وَرُوحُ الْقُدُسِ رُوحٌ مُضَافٌ إِلَى النَّزَاهَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحُ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ فَتَكُونُ مِنْهُ عِيسَى وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَأْيِيدًا لَهُ لِأَنَّ تَكْوِينَهُ فِي ذَلِكَ الرُّوحِ اللَّدُنِّيِّ الْمُطَهَّرِ هُوَ الَّذِي هَيَّأَهُ لِأَنْ يَأْتِيَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلَ وَالتَّأْيِيدُ بِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ وَيَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ فِي الْمَهْدِ وَحِينَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ هُنَا،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثٌ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجَلَهَا»
. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِضَافَةُ (رُوحٍ) إِلَى (الْقُدُسِ) إِمَّا مِنْ إِضَافَةِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا إِلَى مَا حَقُّهُ أَنْ تُشْتَقَّ مِنْهُ الصِّفَةُ وَلَكِنِ اعْتَبَرَ طَرِيقَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِاقْتِضَاءِ الْإِضَافَةِ مُلَابَسَةَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَتِلْكَ الملابسة هُنَا تؤول إِلَى التَّوْصِيفِ وَإِلَى هَذَا قَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ صِفَةً حَقِيقَةً حَتَّى يكون فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَمَا قَبْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا تَمْهِيدٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ طُغْيَانِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ جَمِيعَ الرُّسُلِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِمُقَابَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَاوَى فِيهَا الْخَلَفُ السَّلَفَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سَجِيَّةٌ فِي الْجَمِيعِ.
وَتَقْدِيمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدِ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَظَاهِرُهُ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُتَسَلِّطًا عَلَى الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ وَتَسَلُّطُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ غَرِيبٌ فَلِذَلِكَ صَرَفَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ طَرِيقَتَانِ: إِحْدَاهُمَا طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ قَالُوا: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ
تَأْخِيرٍ وَقَدْ كَانَ مَوْقِعُهَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِفْهَامِ التَّصْدِيرَ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنَّمَا خَصُّوا التَّقْدِيمَ بِالْهَمْزَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ كَلِمَاتِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذْ هِيَ الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَكْثَرِ اسْتِعْمَالًا فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَكَلِمَاتٌ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْهَا مَا هُوَ اسْمٌ مِثْلَ (أَيْنَ)، وَمِنْهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ (هَلْ) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى قَدْ فَلَمَّا كَثُرَ دُخُولُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ حَذَفُوا الْهَمْزَةَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَأَصْلُ هَلْ فَعَلْتَ أَهَلْ فعلت فالتقدير فأكلما جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقُلِبَ، وَقِيلَ: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ
وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: فَسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، لِتَقَدُّمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فَعدل عَن الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ رَبِّكَ لِمَا فِي صِفَةِ (رَبِّ) وَإِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْخَيْرُ الْجَلِيلُ بِوَاسِطَتِهِ فَذَلِكَ تَكْرِيمٌ لَهُ وَعِنَايَةٌ بِهِ وَهُوَ شَأْنُ تَلَطُّفِ الرَّبِّ بِالْمَرْبُوبِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ السِّيَادَةُ الْمَرْفُوقَةُ بِالرِّفْقِ وَالْإِبْلَاغِ إِلَى الْكَمَالِ.
وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْهُ وَقَدْ
رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي قِرَاءَتِهِ يَقِفُ عِنْدَ وَاسْتَغْفِرْهُ ثُمَّ يُكْمِلُ السُّورَةَ»
. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ كُلِّهِ وَتَعْلِيلٌ لِمَا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِ بِاعْتِبَارِ الصَّرِيحِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ كَمَا سَيَتَبَيَّنُ لَكَ.
وَتَوَّابٌ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنْ تَابَ عَلَيْهِ. وَفِعْلُ تَابَ الْمُتَعَدِّي بِحَرْفِ (عَلَى) يُطْلَقُ بِمَعْنَى:
وُفِّقَ لِلتَّوْبَةِ، أَثْبَتَهُ فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس»، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ خَاصٌّ بِمَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَرْبَعِ مُؤَكِّدَاتٍ هِيَ: إِنَّ، وَكَانَ، وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَّابِ، وَتَنْوِينُ التَّعْظِيمِ فِيهِ.
وَحَيْثُ كَانَ توكيد بِ (إِنَّ) هُنَا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ رَدُّ إِنْكَارٍ وَلَا إِزَالَةُ تَرَدُّدٍ إِذْ لَا يُفْرَضَانِ فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ تَمَحَّضَ (إِنَّ) لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِتَأْكِيدِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ تُغْنِيَ غَنَاءَ فَاءِ التَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَرَبْطَ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا تُفِيدُهُ الْفَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢]، فَالْمَعْنَى: هُوَ شَدِيدُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ كَثِيرٌ قَبُولُهُ إِيَّاهَا.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ تَذْيِيلًا وَتَعْلِيلًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ تَعَيَّنَ أَنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ تَوَّاباً يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: عَلَى التَّائِبِينَ. وَهَذَا الْمُقَدَّرُ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ، وَهُوَ عُمُومٌ