وَأَبْطَلَ ثَانِيًا مَا تَضَمَّنَهُ من أَنهم شَدِيد والتمسك بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ حَرِيصُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مُتَبَاعِدُونَ عَنِ الْبُعْدِ عَنْهُ لِقَصْدِ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَأَبْطَلَ ثَالِثًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعُذْرُ هُوَ الصَّارِفُ لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ مَعَ إِثْبَاتِ أَنَّ الصَّارِفَ لَهُمْ هُوَ الْحَسَدُ بِقَوْلِهِ هُنَا: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِارْتِبَاطَ وُقُوعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَائِدًا عَلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمُجَابَةِ بِهَاتِهِ الْإِبْطَالَاتِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ هَذِهِ كَمَا فُصِلَتْ أَخَوَاتُهَا وَلِأَنَّهَا لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْجُمَلِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فَتُعْطَفُ عَلَيْهَا فَجَاءَت لذَلِك متسأنفة.
وَالْعَدُوُّ الْمُبْغِضُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَا عَلَيْهِ يَعْدُو بِمَعْنَى وَثَبَ، لِأَنَّ الْمُبْغِضَ يَثِبُ عَلَى الْمَبْغُوضِ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُ وَوَزْنُهُ فَعُولٌ.
وَجِبْرِيلُ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ لِلْمَلَكِ الْمُرْسَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ لِرُسُلِهِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ.
وَفِيهِ لُغَاتٌ أَشْهَرُهَا جِبْرِيلُ كَقِطْمِيرٍ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَجَبْرِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهَذَا وَزْنُ فَعْلِيلٍ لَا يُوجَدُ لَهُ مِثَالٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ، وَجَبْرَئِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْضًا وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبَيْنَ الرَّاءِ وَالْيَاءِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجِدٍ وَقَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَجَبْرَئِلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّامِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ قَرَأَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَفِيهِ لُغَات أُخْرَى قرىء بِهَا فِي الشَّوَاذِّ.
وَهُوَ اسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ كَلِمَةُ جَبْرَ وَكَلِمَةُ إِيلَ. فَأَمَّا كلمة جبر فَمَعْنَاه عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَقْلًا عَنِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى عَبْدٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِيلَ فَهِيَ عِنْدُ الْجُمْهُورِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى عَكْسِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَزَعَمَ أَنَّ جَبْرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيلَ الْعَبْدُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِهَا. وَقَدْ قَفَا أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ رَأْيَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي صَدْرِ رِسَالَتِهِ الَّتِي خَاطَبَ بِهَا عَلِيَّ بْنَ مَنْصُورٍ الْحَلَبِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْقَارِحِ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ «بِرِسَالَةِ الْغُفْرَانِ» فَقَالَ: «قَدْ عَلِمَ الْجَبْرُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي كُلِّ الْخَيْرَاتِ سَبِيلٌ أَنَّ فِي مَسْكَنِي
حَمَاطَةً» إِلَخْ. أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ الَّذِي نَسَبَ جِبْرِيلَ إِلَى اسْمِهِ أَيِ اسْمِهِ جَبْرُ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْقَسَمَ وَهَذَا إِغْرَابٌ مِنْهُ وَتَنْبِيهٌ عَلَى تباصره باللغة.
وعدواة الْيَهُودِ لِجِبْرِيلَ نَشَأَتْ مِنْ وَقْتِ نُزُولِهِ بِالْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شَبِيهٍ لَهُ فِيمَا عَدَاهَا مِثْلَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: ٧٣].
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَهِيَ وَاوُ الْحَالِ، كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: ١٧] فَإِنَّهَا تذييل لِجُمْلَةِ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [سبأ: ١٧]، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْوَاوِ عَاطِفَةً إِنْ جُعِلَتِ الْوَاوُ الْأُولَى عَاطِفَةً فَيَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتَ وَصْفِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ وَتَكُونَ استفادة معنى التذييل تَبَعًا لِلْمَعْنَى، وَالنُّكَتِ لَا تَتَزَاحَمُ.
وَالْكُفُؤُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ. وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، إِلَّا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَوَّلِينَ حَقَّقُوا الْهَمْزَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ سَهَّلَهَا وَيُقَالُ:
«كُفْءٌ» بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَبِالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوب، وَيُقَال: كُفُواً بِالْوَاوِ عِوَضَ الْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَهِيَ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فَصِيحَةٌ.
وَمَعْنَاهُ: الْمسَاوِي والممائل فِي الصِّفَاتِ.
وأَحَدٌ هُنَا بِمَعْنَى إِنْسَانٍ أَوْ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْوُقُوعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ.
وَحَصَلَ بِهَذَا جِنَاسٌ تَامٌّ مَعَ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَقْدِيمُ خَبَرِ (كَانَ) عَلَى اسْمِهَا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْكُفُؤِ عَقِبَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِيَكُونَ أَسْبَقَ إِلَى السَّمْعِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِقَوْلِهِ: لَهُ عَلَى متعلّقه وَهُوَ كُفُواً لِلِاهْتِمَامِ بِاسْتِحْقَاقِ اللَّهِ نَفْيَ كَفَاءَةِ أَحَدٍ لَهُ، فَكَانَ هَذَا الِاهْتِمَامُ مُرَجِّحًا تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ تَأْخِيرَ الْمُتَعَلِّقِ إِذَا كَانَ ظرفا لَغوا. وَتَأْخِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَحْسَنُ مَا لَمْ يَقْتَضِ التَّقْدِيمَ مُقْتَضٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ اسْتَوْفَاهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَثَبَتَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»