مَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ فَجَاءَتْ أَعْيَانُهُمْ وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ يَرْبَعَامُ بْنُ نَبَاطَ مَوْلَى سُلَيْمَانَ لِيُكَلِّمُوا رَحْبَعَامَ قَائِلِينَ: إِنَّ أَبَاكَ قَاسٍ عَلَيْنَا وَأَمَّا أَنْتَ فَخَفِّفْ عَنَّا مِنْ عُبُودِيَّةِ أَبِيكَ لِنُطِيعَكَ فَأَجَابَهُمُ اذْهَبُوا ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيَّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَاسْتَشَارَ رَحْبَعَامُ أَصْحَابَ أَبِيهِ وَوُزَرَاءَهُ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِمُلَايَنَةِ الْأُمَّةِ لِتُطِيعَهُ. وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْفِتْيَانِ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِلْأُمَّةِ إِنَّ خِنْصَرِي أَغْلَظُ مِنْ مَتْنِ أَبِي فَإِذَا كَانَ أَبِي قَدْ أَدَّبَكُمْ بِالسِّيَاطِ فَأَنَا أُؤَدِّبُكُمْ بِالْعَقَارِبِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَأَجَابَهُمْ بِمَا أَشَارَ بِهِ الْأَحْدَاثُ خَلَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ طَاعَتَهُ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ يَرْبَعَامَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى طَاعَةِ رَحْبَعَامَ إِلَّا سبطا يهوذا وبنيامن وَاعْتَصَمَ رَحْبَعَامُ بِأُورَشْلِيمَ وَكُلُّ أُمَّتِهِ لَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ مُحَارِبٍ يَعْنِي رِجَالًا قَادِرِينَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَانْقَسَمَتِ المملكة من يَوْمئِذٍ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ مَمْلَكَةُ يَهُوذَا وَقَاعِدَتُهَا أُورَشْلِيمُ، وَمَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ وَمَقَرُّهَا السَّامِرَةُ، وَذَلِكَ سَنَةَ ٩٧٥ قَبْلَ الْمَسِيحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [الْبَقَرَة: ٦٢] الْآيَةَ وَلَا يَخْفَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالَةُ أُمَّةٍ فِي هَذَا الِانْتِقَالِ فَإِنَّ خُصُومَ رَحْبَعَامَ لَمَّا سَلَبُوا مِنْهُ الْقُوَّةَ الْمَادِّيَّةَ لَمْ يَغْفُلُوا عَمَّا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْأَدَبِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ ابْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ
بَيْتِ الْمُلْكِ وَالنُّبُوءَةِ وَالسُّمْعَةِ الْحَسَنَةِ فَلَمْ يَأْلُ أَعْدَاؤُهُ جُهْدَهُمْ مِنْ إِسْقَاطِ هَاتِهِ الْقُوَّةِ الْأَدَبِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنِ اجْتَمَعَ مُدَبِّرُو الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَضَعُوا أَكَاذِيبَ عَنْ سُلَيْمَانَ يَبُثُّونَهَا فِي الْعَامَّةِ ليقضوا بهَا وَطَرِيق أَحَدُهُمَا نِسْبَةُ سُلَيْمَانَ إِلَى السِّحْرِ وَالْكُفْرِ لِتَنْقِيصِ سُمْعَةِ ابْنِهِ رَحْبَعَامَ كَمَا صَنَعَ دُعَاةُ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ فِيمَا وَضَعُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَالثَّانِي تَشْجِيعُ الْعَامَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ مُلْكَ سُلَيْمَانَ وَابْنِهِ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ ابْنِهِ بِأَنَّ سُلَيْمَانَ مَا تَمَّ لَهُ الْمُلْكُ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَسْحَارِ وَالطَّلَاسِمِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا ظَفِرُوا بِهَا فَإِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُؤَسِّسُوا مُلْكًا يُمَاثِلُ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَمَا صَنَعَ دُعَاةُ انْقِلَابِ الدُّوَلِ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ مِنْ وَضْعِ أَحَادِيثِ انْتِظَارِ الْمَهْدِيِّ وَكَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ بَثِّ أَخْبَارٍ عَنِ الصَّالِحِينَ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ زَوَالِ الدَّوْلَةِ. وَلَا يَخْفَي مَا تُثِيرُهُ هَذِهِ الْأَوْهَامُ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَزْمِ بِنَجَاحِ السَّعْيِ وَجَعْلِهِمْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ خَيْبَةِ أَعْمَالِهِمْ وَلَحَاقِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ فَإِذَا قُضِيَ الْوَطَرُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ الْتَصَقَ أَثَرُهُ فِي النَّاسِ فَيَبْقَى ضُرُّ ضَلَالِهِ بَعْدَ اجْتِنَاءِ ثِمَارِهِ.
وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْمَشْيُ وَرَاءَ الْغَيْرِ وَيَكُونُ مَجَازًا فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ وَبِرَأْيهِ وَفِي الِاعْتِقَادِ بِاعْتِقَادِ الْغَيْرِ تَقُولُ اتَّبَعَ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَاتَّبَعَ عَقِيدَةَ الْأَشْعَرِيِّ، وَالِاتِّبَاعُ هُنَا مَجَازٌ
وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ وَتَغَلْغَلَ فِي الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الْوَقْبَةُ: اسْمُ النُّقْرَةِ فِي الصَّخْرَةِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَوَقَبَتِ الشَّمْسُ غَابَتْ، وَخص بِالتَّعَوُّذِ أَشَدَّ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ تَوَقُّعًا لحُصُول الْمَكْرُوه.
[٤]
[سُورَة الفلق (١١٣) : آيَة ٤]
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)
هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَنْوَاعِ الْخَاصَّةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الْعَامِّ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: ٢]. وَعَطْفُ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ عَلَى شَرِّ اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتٌ يَتَحَيَّنُ فِيهِ السَّحَرَةُ إِجْرَاءَ شَعْوَذَتِهِمْ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ.
وَالنَّفْثُ: نَفْخٌ مَعَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِدُونِ إِخْرَاجِ رِيقٍ فَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التُّفْلِ، يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ
إِذَا وَضَعُوا عِلَاجَ سِحْرِهِمْ فِي شَيْءٍ وَعَقَدُوا عَلَيْهِ عُقَدًا ثُمَّ نَفَثُوا عَلَيْهَا.
فَالْمُرَادُ بِ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ: النِّسَاءُ السَّاحِرَاتُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِصِفَةِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَتَعَاطَى السِّحْرَ النِّسَاءُ لِأَنَّ نِسَاءَهُمْ لَا شُغْلَ لَهُنَّ بَعْدَ تَهْيِئَةِ لَوَازِمِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَالنَّظَافَةِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ انْكِبَابُهُنَّ عَلَى مِثْلِ هَاتِهِ السَّفَاسِفِ مِنَ السِّحْرِ وَالتَّكَهُّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْأَوْهَامُ الْبَاطِلَةُ تَتَفَشَّى بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُولَ سَاحِرَةٌ مِنَ الْجِنِّ. وَوَرَدَ فِي خَبَرِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ أَنَّ عِمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اتُّهِمَ بِزَوْجَةِ النَّجَاشِيِّ وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ دَعَا لَهُ السَّوَاحِرَ فَنَفَخْنَ فِي إِحْلِيلِهِ فَصَارَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ وَلَحِقَ بِالْوُحُوشِ.
والْعُقَدِ: جَمْعُ عُقْدَةٍ وَهِيَ رَبْطٌ فِي خَيْطٍ أَوْ وَتَرٍ يَزْعُمُ السَّحَرَةُ أَنَّهُ سِحْرُ الْمَسْحُورِ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَت تِلْكَ العقد مَعْقُودَةً، وَلِذَلِكَ يَخَافُونَ مِنْ حَلِّهَا فَيَدْفِنُونَهَا أَوْ يُخَبِّئُونَهَا فِي مَحَلٍّ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ السَّحَرَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ شَرُّ السَّحَرَةِ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَكَاذِيبِهِمْ إِنَّهُ مَسْحُورٌ، قَالَ تَعَالَى:
وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨].
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ هُنَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُونٌ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَرُّ النَّفَّاثَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ أَعَاذَهُ مِنْهَا.