الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ فِي نَحْوِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النِّسَاء: ١٤٨] أَنْ يَقْرَأَ عَلِيمًا حَكِيمًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِكْرِهِ عَقِبَ آيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَقُولَ: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» أَوْ عَكْسَهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدِيثَ مُحْكَمًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَقَدْ ذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ أَنْوَاعُ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ أَنْوَاعُ كَلَامِهِ كَالْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. أَوْ أَنْوَاعُ دَلَالَتِهِ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِ مِنْ قَصْدِ التَّوْسِعَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ هَؤُلَاءُ حَصْرَ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَنَحْوِهَا فِي سَبْعَةٍ فَذَكَرُوا كَلَامًا لَا يَسْلَمُ مِنَ النَّقْضِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مَبْثُوثَةٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَكِنْ لَا عَلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ، وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهَا إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّ الْأَوَّلِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَبْثُوثَةٌ فِيهِ كَلِمَاتٌ مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا سَمِعْتُ السِّكِّينَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً [يُوسُف: ٣١] مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ (١)، وَفِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا من النَّبِي فِي قِصَّةِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: (ايْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَقْطَعْهُ بَيْنَكُمَا)، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُلَاقِي مَسَاقَ الْحَدِيثِ مِنَ التَّوْسِعَةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ ذَكَرُوا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ لُغَاتِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَنْهَاهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ إِلَى خَمْسِينَ لُغَةٍ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَحْرُفِ لَهَجَاتُ الْعَرَبِ فِي كَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْهَمْزِ وَالتَّخْفِيفِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلْعَرَبِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ لمن تقدّمنا، وَهنا لَك أَجْوِبَةٌ أُخْرَى
ضَعِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا وَقَدْ أَنْهَى بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ الْأَجْوِبَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ جَوَابًا.
_________
(١) رَوَاهُ ابْن وهب عَن مَالك، وَهُوَ فِي أَحَادِيث ابْن وهب عَنهُ فِي جَامع الْعُتْبِيَّة.
أَشْهَرُ مَعَانِيهَا هُوَ الدُّعَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَة: ٣] وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ إِسْنَادُ هَذَا الْفِعْلِ لِمَنْ لَا يُطْلَبُ الْخَيْرُ إِلَّا مِنْهُ مُتَعَيِّنًا لِلْمَجَازِ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ حُصُولُ الْخَيْرِ، فَكَانَتِ الصَّلَاةُ إِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى اللَّهِ أَوْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ دَالَّةً عَلَى الرَّحْمَةِ وَإِيصَالِ مَا بِهِ النَّفْعُ مِنْ رَحْمَةٍ أَوْ مَغْفِرَةٍ أَوْ تَزْكِيَةٍ.
وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بَيَانٌ لفضيلة صفتهمْ إِذا اهْتَدَوْا لِمَا هُوَ حَقُّ كُلِّ عَبْدٍ عَارِفٍ فَلَمْ تُزْعِجْهُمُ الْمَصَائِبُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَاجِبًا عَنِ التَّحَقُّقِ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَخْلُو مِنَ الْأَكْدَارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا فَهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَصَائِبَ سَبَبًا فِي اعْتِرَاضِهِمْ عَلَى اللَّهِ أَوْ كُفْرِهِمْ بِهِ أَوْ قَوْلِ مَا لَا يَلِيقُ أَوْ شَكِّهِمْ فِي صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الدِّينَ الْمَرْضِيَّ لِلَّهِ لَمَا لَحِقَنَا عَذَابٌ وَمُصِيبَةٌ، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالِ الَّذِينَ حَذَّرَنَا اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ
[الْأَعْرَاف: ١٣١] وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النِّسَاء: ٧٨]، وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ أَنَّ جَزَاءَ الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَمُسَبَّبَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ، تَعْرِضُ لِعُرُوضِ سَبَبِهَا، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ سَبَبَ الْمُصِيبَةِ عُقُوبَةً لِعَبْدِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ أَدَبٍ أَوْ نَحْوِهِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِرَفْعِ دَرَجَاتِ النَّفْسِ، وَلَهَا أَحْوَالٌ وَدَقَائِقُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِذَا رَاقَبَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ لُطْفٌ وَنِكَايَةٌ يَظْهَرُ أَثَرُ أَحدهمَا للعارفين.
[١٥٨]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
هَذَا كَلَامٌ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، نَزَلَ هَذَا بِسَبَبِ تَرَدُّدٍ وَاضْطِرَابٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَذَلِكَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي نَقْرَؤُهَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِلْحَاقِهَا بِبَعْضِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِهَا بِمُدَّةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا
قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُشْبِهُ فِعْلَ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالسُّفَهَاءِ مِنَ الْقِبْلَةِ وَإِنْكَارِ
أَرَادَ فَاهْنَئِي. وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى لَازَمِهِ مِنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَيَدُلُّ عَلَى التَّسَامُحِ فِي الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ:
لَمْ يَفُتْنَا بالوتر قوم وللضّ | يم رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالْإِغْمَاضِ |
وأغمضت الجفون عَلَى قَذَاهَا | وَلَمْ أَسْمَعْ إِلَى قَالٍ وَقِيلِ |
وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ، أَوِ الَّتِي فِيهَا اسْتِسَاغَةُ الْحَرَامِ. حَمِيدٌ، أَيْ شَاكِرٌ لِمَنْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً طيّبة. وافتتحه باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٢٣]، أَوْ نُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ فَأَعْطَوْا لِوَجْهِهِ مَا يَقْبَلُهُ الْمُحْتَاجُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ يَحْمَدُ مَنْ يُعْطِي لِوَجْهِهِ مِنْ طَيِّبِ الْكَسْبِ.
وَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَكْثُرُ حَاجَةُ غَالِبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْغِنَى الْمُطْلَقُ فَلَا يُعْطَى لِأَجْلِهِ وَلِامْتِثَالِ أَمْرِهِ إِلَّا خَيْرَ مَا يُعْطِيهِ أَحَدٌ لِلْغَنِيِّ عَنِ الْمَالِ.
وَالْحَمِيدُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدُ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَى فَاعِلِي الْخَيْرَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَحْمُودٌ، فَيَكُونُ حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ فَتَخَلَّقُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَالَاتٌ، فَكُونُوا أَغْنِيَاءَ الْقُلُوبِ عَنِ الشُّحِّ مَحْمُودِينَ عَلَى صَدَقَاتِكُمْ، وَلَا تُعْطُوا صَدَقَاتٍ تُؤْذِنُ بِالشُّحِّ وَلَا تشكرون عَلَيْهَا.
[٢٦٨]
_________
(١) الكلائي نِسْبَة إِلَى الكلاء بِوَزْن جَبَّار محلّة بِالْبَصْرَةِ قرب الشاطئ. والكلاء الشاطي. وَهَذِه الأبيات قَالَهَا بعد أَن مكث عَاما بِبَاب مُعَاوِيَة لم يُؤذن لَهُ ثمَّ أذن لَهُ وَأَدْنَاهُ وأولاه مصر، وَقَبله:
دخلت على مُعَاوِيَة بن حَرْب | وَلَكِن بعد يأس من دُخُول |
وَمَا نلْت الدُّخُول عَلَيْهِ حَتَّى | حللت محلّة الرجل الذَّلِيل |
لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ | يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْأَةِ السَّوْآءِ |
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَلَى جُمْلَةِ فَوَسْوَسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ لَهُمَا وَسُوسَةً غَيْرَ قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما إِلَخْ ثُمَّ ثَنَّى وَسْوَسَتَهُ بِأَنْ قَالَ مَا نَهَاكُمَا، وَلَوْ كَانَتْ جُمْلَةُ: مَا نَهاكُما إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَوَسْوَسَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ:
وَقالَ مَا نَهاكُما بِدُونِ عَاطِفٍ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبَيَّنِ. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ تَرَدَّدَا فِي الْأَخْذِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُرَاوِدُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُهُ، فِي سُورَةِ طه [١٢٠] : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى. فَإِنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ لابتداء وسوسته فابتداء الْوَسْوَسَةَ بِالْإِجْمَالِ فَلَمْ يُعَيِّنْ لِآدَمَ الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اسْتِنْزَالًا لِطَاعَتِهِ، وَاسْتِزْلَالًا لِقَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَأْوِيلِ نَهْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي
وَتَوَقَّعُوا عُدُولَهُ عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ:
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتَذَرُ مُوسى مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِغْرَاءِ بِإِهْلَاكِ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْإِبْطَاءِ بِإِتْلَافِهِمْ، وَمُوسَى مَفْعُولُ تَذَرُ أَيْ تَتْرُكُهُ مُتَصَرِّفًا وَلَا تَأْخُذُ عَلَى يَدِهِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ تَذَرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً فِي الْأَنْعَامِ [٧٠].
وَقَوْمُ مُوسَى هُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأُولَئِكَ هم بنوا إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْقِبْطِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُفْسِدُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ إِذْ جَعَلُوا تَرْكَ مُوسَى وَقَوْمِهِ مُعَلَّلًا بِالْفَسَادِ، وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَلَيْسَتِ الْعَاقِبَةُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي اللَّامِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهَا مَجَازٌ: شُبِّهَ الْحَاصِلُ عَقِبَ الْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ بِالْغَرَضِ الَّذِي يُفْعَلُ الْفِعْلُ لِتَحْصِيلِهِ، وَاسْتُعِيرَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى حَرْفُ اللَّامِ عِوَضًا عَنْ فَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨].
وَالْإِفْسَادُ عِنْدَهُمْ هُوَ إِبْطَالُ أُصُولِ دِيَانَتِهِمْ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ وَحَثِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَمُغَادَرَةِ أَرْضِ الِاسْتِعْبَادِ.
والْأَرْضِ مَمْلَكَةُ فِرْعَوْنَ وَهِيَ قُطْرُ مِصْرَ.
وَقَوْلُهُ: وَيَذَرَكَ عَطْفٌ عَلَى لِيُفْسِدُوا فَهُوَ داخلي التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ هَذَا
حَاصِلٌ فِي بَقَائِهِمْ دُونَ شَكٍّ، وَمَعْنَى تَرْكِهِمْ فِرْعَوْنَ، تَرْكُهُمْ تَأْلِيهَهُ وَتَعْظِيمَهُ، وَمَعْنَى تَرْكِ آلِهَتِهِ نَبْذُهُمْ عِبَادَتَهَا وَنَهْيُهُمُ النَّاسَ عَنْ عِبَادَتِهَا.
وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَوَزْنُهُ أَفْعِلَةٌ، وَكَانَ الْقِبْطُ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً مُتَنَوِّعَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ وَصَوَّرُوا لَهَا صُوَرًا عَدِيدَةً مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، أَشْهَرُهَا (فِتَاحُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ وَكَانَ يُعْبَدُ بِمَدِينَةِ (مَنْفِيسَ)، وَمِنْهَا (رَعْ) وَهُوَ الشَّمْسُ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ آلِهَةٌ بِاعْتِبَارِ أَوْقَاتِ شُعَاعِ الشَّمْس، وَمِنْهَا (ازيريس) وَ (إِزِيسُ) وَ (هُورُوسُ) وَهَذَا عِنْدَهُمْ ثَالُوثٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَابْنٍ، وَمِنْهَا (تُوتْ) وَهُوَ الْقَمَرُ وَكَانَ عِنْدَهُمْ رَبَّ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهَا (أَمُونْ رَعْ) فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أَصْلُ إِضْلَالِ عُقُولِهِمْ.
وَكَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ فَرْعِيَّةٌ صُغْرَى عَدِيدَةٌ مِثْلَ الْعِجْلِ (إِيبِيسَ) وَمِثْلَ الْجِعْرَانِ وَهُوَ الْجُعَلُ.
وَالتَّوْفِيَةُ: أَدَاءُ الْحَقِّ كَامِلًا، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ كَالْقَرْضِ لِلَّهِ، وَجَعَلَ عَلَى الْإِنْفَاقِ جَزَاءً، فَسَمَّى جَزَاءَهُ تَوْفِيَةً عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَتَدُلُّ التَّوْفِيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَجْرَ فِي الدُّنْيَا مَعَ أَجْرِ الْآخِرَةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَتَعْدِيَةُ التَّوْفِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ بطرِيق بِنَاء للْفِعْل لِلنَّائِبِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُوَفَّى هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُوَفَّى هُوَ الثَّوَابُ. وَالتَّوْفِيَةُ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهَا مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: وَفَّاهُ دَيْنَهُ، وَإِنَّمَا وَفَّاهُ مُمَاثِلًا لِدَيْنِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ:
قَضَى صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا قَضَى صَلَاةً بِمِقْدَارِهَا فَالْإِسْنَادُ: إِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ.
وَالظُّلْمُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ نَقْصَ الْحَقِّ ظُلْمٌ، وَتَسْمِيَةُ النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ ظُلْمًا حَقِيقَةٌ. وَلَيْسَ هُوَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: ٣٣].
[٦١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦١]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)
انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ أَحْوَالِ مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ: مِنْ وَفَائِهِمْ بِالْعَهْدِ، وَخِيَانَتِهِمْ، وَكَيْفَ يَحِلُّ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ مَعَهُمْ إِنْ خَافُوا خِيَانَتَهُمْ، وَمُعَامَلَتِهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِالْخَائِنِينَ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِ السِّلْمِ إِنْ طَلَبُوا السَّلْمَ وَالْمُهَادَنَةَ، وَكَفُّوا عَنْ حَالَةِ الْحَرْبِ. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَأْنَفُوا مِنَ السَّلْمِ وَأَنْ يُوَافِقُوا مَنْ سَأَلَهُ مِنْهُمْ.
وَالْجُنُوحُ: الْمَيْلُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَاحِ الطَّائِرِ: لِأَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ النُّزُولَ مَالَ بِأَحَدِ جَنَاحَيْهِ، وَهُوَ جَنَاحُ جَانِبِهِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ، قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الطَّيْرَ تَتْبَعُ الْجَيْشَ:
جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ | إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ |
كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا | وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ |
وَجِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْكِيدِ نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ جعلُوا ضعف أَتْبَاعه نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَقْرِهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْخَيْر عَنْهُمْ فَاقْتَضَى دَوَامُ ذَلِكَ مَا دَامُوا ضُعَفَاءَ فُقَرَاءَ، فَلِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ: لَنْ يَنَالُوا خَيْرًا، فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.
وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ نِعْمَةٌ، فَأَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَجِيئُهُمْ بِقَصْدِ الِاسْتِيطَانِ حَيْثُ هُوَ.
وَالْبَدْوُ: ضِدُّ الْحَضَرِ، سُمِّيَ بَدْوًا لِأَنَّ سُكَّانَهُ بَادُونَ، أَيْ ظَاهِرُونَ لِكُلِّ وَارِدٍ، إِذْ لَا تَحْجُبُهُمْ جُدْرَانٌ وَلَا تُغْلَقُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابٌ. وَذِكْرُ مِنَ الْبَدْوِ إِظْهَارٌ لِتَمَامِ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ انْتِقَالَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ارْتِقَاءٌ فِي الْحَضَارَةِ.
وَالنَّزْغُ: مَجَازٌ فِي إِدْخَالِ الْفَسَادِ فِي النَّفْسِ. شُبِّهَ بِنَزْغِ الرَّاكِبِ الدَّابَّةَ وَهُوَ نَخْسُهَا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠٠].
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَا وَتَعْلِيمِ مَضْمُونِهَا.
وَاللُّطْفُ: تَدْبِيرُ الْمُلَائِمِ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ عَلَى تَقْدِيرِ لَطِيفٌ لِأَجْلِ مَا يَشَاءُ اللُّطْفُ بِهِ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩]. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى اللُّطْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٣].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا أَوْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِلتَّقْوِيَةِ.
وَتَفْسِيرُ الْعَلِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢]. والْحَكِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَوَاسِطَ سُورَة الْبَقَرَة [٢٠٩].
وَ (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَشَكَّلُوا بِشَكْلِ أُنَاسٍ غُرَبَاءٍ مَارِّينَ بِبَيْتِهِ. وَتَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَجُمْلَةُ قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ جَاءَتْ مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَن جملَة فَقالُوا سَلاماً. وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ رَدِّهِ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ إِيجَازًا لِظُهُورِهِ. صرح بِهِ فِي قَوْلِهِ:
قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الذاريات: ٢٥]، أَيْ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ بَعْدَ أَنْ رَدَّ السَّلَامَ. وَفِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّهُ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً حِينَ رَآهُمْ لَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ لِلْأَكْلِ.
وَضَمِيرُ إِنَّا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهُوَ يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، لِأَنَّ
الضَّيْفَ طَرَقُوا بَيْتَهُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ طُرُوقِ الضَّيْفِ فَظَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ شَرًّا، فَلَمَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ فَاتَحَهُمْ بِطَلَبِ الْأَمْنِ، فَقَالَ: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، أَيْ أَخَفْتُمُونَا. وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الْحجر: ٢٥].
وَالْوَجِلُ: الْخَائِفُ. وَالْوَجَلُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- الْخَوْفُ. وَوَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٠] نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً.
وَقَدْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَفَرَّقُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَاوَبَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ قَوْلِهِ:
إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، فَنِهَايَةُ الْجَوَابِ هُوَ لَا تَوْجَلْ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَهِيَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ إِلَيْهِمُ الْقِرَى وَحَضَرَتِ امْرَأَتُهُ فَبَشَّرُوهُ بِحَضْرَتِهَا كَمَا فُصِّلَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالْغُلَامُ الْعَلِيمُ: إِسْحَاقُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيْ عَلِيمٌ بِالشَّرِيعَةِ بِأَن يكون نبيئا.
وَقَدْ حُكِيَ هُنَا قَوْلُهُمْ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَحُكِيَ فِي سُورَةِ هُودٍ قَوْلُهُمْ لِامْرَأَتِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ كَانَتْ لَهُمَا مَعًا فَقَدْ تَكُونُ حَاصِلَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ بِشَارَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَشَّرِ، وَقَدْ تَكُونُ حَصَلَتْ فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ بَشَّرُوهُ بِانْفِرَادٍ ثُمَّ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَبَشَّرُوهَا.
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي [الْإِسْرَاء: ١٥] وَهُوَ رَاجِعٌ أَيْضا إِلَى جملَة وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الْإِسْرَاء: ١٣] تَدْرِيجًا فِي التِّبْيَانِ لِلنَّاسِ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، فَابْتُدِئُوا بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَهُمْ تَبِعَةَ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ثُمَّ وَكَلَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِم، وَأَن الْمُسِيء لَا يَضُرُّ بِإِسَاءَتِهِ غَيْرَهُ وَلَا يَحْمِلُهَا عَنْهُ غَيْرُهُ فَقَالَ:
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ١٥]. ثُمَّ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُمْ عَلَى غِرَّةٍ وَلَا يَأْخُذُهُمْ إِلَّا بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ إِلَى قَوْلِهِ: خَبِيراً بَصِيراً [الْإِسْرَاء: ١٥- ١٧]. ثُمَّ كَشَفَ لَهُمْ مَقَاصِدَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قِسْمَانِ:
قِسْمٌ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الدُّنْيَا فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ لِمَرْضَاةِ شَهَوَاتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّنْيَا هِيَ قُصَارَى مَرَاتِعِ النُّفُوسِ لَا حَظَّ لَهَا إِلَّا مَا حَصَلَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ فَيَقْصُرُ عَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقِسْمٌ عَلِمَ أَنَّ الْفَوْزَ الْحَقُّ هُوَ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَعَمِلَ لِلْآخِرَةِ مُقْتَفِيًا مَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَامَلَ كُلَّ فَرِيقٍ بِمِقْدَارِ هِمَّتِهِ.
فَمَعْنَى كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْعَاجِلَةَ، أَيْ دُونَ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ سِوَى جُمْلَتَيْنِ إِثْبَاتٍ لِشَيْءٍ وَنَفْيٍ لِخِلَافِهِ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ هُنَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُ وَقُصَارَى هَمِّهِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم:
٧١] الْآيَةَ مَدَنِيٌّ، وَلَمْ يَعْزُهُ لِقَائِلٍ.
وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ فَاطِرٍ وَقَبْلَ سُورَةِ طه. وَكَانَ نُزُولُ سُورَةِ طه قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ فَيَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ أَثْنَاءَ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَيْسَ أَبُو مَرْيَمَ هَذَا مَعْدُودًا فِي الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ فَلَا أَحْسَبُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ مَقْبُولًا.
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا بُسِطَتْ فِيهَا قِصَّةُ مَرْيَمَ وَابْنِهَا وَأَهْلِهَا قَبْلَ أَنْ تُفَصَّلَ فِي غَيْرِهَا.
وَلَا يُشْبِهُهَا فِي ذَلِكَ إِلَّا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ. وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ ثمانا وَتِسْعين.
أغراض السُّورَة
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الْقَوْلِ الشَّنِيعِ فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا، فَكَانَ فِيهَا بَيَانُ نَزَاهَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَدَاسَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ.
وَهَلْ يُثْبِتُ الْخَطِّيَّ إِلَّا وَشِيجُهُ ثُمَّ التَّنْوِيهِ بِجَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَسْلَافِ هَؤُلَاءِ وَقَرَابَتِهِمْ.
وَالْإِنْحَاءِ عَلَى بَعْضِ خَلَفِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى سُنَنِهِمْ فِي الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَتَوْا بِفَاحِشٍ مِنَ الْقَوْلِ إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَأَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمُ الْبَعْثَ وَأَثْبَتَ النَّصَارَى وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى.
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٢]
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢)لَمَّا ذُكِرَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا نَاسَبَ بِحُكْمِ الطِّبَاقِ ذِكْرَ خَلْقِ السَّمَاءِ عَقِبَهُ، إِلَّا أَنَّ حَالَةَ خَلْقِ الْأَرْضِ فِيهَا مَنَافِعٌ لِلنَّاسِ. فَعَقَّبَ ذِكْرَهَا بِالِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣١] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣١].
وَأَمَّا حَالُ خَلْقِ السَّمَاءِ فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ امْتِنَانٌ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ خَلْقِ السَّمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ. فَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَّةٌ وَهِيَ حِفْظُ السَّمَاءِ مِنْ أَنْ تَقَعَ بَعْضُ الْأَجْرَامِ الْكَائِنَةِ فِيهَا أَوْ بَعْضُ أَجْزَائِهَا عَلَى الْأَرْضِ فَتُهْلِكَ النَّاسَ أَوْ تُفْسِدَ الْأَرْضَ فَتُعَطِّلَ مَنَافِعَهَا، فَذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي خِلَالِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْعِبْرَةِ بِهِ.
وَالسَّقْفُ، حَقِيقَتُهُ: غِطَاءُ فَضَاءِ الْبَيْتِ الْمَوْضُوعُ عَلَى جُدْرَانِهِ، وَلَا يُقَالُ السَّقْفُ عَلَى غِطَاءِ الْخِبَاءِ وَالْخَيْمَةِ. وَأُطْلِقَ السَّقْفُ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ جَعَلْنَاهَا كَالسَّقْفِ لِأَنَّ السَّمَاءَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى عَمَدٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٢].
وَجُمْلَةُ وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَآيَاتُ السَّمَاءِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاءُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشُّهُبِ وَسَيْرِهَا وَشُرُوقِهَا وَغُرُوبِهَا وَظُهُورِهَا وَغَيْبَتِهَا، وَابْتِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى حِسَابٍ قَوِيمٍ وَتَرْتِيبٍ عَجِيبٍ، وَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ
كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالدُّعَاءِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَجَاءَ جَوَابُ دُعَاءِ هَذَا الرَّسُولِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ
الْمُحَاوَرَاتِ الَّذِي بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وعَمَّا قَلِيلٍ أَفَادَ حَرْفُ (عَنْ) الْمُجَاوَزَةَ، أَيْ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا. وَيَكْثُرُ أَنْ تُفِيدَ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا فَيَنْشَأُ مِنْهَا مَعْنَى (بَعْدَ) نَحْوَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: ١٩] فَيُقَالُ: إِنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى (بَعْدَ) كَمَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ وَهُمْ جَرَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى إِذْ لَا يَكُونُ حَرْفٌ بِمَعْنَى اسْمٍ، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْحُرُوفِ نَاقِصَةٌ وَمَعَانِيَ الْأَسْمَاءِ تَامَّةٌ. فَمَعْنَى عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ: أَنَّ إِصْبَاحَهُمْ نَادِمِينَ يتَجَاوَز زَمنا قَلِيلا: أَيْ مِنْ زَمَانِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ تَجَاوُزٌ مَجَازِيٌّ بِحَرْفِ (عَنْ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى (بَعْدَ) اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ.
وقَلِيلٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ فِعْلُ الْإِصْبَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّمَنِ فَوَعَدَ اللَّهُ هَذَا الرَّسُولَ نَصْرًا عَاجِلًا.
وَنَدَمُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَبْدَأِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نَدَمُهُمْ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
وَالْإِصْبَاحُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الصَّبَاحِ لَا مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٣] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ.
[٤١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤١]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
حَتَّى يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَقَدْ بَلَغُوا مِنَ النِّكَايَةِ بِهِ أَمَلَهُمْ، بَلْ مَا عَلَيْهِ إِلَّا التَّبْلِيغُ بِالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ.
وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يُقْصَدُ بِهِ الْجَزَاءُ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مَحْذُوفٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُجْعَلَ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُسَمَّى تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَبِعِبَارَةٍ أَتْقَنَ تَأْكِيدَ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ مَحْضٌ وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى فِيهِ مُنْقَطِعًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا مِنْ قَبِيلِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ أَجْرًا إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا عَمَلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا إِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ الْأَجْرَ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَةِ فَكَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَقَدْ يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وَيُقَدِّرُونَهُ كَالِاسْتِدْرَاكِ.
وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٢٧]. وَجُعِلَ السَّبِيلُ هُنَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: ٣٩].
وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ السَّيْرَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَّا كَانَ آبقا.
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٩٣]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)كَانَ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُعَانِدِينَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ لِلدِّينِ الْحَقِّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بِهِ النَّاسَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي عِدَادِ الرُّسُلِ الْمُنْذِرِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأَبْشَرِهَا بِأَعْظَمِ دَرَجَةٍ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُمِرَ بِأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي حَمِدَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ وَهِيَ كَلِمَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَامِعَةُ لِمَعَانٍ مِنَ الْمَحَامِدِ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٩].
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُعَانِدُونَ حِينَ يَسْمَعُونَ آيَاتِ التَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَقَصْرِ مَقَامِ الرِّسَالَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نَقْضٌ لِلْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ فَخَتَمَ الْكَلَامَ بِتَحْقِيقِ أَنَّ الْوَعِيدَ قَرِيبٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ فَتَظْهَرُ لَهُمْ دَلَائِلُ صِدْقِ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ الْوَعيد بِالْآيَاتِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بِهِمْ مَا فِيهِ تَصْدِيقٌ لِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُوقِنُونَ أَنَّ مَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ، فَمَعْنَى فَتَعْرِفُونَها تَعْرِفُونَ دَلَالَتَهَا عَلَى مَا بَلَّغَكُمُ الرَّسُولُ مِنَ النِّذَارَةِ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَمَّا عُلِّقَتْ بِهَا بِعُنْوَانِ أَنَّهَا آيَاتُ اللَّهِ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ مَا فِي عُنْوَانِ الْآيَاتِ مِنْ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالْعَلَامَةِ.
وَالسِّينُ تُؤْذِنُ بِأَنَّهَا إِرَاءَةٌ قَرِيبَةٌ، فَالْآيَاتُ حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ الدُّخَانِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَاسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهَا تَحْصُلُ عَقِبَ حُصُولِهَا وَلَوْ فِي وَقْتِ النَّزْعِ وَالْغَرْغَرَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا. وَقَالَ تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣]. فَمِنَ الْآيَاتِ فِي أَنْفُسِهِمْ إِعْمَالُ سُيُوفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَضْعِفُونَهُمْ فِي أَعْنَاقِ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَرُوحُهُ فِي الْغَلْصَمَةِ يَوْمَ
بَدْرٍ «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتْلَهُ قَوْمُهُ» يَعْنِي نَفْسَهُ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ.
يُقَالُ:
ضَيْعَةٌ عَامِرَةٌ، أَيْ: مَعْمُورَةٌ بِمَا تَعْمُرُ بِهِ الضِّيَاعُ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: ضَيْعَةٌ غَامِرَةٌ. وَلِكَوْنِ قُرَيْشٍ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِثَارَةٌ فِي الْأَرْضِ بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ إِذْ كَانُوا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لَمْ يُقَلْ فِي هَذَا الْجَانِبِ: أَكْثَرَ مِمَّا أَثَارُوهَا.
وَضَمِيرَا جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها رَاجِعٌ أَوَّلُهُمَا إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَثارُوا وَثَانِيهِمَا إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وَيُعْرَفُ تَوْزِيعُ الضَّمِيرَيْنِ بِالْقَرِينَةِ مِثْلُ تَوْزِيعِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فِي سُورَةِ [الْقَصَصِ: ١٥] كَالضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قِتَالَ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ | بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا |
وَتَفْرِيعُ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِيجَازُ حَذْفٍ بَدِيعٌ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ يَقْتَضِي تَصْدِيقًا وَتَكْذِيبًا فَلَمَّا فَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَأَنَّ اللَّهَ جَازَاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ بِأَنْ عَاقَبَهُمْ عِقَابًا لَوْ كَانَ لِغَيْرِ
جُرْمٍ لَشَابَهَ الظُّلْمَ، فَجُعِلَ مِنْ مَجْمُوعِ نَفْيِ ظُلْمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمِنْ إِثْبَاتِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَعْرِفَةُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَعَانَدُوهُمْ وَحَلَّ بِهِمْ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ دِيَارِهِمْ وَتَنَاقُلِ أخبارهم.
والاستدراك ناشىء عَلَى مَا يَقْتَضِيهُ نَفْيُ ظُلْمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةً سَيِّئَةً لَوْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا لَكَانَتْ مُعَامَلَةَ ظُلْمٍ. وَعُبِّرَ عَنْ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ظُلْمِهِمْ وَتَكَرُّرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ فَلَمْ يُقْلِعُوا حَتَّى أَخَذَهُمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْعَاقِبَةُ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ كانُوا.
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٤٨]
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨)جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَحْزَاب: ٤٧] بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ تَحْذِيرًا لَهُ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا يَسْأَلُونَ مِنْهُ وَتَأْيِيدًا لِفِعْلِهِ مَعَهُمْ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ الْمُنَافِقُونَ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْأَحْزَابِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ، فَنُهِيَ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى مَا يَرْغَبُونَهُ فَيَتْرُكَ مَا أُحِلَّ لَهُ مِنَ التَّزَوُّجِ، أَوْ فَيُعْطِي الْكَافِرِينَ مِنَ الْأَحْزَابِ ثَمَرَ النَّخْلِ صُلْحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الِانْتِهَاءِ.
وَعُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ أَمْرِ التَّبْشِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَنَّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ هُمْ مُتَعَلَّقُ الْإِنْذَارِ مِنْ قَوْله: وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: ٤٥] لِأَنَّ وَصْفَ
«بَشِيرًا» قَدْ أَخَذَ مُتَعَلَّقَهُ فَقَدْ صَارَ هَذَا نَاظِرًا إِلَى قَوْله: وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: ٤٥].
وَقَوله: وَدَعْ أَذاهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ دَعْ مُرَادًا بِهِ أَنْ لَا يُعَاقِبَهُمْ فَيَكُونُ دَعْ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَتَكُونُ إِضَافَةُ أَذَاهُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ دَعْ أَذَاكَ إِيَّاهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَعْ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ وَعدم الاغتمام، فَمَا يَقُولُونَهُ مِمَّا يُؤْذِي وَيَكُونُ إِضَافَةُ أَذَاهُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ لَا تَكْتَرِثْ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى إِلَيْكَ فَإِنَّكَ أَجَلُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ اقْتَصَرُوا عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ. وَالْوَجْهُ: الْحَمْلُ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِتَرْكِ أَذَاهُمْ صَادِقًا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا يُؤْذُونَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَصَادِقًا بِالْكَفِّ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ، أَيْ أَنْ يَتَرَفَّعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي شَأْنِهِ، وَهَذَا إِعْرَاضٌ عَنْ أَذًى خَاصٍّ لَا عُمُومَ لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَيْسَتْ آيَاتُ الْقِتَالِ بِنَاسِخَةٍ لَهُ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتْرُكُ أَذَاهُمْ وَيَكِلُهُمْ إِلَى عِقَابٍ آجِلٍ وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْله:
شاهِداً [الْأَحْزَاب: ٤٥] لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ [الصافات: ١٧٤- ١٧٥].
وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ التَّدْبِيرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩] وَقَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ، سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقِرَّاءَ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرُ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» ثُمَّ اقْتَصَّ الْخَبَرَ عَنْ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ، وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ.
وَمِثْلُهُ خَبَرُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ «أَنَّهُ جَمَعَ قُرَيْشًا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْسِمِ لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا لَا يُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ وَلَا بِسَجْعِهِ، قَالُوا: نَقُولُ مَجْنُونٌ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَا بِخَنْقِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ، فَذَكَرَ تَرَدُّدَهُمْ فِي وَصْفِهِ إِلَى أَنْ قَالُوا: نَقُولُ شَاعِرٌ؟ قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْتُ الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَبْسُوطَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَا هُوَ بِشَاعِرٍ... »
إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ.
فَمَعْنَى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ: وَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ شِعْرًا عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي طَبْعِ النَّبِيءِ الْقُدْرَةَ عَلَى نَظْمِ الشِّعْرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقْدِرَةِ لَا تُسَمَّى تَعْلِيمًا حَتَّى تُنْفَى وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَما يَنْبَغِي لَهُ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.
وَقَدِ اقْتَضَتِ الْآيَةُ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ شِعْرًا، وَهَذَا الِاقْتِضَاءُ قَدْ أَثَارَ مَطَاعِنَ لِلْمُلْحِدِينَ وَمَشَاكِلَ لِلْمُخْلِصِينَ، إِذْ وُجِدَتْ فِقْرَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ اسْتَكْمَلَتْ مِيزَانَ بُحُورٍ مِنَ الْبُحُورِ الشِّعْرِيَّةِ، بَعْضُهَا يَلْتَئِمُ مِنْهُ بَيْتٌ كَامِلٌ، وَبَعْضُهَا يَتَقَوَّمُ مِنْهُ مِصْرَاعٌ وَاحِدٌ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الشِّعْرِ فِي آيِ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ أَثَارَ الْمَلَاحِدَةُ هَذَا الْمَطْعَنَ، فَلِذَلِكَ تَعَرَّضَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِلَى دَحْضِهِ فِي كِتَابِهِ «إِعْجَازُ الْقُرْآنِ» وَتَبِعَهُ السَّكَّاكِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ، فَأَمَّا الْبَاقِلَّانِيُّ فَانْفَرَدَ بَرَدٍّ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْبَيْتَ الْمُفْرَدَ لَا يُسَمَّى شِعْرَا بَلْهَ الْمِصْرَاعَ الَّذِي لَا يَكْمُلُ بِهِ بَيْتٌ. وَأَرَى هَذَا غَيْرَ كَافٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ نَفْيُ مُسَمَّى الشِّعْرِ عَنِ الْمِصْرَاعِ وَأَوْلَى عَنِ الْبَيْتِ.
بِخُزَعْبَلَاتِهِمْ وَإِطْمَاعِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ إِنْ هُوَ شَارَكَهُمْ فِي عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ يَحْسَبُونَ الدِّينَ مُسَاوَمَةً ومغابنة وتطفيفا.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
تَأْيِيدٌ لِأَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مَقَالَةَ إِنْكَارِ أَنْ يَطْمَعُوا مِنْهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، بِأَنَّهُ قَوْلٌ اسْتَحَقُّوا أَنْ يُرْمُوا بِغِلْظَتِهِ لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَجَاهِلُونَ بِنَفْسِ الرَّسُولِ وَزَكَائِهَا. وَأَعْقَبَ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَطَرَّقُ الْإِشْرَاكُ حَوَالَيْ قُلُوبِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ حَاوَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جملَة قُلْ [الزمر: ٦٤]. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وبحرف (قد) تَأْكِيد لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالْوَحْيُ: الْإِعْلَامُ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ.
فَالْمُرَادُ الْقَبْلِيَّةُ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ فَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى أُوحِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
[طه: ١٢٠].
وَالتَّاءُ فِي أَشْرَكْتَ تَاءُ الْخِطَابِ لِكُلِّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَيَكُونُ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ الْبَيَانَ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ عُمُومُهُ وَنَحْوِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِقَوْمِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ فَرْضَ إِشْرَاكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ.
وَالشَّكِّ، أَيْ دُونَ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، فَلَمْ يَزَلِ الشَّكُّ دَأْبَهُمْ. فَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ:
هُمُ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ سَلَفِهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى أسلوب إيجاز يتَحَمَّل هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا، فَجِيءَ بِضَمِيرِ مِنْهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ أَلْفَاظٍ صَالِحَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مَعَادَ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، وَهِيَ لَفْظُ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الدِّينِ [الشورى: ١٣]، وَلَفْظُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ١٣]، وَمَا الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: ١٣]، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَدْلُولُهَا الْإِسْلَامُ. وَهُنَالِكَ لَفْظُ مَا وَصَّيْنا [الشورى: ١٣] الْمُتَعَدِّي إِلَى مُوسَى وَعِيسَى، وَلَفْظُ الْكِتابَ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا (١) الْكِتابَ. وَهَذَانَ مَدْلُولُهُمَا كِتَابَا أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هُمُ الْمَوْجُودُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شكّ ناشىء مِنْ تِلْكَ الْمُعَادَاتِ لِلضَّمِيرِ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَبْلَغَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ حَالَةَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، أَيْ لَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ بِمُوقِنِينَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ
بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَدَّدُوا ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ حَسَدًا وَعِنَادًا. فَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ حَالُهُمْ فِي الشَّكِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦]. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى لَفِي شَكٍّ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي شَكٍّ مِمَّا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَرَّقُوا فِيهَا، أَوْ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَجِيءِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَصِفَاتِهِ. فَهَذِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ تَتَحَمَّلُهَا الْآيَةُ وَكُلُّهَا مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى صَرْفِ كَلِمَةِ شَكٍّ عَنْ حَقِيقَتِهَا.
وَمَعْنَى أُورِثُوا الْكِتابَ صَارَ إِلَيْهِمْ عِلْمُ الْكِتَابِ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ سَلَفُهُمْ فَاسْتُعِيرَ الْإِرْثُ لِلْخَلَفِيَّةِ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابَ لِلْجِنْسِ لِيَشْمَلَ كِتَابَ الْيَهُودِ وَكِتَابَ النَّصَارَى.
_________
(١) فِي المطبوعة أُوتُوا وَهُوَ خطأ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَهُ لِتَسْجِيلِ بُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَهْتَدِي وَلِتُكْتَبَ تَبِعَتُهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أرسل مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْجِنَّ حَضَرُوا بِعِلْمٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ.
فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ فَلَمَّا كَانُوا بِنَخْلَةَ، اسْمُ مَوْضِعٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا».
وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «افتقدنا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا مَا فُعِلَ بِهِ اغْتِيلَ أَوْ وَاسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ فَقَالَ «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ»
. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَادِثُ خَارِقُ عَادَةٍ وَهُوَ معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٠].
وَالصَّرْفُ: الْبَعْثُ. وَالنَّفَرُ: عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْعِشْرِينَ. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْجِنِّ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْإِنْسِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ.
وَجُمْلَةُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْجِنِّ وَحَيْثُ كَانَتِ الْحَالُ قَيْدًا لِعَامِلِهَا وَهُوَ صَرَفْنا كَانَ التَّقْدِيرُ: يَسْتَمِعُونَ مِنْكَ إِذا حَضَرُوا لديك فَصَارَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا مُؤَدَّى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. فَالْمَعْنَى: صَرَفْنَاهُمْ إِلَيْكَ لِيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ.
وَضَمِيرُ حَضَرُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ حَضَرُوا إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةٌ
مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَضَرُوا قَارِئَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَنْصِتُوا أَمْرٌ بِتَوْجِيهِ الْأَسْمَاعِ إِلَى الْكَلَامِ اهْتِمَامًا بِهِ لِئَلَّا يَفُوتَ مِنْهُ شَيْء. و
الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ لِآبَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» فَذَكَرَ «وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»
. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّهُ) عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ مَحْذُوفًا حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنَّ) وَهُوَ هُنَا اللَّامُ تَعْلِيلًا لِ نَدْعُوهُ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَمَوْقِعُ جُمْلَتِهَا التَّعْلِيلُ.
وَالْبَرُّ: الْمُحْسِنُ فِي رِفْقٍ.
وَالرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَهُوَ لِقَصْرِ صِفَتَيِ الْبَرُّ والرَّحِيمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبُرُورِ غَيْرِهِ وَرَحْمَةِ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بُرُورِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ فَإِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَبْلُغُ بِالْمَبَرَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَبْلَغَ مَا لِلَّهِ وَبِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمُتَعَلِّقِ، وَبِاعْتِبَارِ الدَّوَامِ لِأَنَّ اللَّهَ بَرٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَغَيْرُ اللَّهِ بَرٌّ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَلَا يَمْلِكُ فِي الْآخِرَة شَيْئا.
[٢٩]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٢٩]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: ٧] لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ، وَعَقَّبَ بِهَذَا لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مُؤْمِنِينَ بِهِ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ مَعَ مَا أُعِدَّ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فَكَانَ مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي
اسْتِمْرَارِ التَّذْكِيرِ حِكْمَةً أَرَادَهَا اللَّهُ، وَهِيَ ارْعِوَاءُ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وَازْدِيَادُ الْمُصَدِّقِينَ تَوَغُّلًا فِي إِيمَانِهِمْ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمر الله رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّذْكِيرِ.
فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء:
١٣٦]. وَلَمَّا كَانَ أَثَرُ التَّذْكِيرِ أَهَمَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ لِيَهْتَدِي مَنْ شُرِحَ قَلْبُهُ لِلْإِيمَانِ رُوعِيَ مَا يَزِيدُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَاتًا عَلَى التَّذْكِيرِ مِنْ تَبْرِئَتِهِ مِمَّا يُوَاجِهُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُ: هُوَ كَاهِنٌ أَوْ هُوَ مَجْنُونٌ، فَرَبَطَ اللَّهُ جَأْشَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ بَرَاءَتَهُ
وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْآيَةِ سَبَبُ نُزُولٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا مُتَّصِلَةُ الْمَعْنَى بِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ وَمُوَالَاتِهِمُ الْيَهُودَ، فَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ قَصَصٍ لِسَبَبِ نُزُولِهَا فَإِنَّمَا هُوَ أَمْثِلَةٌ لِمُقْتَضَى حُكْمِهَا.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ لَا تَجِدُ قَوْماً يُثِيرُ تَشْوِيقًا إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَمَا سَيُسَاقُ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ حُكْمٍ.
وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَمْرُهُ بِإِبْلَاغِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مُوَادَّةَ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُحَادُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هِيَ مِمَّا يُنَافِي الْإِيمَانَ لِيَكُفَّ عَنْهَا مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِهَا.
فَالْكَلَامُ مِنْ قِبَلِ الْكِنَايَةِ عَنِ السَّعْيِ فِي نَفْيِ وِجْدَانِ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ، مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، أَيْ لَا تَحْضُرْ هُنَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [يُونُس: ١٨] أَرَادَ بِمَا لَا يَكُونُ، لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَيَّامَ كَانُوا بِمَكَّةَ. وَقَدْ نُقِلَتْ أَخْبَارٌ مِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةُ الْقُوَّةِ وَلَكِنْ كَانَ الْكُفْرُ أَيَّامَئِذٍ مَكْشُوفًا وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَاضِحَةً. فَلَمَّا انْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ الْكُفْرُ مَسْتُورًا فِي الْمُنَافِقِينَ فَكَانَ التَّحَرُّزُ مِنْ مُوَادَّتِهِمْ أَجْدَرَ وَأَحْذَرَ.
وَالْمُوَادَّةُ أَصْلُهَا: حُصُولُ الْمَوَدَّةِ فِي جَانِبَيْنِ. وَالنَّهْيُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ مَوَدَّةِ الْمُؤْمِنِ الْكَافِرِينَ لَا عَنْ مُقَابَلَةِ الْكَافِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَوَدَّةِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا اعْتِبَارًا بِأَنَّ شَأْنَ الْوُدِّ أَنْ يَجْلِبَ وُدًّا مِنَ الْمَوْدُودِ لِلْوَادِّ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُفَاعَلَةُ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْوُدِّ صَادِقًا لِأَنَّ الْوَادَّ الصَّادِقَ يُقَابِلُهُ الْمَوْدُودُ بِمِثْلِهِ. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَرِينَةُ الْكِنَايَةِ تَوْجِيهُ نَفْيِ وِجْدَانِ الْمَوْصُوفِ بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ هُنَا إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: ٢٨]، لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فَلَا تُتَصَوَّرُ مَعَهَا التَّقِيَةُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: ٢٨].
وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم:
٤٨- ٥٠] مَدَّنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْقَلَم: ٥١] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مَكِّيٌّ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ السَّخَاوِيِّ: أَنَّ الْمَدَنِيَّ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم: ١٧- ٣٣] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم: ٤٨- ٥٠] فَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم:
٣٤- ٤٧] مَدَنِيًّا خِلَافًا لِمَا نَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ثَانِيَةَ السُّورِ نُزُولًا قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ ثُمَّ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَالْأَصَحُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ «أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ
سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ».
وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ» يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ.
أَغْرَاضُهَا
جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِيمَاءُ بِالْحَرْفِ الَّذِي فِي أَوَّلِهَا إِلَى تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ بِالتَّعْجِيزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَوَّلُ التَّحَدِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ إِذْ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ وَلَا فِي الْمُزَّمِّلِ وَلَا فِي الْمُدَّثِّرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي وَلَا تَصْرِيحٌ.
وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي بِمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: ١].
وَابْتُدِئَتْ بِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِثْبَاتُ كَمَالَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَدْيِهِ وَضَلَالِ مُعَانَدِيهِ وَتَثْبِيتِهِ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِمَا هُوَ مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ
وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ مِنَ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ التَّغْلِيبِ دون خُصُوصِيَّة التَّمْثِيل.
وَشَمل اقَدَّمَتْ يَداهُ
الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ عُمُومِ الْمَرْءِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الَّذِي يَقُول: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
لِأَنَّ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلَى إِنْذَارِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَكَانَ ذَلِكَ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ، أَيْ يَوْمَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْمُكَلَّفِينَ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُدْرِكٍ وَلَا حَسَّاسٍ بِأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ شَيْءٍ مِمَّا لَا إِدْرَاكَ لَهُ وَهُوَ التُّرَابُ، وَذَلِكَ تَلَهُّفٌ وَتَنَدُّمٌ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٩٨] فَجَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ بِالتَّحَسُّرِ وَتَمَنِّي أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْكَافِرِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ عَمِلَ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ وَتَوَقَّعَ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ يَرْجُو أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ إِلَى النَّعِيمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمرَان: ٣٠] وَقَالَ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٦- ٨]، فَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَعْظَمُ ثَوَاب، وَثَوَابُ حَسَنَاتِهِمْ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِيهَا وَيَرْجُونَ الْمَصِيرَ إِلَى ذَلِكَ الثَّوَابِ وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ لَا يَطْغَى عَلَى ثَوَابِ حَسَنَاتِهِمْ، فَهُمْ كُلُّهُمْ يَرْجُونَ الْمَصِيرَ إِلَى النَّعِيمِ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَوْ لِمَنْ يُقَارِبُهُمْ مَثَلًا بِقَوْلِهِ:
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الْأَعْرَاف: ٤٦] عَلَى مَا فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ وُجُوهٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِمَا جَاءَ فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَفِي آخِرِهَا رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ عُرِّفُوا بِالطَّاغِينَ وَبِذَلِكَ كَانَ خِتَامُ السُّورَةِ بِهَا بَرَاعَةَ مَقْطَعٍ.
الصفحة التالية