وَأَمَّا صِحَّةُ السَّنَدِ الَّذِي تُرْوَى بِهِ الْقِرَاءَةُ لِتَكُونَ مَقْبُولَةً فَهُوَ شَرْطٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ إِذْ قَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَمُوَافَقَةً لِوُجُوهِ الْعَرَبِيَّةِ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ مَرْوِيَّةً بِسَنَدٍ صَحِيحٍ كَمَا ذُكِرَ فِي «الْمُزْهِرِ» أَنَّ حَمَّادَ بْنَ الزِّبْرِقَانِ قَرَأَ: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعدها أَبَاهُ [التَّوْبَة: ١١٤] بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِنَّمَا هِيَ «إِيَّاهُ» بِتَحْتِيَّةٍ، وَقَرَأَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي غرَّة [ص:
٢] بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ «عِزَّةٍ» بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ، وَقَرَأَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٧] بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ «يُغْنِيهِ» بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا حَفِظَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ.
مَرَاتِبُ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ» : اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَا تُخَالِفُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ وَكَيْفِيَّاتِ النُّطْقِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَبَعٌ لِتَوَاتُرِ صُورَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَمَا كَانَ نُطْقُهُ صَالِحًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا هُوَ بِمُتَوَاتِرٍ لِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ مُنَافٍ لِدَعْوَى التَّوَاتُرِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِنِ الْقِرَاءَاتِ مُخَالِفًا لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، مِثْلَ مَا نُقِلَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمَّا قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُغَيَّرْ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ صَارَتْ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا الْمُعَيَّنَةُ آحَادًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ كُلَّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ طَرَائِقِ أَصْحَابِهَا وَرِوَايَاتِهِمْ مُتَوَاتِرَةٌ وَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَسَانِيدَهُمْ فِيهَا فَكَانَتْ أَسَانِيدَ أَحَادٍ، وَأَقْوَاهَا سَنَدًا مَا كَانَ لَهُ رَاوِيَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونُسِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ إِدْرِيسَ فَقِيهُ بِجَايَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَبْيَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسَانِيدَ لَا تَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ فُلَانًا قَرَأَ كَذَا وَأَنَّ فُلَانًا قَرَأَ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمَقْرُوءُ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّاتُ النُّطْقِ بِحُرُوفِهِ فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّاتِ أَدَائِهِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْبُرْهَانِ» : هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْأَبْيَارِيُّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِهِ» : هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْقُرَّاءِ وَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَبْيَارِيِّ، وَوَافَقَ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ ابْنُ سَلَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ
فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأُزِيلَتِ الْأَصْنَامُ وَأُبِيحُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَسَعَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الْأَنْصَارُ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَسَأَلَ جَمْعٌ مِنْهُمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» (١) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَاتِهِ (٢) الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ» الْآيَةَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ، وَفِيهِ كَلَامُ مَعْمَرٍ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ.
فتأكيد الْجُمْلَة بأنّ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مُتَرَدِّدُونَ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَهُمْ أَمْيَلُ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَامَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِسِنِينَ فَوَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي اضْطِرَابِ الْفَرْقِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَالْمَنَاسِكِ.
وَالصَّفَا والمروة اسمان لجبيلين مُتَقَابِلَيْنِ فَأَمَّا الصَّفَا فَهُوَ رَأْسُ نِهَايَةِ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ،
وَأَمَّا الْمَرْوَةُ فَرَأْسٌ هُوَ مُنْتَهَى جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ. وَسُمِّيَ الصَّفَا لِأَنَّ حِجَارَتَهُ مِنَ الصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الصُّلْبُ، وَسُمِّيَتِ الْمَرْوَةُ مروة لِأَن حجارها مِنَ الْمَرْوِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبَيْضَاءُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ وَيُذْبَحُ بِهَا لِأَنَّ شَذْرَهَا يُخْرِجُ قِطَعًا مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ وَهِيَ تُضْرَبُ بِحِجَارَةٍ مِنَ الصَّفَا فَتَتَشَقَّقُ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ | بِصَفَا الْمُشَقَّرِ (٣) كُلَّ يَوْمٍ تَفَرَّعُ |
(١) أخرجه أَيْضا البُخَارِيّ فِي: ٢٥، «كتاب الْحَج»، ٧٩، بَاب وجوب الصَّفَا والمروة... وَمُسلم فِي: ١٥، «كتاب الْحَج»، ٤٣، بَاب بَيَان أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة ركن لَا يَصح الْحَج إلّا بِهِ. حَدِيث ٢٥٩ و٢٦٠ و٢٦١.
(٢) فِي «الْمُوَطَّأ» ١/ ٣٧٣، تَحْقِيق عبد الْبَاقِي، (هَذِه).
(٣) المشقر كمعظم جبل بِالْيمن تتَّخذ من حجارته فؤوس تكسر الْحِجَارَة لصلابتها. [.....]
وَالْفَحْشَاءُ اسْمٌ لِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ شَدِيدِ السُّوءِ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا. مُشْتَقٌّ مِنَ الْفُحْشِ- بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ- تَجَاوُزِ الْحَدِّ. وَخَصَّهُ الِاسْتِعْمَالُ بِالتَّجَاوُزِ فِي الْقَبِيحِ، أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِفِعْلٍ قَبِيحٍ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَحْشَاءِ الْبُخْلَ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَحْشَاءِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْبُخْلِ وَإِنْ كَانَ الْبَخِيلُ يُسَمَّى فَاحِشًا. وَإِطْلَاقُ الْأَمْرِ عَلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَتَأْثِيرِ قُوَّتِهِ فِي النُّفُوسِ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَحْشَاءِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ لِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَعْدُ فِيهِ حَقِيقَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ.
وَمَعْنَى «وَاسِعٌ» أَنَّهُ وَاسِعُ الْفَضْلِ، وَالْوَصْفُ بِالْوَاسِعِ مُشْتَقٌّ مِنْ وَسِعَ الْمُتَعَدِّي- إِذَا عَمَّ بِالْعَطَاءِ وَنَحْوِهِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِر: ٧]، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: «لَا يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا»، أَيْ لَا أَجِدُ فِيهِ سَعَةً،
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي وَصْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بِشْرُهُ وَخُلُقُهُ»
. فَالْمَعْنى هُنَا أنّه وَسِعَ النَّاسَ وَالْعَالمِينَ بعطائه.
[٢٦٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ وَتَذْيِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَاتُ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَتَلْقِينِ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، مِمَّا يُكْسِبُ الْعَامِلِينَ بِهِ رَجَاحَةَ الْعَقْلِ وَاسْتِقَامَةَ الْعَمَلِ.
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ وَعْدِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَإِنَّمَا عَطْفُ الْأَوْلَادِ هُنَا لِأَنَّ الْغَنَاءَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ يَكُونُ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَالْمَالُ يَدْفَعُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ فِي فِدَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَالْوَلَدُ يُدَافِعُونَ عَنْ أَبِيهِمْ بِالنَّصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ فِي طَالِعَةِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَكَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ مَعَ الْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ وَلا أَوْلادُهُمْ لِتَأْكِيدِ عَدَمِ غَنَاءِ أَوْلَادِهِمْ عَنْهُمْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَقْعُدُونَ عَنِ الذَّبِّ عَنْ آبَائِهِمْ.
وَيَتَعَلَّقُ مِنَ اللَّهِ بِفِعْلِ لَنْ تُغْنِيَ عَلَى مَعْنَى (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ أَيْ غَنَاءٍ يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِالْعَفْوِ عَنْ كُفْرِهِمْ.
وَانْتَصَبَ (شَيْئًا) عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِفِعْلِ لَنْ تُغْنِيَ أَيْ شَيْئًا مِنْ غَنَاءٍ. وَتَنْكِيرُ شَيْئًا لِلتَّقْلِيلِ.
وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً، عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ فِي أَمْثَالِهَا أَنْ يَكُونَ بِدُونِ عَطْفٍ، لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُنْصَبًّا عَلَيْهَا التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنْ) فَيَكْمُلُ لَهَا مِنْ أَدِلَّةِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا خَمْسَةُ أَدِلَّة هِيَ: التّكيد ب إِنَّ، وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَوصف خَالدُونَ.
السَّالِفَةِ، وَرَأَوْا عَاقِبَةَ كَذِبِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ حَتَّى احْتِيجَ إِلَى إِشْهَادِ رُسُلِهِمْ، عَلِمُوا أَنَّ النَّوْبَةَ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهِمْ، وَخَامَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا اللَّهَ أَمْرَهُمْ إِذَا سَأَلَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ تُسَاعِدْهُمْ نُفُوسُهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالصِّدْقِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ عَوَاقِبِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ، مِنْ شِدَّةِ هَلَعِهِمْ، فَوَقَعُوا بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ، فَتَمَنَّوْا أَنْ يَخْفَوْا وَلَا يَظْهَرُوا حَتَّى لَا يُسْأَلُوا فَلَا يَضْطَرُّوا إِلَى الِاعْتِرَافِ الْمُوبِقِ وَلَا إِلَى الْكِتْمَانِ الْمُهْلِكِ.
[٤٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِالصَّلَاةِ، دَعَا إِلَى نُزُولِهَا عَقِبَ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُ آنَ الْأَوَانُ لِتَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْخَمْرِ حِينَئِذٍ، وَإِلَى قَرْنِهِ بِحُكْمٍ مُقَرَّرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَوَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ وَقْتِ نُزُولِهَا وَجَاءَتْ كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ. تَضَمَّنَتْ حُكْمًا أَوَّلَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَاتِهِ أَيْضًا بِحَسَبِ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ذَلِك أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حَلَالًا لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَشْرَبُهَا. وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ٢١٩] فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِإِثْمِهَا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِثْمِ الْحَرَجُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْمَفْسَدَةُ، وَتِلْكَ الْآيَةُ كَانَتْ إِيذَانًا لَهُمْ بِأَنَّ الْخَمْرَ يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا لِأَنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِثْمِ مُتَّصِفٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَبْقَى إِبَاحَتَهَا رَحْمَةً لَهُمْ فِي مُعْتَادِهِمْ، مَعَ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ إِلَى قَبُولِ تَحْرِيمِهَا، فَحَدَثَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا خَمْرًا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَم: ٣٠] فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ خِطَابِ مَنِ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ.
وَعَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِمَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ لِرَدِّ ذَلِكَ، إِدْمَاجٌ لِقَصْدِ اسْتِقْصَاءِ كُلِّ مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ بُنُوَّةُ اللَّهِ، لِيَشْمَلَهُ الْخَبَرُ بِنَفْيِ اسْتِنْكَافِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١]، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ نِسَاءِ الْجِنِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النِّسَاء: ١٧١]، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الْمَلَائِكَةُ، فَذُكِرُوا هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَإِنْ جعلت قَوْله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١] كَانَ عَطْفُ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
مُحْتَمِلًا لِلتَّتْمِيمِ كَقَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: ٣] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، وَلَا عَلَى الْعَكْسِ وَمُحْتَمِلًا لِلتَّرَقِّي إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِعَكْسِ الْحُكْمِ فِي أَوْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٠] وَجَعَلَ، الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي لَا يَقْتَضِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لِوَاسِعٍ، فَإِنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِوُجُوهٍ، كَمَا عَلِمْتَ، فَلَا يَنْهَضُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مُطْلَقًا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَفْضِيلَ
الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْصِيلِ فِي التَّفْضِيلِ، وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمَاتِرِيدِيَّةِ، وَلَمْ يُضْبَطْ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا طَائِلَ وَرَاءَ الْخَوْضِ فِيهَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَوْضِ فِي تُفَاضُلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْخَوْضِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِ عَالَمٍ آخَرَ لَا صِلَةَ لَنَا بِهِ.
وَوَجْهُ دَلَالَةِ جَعْلِ الْكَعْبَةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا، وَمَكَّةُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلَةُ السُّكَّانِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِحَجِّ الْكَعْبَةِ وَبِحُرْمَةِ حَرَمِهَا وَحُرْمَةِ الْقَاصِدِينَ إِلَيْهَا، وَوَقَّتَ للنَّاس أشهرا الْقَصْد فِيهَا، وَهَدَايًا يَسُوقُونَهَا إِلَيْهَا فَإِذَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ وَحَوَائِلُ دُونَ مَضَارٍّ كَثِيرَةٍ بِالْعَرَبِ لَوْلَا إِيجَادُ الْكَعْبَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا. فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ سَبَبَ بَقَائِهِمْ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ. فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِبِنَائِهَا قَدْ عَلِمَ أَنْ سَتَكُونُ هُنَالِكَ أُمَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَأَنْ سَتَحْمَدُ تِلْكَ الْأُمَّةُ عَاقِبَةَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَمَا مَعَهُ مِنْ آثَارِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِمَا عَلِمَهُ مِنْ بعثة مُحَمَّد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ، وَجَعْلِهِمْ حَمَلَةَ شَرِيعَتِهِ إِلَى الْأُمَمِ، وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ عِظَمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَبِنَاءِ حَضَارَةِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ هُوَ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَرْضِ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ بِالتَّرَفُّعِ عَنِ
النَّقْصِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فِي السَّمَاوَات، لأنّ السَّمَوَات إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِلْأَرْضِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِيهَا، وَلَا هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، كَمَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الْخَاصُّ، فَثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعَالَى فِي أَرْفَعِ الْمَكَانِ وَأَشْرَفِ الْعَوَالِمَ، فَيَكُونُ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ أَحْرَى مِنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِهَا أَعَنَى، فَيَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ.
وَأَمَّا دَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلِأَنَّ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي تَقَرَّرَ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ جَلِيلَةً وَدَقِيقَةً فَالْعِلْمُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا لَا مَحَالَةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَخْلُ مِنْ جَهْلِ بَعْضِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجَهْلُ مُعَطِّلًا لِعِلْمِهِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ تَدْبِيرُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمَجْهُولِ فَهُوَ مَا دَبَّرَ جَعْلَ الْكَعْبَةِ قِيَامًا وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عُمُومِ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ وَلَوْلَا عُمُومُهُ مَا تَمَّ تَدْبِيرُ ذَلِك المقدّر.
[٩٨، ٩٩]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٩٨ إِلَى ٩٩]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ
الْإِطْبَاقِ، كَمَا هُنَا، فَإِنَّهُ أُرِيدَ تَخْفِيفُ أَحَدِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُتَوَالِيَةِ مِنْ (يَتَصَعَّدُ)، فَسُكِّنَتِ التَّاءُ ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ إِدْغَامَ الْمُقَارِبِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ:
يَصَّعَّدُ- بِسُكُونِ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: يَصَّاعَدُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ بَعْدَهَا أَلِفٌ- وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ.
وَجُمْلَةُ كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: صَدْرَهُ أَوْ مِنْ صَدْرِهِ، مُثِّلَ حَالُ الْمُشْرِكِ حِينَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ حِينَ يَخْلُو بِنَفْسِهِ، فَيَتَأَمَّلُ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِحَالِ الصَّاعِدِ، فَإِنَّ الصَّاعِدَ يَضِيقُ تَنَفُّسُهُ فِي الصُّعُودِ، وَهَذَا تَمْثِيلُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ، لِأَنَّ الصُّعُودَ فِي السَّمَاءِ غَيْرُ وَاقِعٍ.
وَالسَّمَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَاءُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَوِّ الَّذِي يَعْلُو الْأَرْضَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: «لَا يَكُونُ السَّمَاءُ الْمُظِلَّةَ لِلْأَرْضِ، وَلَكِنْ كَمَا
قَالَ سِيبَوَيْهِ (١) الْقَيْدُودُ الطَّوِيلُ فِي غَيْرِ سَمَاءٍ- أَيْ فِي غَيْرِ ارْتِفَاعٍ صَعَدًا» أَرَادَ أَبُو عَلِيٍّ الِاسْتِظْهَارَ بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ السَّمَاءِ يُقَالُ لِلْفَضَاءِ الذَّاهِبِ فِي ارْتِفَاعٍ (وَلَيْسَتْ عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ).
وَحَرْفُ فِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (إِلَى)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ: إِمَّا بِمَعْنَى كَأَنَّهُ بَلَغَ السَّمَاءَ وَأَخَذَ يَصَّعَّدُ فِي مَنَازِلِهَا، فَتَكُونُ هَيْئَةً تَخْيِيلِيَّةً، وَإِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاءِ بِمَعْنَى الْجَوِّ.
وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
_________
(١) فِي بَاب مَا تقلب فِيهِ الْوَاو يَاء من «كتاب» سِيبَوَيْهٍ، أَي كَمَا أطلق سِيبَوَيْهٍ فِي كَلَامه السّماء على الِارْتفَاع.
وَقَوْلُهُ: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ عَطْفٌ عَلَى: أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ وَأَصْلُ (أَوِ) الدَّلَالَةُ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَجْوِيزِ حُصُولِ الْمُتَعَاطِفَاتِ كُلِّهَا فَتَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَلِلتَّجْوِيزِ بَعْدَ الْخَبَرِ أَوْ لِلشَّكِّ أَمْ كَانَ مَعَ مَنْعِ الْبَعْضِ عِنْدَ تَجْوِيزِ الْبَعْضِ فَتَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلِلشَّكِّ أَوِ التَّرْدِيدِ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَالتَّرْدِيدُ لَا يُنَافِي الْجَزْمَ بِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُنَا، فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْآكِلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَكُونُ مَلَكًا وَخَالِدًا، كَمَا قَالَ عَنْهُ فِي سُورَةِ طه [١٢٠] : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَجُعِلَ نَهْيُ اللَّهِ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ لَا يَعْدُو إِرَادَةَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ حِرْمَانَهُمَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ
قَدْ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْخُلُودَ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَشْرَ وَالْبَعْثَ مَكْتُوبٌ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُتَلَقَّى مِنَ الْوَحْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَقاسَمَهُما أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِمَا يُوهِمُ صِدْقَهُ، وَالْمُقَاسَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ أَقْسَمَ إِذَا حَلَفَ، حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ عِنْدَ صَوْغِ الْمُفَاعَلَةِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي الْمُكَارَمَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، وَلَيْسَتْ لِحُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَنَظِيرُهَا: عَافَاهُ اللَّهُ، وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : كَأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ تُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَأَقْسَمَ فَجُعِلَ طَلَبُهُمَا الْقَسَمَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، أَيْ فَتكون المفاعلة مجَازًا، قَالَ أَو أقسم لَهما بالنّصيحة وأقسما لَهُ بقبولها، فَتَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى بَابِهَا، وَتَأْكِيدُ إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالنُّصْحِ لَهُمَا بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ دَلِيلٌ عَلَى مَبْلَغِ شَكِّ آدَمَ وَزَوْجِهِ فِي نُصْحِهِ لَهُمَا، وَمَا رَأَى عَلَيْهِمَا مِنْ مَخَائِلِ التَّرَدُّدِ فِي صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا شَكَّا فِي نُصْحِهِ لِأَنَّهُمَا وَجَدَا مَا يَأْمُرُهُمَا مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمَانِ إِرَادَتَهُ بِهِمَا الْخَيْرَ عِلْمًا حَاصِلًا بِالْفِطْرَةِ.
[٢٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٢]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
وَخَاطَبَ مُوسَى قَوْمَهُ بِذَلِكَ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ علم لِأَنَّهُ بِوَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَالصَّبْرِ، أَيِ: افْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الظُّلْمِ لَا يَدُومُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَرَقُّبِ زَوَالِ اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ، قُصِدَ مِنْهَا صَرْفُ الْيَأْسِ عَنْ أَنْفُسِهِمُ النَّاشِئِ عَنْ مُشَاهَدَةِ قُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَسُلْطَانِهِ، بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَوَّلَهُ ذَلِكَ السُّلْطَانَ قَادِرٌ عَلَى نَزْعِهِ مِنْهُ لِأَنَّ مُلْكَ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلَّهِ فَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ لِمَنْ يَشَاءُ مُلْكَ شَيْءٍ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ نَزْعَهُ.
فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ هُنَا الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالتَّذْيِيلِ وَأَقْوَى فِي التَّعْلِيلِ، فَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنْ مِصْرَ وَسَيَمْلِكُونَ أَرْضًا أُخْرَى.
وَجُمْلَةُ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تَذْيِيلٌ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، أَيْ: عَاطِفَةً عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيلًا ثَانِيًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ وَالصَّبْرِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أُوثِرَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ عَلَى فَصْلِ الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى التَّذْيِيلِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً.
وَالْعَاقِبَةُ حَقِيقَتُهَا نِهَايَةُ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَآخِرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ [الْحَشْر: ١٧]، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١]، فَإِذَا عُرِّفَتِ الْعَاقِبَةُ بِاللَّامِ
كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا انْتِهَاءَ أَمْرِ الشَّيْءِ بِأَحْسَنَ مِنْ أَوَّلِهِ وَلَعَلَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا مِنْ قَبِيلِ الْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ آخِرُ أَحْوَالِهِ خَيْرًا مِنْ أَوَّلِهَا لِكَرَاهَةِ مُفَارَقَةِ الْمُلَائِمِ، أَوْ لِلرَّغْبَةِ فِي زَوَالِ الْمُنَافِرِ، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَتِ الْعَاقِبَةُ مُعَرَّفَةً عَلَى انْتِهَاءِ الْحَالِ بِمَا يَسُرُّ وَيُلَائِمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢]. وَفِي حَدِيثِ أَبَى سُفْيَانَ قَوْلُ هِرَقْلَ: «وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ» فَلَا تُطْلَقُ الْمُعَرَّفَةُ عَلَى عَاقِبَةِ السُّوءِ.
فَالْمُرَادُ بِالْعَاقِبَةِ هُنَا عَاقِبَةُ أُمُورِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ طَوَائِفَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، مِنْهُمْ مُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨]، وَمِنْهُمْ مَنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَتْ فِيهِمْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ: قِيلَ: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ [الْأَنْفَال: ٥٥، ٥٦] الْآيَةَ. قِيلَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ، وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَنَحُوا عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. أَوْ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ عَائِدًا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا.
فَقِيلَ: عَادَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: عَادَ إِلَى أَهْلِ
الْكِتَابِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٥] فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ.
وَمَنْ قَالُوا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَالُوا هَذَا حُكْمٌ بَاقٍ، وَالْجُنُوحُ إِلَى السَّلْمِ إِمَّا بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْمُوَادَعَةِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى صِنْفَيِ الْكُفَّارِ: مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ وَقَعَ قَبْلَهُ ذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: ٥٥] فَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ بَرَاءَةٌ، فَهِيَ مُخَصِّصَةٌ الْعُمُومَ الَّذِي فِي ضَمِيرِ جَنَحُوا أَوْ مُبِيِّنَةٌ إِجْمَالَهُ، وَلَيْسَتْ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ:
«أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ٥] فَدَعْوَى، فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ».
وَهَؤُلَاءِ قَدِ انْقَضَى أَمْرُهُمْ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمَجُوسُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَجْرِي أَمْرُ الْمُهَادَنَةِ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوْلَى: فَإِنْ دَعَوْا إِلَى السَّلْمِ قُبِلَ مِنْهُمْ، إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَعُدَّةٍ:
فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا | وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ |
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا | إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيُبْسِ |
أَنْكَحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلَةٍ | تَغَشْمَرَتْ بِي إِلَيْكَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا |
وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الْعِدَّةِ بِالْمُؤْمِنَاتِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لم يكنّ إِلَّا مُؤْمِنَاتٍ وَلَيْسَ فِيهِنَّ كِتَابِيَّاتٍ فَيَنْسَحِبُ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ كَمَا شَمَلَهَا حُكْمُ الِاعْتِدَادِ إِذَا وَقَعَ مَسِيسُهَا بِطُرُقِ الْقِيَاسِ.
وَالْمَسُّ وَالْمَسِيسُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، كَمَا سُمِّيَ مُلَامَسَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاءَ: ٤٣].
وَالْعِدَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: هِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ هَيْئَةٍ مِنَ الْعَدِّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِسَابُ فَأُطْلِقَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَعْدُودِ، يُقَالُ: جَاءَ عِدَّةُ رِجَالٍ، وَقَالَ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الْبَقَرَة [١٨٤]. وَغَلَبَ إِطْلَاقُ هَذَا اللَّفْظِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لِانْتِظَارِ الْمَرْأَةِ زَوَاجًا ثَانِيًا، لِأَنَّ انْتِظَارَهَا مُدَّةٌ مَعْدُودَةُ الْأَزْمَانِ إِمَّا بِالتَّعْيِينِ وَإِمَّا بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ طُهْرٍ أَوْ وَضْعِ حَمْلٍ فَصَارَ اسْمَ جِنْسٍ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ
فَيُقَالُ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ النَّظَرِ فِيمَا أَوْرَدُوهُ: هَلْ حَرَّفُوا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ حَرَكَةً أَوْ حَرْفًا أَمْ
لَا. وَقَبْلَ أَنْ نَنْظُرَ هَلْ رَاعَوْا أَحْكَامَ عِلْمِ الْعَرُوضِ فِي الْأَعَارِيضِ وَالضُّرُوبِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا أَمْ لَا. وَمِنْ قَبْلِ أَنْ نَنْظُرَ هَلْ عَمِلُوا بِالْمَنْصُورِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي مَعْنَى الشِّعْرِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ أَمْ لَا (يَعْنِي الْمَذْهَبَيْنِ مَذْهَبَ الَّذِينَ قَالُوا لَا يَكُونُ الشِّعْرُ شِعْرًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ قَائِلُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا، وَمَذْهَبَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ تَعَمُّدَ الْوَزْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ يَكْفِي أَنْ يُلْفَى مَوْزُونًا وَلَوْ بِدُونِ قَصْدِ قَائِلِهِ لِلْوَزْنِ وَقَدْ نُصِرَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلِ) يَا سُبْحَانَ اللَّهِ قَدَّرُوا جَمِيعَ ذَلِكَ أَشْعَارًا، أَلَيْسَ يَصِحُّ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى مَا أَوْرَدْتُمُوهُ لِقِلَّتِهِ، وَيُجْرَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ مَجْرَى الْخَالِي عَنِ الشِّعْرِ فَيُقَالُ بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ اهـ. كَلَامُهُ، وَقَدْ نَحَا بِهِ نَحْوَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَّزِنِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْهُ الْوَزْنَ، فَلَا يَكُونُ شِعْرًا عَلَى رَأْيِ الْأَكْثَرِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ إِلَى الْوَزْنِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعْبَأْ بِاتِّزَانِهِ.
الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فَإِنَّ نَفْيَ كَوْنِ الْقُرْآنِ شِعْرًا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ.
فَلَا يُعَدُّ قَائِلُهُ كَاذِبًا وَلَا جَاهِلًا فَلَا يُنَافِي الْيَقِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَّمَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» إِلَى أَنَّ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنِ اسْتِخْرَاجِ فِقْرَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَوَازِينَ شِعْرِيَّةٍ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ مِثْلِ بَتْرِ الْكَلَامِ أَوْ زِيَادَةِ سَاكِنٍ أَوْ نَقْصِ حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَتِمُّ لَهُ فَرَاجِعْهُ.
وَلَا مَحِيصَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِاشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى فِقْرَاتٍ مُتَّزِنَةٍ يَلْتَئِمُ مِنْهَا بَيْتٌ أَوْ مِصْرَاعٌ، فَأَمَّا مَا يَقِلُّ عَنْ بَيْتٍ فَهُوَ كَالْعَدَمِ إِذْ لَا يَكُونُ الشِّعْرُ أَقَلَّ مِنْ بَيَّتٍ، وَلَا فَائِدَة فِي الاستكثار مِنْ جَلْبِ مَا يُلْفَى مُتَّزِنًا فَإِنَّ وُقُوعَ مَا يُسَاوِي بَيْتًا تَامًّا مِنْ بَحْرٍ مِنْ بُحُورِ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ وَلَوْ نَادِرًا أَوْ مُزْحَفًا أَوْ مُعَلًّا كَافٍ فِي بَقَاءِ الْإِشْكَالِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا سَلَكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي رَدِّهِ وَلَا كِفَايَةَ لِمَا سَلَكَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي كِتَابِهِ، لِأَنَّ الْمَرْدُودَ عَلَيْهِمْ فِي سَعَةٍ مِنَ الْأَخْذِ بِمَا يُلَائِمُ نِحْلَتَهُمْ مِنْ أَضْعَفِ الْمَذَاهِبِ فِي حَقِيقَةِ الشِّعْرِ وَفِي زِحَافِهِ وَعِلَلِهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْبَاقِلَّانِيَّ وَالسَّكَّاكِيَّ لَمْ يَغُوصَا
الْمَقَامِ، وَتَقْدِيرُهُ: تَنَبَّهْ فَاعْبُدِ اللَّهَ (أَيْ تَنَبَّهْ لِمَكْرِهِمْ وَلَا تَغْتَرِرْ بِمَا أَمَرُوكَ أَنْ تَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ) فَحُذِفَ فِعْلُ الْأَمْرِ اخْتِصَارًا فَلَمَّا حُذِفَ اسْتُنْكِرَ الِابْتِدَاءُ بِالْفَاءِ فَقَدَّمُوا مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمُوَالِي لَهَا فَكَانَتِ الْفَاءُ مُتَوَسِّطَةً كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي نَسْجِ الْكَلَامِ وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ التَّقْدِيمِ حَصْرٌ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ والزجاج الْفَاء جزاءية دَالَّةً عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيره: إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا مُقَابِلَ قَوْلِهِ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤] فَاعْبُدِ اللَّهَ، فَلَمَّا حُذِفَ الشَّرْطُ (أَيْ إِيجَازًا) عَوَّضَ عَنْهُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ الْفَاءُ مُؤْذِنَةٌ بِفِعْلٍ قَبْلَهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمُوَالِي لَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُ أَعْبُدُ فَاعْبُدْ، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ حُذِفَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى فَاعْبُدْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤]، أَيْ أَعْبُدُ اللَّهَ لَا غَيْرَهُ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤].
وَالشُّكْرُ هُنَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ فَقَدْ تَمَّحَضَ مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا لِلْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَالْقَوْلُ عُمُومُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ قَبْلَهُ أَوْ فِي خُصُوصِهِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ كَالْقَوْلِ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
[٦٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّ لَهُ مَقَالِيدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَلِكُ عَوَالِمِ الدُّنْيَا، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِدَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ هُمُ
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] إِلَى آخِرِهِ، الْمُفَسَّرِ بَقَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣] الْمُخَلَّلِ بَعْضُهُ بِجُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَنْ يُنِيبُ [الشورى: ١٣].
وَاللَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ وَتَكون الْإِشَارَة بذلك إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِيهِ وَتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلدَّعْوَةِ بِالتَّجَهُّمِ وَتَلَقِّي الْمُؤْمِنِينَ لَهَا بِالْقَبُولِ وَالْإِنَابَةِ، وَتَلَقِّي أَهْلِ الْكِتَابِ لَهَا بِالشَّكِّ، أَيْ فَلِأَجَلِ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ، أَيْ لِأَجْلِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ لِمَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَمِنْ تَبَرُّمِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ شَكِّ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ (ادْعُ) لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَيِ ادْعُ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا وَأَنَابُوا. وَتَقْدِيمُ (لِذَلِكَ) عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ فِعْلُ (ادْعُ) لِلِاهْتِمَامِ بِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِذْ هُوَ مَجْمُوعُ أَسْبَابٍ لِلْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَلِذلِكَ لَامَ التَّقْوِيَةِ وَتَكُونَ مَعَ مَجْرُورِهَا مَفْعُولَ (ادْعُ). وَالْإِشَارَةُ إِلَى الدِّينِ مِنْ قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ [الشورى: ١٣] أَيْ فَادْعُ لِذَلِكَ الدِّينِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالدِّينِ.
وَفِعْلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦]، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ
وَوَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى دُونَ: أُنْزِلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ «التَّوْرَاةَ» آخِرُ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ نَزَلَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ بَعْدَهُ فَكُتُبٌ مُكَمِّلَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَمُبَيِّنَةٌ لَهَا مِثْلُ «زبور دَاوُد» و «إنجيل عِيسَى»، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ «التَّوْرَاةِ» فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ جَاءَ بِهَدْيٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْهُ بَيَانُ التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ مُصَدِّقٌ
لِلتَّوْرَاةِ وَهَادٍ إِلَى أَزْيَدَ مِمَّا هَدَتْ إِلَيْهِ «التَّوْرَاة».
ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ: يَهْدِي إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ: مَا يُسْلَكُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمُعَامَلَةِ. وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ عَنِ الْقَصْدِ مِنْ سَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ الْحَقِّ مَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ وَتَزْيِيفِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهَا كَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إبلاغ متبعها إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ.
وَإِعَادَتُهُمْ نِدَاءَ قَوْمِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامُ قَوْمِهِمْ بِمَا لَقُوا مِنْ عَجِيبِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِهَذَا، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ وَتَجَدُّدَ الْغَرَضِ مِمَّا يَقْتَضِي إِعَادَةَ مِثْلِ هَذَا النِّدَاءِ كَمَا يُعِيدُ الْخَطِيبُ قَوْلَهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ» كَمَا وَقَعَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَاسْتُعِيرَ أَجِيبُوا لِمَعْنَى: اعْمَلُوا وَتَقَلَّدُوا تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِمَا فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْمُنَادِي كَمَا فِي الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيم: ٢٢] أَيْ إِلَّا أَنْ أَمَرْتُكُمْ فَأَطَعْتُمُونِي لِأَنَّ قَوْمَهُمْ لَمْ يَدْعُهُمْ دَاعٍ إِلَى شَيْءٍ، أَيْ أَطِيعُوا مَا طُلِبَ مِنْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوهُ.
وداعي اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. وَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ داعِيَ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى طَلَبِ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ اللَّهِ، فَشُبِهَ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ إِلَى اللَّهِ وَاشْتُقَّ مِنْهُ وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ رَدٌّ عَلَى مَقَالَةِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ كَاهِنٌ، وَعَلَى عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِذْ قَالَ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَيَدُلُّ لِكَوْنِهِ رَدًّا عَلَى مَقَالَةٍ سَبَقَتْ أَنَّهُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: ٣٠] مَا سَيَكُونُ وَمَا خَفِيَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ.
وَالْكَاهِنُ: الَّذِي يَنْتَحِلُ مَعْرِفَةَ مَا سَيَحْدُثُ مِنَ الْأُمُورِ وَمَا خَفِيَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ وَيُخْبِرُ بِهِ بِكَلَامٍ ذِي أَسْجَاعٍ قَصِيرَةٍ. وَكَانَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ، وَنَظِيرُهَا فِي الْعِبْرِيَّةِ (الْكُوهِينُ) وَهُوَ حَافِظُ الشَّرِيعَةِ وَالْمُفْتِي بِهَا، وَهُوَ مِنْ بَنِي (لَاوِي)، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِهَانَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢١٠].
وَقَدِ اكْتُفِيَ فِي إِبْطَالِ كَوْنِهِ كَاهِنًا أَوْ مَجْنُونًا بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ دُونَ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّأَمُّلِ فِي حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافٍ فِي تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ ذَيْنَكَ الْوَصْفَيْنِ عَنْهُ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِ اتِّصَافِهِ بِهِمَا إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِنَفْيِهِمَا لِأَنَّ دَلِيله الْمُشَاهدَة.
[٣٠]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٣٠]
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)
إِنْ كَانَتْ أَمْ مُجَرَّدَةً عَنْ عَمَلِ الْعَطْفِ فَالْجُمْلَةُ مستأنفة استئنافا ابتدائيا، وَإِلَّا فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: ٢٩].
وَعَنِ الْخَلِيلِ كُلُّ مَا فِي سُورَةِ الطُّورِ مِنْ (أَمْ) فَاسْتِفْهَامٌ وَلَيْسَ بِعَطْفٍ، يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لَا عَلَى عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَهَذَا ضَابِطٌ ظَاهِرٌ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّرٌ بَعْدَ (أَمْ) وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ عَنْ مَقَالَتِهِمُ الْمَرْدُودَةِ بِقَوْلِهِ: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: ٢٩] لِلِانْتِقَالِ إِلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ:
«هُوَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ». وَعُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ (بَلْ) مَعَ أَنَّهُ أَشْهَرُ فِي الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، لِقَصْدِ تَضَمُّنِ أَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَيَقُولُونَ شَاعِرٌ إِلَخْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَرَّرُ إِنْكَارِيٌّ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَال أَن أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّذْكِيرِ يُشِيرُ إِلَى مَقَالَاتِهِمْ
مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ، وَمِثْلُ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فِي الِاعْتِقَادِ مِمَّنْ يُؤْذَنُ حَالُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَدِلَّةِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَإِيثَارُ الْهَوَى النَّفْسِيِّ وَالْعَصَبِيَّةِ عَلَى أَدِلَّةِ الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَقِّ. فَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ تَنْزِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ يَصْحَبُ سَلَاطِينَ الْجَوْرِ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادَهِمْ فِي اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَقَالَ فقهاؤنا: يجوز أَن يَجِبُ هُجْرَانُ ذِي الْبِدْعَةِ الضَّالَّةِ أَوْ الِانْغِمَاسِ فِي الْكَبَائِرِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ الْمَوْعِظَةَ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِ الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَوْ وَعِيدٌ لِمَعْنًى آخَرَ فِيهِ وَصْفٌ مِنْ نَوْعِ الْمَعْنَى ذِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الشَّبَهِ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الشَّبَهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَيِمَّةُ الْأُصُولِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النِّسَاء: ١١٥] مَعَ أَنَّ مَهْيَعَ الْآيَةِ الْمُحْتَجِّ بِهَا إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوُا الْخُرُوجَ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةً فَمُخَالَفَةُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فِيهِ شَبَهُ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
الْإِشَارَةُ إِلَى الْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ وَوُقُوعُهَا عَقِبَ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ مُحَادَّةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقًا وَآنِفًا، وَمَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَأَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُمُ
وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ١ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ٢ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ٣ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤ يَجْرِي الْقَسَمُ هُنَا عَلَى سُنَنِ الْأَقْسَامِ الصَّادِرَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ بِأَشْيَاءٍ مُعَظَّمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى آثَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
والْقَلَمِ الْمُقْسَمُ بِهِ قِيلَ هُوَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْقَلَمِ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْمَوْجُودَاتِ الْكَائِنَةِ وَالَّتِي سَتَكُونُ، أَوْ هُوَ كَائِنٌ غَيْبِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةٍ: أَنَّهُ الْقَلَمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٤- ٥]. قُلْتُ:
وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَما يَسْطُرُونَ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ الَّذِينَ لَا يعْرفُونَ إِلَّا الْقَلَمَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَةَ مِنَ الْعَرَبِ.
وَمِنْ فَوَائِدَ هَذَا الْقَسَمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كِتَابُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ مَكْتُوبًا مَقْرُوءًا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِكِتَابَةِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الْقَلَمِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
فَالْقَسَمُ بِالْقَلَمِ لِشَرَفِهِ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ وَكُتِبَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْمُقَدَّسَةُ وَتُكْتَبُ بِهِ كُتُبُ التَّرْبِيَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْعُلُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ حَظُّ شَرَفٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا يُرَجِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ نَوَّهُ بِالْقَلَمِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ نَزَلَتْ من الْقُرْآن بقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٣- ٥].
وَمَا يَسْطُرُونَ هِيَ السُّطُورُ الْمَكْتُوبَةُ بِالْقَلَمِ.
وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، أَيْ وَمَا يَكْتُبُونَهُ مِنَ الصُّحُفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَعْنَى: وَسَطْرِهِمُ الْكِتَابَةَ سُطُورًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا كُتَّابُ الْوَحْيِ الْقُرْآنَ، وَما يَسْطُرُونَ قَسَمًا بِكِتَابَتِهِمْ، فَيَكُونُ قَسَمًا بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ بِكَلَامِ مَجْنُونٍ
وَإِبْطَالِ قَول الْمُشْركين يتَعَذَّر الْإِحْيَاءِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْأَجْسَادِ.
وَعُرِّضَ بِأَنَّ نُكْرَانَهُمْ إِيَّاهُ مُنْبَعِثٌ عَنْ طُغْيَانِهِمْ فَكَانَ الطُّغْيَانُ صَادًّا لَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْإِنْذَارِ بِالْجَزَاءِ فَأَصْبَحُوا آمِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مُتَرَقِّبِينَ حَيَاةً بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنَّ جُعِلَ مَثَلُ طُغْيَانِهِمْ كَطُغْيَانِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ دَعْوَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً، وَتَسْلِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَانْعَطَفَ الْكَلَامُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِأَنَّ خَلْقَ الْعَوَالِمِ وَتَدْبِيرَ نِظَامِهِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ إِلْفَاتٌ إِلَى مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ دَلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأُدْمِجَ فِيهِ امْتِنَانٌ فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ فَوَائِدَ يَجْتَنُونَهَا وَأَنَّهُ إِذَا حَلَّ عَالَمُ الْآخِرَةِ وَانْقَرَضَ عَالَمُ الدُّنْيَا جَاءَ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ.
وَكُشِفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فِي إِحَالَةِ الْبَعْثِ بِاسْتِبْطَائِهِمْ إِيَّاهُ وَجَعْلِهِمْ ذَلِكَ أَمَارَةً عَلَى انْتِفَائِهِ فَلِذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ، وَأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِهَا وَلَيْسَ شَأْنُهُ تَعْيِينَ إِبَّانِهَا، وَأَنَّهَا يُوشِكُ أَنْ تَحُلَّ فَيَعْلَمُونَهَا عِيَانًا وَكَأَنَّهُمْ مَعَ طُولِ الزَّمَنِ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا جُزْءًا من النَّهَار.
[١- ٩]
[سُورَة النازعات (٧٩) : الْآيَات ١ إِلَى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ بِمَخْلُوقَاتٍ ذَاتِ صِفَاتٍ عَظِيمَةٍ قَسَمًا مُرَادًا مِنْهُ تَحْقِيقُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ وَفِي هَذَا الْقَسَمِ تَهْوِيلُ الْمُقْسَمِ بِهِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْخَمْسَةُ الْمُقْسَمُ بِهَا جُمُوعٌ جَرَى لَفْظُهَا عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ جَمَاعَاتٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الصِّفَاتُ الْمَجْمُوعَةُ، فَهِيَ جَمَاعَاتٌ،
الصفحة التالية