وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَالْمَعْنَى أَخَذْنَا مِيثَاقَ الْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الْإِحْسَانِ فَكُنْتُمْ مِمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذَلِكَ وَعَصَيْتُمْ شَرْعًا اتَّبَعْتُمُوهُ. وَالتَّوَلِّي الْإِعْرَاضُ وَإِبْطَالُ مَا الْتَزَمُوهُ، وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ لِدِلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَيْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ بِهِ أَيْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَعَبَدْتُمُ الْأَصْنَامَ وَعَقَقْتُمُ الْوَالِدَيْنِ وَأَسَأْتُمْ لِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُلْتُمْ لِلنَّاسِ أَفْحَشَ الْقَوْلِ وَتَرَكْتُمُ الصَّلَاةَ وَمَنَعْتُمُ الزَّكَاةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي تَوَلَّيْتُمْ الْمُخَاطَبِينَ زَمَنَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَبَعْضُ مِنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ متوسط عصور الإسرائيليين فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ تَغْلِيبًا، نُكْتَتُهُ إِظْهَارُ بَرَاءَةِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ أَوَّلًا مِنْ نَكْثِهِ وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْجَمْعِ وَالْمُرَادُ التَّوْزِيعُ أَيْ تَوَلَّيْتُمْ فَمِنْكُمْ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ لِلْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى إِلَخْ وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَمِنْكُمْ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ يَهُودَ زَمَنَ النُّزُولِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ بَعْدِ سُلَيْمَانَ فَقَدْ كَانَتْ مِنْ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِرَارًا كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي سِفْرَيِ الْمُلُوكِ الْأُوَلِ وَالثَّانِي من التَّوْرَاة.
و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبَيْنِ التَّرَتُّبِيِّ وَالْخَارِجِيَّ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ إِنْصَافٌ لَهُمْ فِي تَوْبِيخِهِمْ وَمَذَمَّتِهِمْ وَإِعْلَانٌ بِفَضْلِ مَنْ حَافَظَ عَلَى الْعَهْدِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَلِكَوْنِهَا اسْمِيَّةً أَفَادَتْ أَنَّ الْإِعْرَاضَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُمْ وَعَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْهُمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُشْتَقًّا مِنْ فعل منزل منزلَة اللَّازِمِ وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلٍ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ أَيْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْوَصَايَا الَّتِي تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ أَيْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ وَجُرْأَةٍ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْوَصَايَا وَتَرْكًا لِلتَّدَبُّرِ فِيهَا وَالْعَمَلِ بِهَا
السَّابِقَةِ بِتَمَامِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ وَاوِ الْعَطْفِ فِي نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقُ تَكْذِيبِهِمْ فِي عَرْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٦]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : آيَة ٦]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ، وَقَدْ أُرْسِلَ هَذَا الْكَلَامُ إِرْسَالَ الْمَثَلِ وَهُوَ أَجْمَعُ وَأَوْجَزُ مِنْ قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا | عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ |
وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ لِأَنَّ التَّمَثُّلَ بِهِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ وَمَا التَّمَثُّلُ بِهِ إِلَّا مِنْ تَمَامِ بَلَاغَتِهِ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْعَمَلِ بِهِ. وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي الْمُسَوَّدَةِ.
وَقُدِّمَ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ الْمُسْنَدُ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ دِينُكُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَكُمْ لَا يَتَجَاوَزُكُمْ إِلَى الْكَوْنِ لِي، وَدِينِي مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُنِي إِلَى كَوْنِهِ لَكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُمْ مُحَقَّقٌ عَدَمُ إِسْلَامِهِمْ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، وَاللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ أَوِ الِاسْتِحْقَاقُ.
وَالدِّينُ: الْعَقِيدَةُ وَالْمِلَّةُ، وَهُوَ مَعْلُومَاتٌ وَعَقَائِدُ يَعْتَقِدُهَا الْمَرْءُ فَتَجْرِي أَعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ دِينًا لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى الدِّينِ الْمُعَامَلَةُ وَالْجَزَاءُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دِينِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى أَنَّ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَحْذُوفَةٌ لِلتَّخْفِيفِ مَعَ بَقَاءِ الْكَسْرَةِ عَلَى النُّونِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَدْ كُتِبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ اعْتِمَادًا عَلَى حِفْظِ الْحُفَّاظِ لِأَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ الْيَاءَ مِثْلَ يَعْقُوبَ يُشْبِعُ الْكَسْرَةَ إِذْ لَيْسَتِ الْيَاءُ إِلَّا مَدَّةً لِلْكَسْرَةِ فَعَدَمُ رَسْمِهَا فِي الْخَطِّ لَا يَقْتَضِي إِسْقَاطَهَا فِي اللَّفْظِ.