بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَغَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى صِلَةٍ احْتِرَازًا عَنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ فَقَوْلُهُ: بِئْسَمَا يُفَسَّرُ بِبِئْسَ الشَّيْءِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ. وَالْآخَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَهَذَانِ هُمَا أَوْضَحُ الْوُجُوهِ فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا (مَا) وَحْدَهَا كَانَتْ (مَا) مَعْرِفَةً تَامَّةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [الْبَقَرَة: ٢٧١] أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هِيَ وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ مَا جُمْلَةٌ تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ صِلَةً كَانَتْ (مَا) مَعْرِفَةً نَاقِصَةً أَيْ مَوْصُولَةً نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ (مَا) فَاعِلُ (بِئْسَ).
وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ بِئْسَ وَنِعْمَ اسْمٌ يُفِيدُ تَعْيِينَ الْمَقْصُودِ بِالذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ، وَيُسَمَّى فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَخْصُوصَ وَقَدْ لَا يُذْكَرُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ لِتَقَدُّمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْفُرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ وَالتَّقْدِيرُ كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ أَوْ خَبَرًا مَحْذُوفَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ (مَا) وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: اشْتَرَوْا إِمَّا صِفَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ أَوْ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولَةِ وأَنْ يَكْفُرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ عَلَى وِزَانِ قَوْلِكَ نِعْمَ الرَّجُلُ فُلَانٌ.
وَالِاشْتِرَاءُ الِابْتِيَاعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: ١٦] فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مُجَازٌ أُطْلِقَ فِيهِ الِاشْتِرَاءُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ تَشْبِيهًا لِاسْتِبْقَائِهِ بِابْتِيَاعِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَهُمْ قَدْ آثَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَبْقَوْا عَلَيْهَا بِأَنْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ حَسَدًا، فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا [الْبَقَرَة: ٨٩] بِمَعْنَى جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا صِفَتَهُ وَإِنْ فَرَّطُوا فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَمَعْنَى اشْتِرَاءِ أَنْفُسِهِمْ جَارٍ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ نَجَّوْهَا مِنَ الْعَذَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَقَوْلُهُ:
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ بِئْسَمَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ وَأَمَّا كَوْنُهُ اشْتِرَاءً فَبِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ أَيْضًا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ حَالِهِمْ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ إِلَيْهِمْ لِلدَّوَامِ عَلَى شَرِيعَةٍ نُسِخَتْ. وَإِنْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ
صِدْقَ الرَّسُولِ وَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ لِمُجَرَّدِ الْمُكَابَرَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَالِاشْتِرَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِبْقَاءِ الدُّنْيَوِيِّ أَيْ بِئْسَ الْعِوَضُ بِذْلُهُمُ الْكُفْرَ وَرِضَاهُمْ بِهِ لِبَقَاءِ الرِّئَاسَةِ وَالسُّمْعَةِ وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ برسالة الصَّادِق بِالْآيَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [الْبَقَرَة: ٨٦].
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ عَدَمِ الْإِغْنَاءِ.
وَمَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ.
وَالْمَالُ: الْمُمْتَلَكَاتُ المتمولة، وَغلب عِنْد الْعَرَبِ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْإِبِلِ، وَمِنْ كَلَامِ عُمَرَ: «لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» إِلَخْ فِي اتِّقَاءِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، مِنَ «الْمُوَطَّأِ» وَقَالَ زُهَيْرٌ:
صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتِ بِمَخْرَمِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَالْبَحْرَيْنِ يَغْلِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى النَّخِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ فِي سُورَة النِّسَاء [٢٩] وَفِي مَوَاضِعَ.
وَما كَسَبَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ جَوَازًا لِأَنَّهُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ:
وَمَا كَسَبَهُ، أَيْ مَا جَمَعَهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ: مَا يَمْلِكُهُ مِنْ غَيْرِ النَّعَمِ مِنْ نُقُودٍ وَسِلَاحٍ وَرَبْعٍ وَعُرُوضٍ وَطَعَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَالِهِ: جَمِيعُ مَالِهِ، وَيَكُونَ عَطْفُ وَما كَسَبَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، أَيْ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ التَّالِدُ وَهُوَ مَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَا كَسَبَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ طَرِيفُهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَالَ: «إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا فَأَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَالِي وَوَلَدِي» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مَا كَسَبَ هُوَ وَلَدُهُ فَإِنَّ الْوَلَدَ من كسب أَبِيه.
[٣]
[سُورَة المسد (١١١) : آيَة ٣]
سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (٣)
بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أَيْ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَنَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي حَيَاةِ أَبِي لَهَبٍ. وَقَدْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يُسْلِمُ وَكَانَتْ من دَلَائِل النبوءة.
وَالسِّينُ لِلتَّحْقِيقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨].
وَ «يَصْلَى نَارًا» يُشْوَى بِهَا وَيَحِسُّ بِإِحْرَاقِهَا. وَأَصَّلُ الْفِعْلِ: صَلَاهُ بِالنَّارِ، إِذَا