[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)أُعِيدَ ذِكْرُ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِطْرَادِ الْمُتَفَنَّنِ فِيهِ، فَأُعِيدَ الْأُسْلُوبُ
الْقَدِيمُ وَهُوَ الْعَطْفُ بِإِعَادَةِ لَفْظِ (إِذْ) فِي أَوَّلِ الْقَصَصِ. وَأَظْهَرَ هُنَا لَفْظَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَعَدَلَ عَنِ الْأُسْلُوبِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ فِيهِ التَّعْبِيرُ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ الْمُرَادِ بِهِ سَلَفُ الْمُخَاطَبِينَ وَخَلَفُهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى مُجَادَلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى مَسَاوِيهِمْ فَهُوَ افْتِتَاحٌ ثَانٍ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الِافْتِتَاحِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَة: ٤٠] الْآيَةَ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ هُنَا لَمَّا كَانَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُ إِثْبَاتَ سُوءِ صَنِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ الْقُرْآنِ تَعَيَّنَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ سَلَفِهِمْ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ لِيَتَأَتَّى تَوْجِيهُ الْخِطَابِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ حَتَّى لَا يُظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ أَسْلَافُهُمْ عَلَى وِزَانِ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الْبَقَرَة: ٤٩] أَوْ عَلَى وِزَانِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [الْبَقَرَة: ٥١].
وَقَوْلُهُ: مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أُرِيدَ بِهِ أَسْلَافَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَعْطَوُا الْمِيثَاقَ لِمُوسَى عَلَى امْتِثَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِلَفْظِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي تَوَلَّيْتُمْ خُصُوصُ مَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ مَا صَدَّقَ بَنِي إِسْرائِيلَ هُوَ مَا صَدَّقَ ضَمِيرَ تَوَلَّيْتُمْ وَأَنَّ الْكَلَامَ الْتِفَاتٌ.
وَقَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَمَجِيءُ الْخَبَرِ لِلْأَمْرِ أَبْلَغُ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِعَلَاقَةِ مُشَابَهَةِ الْأَمْرِ الْمَوْثُوقِ بِامْتِثَالِهِ بِالشَّيْءِ الْحَاصِلِ حَتَّى إِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ لَا تَعْبُدُونَ مَبْدَأُ بَيَانٍ لِلْمِيثَاقِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَعُطِفَ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا لِيَكُونَ مُشَارِكًا لَهَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِيَّةِ سَوَاءٌ قَدَّرْتَ أَنْ أَوْ لَمْ تُقَدِّرْهَا أَوْ قَدَّرْتَ قَوْلًا مَحْذُوفًا.
وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً هُوَ مِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بِهِ وَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُمَا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَأَصْلُهُ وَإِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ، وَالْمَصْدَرُ بَدَلٌ
وَنَفْيُ عِبَادَتِهِ آلِهَتَهَمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُفِيدُ نَفْيَ أَنْ يَعْبُدَهَا فِي الْحَالِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَلِأَنَّهُمْ مَا عَرَضُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ بِنَفْيِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ بِمُغَيِّرِينَ إِشْرَاكَكُمُ الْآنَ لِأَنَّهُمْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئُوا هُمْ فَيَعْبُدُوا الرَّبَّ الَّذِي يَعْبُدُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً. وَبِهَذَا تَعْلَمُ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ نَظْمِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ الْبَلِيغِ.
وَهَذَا إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ فَاعِلِينَ ذَلِكَ مِنَ الْآنِ بِإِنْبَاءِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوءَتِهِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤] فَإِنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاتُوا عَلَى شركهم.
وَمَا صدق مَا أَعْبُدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَبَّرَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَارِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ (مَنْ) بِالْعَاقِلِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِ (مَا) عَلَى الْعَاقِلِ إِذَا
كَانَ اللَّبْسُ مَأْمُونًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : أَنَّ (مَا) الْمَوْصُولَةَ يُؤْتَى بِهَا لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ لِتُفِيدَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّفْخِيمِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة الشَّمْس [٥].
[٤]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : آيَة ٤]
وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (٤)
عُطِفَ عَلَى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٣] عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لمناسبة نفي أَو يَعْبُدُوا اللَّهَ فَأَرْدَفَ بِنَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ هُوَ آلِهَتَهُمْ، وَعَطْفُهُ بِالْوَاوِ صَارِفٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَأْكِيدَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. لِلدَّلَالَةِ على الثَّبَات، وبكون الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ دَالًّا عَلَى زَمَانِ الْحَالِ، فَلَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْبُدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يَعْبُدُونَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، صَرَّحَ هُنَا بِمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الْفَحْوَى عَلَى نَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ فِي الْحَالِ، بِمَا هُوَ صَرِيحُ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَزِيدَ الْبَيَانِ، فَاقْتَضَى الِاعْتِمَادَ عَلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ إِطْنَابًا فِي الْكَلَامِ، لِتَأْيِيسِهِمْ مِمَّا رَاوَدُوهُ عَلَيْهِ وَلِمُقَابَلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَرْدُودِ بِمِثْلِهِ فِي إِفَادَةِ الثَّبَاتِ. وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُ