[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٧٨]

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ [الْبَقَرَة: ٧٥] عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ ومِنْهُمْ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَتَقْدِيمُهُ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [الْبَقَرَة: ٨] وَالْمَعْنَى كَيْفَ تَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُحَرِّفِينَ وَفَرِيقٌ جَهَلَةً وَإِذَا انْتَفَى إِيمَانُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْمَظْنُونُ بِهِمْ تَطَلُّبُ الْحَقِّ الْمُنْجِي وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَ الدِّينَ وَيُكَابِرُونَ فِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ دِينِهِمْ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ أَيْضًا فِي إِيمَانِ الْفَرِيقِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَأَلْهَى عَنْ تَطَلُّبِهِ وَأَضَلُّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَجْدَرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِأَئِمَّتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الْمَاضُونَ. وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مُعَادِلًا لَهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَوْنِهَا حَالَةَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَةُ فَرِيقٍ آخَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا لَقُوا [الْبَقَرَة: ٧٦] وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلا [الْبَقَرَة: ٧٦] فَتِلْكَ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنْ قَوْلِهِ:
يَسْمَعُونَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ وَبِهَذَا لَا يَجِيءُ فِي جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ التَّخْيِيرُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَطْفِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ هَلْ يُجْعَلُ الْأَخِيرُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مَنِ الْمَعْطُوفَاتِ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَعْمُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرْجِعُ الْعَطْفِ جِهَةً وَاحِدَةً وَهُنَا قَدِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ.
وَالْأُمِّيُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ بِمَعْنَى عَامَّةِ النَّاسِ فَهُوَ يُرَادِفُ الْعَامِّيَّ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ وَهِيَ الْوَالِدَةُ أَيْ أَنَّهُ بَقِي على الْحَالة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَضَانَةِ أُمِّهِ إِيَّاهُ فَلَمْ يَكْتَسِبْ عِلْمًا جَدِيدًا وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَجْهُ فِي النَّسَبِ أَنْ يَقُولُوا أُمَّهِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَرُدُّ الْكَلِمَاتِ إِلَى أُصُولِهَا وَقَدْ قَالُوا فِي جَمْعِ الْأُمِّ: أُمَّهَاتٌ فَرَدُّوا الْمُفْرَدَ إِلَى أَصْلِهِ فَدَلُّوا عَلَى أَنَّ أَصْلَ أُمٍّ أُمَّهَةٌ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ إِذَا نُقِلَتْ مِنْ حَالَةِ الِاشْتِقَاقِ إِلَى جَعْلِهَا أَعْلَامًا قَدْ يَقَعُ فِيهَا تَغْيِيرٌ لِأَصْلِهَا.
وَقَدِ اشْتُهِرَ الْيَهُودُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِوَصْفِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أَيْ لَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَهْلَ كِتَابٍ. وَلَمْ تَكُنِ الْأُمِّيَّةُ فِي الْعَرَبِ وَصْفَ ذَمٍّ لَكِنَّهَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَصْفُ ذَمٍّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ غَالِبًا نَحْوَ الْكَوْكَبِ، وَالْجَوْرَبِ، وَالْحَوْشَبِ وَالدَّوْسَرِ (١)، وَلَا تَدُلُّ فِي الْجَوَامِدِ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّاهَا، وَلَمَّا وَقَعَ هُنَا فِيهَا مَادَّةُ الْكُثْرِ كَانَتْ صِيغَتُهُ مُفِيدَةً شِدَّةَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْمُفْرِطِ فِي الْكَثْرَةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ وَأَضْبَطُهُ، وَنَظِيرُهُ: جَوْهَرٌ، بِمَعْنَى الشُّجَاعِ كَأَنَّهُ يُجَاهِرُ عَدُوَّهُ، وَالصَّوْمَعَةُ لِاشْتِقَاقِهَا مِنْ وَصْفِ أَصْمَعَ وَهُوَ دَقِيقُ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ دَقِيقَةٌ لِأَنَّ طُولَهَا أَفْرَطُ مِنْ غِلَظِهَا.
وَيُوصَفُ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بِكَوْثَرٍ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ فِي رِثَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْأَسَدِيِّ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِفَقْدِهِ وَعِنْدَ الرِّدَاعِ بَيْتُ آخَرَ كَوْثَرُ
(مَلْحُوبٍ وَالرُّدَاعِ) كِلَاهُمَا مَاءٌ لِبَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، فوصف الْبَيْت بكوثر ولاحظ الْكُمَيْت هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ وَكَانَ أَبوك ابْن العقائل كَوْثَرَا
وَسُمِّيَ نَهْرُ الْجَنَّةِ كَوْثَرًا كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَقَدَّمِ آنِفًا.
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ الْكَوْثَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفَاسِيرَ أَعَمُّهَا أَنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ:
هُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: الْكَوْثَرُ هُنَا: النُّبُوءَةُ وَالْكِتَابُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّهُ رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ نُورُ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ الشَّفَاعَةُ، وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَقْتَضِي حَصْرَ مَعَانِي اللَّفْظِ فِيمَا ذَكَرَهُ.
وَأُرِيدَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بِشَارَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي خَاطِرِهِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ أَبْتَرُ، فَقُوبِلَ مَعْنَى الْأَبْتَرِ بِمَعْنَى الْكَوْثَرِ، إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ اعْتِرَاضٌ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُِِ
_________
(١) الجورب: ثوب يَجْعَل فِي صُورَة خف وَتلف فِيهِ الرجل، والحوشب: المنتفخ الجنبين وَعظم فِي بَاطِن الْحَافِر، وَاسم للأرنب الذّكر، والثعلب الذّكر، والدوسر: الضخم الشَّديد.


الصفحة التالية
Icon