فَكَانَ الِانْعِدَامُ لَازِمًا عُرْفِيًّا لِلْقِلَّةِ ادِّعَائِيًّا فَتَكُونُ (مَا) مَصْدَرِيَّةً وَالْوَجْهَانِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا فِي «الْكَشَّافِ» بِاخْتِصَارٍ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُمَا فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٦٢] فَقَالَ: «وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذْكِيرِ وَالْقِلَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ» وَكَأَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شَأْنِهِ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ فَلَوْ تَذَكَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ لَحَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَيْفَ وَخِطَابُهُمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ معتقدين ذَلِك.
[٨٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٨٩]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَة: ٨٨] لِقَصْدِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبِيخِ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إِعْرَاضًا مُجَرَّدًا عَنِ الْأَدِلَّةِ لَكَانَ فِي إِعْرَاضِهِمْ مَعْذِرَةٌ مَا وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا وَكَفَرُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ وَالَّذِي كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَقَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَهُمْ وَلَيْسَ صِفَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مُشَاهَدًا مَعْلُومًا حَتَّى يُوصَفَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَصْفُ شَأْنٍ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْمَذَمَّةِ فِي هَذَا الْكُفْرِ وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: ٤١].
وَالِاسْتِفْتَاحُ ظَاهِرُهُ طَلَبُ الْفَتْحِ أَيِ النَّصْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَال: ١٩] وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَنْصَرُوا عَلَيْهِمْ بِسُؤَالِ اللَّهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ يَسْتَفْتِحُونَ بِمَعْنَى يَفْتَحُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ وَيُخْبِرُونَ كَمَا يُقَالُ فَتَحَ عَلَى الْقَارِئِ أَيْ عَلَّمَهُ
الْآيَةَ الَّتِي يَنْسَاهَا فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ مِثْلَ زِيَادَتِهِمَا فِي اسْتَعْصَمَ وَاسْتَصْرَخَ وَاسْتَعْجَبَ وَالْمُرَادُ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَسُولًا سَيُبْعَثُ فَيُؤَيِّدُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعَاقِبُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ أَيْ لَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ الَّذِي عَرَفُوهُ كَفَرُوا بِهِ وَقَدْ عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْكِتَابُ لِيَكُونَ اللَّفْظُ أَشْمَلَ فَيَشْمَلَ الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
وَالتَّبُّ: الْخُسْرَانُ وَالْهَلَاكُ، وَالْكَلَامُ دُعَاءٌ وَتَقْرِيعٌ لِأَبِي لَهَبٍ دَافَعَ اللَّهُ بِهِ عَن نبيئه بِمثل اللَّفْظِ الَّذِي شَتَمَ بِهِ أَبُو لَهَبٍ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَإِسْنَادُ التَّبِّ إِلَى الْيَدَيْنِ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيءِ: «تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا» أَخَذَ بِيَدِهِ حَجَرًا لِيَرْمِيَهُ بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ إِذَا أَنَا بَرْجَلٍ حَدِيثِ السِّنِّ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
تُفْلِحُوا، وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يَرْمِيهِ قَدْ أَدْمَى سَاقَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ وَيَقُول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تُصَدِّقُوهُ». فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيءٌ، وَهَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، فَوَقَعَ الدُّعَاءُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُقَالُ لِلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَكْرُوهٍ: «بِفِيكَ الْحِجَارَةُ أَوْ بِفِيكَ الْكَثْكَثُ»
. وَقَول النَّابِغَة:
قعُود الَّذِي أبياتهم يثمدونهم | رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ |
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا | فَلَبِّى فَلَبِّي يَدَيْ مِسْوَرِ |
وَأَبُو لَهَبٍ: هُوَ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ عَمُّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عُتْبَةَ تَكْنِيَةً بِاسْمِ ابْنِهِ، وَأَمَّا كُنْيَتُهُ بِأَبِي لَهَبٍ فِي الْآيَةِ فَقِيلَ: كَانَ يُكَنَّى بِذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ) وَأَنَّهُ اشْتُهِرَ بِتِلْكَ الْكُنْيَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ، وَمِثْلُهُ حَدِيثٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدَّيْلِيِّ فِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ»، فَسَمَّاهُ الْقُرْآنُ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ لِأَنَّ فِي اسْمِهِ عِبَادَةَ الْعُزَّى، وَذَلِكَ لَا يُقِرُّهُ الْقُرْآنُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرَ مِنْهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ، أَوْ لِأَنَّ فِي كُنْيَتِهِ مَا يَتَأَتَّى بِهِ التَّوْجِيهُ بِكَوْنِهِ صَائِرًا إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا، لِأَنَّ اللَّهَبَ أَلْسِنَةُ النَّارِ إِذَا اشْتَعَلَتْ وَزَالَ عَنْهَا الدُّخَانُ. وَالْأَبُ: يُطْلَقُ عَلَى مُلَازِمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: «أَبُوهَا وَكَيَّالُهَا» وَكَمَا كُنِّيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَبَا الضِّيفَانِ وَكَنَّى النَّبِيءُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ