وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ لَا يَشْمَل الِامْتِثَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ:
وَاسْمَعُوا دَالًّا عَلَى مَعْنًى جَدِيدٍ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ تَأْكِيدًا لِمَدْلُولِ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ شَامِلًا لِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَتَكُونَ نُكْتَةُ التَّأْكِيدِ حِينَئِذٍ هِيَ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ الْإِهْمَالِ وَالْإِخْلَالِ حَتَّى أَكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ تَبَيُّنِ عَدَمِ امْتِثَالِهِمْ فِيمَا يَأْتِي فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٦٣].
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ إِشَارَاتِ الْقُرْآنِ إِلَى الْعبارَات الني نَطَقَ بِهَا مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُتِبَتْ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالسَّمَاعِ تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعِ مُخَاطَبَاتِ مُوسَى لَمَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، فَهَذَا مِنْ نُكَتِ اخْتِيَارِ هَذَا اللَّفْظِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِامْتِثَالِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّعْبِيرِ بِالْعَهْدِ.
وَقَوْلُهُ: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ:
وَاسْمَعُوا وَإِنَّمَا أَجَابُوهُ بِأَمْرَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اسْمَعُوا تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ مَعْنًى صَرِيحًا وَمَعْنًى كِنَائِيًّا فَأَجَابُوا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ وَأَمَّا الْأَمْرُ الْكِنَائِيُّ فَقَدْ رَفَضُوهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ قَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَا تَضَمَّنَهُ وَاسْمَعُوا وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ شَافَهُوا نَبِيَّهُمْ بِالْعَزْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ:
سَمِعْنا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ أَيْ سَمِعْنَا هَذَا الْكَلَامَ، وَقَوْلُهُ: وَعَصَيْنا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَاسْمَعُوا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى امْتَثِلُوا لِيَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ وَيُبْعِدُهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي جَوَابِهِمْ بِكَلِمَةِ سَمِعْنا مُشِيرٌ إِلَى كَوْنِهِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: اسْمَعُوا لِأَنَّ شَأْنَ الْجَوَابِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى عِبَارَةِ الْكَلَامِ الْمُجَابِ بِهِ وَقَوْلُهُ: لِيَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جَعْلَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَاسْمَعُوا يُغْنِي عَنْ تَطَلُّبِ جَوَابٍ
لِقَوْلِهِ: خُذُوا فَفِيهِ إِيجَازٌ، فَالْوَجْهُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ قَوْلَهُمْ: عَصَيْنا كَانَ بِلِسَانِ الْحَالِ يَعْنِي فَيَكُونُ قالُوا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَيْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَوْا فَكَأَنَّ لِسَانَهُمْ يَقُولُ عَصَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ عَصَيْنا وَقَعَ فِي زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ بِأَنْ قَالُوا عَصَيْنَا فِي حَثِّهِمْ عَلَى بَعْضِ الْأَوَامِرِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ لِمُوسَى حِينَ قَالَ لَهُمُ: ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً [الْمَائِدَة: ٢٤] وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَقْرَبُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَة:
٦٤].
أَسَاسُ
الْإِسْلَامِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : رُوِيَ أُبَيٍّ وَأَنَسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَّتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ عَلَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١). يَعْنِي مَا خُلِقَتْ إِلَّا لِتَكَوُنَ دَلَائِلَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهَا وَسُورَةَ الْكَافِرُونَ تُسَمَّيَانِ الْمُقَشْقِشَتَيْنِ، أَيِ الْمُبْرِئَتَيْنِ مِنَ الشِّرْكِ وَمِنَ النِّفَاقِ.
وَسَمَّاهَا الْبِقَاعِيُّ فِي «نَظْمِ الدُّرَرِ» «سُورَةَ الصَّمَدِ»، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَمَعَهَا الْفَخْرُ. وَقَدْ عَقَدَ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ» فَصْلًا لِأَسْمَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ فَذَكَرَ لَهَا عِشْرِينَ اسْمًا بِإِضَافَةِ عُنْوَانِ سُورَةُ إِلَى كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَسَانِيدَهَا فَعَلَيْكَ بِتَتَبُّعِهَا عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهَا وَهِيَ: التَّفْرِيدُ، وَالتَّجْرِيدُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سِوَى صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ)، وَالتَّوْحِيدُ (كَذَلِكَ)، وَالْإِخْلَاصُ (لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا)، وَالنَّجَاةُ (لِأَنَّهَا تُنْجِي مِنَ الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا وَمِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ)، وَالْوِلَايَةُ (لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَتَوَلَّوْنَ غَيْرَ اللَّهِ) وَالنِّسْبَةُ (لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ:
انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، كَمَا سَيَأْتِي)، وَالْمَعْرِفَةُ (لِأَنَّهَا أَحَاطَتْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا) وَالْجَمَالُ (لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ صِفَاتِ اللَّهِ وَهِيَ أَجْمَلُ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلُهَا، وَلِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ»
، وَالْمُقَشْقِشَةُ (يُقَالُ: قَشْقَشَ الدَّوَاءُ الْجَرَبَ إِذَا أَبْرَأَهُ لِأَنَّهَا تُقَشْقِشُ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ اسْمٌ لِسُورَةِ الْكَافِرُونَ أَيْضًا)، وَالْمُعَوِّذَةُ (
لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَوَّذَهُ بِهَا وَبِالسُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا وَقَالَ لَهُ: «تَعَوَّذْ بِهَا»
. وَالصَّمَدُ (لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خُصَّ بِهَا)، وَالْأَسَاسُ (لِأَنَّهَا أَسَاسُ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامَيَّةِ) وَالْمَانِعَةُ (لِمَا رُوِيَ: أَنَّهَا تَمْنَعُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَلَفَحَاتِ النَّارِ) وَالْمَحْضَرُ (لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ لِاسْتِمَاعِهَا إِذَا قُرِئَتْ). والمنفّرة (لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا) وَالْبَرَّاءَةُ (لِأَنَّهَا تُبْرِئُ مِنَ الشِّرْكِ)، وَالْمُذَكِّرَةُ (لِأَنَّهَا تَذْكُرُ خَالِصَ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ مُودَعٌ فِي الْفِطْرَةِ)، وَالنُّورُ (لِمَا رُوِيَ: أَنَّ نُورَ الْقُرْآنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وَالْأَمَانُ (لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ مَا فِيهَا أَمِنَ مِنَ الْعَذَابِ).
_________
(١) يُقَال أس الْبناء إِذا أَقَامَهُ وَفِي نُسْخَة أسست، وَهَذَا الحَدِيث ضَعِيف.


الصفحة التالية
Icon