ الْخِلَالِ مُفَادُ فَاءِ التَّفْرِيعِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ تَارِكُوهَا فِي خَاصَّتِهِمْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَيَدُعُّونَ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
وَحَكَى هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ فِي كِتَابِ «النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ، أَيْ فَإِطْلَاقُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ مُرَادٌ بِهَا وَاحِدٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] أَيِ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ.
وَالسَّهْوُ حَقِيقَتُهُ: الذُّهُولُ عَنْ أَمْرٍ سَبَقَ عِلْمُهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ وَالتَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ٤١] أَيْ تُعْرِضُونَ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ اسْتِعَارَةُ الْغَفْلَةِ لِلْإِعْرَاضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها
غافِلِينَ
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٧]، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْوَعِيدَ عَلَى السَّهْوِ الْحَقِيقِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ حُكْمَ النِّسْيَانِ مَرْفُوعٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْمُصَلِّينَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُلْحَقًا بِشَيْءٍ قَبْلَهُ جَعَلَ نَظْمَ الْمُلْحَقِ مُنَاسِبًا لِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَمْ يَسْبِقْ لَنَا إظهارها فَعَلَيْك بملاحظتها فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ مُلْحَقًا بِشَيْءٍ نَزَلَ قَبْلَهُ مِنْهُ.