الْمُقَدِّمَةُ السَّابِعَةُ قَصَصُ الْقُرْآنِ
امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُف: ٣] فَعَلِمْنَا مِنْ قَوْلِهِ أَحْسَنَ، أَنَّ الْقِصَصَ الْقُرْآنِيَّةَ لَمْ تُسَقْ مَسَاقَ الْإِحْمَاضِ (١) وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنِ اسْتِغْرَابِ مَبْلَغِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِأَنَّ غَرَضَ الْقُرْآنِ أَسْمَى وَأَعْلَى مِنْ هَذَا، وَلَوْ كَانَ مِنْ هَذَا لَسَاوَى كَثِيرًا مِنْ قَصَصِ الْأَخْبَارِ الْحَسَنَةِ الصَّادِقَةِ فَمَا كَانَ جَدِيرًا بِالتَّفْضِيلِ عَلَى كُلِّ جِنْسِ الْقَصَصِ.
وَالْقِصَّةُ: الْخَبَرُ عَنْ حَادِثَةٍ غَائِبَةٍ عَنِ الْمُخْبَرِ بِهَا، فَلَيْسَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْأَحْوَالِ الْحَاضِرَةِ فِي زَمَنِ نُزُولِهِ قَصَصًا مِثْلَ ذِكْرِ وَقَائِعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عَدُوِّهِمْ. وَجَمْعُ الْقِصَّةِ قِصَصٌ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَأَمَّا الْقَصَصُ بِفَتْحِ الْقَافِ فَاسْمٌ لِلْخَبَرِ الْمَقْصُوصِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَفْعُولُ، يُقَالُ: قَصَّ عَلَيَّ فُلَانٌ إِذَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ.
وَأَبْصَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ سَوْقِهَا قَاصِرًا عَلَى حُصُولِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ مِنْ عَوَاقِبِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَلَا عَلَى حُصُولِ التَّنْوِيهِ بِأَصْحَابِ تِلْكَ الْقِصَصِ فِي عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ أَوِ التَّشْوِيهِ بِأَصْحَابِهَا فِيمَا لَقُوهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقِفُ عِنْدَهُ أَفْهَامُ الْقَانِعِينَ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَأَوَائِلِهَا، بَلِ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ أَسْمَى وَأَجَلُّ. إِنَّ فِي تِلْكَ الْقِصَصِ لَعِبَرًا جَمَّةً وَفَوَائِدَ لِلْأُمَّةِ وَلِذَلِكَ نَرَى الْقُرْآنَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قِصَّةٍ أَشْرَفَ مَوَاضِيعِهَا وَيُعْرِضُ عَمَّا عَدَاهُ لِيَكُونَ تَعَرُّضُهُ لِلْقِصَصِ مُنَزَّهًا عَنْ قَصْدِ التَّفَكُّهِ بِهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ تَأْتِ الْقِصَصُ فِي الْقُرْآنِ مُتَتَالِيَةً مُتَعَاقِبَةً فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ كَمَا يَكُونُ كِتَابُ تَارِيخٍ، بَلْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً مُوَزَّعَةً عَلَى مَقَامَاتٍ تُنَاسِبُهَا، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ مِنْهَا لَهَا عَلَاقَةٌ بِذَلِكَ التَّوْزِيعِ، هُوَ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِأَهْلِ الدِّينِ فَهُوَ بِالْخَطَابَةِ أَشْبَهُ. وَلِلْقُرْآنِ أُسْلُوبٌ
خَاصٌّ هُوَ الْأُسْلُوبُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّذْكِيرِ وَبِالذِّكْرِ فِي آيَاتٍ يَأْتِي تَفْسِيرُهَا فَكَانَ أُسْلُوبُهُ قَاضِيًا لِلْوَطَرَيْنِ وَكَانَ أَجَلَّ مِنْ أُسْلُوبِ الْقَصَّاصِينَ فِي سَوْقِ الْقِصَصِ لِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّ سَوْقَهَا فِي مُنَاسَبَاتِهَا يُكْسِبُهَا صِفَتَيْنِ: صِفَةَ الْبُرْهَانِ وَصِفَةَ التِّبْيَانِ وَنَجِدُ مِنْ مُمَيِّزَاتِ قِصَصِ الْقُرْآنِ نَسْجُ نَظْمِهَا عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ لِيَكُونَ شَبَهُهَا بِالتَّذْكِيرِ
_________
(١) من أحمض الْقَوْم: أفاضوا فِيمَا يؤنسهم.
لِإِخْرَاجِ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ إِلَّا أَنه بِهِ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ وَهُوَ الْإِفَاضَةُ فَأَغْنَى عَنْ جَعْلِهِ فَرْضًا، وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» (١)، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ مُتَرَادِفَانِ عِنْدَنَا فِي الْحَجِّ، فَالْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ لَكِنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ مُسَاوٍ لِلْفَرْضِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالنُّسُكِ وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فِي الدَّلَالَةِ فَلَا يَكُونُ فَرْضًا بَلْ وَاجِبًا لِأَنَّ الْآيَةَ قَطْعِيَّةُ الْمَتْنِ فَقَطْ وَالْحَدِيثُ ظَنِّيٌّ فِيهِمَا، وَالْجَوَابُ أَن مَجْمُوع الظَّوَاهِر مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَإِلَّا فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا دَلِيلَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ فَمَتَى يَثْبُتُ هَذَا النَّوْعُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْفَرْضِ؟ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ مِنَ الْحَثِّ عَلَى السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِمَفَادِ قَوْلِهِ: مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ الْإِتْيَانُ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا مِنْ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ أَوْ نَوَافِلَ فَقَطْ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ خَيْراً خُصُوصَ السَّعْيِ لِأَنَّ خَيْرًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَهِيَ عَامَّةٌ وَلِهَذَا عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِئَلَّا يَكُونَ الْخَيْرُ قَاصِرًا عَلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [الْبَقَرَة: ١٨٤] لِأَنَّهُ أُرِيدَ هُنَالِكَ بَيَانُ أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ فِي الْفِطْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ أَوْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى إِطْعَامِ مِسْكِينٍ أَفْضَلُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَتَطَوَّعَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى فَعَلَ طَاعَةً وَتَكَلَّفَهَا، وَيُطْلَقُ مُطَاوِعُ طَوَّعَهُ أَيْ جَعَلَهُ مُطِيعًا فَيَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّعِ غَالِبًا لِأَنَّ التَّبَرُّعَ زَائِدٌ فِي الطَّاعَةِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَانْتِصَابُ خَيْراً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ أَوْ بِتَضْمِينِ تَطَوَّعَ مَعْنَى فَعَلَ أَوْ أَتَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ مِنَ التَّطَوُّعِ أَيْ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَنَّهَا لِإِفَادَةِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ بَعْدَ ذِكْرِ تَشْرِيعٍ عَظِيمٍ، عَلَى أَنَّ تَطَوَّعَ لَا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى تَبَرَّعَ بَلْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى أَتَى بِطَاعَةٍ أَوْ تَكَلَّفَ طَاعَةً.
_________
(١) أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» (٦/ ٤٢١)، ط الْحلَبِي.
أَنْتَجَهُ ذَكَاءُ أَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ أَنْظَارِهِمُ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى أُصُولِ الْهُدَى الْأَوَّلِ. وَقَدْ مَهَّدَ قُدَمَاءُ الْحُكَمَاءِ طَرَائِقَ مِنَ الْحِكْمَةِ فَنَبَعَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ فِي عُصُورٍ مُتَقَارِبَةٍ كَانَتْ فِيهَا مَخْلُوطَةً بِالْأَوْهَامِ وَالتَّخَيُّلَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. بَيْنَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَالصِّينِ، ثُمَّ دَرَسَهَا حُكَمَاءُ الْيُونَانِ فَهَذَّبُوا وَأَبْدَعُوا، وَمَيَّزُوا عِلْمَ الْحِكْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَوَخَّوُا الْحَقَّ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَزَالُوا أَوْهَامًا عَظِيمَةً وَأَبْقَوْا كَثِيرًا. وَانْحَصَرَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ فِي طَرِيقَتَيْ سُقْرَاطَ وَهِيَ نَفْسِيَّةٌ، وَفِيثَاغُورْسَ وَهِيَ رِيَاضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ. وَالْأُولَى يُونَانِيَّةٌ وَالثَّانِيَةٌ لِإِيطَالْيَا الْيُونَانِيَّةِ. وَعَنْهُمَا أَخَذَ
أَفْلَاطُونُ، وَاشْتُهِرَ أَصْحَابُهُ بِالْإِشْرَاقِيِّينَ، ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُ أَفْضَلُ تلامذته وَهُوَ أرسطاطاليس وَهَذَّبَ طَرِيقَتَهُ وَوَسَّعَ الْعُلُومَ، وَسُمِّيَتْ أَتْبَاعُهُ بِالْمَشَّائِينَ، وَلَمْ تَزَلِ الْحِكْمَةُ مِنْ وَقْتِ ظُهُورِهِ مُعَوِّلَةً عَلَى أُصُولِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَهُوَ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ إِيتَاءَهُ الْحِكْمَةَ.
وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ مُنْجَرٌّ إِلَيْهِ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ وَالْهُدَى الْإِلَهِيِّ، وَمِنْ تَفَارِيعِ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَعْصِمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالضَّلَالِ بِمِقْدَارِ التَّوَغُّلِ فِي فَهْمِهَا وَاسْتِحْضَارِ مُهِمِّهَا لِأَنَّنَا إِذَا تَتَبَّعْنَا مَا يَحِلُّ بِالنَّاسِ مِنَ الْمَصَائِبِ نَجِدُ مُعْظَمَهَا مِنْ جَرَّاءِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَأَفَنِ الرَّأْيِ.
وَبِعَكْسِ ذَلِكَ نَجِدُ مَا يَجْتَنِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمُلَائِمَاتِ مُنْجَرًّا مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ، وَلَوْ أَنَّنَا عَلِمْنَا الْحَقَائِقَ كُلَّهَا لَاجْتَنَبْنَا كُلَّ مَا نَرَاهُ مُوقِعًا فِي الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَنْ يُؤْتَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلنَّائِبِ، عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ يُؤْتَ نَائِبُ فَاعِلٍ عَائِدٌ عَلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ- بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي فِعْلِ يُؤْتِ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ فَالْعَائِدُ ضَمِيرُ نَصْبٍ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تَذْيِيلٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ شَاءَ الله إيتَاء الْحِكْمَةَ هُوَ ذُو اللُّبِّ. وَأَنَّ تَذَكُّرَ الْحِكْمَة واستصحاب إرشادها بِمِقْدَارِ اسْتِحْضَارِ اللُّبِّ وَقُوَّتِهِ وَاللُّبُّ فِي الْأَصْلِ خُلَاصَةُ الشَّيْءِ وَقَلَبُهُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى عَقْلِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ
أَيْ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ عَلَامَاتِ عَدَاوَتِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَتَتَوَسَّمُونَ تِلْكَ الصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يُجْعَلُ مِنْ دُونِكُمْ وَصْفًا، وَتَكُونُ الْجُمَلُ بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفَاتٍ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ غَيْرِ أهل ملّتنا، وهذ الْخِلَالُ ثَابِتَةٌ لَهُمْ فَهِيَ صَالِحَةٌ لِلتَّوْصِيفِ، وَلِتَعْلِيلِ النَّهْيِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ عَدَاوَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ لَا سِيَّمَا عَدَاوَةُ قَوْمٍ يَرَوْنَ هَذَا الدِّينَ قَدْ أَبْطَلَ دِينَهُمْ، وَأَزَالَ حُظُوظَهُمْ. كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَمَعْنَى لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لَا يقصّرون فِي حبالكم، وَالْأَلْوُ التَّقْصِيرُ وَالتَّرْكُ، وَفِعْلُهُ أَلَا يَأْلُو، وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ فَيُعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى الْمَنْعِ فِيمَا يَرْغَبُ فِيهِ الْمَفْعُولُ، فَقَالُوا لَا آلُوكَ جَهْدًا، كَمَا قَالُوا لَا أَدَّخِرُكَ نُصْحًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَاعَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ التَّضْمِينُ مَنْسِيًّا، فَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرِّ كَمَا يُعَدَّى إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ هُنَا: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي خَبَالِكُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَا يَمْنَعُونَكُمْ، لِأَنَّ الْخَبَالَ لَا يُرْغَبُ فِيهِ وَلَا يُسْأَلُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْبِطَانَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْبِطَانَةِ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ مَنِ اسْتَبْطَنَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ بِضِدِّ ذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ سَعْيِهِمْ بِالضُّرِّ، بِالْفِعْلِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي السَّعْيِ بِالْخَيرِ.
والخبال اختلال الْأَمْرِ وَفَسَادُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ فَسَادُ الْعَقْلِ خَبَالًا، وَفَسَادُ الْأَعْضَاءِ.
وَقَوْلُهُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ الْوُدُّ: الْمَحَبَّةُ، وَالْعَنَتُ: التَّعَبُ الشَّدِيدُ، أَيْ رَغِبُوا فِيمَا يعنتكم و (مَا) هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ، غَيْرُ زَمَانِيَّةٍ، فَفِعْلُ عَنِتُّمْ لَمَّا صَارَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ زَالَتْ
دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُضِيِّ.
وَمَعْنَى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ظَهَرَتْ مِنْ فَلَتَاتِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَعَبَّرَ بِالْبَغْضَاءِ عَنْ دَلَائِلِهَا.
مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ جُنُبًا، وَيَرَى التَّيَمُّمَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْحَدَثِ، وَلَكِنَّهُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ عِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُهُ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ غَيْرَ جُنُبٍ، وَيَرَى التَّيَمُّمَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِنَاقِضٍ وَيَزُولَ سَبَبُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ الْجُنُبُ وَصَلَّى وَصَارَ مِنْهُ حَدَثٌ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ يَتَوَضَّأُ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بَدَلٌ عَنِ الْغُسْلِ مُطْلَقًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي الْمُتَيَمِّمُ بِهِ إِلَّا فَرْضًا وَاحِدًا، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الْغُسْلِ وَانْتَقَضَ وَضُوءُهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ. وَعَنْ مَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ، حَتَّى يَنْتَقِضَ تَيَمُّمُهُ بِنَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرَ فَوَائِتَ يُصَلِّيهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِهِمَا إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ غَيْرَ جَازِمَةٍ فِي بَقَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ بِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْجَنَابَةِ بِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الْغُسْلِ إِذَا انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ يَتَوَضَّأُ.
وَفِي مَفْهُومِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفَاهِيمِ مِنَ الْجُمْهُورِ، عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ تَفْصِيلٌ. فَعَابِرُ السَّبِيلِ مُطْلَقٌ قَيَّدَهُ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ وَلا جُنُباً فِي غَيْرِ عَابِرِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا عَدَا مَا خُصِّصَ، فَخَصَّصَهُ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقَعُ بِدُونِ طَهَارَة يبْق قَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مُجْمَلًا لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي قُرْبَانِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لِلْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَلَا إِجْمَالَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ اسْتِئْنَافًا لِأَحْكَامِ التَّيَمُّمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ قَصْرُهُ
بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ قَلِيلٍ، كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ- أُمَوِيٌّ-:
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صُورَةٍ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الْكَلَالَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ هُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ فِي بَنِي سَلَمَةَ فَوَجَدَانِي مُغْمًى عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ وَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي فَإِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ.
فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَجَهِّزٌ لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قَضِيَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَفْتُونَكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ جَمْعٌ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ السَّائِلِينَ، عَلَى نَحْوِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ قَدْ تَكَرَّرَ وَكَانَ آخِرُ السَّائِلَيْنِ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَتَأَخَّرَ الْجَوَابُ لِمَنْ سَأَلَ قَبْلَهُ، وَعُجِّلَ الْبَيَانُ لَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ نَفْسَهُ مَيِّتًا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَأَرَادَ أَنْ
يُوصِيَ بِمَالِهِ، فَيَكُونُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي مَادَّةِ السُّؤَالِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَة، نَحْو: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [الْبَقَرَة: ١٨٩]، وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٩]. لِأَنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ يَتَكَرَّرُ، فَشَاعَ إِيرَادُهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ صِيَغِ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ، وَمِنْهُ غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْمُضَارِعِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ: كَقَوْلِ عَائِشَةَ «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» (تَعْنِي ابْنَ عُمَرَ). وَقَوْلِهِمْ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ». وَمِنْهُ غَلَبَةُ الْمَاضِي مَعَ لَا النافية فِي الدُّعَاءِ إِذَا لَمْ تُكَرَّرْ لَا نَحْوُ «فَلَا رَجَعَ». عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ قَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا السُّؤَالُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مُرَاجِعَتِي إِيَّاهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ فِي نَحْرِي، وَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ»، وَقَوْلُهُ: فِي الْكَلالَةِ يَتَنَازَعُهُ فِي التَّعَلُّقِ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (يَسْتَفْتُونَكَ) وَفِعْلِ (يُفْتِيكُمْ).
وَالْإِعْجَابُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٥٥].
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ» قَالَ: «وَكُنْتُ بَحَثْتُ مَعَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَقُلْتُ لَهُ: هَذِهِ تَدُلُّ
عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِأَمْرٍ وَشَهِدَ عَشَرَةُ عُدُولٍ بِضِدِّهِ، فَالْمَشْهُورُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْعَدْلَيْنِ، وَهُمَا مُتَكَامِلَانِ. وَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلٌ آخَرُ بِالتَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ لَهَا اعْتِبَارٌ بِحَيْثُ إِنَّهَا مَا أُسْقِطَتْ هُنَا إِلَّا لِلْخُبْثِ، وَلَمْ يُوَافِقْنِي عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِوَجْهٍ. ثُمَّ وَجَدْتُ ابْنَ الْمُنِيرِ ذَكَرَهُ بِعَيْنِهِ» اه.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ وَاوُ الْحَالِ، ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا إِعْمَالَ النَّظَرِ فِي تَمْيِيزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالْبَحْثَ عَنِ الْحَقَائِقِ، وَعَدَمَ الِاغْتِرَارِ بِالْمَظَاهِرِ الْخَلَّابَةِ الْكَاذِبَةِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ فِي تَمْيِيزِ الْأَفْعَالِ حَتَّى يُعْرَفَ مَا هُوَ تَقْوَى دُونَ غَيْرِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اسْتِدْلَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]، لِأَنَّ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاسْتِطَاعَةِ الِاجْتِهَادَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ إِلَيْهِ الثَّابِتِ لَهُ اكْتِسَابُ أَدَاتِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: يَا أُولِي الْأَلْبابِ فَخَاطَبَ النَّاس بِصفة ليؤمىء إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْعُقُولِ فِيهِمْ يُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ لِاتِّبَاعِ الطَّيِّبِ وَنَبْذِ الْخَبِيثِ. وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَظْهَرُ فِيهِ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ النَّظَرُ فِي دَلَائِلَ صِدْقِ دَعْوَى الرَّسُولِ وَأَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَطَلُّبِ الْآيَاتِ وَالْخَوَارِقَ كَحَالِ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: ٩٠] الْآيَةَ، وَأَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ حَالِ الرَّسُولِ وَحَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَإِنْ كَانَ عَدَدُهُمْ كَثِيرًا.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تَقْرِيبٌ لِحُصُولِ الْفَلَاحِ بِهِمْ إِذَا اتَّقَوْا هَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي مِنْهَا تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ وَعَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِكَثْرَةِ الْخَبِيثِ وَقِلَّةِ الطَّيِّبِ فِي هَذَا.
بِـ (دَارِ السَّلَامِ) الْجَنَّةُ سُمِّيَتْ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ السَّلَامَةَ الْحَقَّ فِيهَا، لِأَنَّهَا قَرَارُ أَمْنٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ، فَتَمَحَّضَتْ لِلنَّعِيمِ الْمُلَائِمِ، وَقِيلَ: السَّلَامُ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ دَارُ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهَا كَمَا يُقَالُ لِلْكَعْبَةِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَكَانَةُ الْأَمَانِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ حَالَةُ الْأَمَانِ مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
كَمْ قَدْ أَحَلَّ بِدَارٍ الْفَقْرَ بَعْدَ غِنَى | عَمْرٌو وَكَمْ رَاشَ عَمْرٌو بَعْدَ إِقْتَارِ |
وَهُوَ وَلِيُّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعَارَةً لِلْحِفْظِ لِأَنَّ الشَّيْءَ النَّفِيسَ يُجْعَلُ فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَحْفَظَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَنَّهُ وَعْدٌ كَالشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ الْمُدَّخَرِ، كَمَا يُقَالُ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَلَكَ عِنْدِي كَذَا تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ. وَالْعُدُولُ عَنْ إِضَافَةِ عِنْدَ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى إِضَافَتِهِ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ: لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ عَطِيَّةُ مَنْ هُوَ مَوْلَاهُمْ.
فَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِفَضْلِهِ وَبِرِّهِ بِهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ كَعَكْسِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤].
وَعُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ جُمْلَةُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ تَعْمِيمًا لِوِلَايَةِ اللَّهِ
إِيَّاهُمْ فِي جَمِيع شؤونهم، لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمِنَّةِ. وَالْوَلِيُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَبِمَعْنَى الْمُوَالِي.
وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ، مِنْ مَفْهُومِ الْفِعْلِ، أَيْ ثَبَتَ لَهُمْ ذَلِكَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحَاصِلَةِ بِالْإِسْلَامِ، أَوِ الْبَاءِ لِلْعِوَضِ: أَيْ لَهُمْ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَمُتَعَلَّقِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مُتَعَلِّقًا بِ وَلِيُّهُمْ أَيْ وَهُوَ نَاصِرُهُمْ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِِْ
ثُمَّ إِذَا تَرَعْرَعَ أَخَذَتْ خَوَاطِرُ السُّوءِ تَنْتَابُهُ فِي بَاطِنِ نَفْسِهِ فَيَفْرِضُهَا وَيُوَلِّدُهَا، وَيَنْفَعِلُ بِهَا أَوْ يَفْعَلُ بِمَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حِكَايَةٌ لِابْتِدَاءِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِسَتْرِ نَقَائِصِهِ، وَتُحِيلُهُ عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكْرَهُهُ، وَعَلَى تَحْسِينِ حَالِهِ بِحَسْبِ مَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِ خَيَالُهُ، وَهَذَا أَوَّلُ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ فِي عَقْلَيْ أَصْلَيِ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا شَعَرَا بِسَوْآتِهِمَا بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، عَرَفَا بَعْضَ جُزْئِيَّاتِهَا، وَهِيَ الْعَوْرَةُ وَحَدَثَ فِي نُفُوسِهِمَا الشُّعُورُ بِقُبْحِ بُرُوزِهَا، فَشَرَعَا يُخْفِيَانِهَا عَنْ أَنْظَارِهِمَا اسْتِبْشَاعًا وَكَرَاهِيَةً، وَإِذْ قَدْ شَعَرَا بِذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ
الْفِطْرِيِّ، حَيْثُ لَا مُلَقِّنَ يُلَقِّنُهُمَا ذَلِكَ، وَلَا تَعْلِيمَ يُعَلِّمُهُمَا، تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قَبِيحٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَأَنَّ سَتْرَهَا مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا مِنْ حُكْمِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّذِي قَارَنَ الْبَشَرَ فِي نَشْأَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ فِطْرِيٌّ مُتَأَصِّلٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ بِتَقْرِيرِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، مُشَايَعَةً لِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِ الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ طَوِيلَةٍ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِهَا عَوْنًا عَلَى تَهْذِيبِ طِبَاعِهِ، وَنَزْعِ الْجَلَافَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ النَّوْعِ، لِأَنَّ الْوَاهِمَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْحَيَوَانِ، ثُمَّ أَخَذَتِ الشَّرَائِعُ، وَوَصَايَا الْحُكَمَاءِ، وَآدَابُ الْمُرَبِّينَ، تُزِيلُ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ مُتَابَعَةَ الْأَوْهَامِ تَدْرِيجًا مَعَ الزَّمَانِ، وَلَا يُبْقُونَ مِنْهَا إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِاسْتِبْقَاءِ الْفَضِيلَةِ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ فَكَانَ نَوْطُ الْأَحْكَامِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأُمُورِ الْوَهْمِيَّةِ مُلْغًى فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، كَمَا فَصَّلْتُهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ» وَكِتَابِ «أُصُولِ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِسْلَامِ».
وَالْخَصْفُ حَقِيقَتُهُ تَقْوِيَةُ الطَّبَقَةِ مِنَ النَّعْلِ بِطَبَقَةٍ أُخْرَى لِتَشْتَدَّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مُرْسَلًا فِي مُطْلَقِ التَّقْوِيَةِ لِلْخِرْقَةِ وَالثَّوْبِ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ خَصِيفٌ أَيْ مَخْصُوفٌ أَيْ غَلِيظُ النَّسْجِ لَا يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ، فَمَعْنَى يَخْصِفَانِ يَضَعَانِ عَلَى عَوْرَاتِهِمَا الْوَرَقَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ كَفِعْلِ الْخَاصِفِ، وَضْعًا مُلْزَقًا مُتَمَكَّنًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ هُنَا إِذْ لَمْ يَقُلْ يَخْصِفَانِ وَرَقَ الْجَنَّةِ.
وَنَقْصٍ الثَّمَرَاتِ قِلَّةُ إِنْتَاجِهَا قِلَّةً غَيْرَ مُعْتَادَةٍ لَهُمْ. فَتَنْوِينُ نَقْصٍ لِلتَّكْثِيرِ وَلِذَلِكَ نُكِّرَ (نَقْصٍ) وَلَمْ يُضَفْ إِلَى (الثَّمَرَاتِ) لِئَلَّا تَفُوتَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَثْرَةِ.
فَالسِّنُونَ تَنْتَابُ الْمَزَارِعَ وَالْحُقُولَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ يَنْتَابُ الْجَنَّاتِ.
وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ مَرْجُوًّا تَذَكُّرُهُمْ، لِأَنَّ الْمَصَائِبَ وَالْأَضْرَارَ الْمُقَارِنَةَ لِتَذْكِيرِ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِرَبِّهِمْ، وَتَسْرِيحِ عَبِيدِهِ، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُهَا مَرْجُوًّا مِنْهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَعَلَى عَدَمِ تَذَكُّرِهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ الْعَلَامَاتِ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَفِيِّاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩٤]، فَشَأْنُ أَهْلِ الْأَلْبَابِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا، فَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرُوا، فَقَدْ خَيَّبُوا ظَنَّ مَنْ يَظُنُّ بِهِمْ ذَلِكَ مِثْلِ مُوسَى وَهَارُونَ، أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْإِمْلَاءَ لَهُمْ، وَقَطْعَ عُذْرِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (لَعَلَّ) مِنَ الرَّجَاءِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الرَّاجِي وَالْمَرْجُوِّ مِنْهُ دَلَالَةٌ عُرْفِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُقُوعِ (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ لِلْأُمَّةِ لِلنَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ دَلَائِلِ غَضَبِ اللَّهِ فَإِنَّ سَلْبَ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ إِعْرَاضَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جُمْلَةِ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أَيْ: فَكَانَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ إِلَخْ... وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا كُفْرًا وَغُرُورًا.
وَالْمَجِيءُ: الْحُصُولُ وَالْإِصَابَةُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ بِالْمَجِيءِ لِأَنَّ حُصُولَهَا مَرْغُوبٌ، فَهِيَ بِحَيْثُ تُتَرَقَّبُ كَمَا يُتَرَقَّبُ الْجَائِي، وَعُبِّرَ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ بِالْإِصَابَةِ لِأَنَّهَا تحصل فَجْأَة من غَيْرِ رَغْبَةٍ وَلَا تَرَقُّبٍ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي (إِذَا) الدَّلَالَةُ عَلَى الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْيَقِينِ كَقَوْلِكَ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَعَلْتُ كَذَا، وَلِذَلِكَ غَلَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَعَ (إِذَا) فِعْلًا مَاضِيًا لِكَوْنِ الْمَاضِي أَقْرَبَ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْحُصُولِ مِنَ
الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي الْآيَةِ، فَالْحَسَنَاتُ أَيِ: النِّعَمُ كَثِيرَةُ الْحُصُولِ
فَلَمَّا آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَلَبَتِ الْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ مَوَدَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: ١٠٣]، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ بِوَشَائِجِ الْأَنْسَابِ، وَلَا بِدَعَوَاتِ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
وَلِذَلِكَ اسْتَأْنَفَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قَوْلَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا عَنْ مَسَاقِ الِامْتِنَانِ بِهَذَا الِائْتِلَافِ، فَهُوَ بَيَانِيٌّ، أَيْ: لَوْ حَاوَلْتَ تَأْلِيفَهُمْ بِبَذْلِ الْمَالِ الْعَظِيمِ مَا حَصَلَ التَّآلُفُ بَيْنَهُمْ.
فَقَوْلُهُ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مُبَالَغَةٌ حَسَنَةٌ لِوُقُوعِهَا مَعَ حَرْفِ (لَوِ) الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، فَكَانَ التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمْ مِنْ آيَاتِ هَذَا الدِّينِ، لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مَنْ أُلْفَتِهِمْ، وَأَمَاطَ عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَشَاهِدِ ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الْإِحَنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِمَّا نَشَأَتْ عَنْهُ حَرْبُ بُعَاثٍ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ حِينٍ إِخْوَانًا أَنْصَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَزَالَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْبَغْضَاءَ بَينهم.
وجَمِيعاً مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُجْتَمِعٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٥].
وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعَذُّرِ التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ وَلَكِنَّ تَكْوِينَ اللَّهِ يَلِينُ بِهِ الصَّلْبُ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمُتَعَذِّرُ.
وَالْخِطَابُ فِي أَنْفَقْتَ وأَلَّفْتَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.
وَإِذْ كَانَ هَذَا التَّكْوِينُ صُنْعًا عَجِيبًا ذَيَّلَ اللَّهُ الْخَبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَوِيُّ الْقُدْرَةِ فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، مُحْكِمُ التَّكْوِينِ فَهُوَ يُكَوِّنُ الْمُتَعَذِّرَ، وَيَجْعَلُهُ كَالْأَمْرِ الْمَسْنُونِ الْمَأْلُوفِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ «إِنَّ» لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ دَلِيلًا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى
وَمِنْ وَرَاءِ صَرِيحِ هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ قُرْبًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَدِينَةِ. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣].
وَجُمْلَةُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تَأْيِيدٌ وَتَشْجِيعٌ وَوَعْدٌ بِالنَّصْرِ إِنِ اتَّقَوْا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَا يُرَادُ الْعِلْمُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤١]. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: ٤٠]. وَهَذَا تَأْيِيدٌ لَهُمْ إِذْ قَدْ عَلِمُوا قُوَّةَ الرّوم.
[١٢٤، ١٢٥]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : الْآيَات ١٢٤ إِلَى ١٢٥]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: ٨٦] وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ زِيدَتْ فِيهَا (مَا) عَقِبَ (إِذَا) وَزِيَادَتُهَا لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى (إِذَا) وَهُوَ الشَّرْطُ، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لِغَرَابَتِهِ كَانَ خَلِيقًا بِالتَّأْكِيدِ، وَلِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُنْكِرُونَ صُدُورَهُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ مضمونها حِكَايَة استيذانهم وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِجْمَالُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّوَرُ الَّتِي أُنْزِلَتْ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ [التَّوْبَة: ٨٦]. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ كُلَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ دُعَاءٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالصَّالِحَاتِ وَالْإِعْجَازِ بِبَلَاغَتِهَا. فَالْمُرَادُ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ فَمِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِلْعِلْمِ بِالْمَعَادِ مِنَ الْمَقَامِ
وَكَوْنُ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا حَصَلَ فِي زَمَنِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَام- وشاهدة بكتب بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مَعَ أُمِّيَّتِهِ وَبُعْدِ قَوْمِهِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آيَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مَنْ خَلْفِهِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَرْفُ أَمْ الْمُخْتَصُّ بِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ.
وَمَوْقِعُ الْإِنْكَارِ بَدِيعٌ لِتَضَمُّنِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
وأَمْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ لِغَرَضٍ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ.
وَجُمْلَةُ قُلْ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِذَلِكَ إِذْ قَدْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تُغْنِ فِيهِمْ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَكَانَتْ
تَبِعَةُ افْتِرَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَتَقْدِيُمُ (عَلَيَّ) مُؤْذِنٌ بِالْقَصْرِ، أَيْ إِجْرَامِي عَلَيَّ لَا عَلَيْكُم فَلَمَّا ذَا تُكْثِرُونَ ادِّعَاءَ الِافْتِرَاءِ كَأَنَّكُمْ سَتُؤَاخَذُونَ بِتَبِعَتِهِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْرَاجِ لَهُمْ وَالْكَلَامِ الْمُنْصِفِ.
وَمَعْنَى جَعْلِ الِافْتِرَاءِ فِعْلًا لِلشَّرْطِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقَعَ الِافْتِرَاءُ كَقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَلَمَّا كَانَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ إِجْرَامًا عَدَلَ فِي الْجَوَابِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالِافْتِرَاءِ مَعَ أَنَّهُ الْمُدَّعِي إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْإِجْرَامِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: فَعَلَيَّ إِجْرَامُ افْتِرَائِي.
وَذِكْرُ حَرْفِ (عَلَى) مَعَ الْإِجْرَامِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْإِجْرَامَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ مَادَّةُ الْإِجْرَامِ.
بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ. وَإِسْنَادُ هَذَا الْحُكْمِ إِلَى أَكْثَرُهُمْ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَقْوَالٌ خَلِيَّةٌ عَنْ ذِكْرِ الشَّرِيكِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضًا مِنْهُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ مَعَهُ إِلَهًا آخر.
[١٠٧]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ١٠٧]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
اعْتِرَاضٌ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَتَانِ قَبْلَهُ مِنْ تَفْظِيعِ حَالِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى خَالِقِهِمْ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ دُونَ إِقْلَاعٍ، فَكَأَنَّهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَوَقُّعِ حُصُولِ غَضَبِ اللَّهِ بِهِمْ آمِنُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ وَيَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ الْخَالِدِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ.
وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ: الْإِحَاطَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ [سُورَة لُقْمَان: ٣٢]. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ٥٤].
وَالْغَاشِيَةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي تُحِيطُ بِالنَّاسِ. وَالْعَرَبُ يُؤَنِّثُونَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ مِثْلَ الطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالدَّاهِيَةِ وَالْمُصِيبَةِ وَالْكَارِثَةِ وَالْحَادِثَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَالْحَاقَّةِ. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ.
وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فِي آخِرِ سُورَة الْأَنْعَام [٣١].
[١٠٨]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ نُزُولِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِلنَّبِيِّء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّ عَلَى صِدْقِ نُبُوءَتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِذِكْرِ الْفِعْلِ الثَّانِي وَهُوَ وَأَتَيْناكَ خُصُوصِيَّةٌ لَا تَفِي بِهَا وَاوُ الْعَطْفِ وَهِيَ مُرَاعَاةُ اخْتِلَافِ الْمَجْرُورَيْنِ بِالْبَاءِ فِي مُنَاسبَة كل مِنْهُمَا لِلْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ هُوَ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ جِئْناكَ أَمْرًا حِسِّيًّا وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ يمترون، وَكَانَ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى كَالْحَقِيقِيِّ، إِذْ هُوَ مَجِيءٌ مَجَازِيٌّ مَشْهُورٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقِيِّ، أُوثِرَ فِعْلُ جِئْناكَ لِيُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَيُعَلَّقُ بِهِ «مَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ». وَتَكُونُ الْبَاءُ الْمُتَعَلّقَة بِهِ للتعدية لِأَنَّهُمْ أجاءوا الْعَذَاب، فموقع قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ مَوْقِعُ مَفْعُولٍ بِهِ، كَمَا تَقُولُ (ذَهَبْتُ بِهِ) بِمَعْنَى أَذْهَبْتُهُ وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَذْهَبْ مَعَهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ [سُورَة الزخرف: ٤١] أَيْ نُذْهِبُكَ مِنَ الدُّنْيَا، أَيْ نُمِيتُكَ. فَهَذِهِ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ.
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ فِعْلِ أَتَيْناكَ وَهُوَ بِالْحَقِّ فَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْإِتْيَانِ فَغُيِّرَتْ مَادَّةُ الْمَجِيءِ إِلَى مَادَّةِ الْإِتْيَانِ تَنْبِيهًا عَلَى إِرَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ الْمُرَادِ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ، أَعْنِي الْمَجِيءَ الْمَجَازِيَّ. فَإِنَّ هَذَا الْإِتْيَانَ مُسْنَدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَكَانُوا فِي إِتْيَانِهِمْ مُلَابِسِينَ لِلْحَقِّ، أَيِ الصِّدْقِ، وَلَيْسَ الصِّدْقُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ الْإِتْيَانُ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْحَقِّ للملابسة لَا للتعدية.
وَالْقِطْعُ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ- الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٧].
وَأَمَرُوهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَهُ قُدَّامَهُ وَيَكُونُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَهُوَ يَتَّبِعُ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ ظُهُورَهُمْ لِيَكُونَ كَالْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحِلُّ بِقَوْمِهِ بِعَقِبِ خُرُوجِهِ تَنْوِيهًا بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ-
عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِأَنَّهُمْ أَمَرُوهُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِمْ لِأَنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ قَدْ نَزَلَ بِدِيَارِهِمْ. فَبِكَوْنِهِ وَرَاءَ أَهْلِهِ يَخَافُونَ الِالْتِفَاتَ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُهُمْ. وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ الْتَفَتَتْ فَأَصَابَهَا الْعَذَابُ.
وَنَصْبُ دَرَجاتٍ وتَفْضِيلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةٍ أَكْبَرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ عَطَاءُ الدُّنْيَا.
وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَظَمَةِ الشَّرَفِ، وَالتَّفْضِيلُ: إِعْطَاءُ الْفَضْلِ، وَهُوَ الْجِدَةُ وَالنِّعْمَةُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ»
. وَالْمَعْنَى: النِّعْمَةُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ نعم الدُّنْيَا.
[٢٢]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٢٢]
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
تَذْيِيلٌ هُوَ فَذْلَكَةٌ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ خُلَاصَةَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ تَرْكُ الشِّرْكِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْدَأُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ أَوَّلُ خُطُوَاتِ السَّعْيِ لِمُرِيدِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ قَاعِدَةُ اخْتِلَالِ التَّفْكِيرِ وَتَضْلِيلِ الْعُقُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١].
وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَعٌ لِخِطَابِ قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: ٢١]. وَالْمَقْصُودُ إِسْمَاعُ الْخِطَابِ غَيْرَهُ بِقَرِينَةٍ تُحَقِّقُ أَنَّ النَّبِيءَ قَائِمٌ بِنَبْذِ الشِّرْكِ وَمَنْحٍ عَلَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر.
وفَتَقْعُدَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْمُكْثِ وَالدَّوَامِ. أُرِيدَ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَجْرِيدُ مَعْنَى النَّهْيِ إِلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ دَامُوا فِي الذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ.
وَالْمَذْمُومُ: الْمَذْكُورُ بِالسُّوءِ وَالْعَيْبِ.
وَالْمَخْذُولُ: الَّذِي أَسْلَمَهُ نَاصِرُهُ.
فَأَمَّا ذَمُّهُ فَمِنْ ذَوِي الْعُقُولِ، إِذْ أَعْظَمُ سُخْرِيَةً أَنْ يَتَّخِذَ الْمَرْءُ حَجَرًا أَوْ عُودًا رَبًّا لَهُ وَيَعْبُدَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ: [الصافات: ٩٥]، وَذَمَّهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الشَّرَائِعِ.
لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْخَبَرَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي لَازِمِ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الِاسْتِرْحَامُ لِحَالِهِ. لِأَنَّ الْمُخْبَرَ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- عَالِمٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرَانِ.
وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعَظْمِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا شَمِلَهُ الْوَهْنُ فِي جَسَدِهِ لِأَنَّهُ
أَوْجَزُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ الْوَهْنِ جَمِيعَ بَدَنِهِ لِأَنَّ الْعَظْمَ هُوَ قِوَامُ الْبَدَنِ وَهُوَ أَصْلَبُ شَيْءٍ فِيهِ فَلَا يَبْلَغُهُ الْوَهْنُ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَ مَا فَوْقَهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَظْمُ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ دَالٌّ عَلَى عُمُومِ الْعِظَامِ مِنْهُ.
وَشُبِّهَ عُمُومُ الشَّيْبِ شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِ بِاشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْفَحْمِ بِجَامِعِ انْتِشَارِ شَيْءٍ لَامِعٍ فِي جِسْمٍ أَسْوَدَ، تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا تَمْثِيلِيًّا قَابِلًا لِاعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ فِي التَّشْبِيهِ، وَهُوَ أَبْدَعُ أَنْوَاعِ الْمُرَكَّبِ. فَشُبِّهَ الشَّعْرُ الْأَسْوَدُ بِفَحْمٍ وَالشَّعْرُ الْأَبْيَضُ بِنَارٍ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ وَرُمِزَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ اشْتَعَلَ.
وَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ مَكَانُ الشَّعْرِ الَّذِي عَمَّهَ الشَّيْبُ، لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يَعُمُّهُ الشَّيْبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُمَّ اللِّحْيَةَ غَالِبًا، فَعُمُومُ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ أَمَارَةُ التَّوَغُّلِ فِي كِبَرِ السِّنِّ.
وَإِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الِاشْتِعَالَ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ الْمُشَبَّهِ بِهَا الشَّيْبُ فَكَانَ الظَّاهِرُ إِسْنَادَهُ إِلَى الشَّيْبِ، فَلَمَّا جِيءَ بِاسْمِ الشَّيْبِ تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ الِاشْتِعَالِ حَصَلَ بِذَلِكَ خُصُوصِيَّةُ الْمَجَازِ وغرابته، وخصوصية التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، مَعَ إِفَادَةِ تَنْكِيرِ شَيْباً مِنَ التَّعْظِيمِ فَحَصَلَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَأَصْلُ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ: وَاشْتَعَلَ الشَّيْبُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ.
وَلِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ مَبْنِيِّ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ كَانَ لَهَا أَعْظَمُ وَقْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَوَضَّحَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فَانْظُرْهُمَا.
وَذَوْقُ الْمَوْتِ ذَوْقُ آلَامِ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَمَّا بَعْدَ حُصُولِهِ فَلَا إِحْسَاسَ لِلْجَسَدِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ النُّفُوسُ الْحَالَّةُ فِي الْأَجْسَادِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَلْ هُوَ اصْطِلَاحُ الْحُكَمَاءِ وَهُوَ لَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مُقَيَّدًا بِوَصْفِ الْمُجَرَّدَاتِ، أَيِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْأَجْسَادِ وَلَا تُلَابِسُ الْمَادَّةَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمُشَاكَلَةٌ: إِمَّا لَفْظِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١١٦]. وَإِمَّا تَقْدِيرِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [٢٨].
وَجُمْلَةُ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ ذَوْقَ الْمَوْتِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ مُدَّةٌ يَعْتَرِي فِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ، فَعَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَوْتَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ حَتَّى لَا يَحْسَبُوا أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَلَّدٌ.
وَقَدْ عَرَضَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَارِضٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ يَوْمَ انْتِقَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى: «لِيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَيُقَطِّعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ» حَتَّى حَضَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَثَبَّتَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: «طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ». وَقَدْ قَالَ عَبَدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ وَأَجَادَ:
رَأَيْتُ الْمَنَايَا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا | وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مَرْصَدَا |
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] أَنَّ إِجْرَاءَ وَصْفٍ عَلَى لَفْظِ (قَوْمٍ) أَوِ الْإِخْبَارَ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) مَتْبُوعٍ بِاسْمِ فَاعِلٍ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَمَكُّنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) أَوْ تَمَكُّنُهُ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَةِ مُوسَى وَآيَاتِهِ وَحُجَّتِهِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ سَجِيَّتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِ وَتَطَبُّعِهِمْ. فَالْعُلُوُّ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ. وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٤].
وَبُيِّنَ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَاسْتَكْبَرُوا، أَيِ اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَفْصَحُوا عَنْ سَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَكِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَأِ لِبَعْضٍ، وَلَمَّا كَانُوا قد تراوضوا عَلَيْهِ نُسِبَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُصْغِيًا لِرَأْيِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ
آخَرُ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مَعْدُودًا فِي دَرَجَةِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَشَرًا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ اكْتَسَبَ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُؤْمِنُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِمَا وَهُمَا مِثْلُنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ وَلَيْسَا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَكُونَا ابْنَيْنِ لِلْآلِهَةِ لِأَنَّهُمَا جَاءَا بِتَكْذِيبِ إِلَهِيَّةِ الْآلِهَةِ، فَكَانَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِضَلَالِهِمْ يَتَطَلَّبُونَ لِصِحَّةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَايِنًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَخَيَّلُونَ آلِهَتَهُمْ أَجْنَاسًا غَرِيبَةً مِثْلَ جَسَدِ آدَمِيٍّ وَرَأْسِ بَقَرَةٍ أَوْ رَأْسِ طَائِرٍ أَوْ رَأْسِ ابْنِ آوَى أَوْ جَسَدِ أَسَدٍ وَرَأْسِ آدَمِيٍّ، وَلَا يُقِيمُونَ وَزْنًا لِتَبَايُنِ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أَجْدَرُ بِظُهُورِ التَّفَاوُتِ لِأَنَّهَا قَرَارَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ سَبَب ضلال أَكْثَرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رُسُلَهُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبَشَرَيْنِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نُؤْمِنُ. يُقَالُ لِلَّذِي يُصَدِّقُ الْمُخْبِرَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: آمَنَ لَهُ، فَيُعَدَّى فِعْلُ (آمَنَ) بِاللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ
صَدْرِ السُّورَةِ. وَافْتُتِحَ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِالْبِرْكَةِ وَالْخَيْرِ لِمَا جَعَلَهُ لِلْخَلْقِ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَتَقَدَّمَ تَبارَكَ أَوَّلَ السُّورَةِ [١] وَفِي قَوْلِهِ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْبُرُوجُ: مَنَازِلُ مُرُورِ الشَّمْسِ فِيمَا يَرَى الرَّاصِدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ [١٦].
وَالِامْتِنَانُ بِهَا لِأَنَّ النَّاسَ يُوَقِّتُونَ بِهَا أَزْمَانَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَالسِّرَاجُ: الشَّمْسُ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٦]. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً...
[الْفرْقَان: ٦٢].
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سُرُجًا بِضَمِّ السِّينِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سِرَاجٍ فَيَشْمَلُ مَعَ الشَّمْسِ النُّجُومَ، فَيَكُونُ امْتِنَانًا بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا لِلنَّاسِ كَقَوْلِهِ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: ٥]. وَالِامْتِنَانُ بِمَحَاسِنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦].
وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السِّرَاجِ: الْمِصْبَاحُ الزَّاهِرُ الضِّيَاءَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ مُزِيلَةً لِلظُّلْمَةِ كَالسِّرَاجِ، أَوْ خَلَقَ النُّجُومَ كَالسِّرَاجِ فِي التَّلَأْلُؤِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ.
وَدَلَالَةُ خلق البروج وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَرِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَة دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَاقِلِ، وَكَذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَنِظَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلُّ وَلَا يَخْتَلِفُ حَتَّى تَسَنَّى لِلنَّاسِ رَصْدُ أَحْوَالِهَا وَإِنَاطَةُ حسابهم بهَا.
[٦٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
الِاسْتِدْلَالُ هَذَا بِمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالِ بَيْنَ ظُلْمَةٍ وَنُورٍ، وَبَرْدٍ
وَمُهِّدَ لِنَبَإِ مُوسَى وَفرْعَوْن بقوله نَتْلُوا عَلَيْكَ لِلتَّشْوِيقِ لِهَذَا النَّبَإِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَتَّى الْعِبَرِ بِعَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ.
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ لِكَلَامٍ مَكْتُوبٍ أَوْ مَحْفُوظٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ [النَّمْل:
٩٢]، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ تَبْلُغُ إِلَيْهِ التِّلَاوَةُ بِحَرْفِ (عَلَى) وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢]، وَقَوْلِهِ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢].
وَإِسْنَادُ التِّلَاوَةِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِتِلَاوَةِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ
وَالَّذِي يَتْلُو حَقِيقَةً هُوَ جِبْرِيلُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٢].
وَجُعِلَتِ التِّلَاوَةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَلَقَّى ذَلِكَ الْمَتْلُوَّ. وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ بِالنَّبَإِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ ذُو شَأْنٍ وَأَهَمِّيَّةٍ.
وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ نَتْلُو عَلَيْكَ لِأَجْلِ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ تِلَاوَةِ النَّبَإِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ فَالنَّبِيءُ يُبَلِّغُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كَانَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُوا أَوْ تَشَوَّفُوا إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَاءَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَسُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَتَخْصِيصُهُمْ بِالتَّعْلِيلِ وَاضِحٌ وَانْتِفَاعُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَعَهُمْ أَجْدَرُ وَأَقْوَى، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالذِّكْرِ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِفَادَةِ مَنْ سَأَلَ وَغَيْرُهُمْ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُزُولُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ تَشَوُّفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَخْصِيصُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتِّلَاوَةِ لِأَجْلِهِمْ تَنْوِيهٌ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ أَصْبَحُوا مُتَطَلِّبِيَنَ لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُتَشَوِّفِينَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْقِصَصِ النَّافِعَةِ لِيَزْدَادُوا بِذَلِكَ يَقِينًا.
وَحُصُولُ ازْدِيَادِ الْعِلْمِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي وَالْمُبَلِّغُ لِيَتَذَكَّرَ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ وَيَزْدَادَ عِلْمًا بِمَا عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتُ فُؤَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا
أَنَّ فَرِيقًا آخَرَ ضِدَّهُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ إِبْلَاسِ الْمُجْرِمِينَ يَوْمئِذٍ يُفْهِمُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.
وَالتَّفَرُّقُ: انْقِسَامُ الْجَمْعِ وَتَشَتُّتُ أَجْزَاءِ الْكُلِّ. وَقَدْ كُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنِ التَّبَاعُدِ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ يُلَازِمُهُ التَّبَاعُدُ عُرْفًا. وَقَدْ فُصِلَ التَّفَرُّقُ هُنَا بِقَوْلِهِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِهِ.
وَالرَّوْضَةُ: كُلُّ أَرْضٍ ذَاتِ أَشْجَارٍ وَمَاءٍ وَأَزْهَارٍ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْجِنَانِ. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ «أَحْسَنُ مِنْ بَيْضَةٍ فِي رَوْضَةٍ» يُرِيدُونَ بَيْضَةَ النَّعَامَةِ. وَقَدْ جَمَعَ مَحَاسِنَ الرَّوْضَةِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشَبَةٌ | خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ |
يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ (١) شَرِقٌ | مُؤَزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ |
ومُحْضَرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِحْضَارِ، أَيْ: جَعْلِ الشَّيْءِ حَاضِرًا، أَيْ: لَا يَغِيبُونَ عَنْهُ، أَيْ: لَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَهُوَ يُفِيدُ التَّأْيِيدَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْعَذابِ نَاسَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِهِمُ الْمُحْضَرِينَ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي
الْعَذَابِ لِئَلَّا يَكُونَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ بِمَدْلُولٍ فِي الظَّرْفِيَّةِ فَإِنَّ التَّأْسِيسَ أَوْقَعُ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْضَرُونَ بِمَعْنَى مَأْتِيٌّ بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ فَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ مُحْضَرٍ وَنَحْوِهِ بِمَعْنَى مُعَاقَبٍ، قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: ١٥٨]، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَكُتِبَ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِقَائِي بِهَمْزَةٍ عَلَى يَاءٍ تَحْتِيَّةٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَكْسُورَةٌ وَذَلِكَ من الرَّسْم التوقيفي، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تُكْتَبَ الْهَمْزَةُ فِي السَّطْرِ بعد الْألف.
[١٧- ١٨]
_________
(١) أَرَادَ بالكوكب النّور تَشْبِيها لَهُ بكوكب نُجُوم السَّمَاء فِي الْبيَاض والاستدارة.
وَسَيَجِيءُ مَا لَنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدُ وَمَا لنا فِي مَوضِع قَوْلِهِ إِن أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَها.
وَمَعْنَى أَحْلَلْنا لَكَ الْإِبَاحَةُ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ عَقِبَ تَعْدَادِ الْمُحَلَّلَاتِ لَهُ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
وَإِضَافَةُ أَزْوَاجٍ إِلَى ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ أَنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ اللَّاتِي فِي عِصْمَتِهِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِخْبَارًا لِتَقْرِيرِ تَشْرِيعٍ سَابِقٍ وَمَسُوقًا مَسَاقَ الِامْتِنَانِ، ثُمَّ هُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيَتْلُوهُ مِنَ التشريع الْخَاص بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الْأَحْزَاب: ٥٢]. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَحَكَى ابْنُ الْفَرَسِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أَنَّ اللَّهَ أحلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلَّ امْرَأَةٍ يُصْدِقُهَا مَهْرهَا فَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ النِّسَاءِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ مُقْتَضَى إِضَافَةِ أَزْوَاجٍ إِلَى ضَمِيرِهِ. وَعَنِ التَّعْبِيرِ بِ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَحْمَلِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فَقَالَ قوم: هَذِه ناسخة لقَوْله: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلَو تقدّمت عَلَيْهَا فِي التِّلَاوَة. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَة بقوله: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
و (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) صِفَةٌ لِ أَزْواجَكَ، أَيْ وَهُنَّ النِّسْوَةُ اللَّاتِي تَزَوَّجْتَهُنَّ عَلَى حُكْمِ النِّكَاحِ الَّذِي يَعُمُّ الْأُمَّةَ، فَالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَهَؤُلَاءِ فِيهِنَّ مَنْ هُنَّ مِنْ قِرَابَاتِهِ وَهُنَّ الْقُرَشِيَّاتُ مِنْهُنَّ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَسَوْدَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَفِيهِنَّ مَنْ لَسْنَ كَذَلِكَ وَهُنَّ: جُوَيْرِيَةُ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينَ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَفَّاةٌ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ.
وَعَطَفَ عَلَى هَؤُلَاءِ نِسْوَةٌ أخر وهنّ ثَلَاثَة أَصْنَافٍ:
«الصِّنْفُ الْأَوَّلُ» : مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْفَيْءِ، وَهُوَ مَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَدُوِّ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَكِنْ تَرَكَهُ الْعَدُوُّ، أَوْ مِمَّا أُعْطِيَ
هَذَا مِنْ جَانِبِ نَظْمِ الشِّعْرِ وَمَوَازِينِهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا جَانِبُ قِوَامِ الشِّعْرِ وَمَعَانِيهِ فَإِنَّ لِلشِّعْرِ طَرَائِقَ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَالْغَزَلِ وَالنَّسِيبِ وَالْهِجَاءِ وَالْمَدِيحِ وَالْمُلَحِ، وَطَرَائِقٌ مِنَ الْمَعَانِي كَالْمُبَالَغَةِ الْبَالِغَةِ حَدَّ الْإِغْرَاقِ وَكَادِّعَاءِ الشَّاعِرِ أَحْوَالًا لِنَفْسِهِ فِي غَرَامٍ أَوْ سَيْرٍ أَوْ شَجَاعَةٍ هُوَ خُلُوٌّ مِنْ حَقَائِقِهَا فَهُوَ كَذِبٌ مُغْتَفَرٌ فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ. وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَرْفَعِ مَقَامٍ لِكِمَالَاتِ النَّفْسِ، وَهُوَ مَقَامُ أَعْظَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَلَوْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَضَ الشِّعْرَ وَلَمْ يَأْتِ فِي شِعْرِهِ بِأَفَانِينِ الشُّعَرَاءِ لَعُدَّ غَضَاضَةً فِي شِعْرِهِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَضَاضَةُ دَاعِيَةً لِلتَّنَاوُلِ مِنْ حُرْمَةِ كَمَالِهِ فِي أَنْفُسِ قَوْمِهِ يَسْتَوِي فِيهَا الْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ. عَلَى أَنَّ الشُّعَرَاءَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ غَيْرَ مُرْضِيَّةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالشَّرَفِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْخَلَاعَةِ
وَالْإِقْبَالِ عَلَى السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَحَسْبُكَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَضِيَّةِ خَلْعِ حُجْرٍ الْكِنِدِيِّ ابْنَهُ امْرَأَ الْقَيْسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٤] الْآيَةَ. فَلَوْ جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّعْرِ أَوْ قَالَهُ لَرَمَقَهُ النَّاسُ بِالْعَيْنِ الَّتِي لَا يُرْمَقُ بِهَا قَدْرُهُ الْجَلِيلُ وَشَرَفُهُ النَّبِيلُ، وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ هُوَ الْغَالِبُ الشَّائِعُ وَإِلَّا فقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَقَالَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» فَتَنْزِيهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مِنْ قَبِيلِ حِيَاطَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَحِيَاطَةِ مَقَامِ الرِّسَالَةِ مِثْلِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ وَكَيْفَ وَهَذِهِ مَكِّيَّةٌ وَقِصَّةُ الْحَبْرِ مَدَنِيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ آلِهَةً وَهُوَ يُؤَكِّدُ جُمْلَةَ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
[٦٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦٨]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
انْتِقَالٌ مِنْ إِجْمَالِ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى تَفْصِيلِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْوِيلٍ وَتَمْثِيلٍ لِمَجْمُوعِ الْأَحْوَالِ يَوْمَئِذٍ مِمَّا يُنْذِرُ الْكَافِرَ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنَ وَيُذَكِّرُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، ثُمَّ تَمْثِيلُ إِزْجَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وَسَوْقِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.
فَالْجُمْلَةُ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ الْعَطْفِ ظَاهِرَةٌ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ وَقَوْلِهِ: فَصَعِقَ مَجَازًا لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) أَيْ وَالْحَالُ قَدْ نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي فِعْلَيْ (نُفِخَ وصعق) مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِحَدِيثِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ إِذْ هُوَ مِيقَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ مَوْتِ كُلِّ حَيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَالصُّوَرُ: بُوقٌ يُنَادَى بِهِ الْبَعِيدُ الْمُتَفَرِّقُ مِثْلُ الْجَيْشِ، وَمِثْلُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يُنَادُونَ بِهِ: لِلصَّلَاةِ الْجَامِعَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا نِدَاءُ الْخَلْقِ لِحُضُورِ الْحَشْرِ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي الْأَنْعَامِ
[٧٣]. وَهُوَ عَلَامَةٌ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ، فَالْأَحْيَاءُ يُصْعَقُونَ فَيَمُوتُونَ (كَمَا يَمُوتُ الْمَفْزُوعُ) بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، وَالْأَمْوَاتُ يُصْعَقُونَ اضْطِرَابًا تَدِبُّ بِسَبَبِهِ فِيهِمُ الْحَيَاةُ فَيَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا نُفِخَتِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ حَلَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُمْ عَلَى مِثَالِ مَا بَلِيَ مِنْ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ جِنْسَ الْحُجَّةِ الْمُفِيدَةِ، بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ مِثْلَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ يَكُونُ مِنَ الْعَبَثِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ مُكَابِرُونَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ هَذَا النَّفْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّهْيِ عَنِ التَّصَدِّي لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ حَاجَّهُمُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ وحاجّهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجْمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٤٦] فَالِاسْتِثْنَاءُ صَرِيحٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُجَادَلَتِهِمْ.
وَ (بَيْنَ) الْمُكَرَّرَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ عَلَى جَمَاعَاتِ أَوْ أَفْرَادِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ. وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا يُقَالُ: قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مُخَالف ل (بَيْنَ) الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا الْحَشْرُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُنْصِفٌ. وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْوَاثِقِ بِحَقِّهِ كَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُتَارَكَةِ وَالْمُحَاجَزَةِ، أَيْ سَأَتْرُكُ جِدَالَكُمْ وَمُحَاجَّتَكُمْ لِقِلَّةِ جَدْوَاهَا فِيكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَنَا يَوْمَ يَجْمَعُنَا، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا لِلتَّقَوِّي، أَيْ تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْجَمْعِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ يُثْبِتُونَ الْبَعْثَ.
وَ (بَيْنَ) هُنَا ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ.
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَجْمَعُ بَيْنَنا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ مَصِيرُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَبِذَلِكَ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ مَصِيرُنَا وَمَصِيرُكُمْ وَمَصِيرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ.
وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْأَرْبَعُ تَقْتَضِي الْمُحَاجَزَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَهِيَ مُحَاجَزَةٌ فِي الْمُقَاوَلَةِ وَمُتَارَكَةٌ فِي الْمُقَاتَلَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ لَمَّا ظَاهَرُوا الْأَحْزَابَ.
وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ هُوَ خَبَرُ أَنَّ وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنْكِرُونَهُ فَلَا تَعْجِيبَ فِي شَأْنِهِ. وَوُقُوعُ الْبَاءِ فِي خَبَرِ أَنَّ وَهُوَ بِقادِرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ حَرْفُ أَنَّ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ فِعْلِ يَرَوْا الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فَسَرَى النَّفْيُ لِلْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ، فَقُرِنَ بِالْبَاءِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي «الْكَشَّافِ» «قَالَ الزَّجَّاجُ لَوْ قُلْتَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ جَازَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَيْسَ الله بِقَادِر» اهـ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٧٩] يُرِيدَانِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهِ النُّدُورِ.
وَأَمَّا مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِحَرْفِ بَلى فَهُوَ جَوَابٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْجِيبُ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: بَلى تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَلْقِينًا لِمَا يُجِيبُونَهُمْ بِهِ. وَحَرْفُ بَلى لَمَّا كَانَ جَوَابًا كَانَ قَائِمًا مَقَامَ جُمْلَةٍ تَقْدِيرُهَا: هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى.
وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ يَعْيَ مُضَارِعُ عَيِيَ مِنْ بَابِ رَضِيَ، وَمَصْدَرُهُ الْعِيُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ عَنِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ الْعِيُّ فِي الْكَلَامِ، أَيْ عُسْرُ الْإِبَانَةِ. وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ هُنَا بَلَاغَةٌ لِيُفِيدَ انْتِفَاءَ عَجْزِهِ عَنْ صُنْعِهَا وَانْتِفَاءَ عَجْزِهِ فِي تَدْبِيرِ مَقَادِيرِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا، فَكَانَتْ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ صَالِحَةً لِتَعْلِيقِ الْخَلْقِ بِالْعِيِّ بِمَعْنَيَيْهِ.
وَكثير من أيمة اللُّغَةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْعِيَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّعَبِ وَعَنْ عَجْزِ الرَّأْيِ وَعَجْزِ الْحِيلَةِ.
وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ: الْعِيُّ خَاصٌّ بِالْعَجْزِ فِي الْحِيلَةِ وَالرَّأْيِ. وَأَمَّا الْإِعْيَاءُ فَهُوَ التَّعَبُ مِنَ الْمَشْيِ وَنَحْوِهِ، وَفِعْلُهُ أَعْيَا، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ».
وَظَاهِرُ الْأَسَاسِ: أَنَّ أَعْيَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَعَدِّيًا، أَيْ هَمْزَتُهُ هَمْزَةُ تَعْدِيَةٍ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ.
يَجْهَلَ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ: أَعَاقَلٌ أَنْتَ؟ أَوْ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧].
وَالْحِلْمُ: الْعَقْلُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَانِعُ مِنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ. وَفِي «الْقَامُوسِ» هُوَ الْأَنَاةُ. وَفِي «مَعَارِجَ النُّورِ» : وَالْحِلْمُ مَلَكَةٌ غَرِيزِيَّةٌ تُورِثُ لِصَاحِبِهَا الْمُعَامَلَةَ بِلُطْفٍ وَلِينٍ لِمَنْ أَسَاءَ أَوْ أَزْعَجَ اعْتِدَالَ الطَّبِيعَةِ.
وَمَعْنَى إِنْكَارِ أَنْ تَأْمُرَهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَنَّ الْأَحْلَامَ الرَّاجِحَةَ لَا تَأْمُرُ بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَحْلَامَهُمْ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْلَامَ لَا تَأْمُرُ بِمِثْلِهِ فَهُمْ كَمَنَ لَا أَحْلَامَ لَهُمْ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا عَقْلَ لَهُ (١). قَالُوا وَإِنَّمَا لِلْكَافِرِ الذِّهْنُ وَالذِّهْنُ يَقْبَلُ الْعِلْمَ جُمْلَةً، وَالْعَقْلُ يُمَيِّزُ الْعِلْمَ وَيُقَدِّرُ الْمَقَادِيرَ لِحُدُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَالْأَمْرُ فِي تَأْمُرُهُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْبَاعِثِ، أَيْ تَبْعَثُهُمْ أَحْلَامُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ.
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى اسْتِفْهَامٍ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالطُّغْيَانِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ مُسْتَعْمَلٌ: إِمَّا فِي التَّشْكِيكِ لِيَكُونَ التَّشْكِيكُ بَاعِثًا عَلَى التَّأَمُّلِ فِي حَالِهِمْ فَيُؤْمِنُ بِأَنَّهُمْ طَاغُونَ، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ لِكُلِّ سَامِعٍ إِذْ يَجِدُهُمْ طَاغِينَ.
وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْمٌ يُمَهِّدُ لِكَوْنِ الطُّغْيَانِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حَقِيقَةِ الْقَوْمِيَّةِ فِيهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]، أَيْ تَأَصَّلَ فِيهِمُ الطُّغْيَانُ وَخَالَطَ نُفُوسَهُمْ فَدَفَعَهُمْ إِلَى أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَقْوَال.
[٣٣، ٣٤]
_________
(١) رَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ عَن الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ صَاحب «نَوَادِر الْأُصُول».
وَأَنْحَى عَلَى بَنِي النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْجُبْنِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَتَنْظِيرِ حَالِ تَغْرِيرِ الْمُنَافِقِينَ لِلْيَهُودِ بِتَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ لِلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَتَنَصُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَانَ عَاقِبَةُ الْجَمِيعِ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.
ثُمَّ خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالْحَذَرِ مِنْ أَحْوَالِ أَصْحَابِ النَّارِ وَالتَّذْكِيرِ بِتَفَاوُتِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَبَيَانِ عَظَمَةِ الْقُرْآنِ وَجَلَالَتِهِ وَاقْتِضَائِهِ خُشُوعَ أَهْلِهِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ شَرَائِعِ انْتِقَالِ الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُجُوهِ الَّتِي نَظَّمَهَا الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَا تَشُقُّ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ.
وَالْآمِرُ بِاتِّبَاعِ مَا يَشْرَعُهُ اللَّهُ على لِسَان رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَخُتِمَتْ بِصِفَاتٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَشْر: ٢٤] تَزَكِيَهً لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ وتعريضا بالكافرين.
[١]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ تَسْبِيحِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ تَعَالَى تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَسْبِيحِهِمْ لِلَّهِ تَسْبِيحَ شُكْرٍ عَلَى مَا أَنَالَهُمْ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ بَنِي النَّضِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ سَبِّحُوا لِلَّهِ كَمَا سَبَّحَ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَتَعْرِيضٌ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتِ السُّورَةُ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ لِتَكَبُّرِهِمْ عَنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ حَقَّ تَسْبِيحِهِ بِتَصْدِيق رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ رِسَالَتِهِ أَوْ كَابَرُوا فِي مَعْرِفَتِهَا.
وَالْقَوْلُ فِي لَفْظِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ [١]، إِلَّا أَنَّ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ فِيهَا: مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَاهُنَا قَالَ: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ فَاتِحَةَ سُورَةِ الْحَدِيدِ تَضَمَّنَتْ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» أَيْ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِيقَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا.
وَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ: هُوَ الْخُلُقُ الْأَكْرَمُ فِي نَوْعِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْبَالِغُ أَشَدَّ الْكَمَالِ الْمَحْمُودِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ مُعَامَلَته النَّاس على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، فَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ أَرْفَعُ مِنْ مُطْلَقِ الْخُلُقِ الْحَسَنِ.
وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»، أَلَسْتَ تَقْرَأُ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:
١] الْآيَاتِ الْعَشْرَ». وَعَنْ عَلِيٍّ: الْخُلُقُ الْعَظِيمُ: هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ مَحَامِدَ الْأَخْلَاقِ وَمَا وُصِفَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩] وَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَاف: ١٩٩] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَمَا أَخَذَ بِهِ مِنَ الْأَدَبِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»
، فَجَعَلَ أَصْلَ شَرِيعَتِهِ إِكْمَالَ مَا يَحْتَاجُهُ الْبَشَرُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي شَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [الجاثية: ١٨] وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ:
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَام: ١٦٣].
فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ جَعَلَ شَرِيعَتَهُ لِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ بِمُنْتَهَى الْاسْتِطَاعَةِ.
وَبِهَذَا يَزْدَادُ وُضُوحًا مَعْنَى التَّمَكُّنِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ الْاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فِي دَعْوَتِهِ الدِّينِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمَاعَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ هُوَ التَّدَيُّنُ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ، وَحِلْمُ النَّفْسِ، وَالْعَدْلُ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَتَاعِبِ، وَالْاعْتِرَافُ لِلْمُحْسِنِ، وَالتَّوَاضُعُ، وَالزُّهْدُ، وَالْعِفَّةُ، وَالْعَفْوُ، وَالْجُمُودُ، وَالْحَيَاءُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَحُسْنُ الصَّمْتِ، وَالتَّؤُدَةُ، وَالْوَقَارُ، وَالرَّحْمَةُ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ.
وَالْأَخْلَاقُ كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ وَمَظَاهِرُهَا تَصَرُّفَاتُ صَاحِبِهَا فِي كَلَامِهِ، وَطَلَاقَةِ
وَقِيلَ: السَّابِحاتِ النُّجُومُ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ النَّازِعَاتِ بِالنُّجُومِ، وسَبْحاً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لإِفَادَة التَّحْقِيق مَعَ التوسل إِلَى تنوينه لِلتَّعْظِيمِ، وَعَطْفُ فَالسَّابِقاتِ بِالْفَاءِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مُتَفَرِّعَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهُمْ يَعْطِفُونَ بِالْفَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي شَأْنِهَا أَنْ يَتَفَرَّعَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصافات: ١- ٣] قَول ابْنِ زَيَّابَةَ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّ | ابِحِ فَالْغَائِمِ فَالْآيِبِ |
وَالسَّبْقُ: تَجَاوُزُ السَّائِرِ مَنْ يَسِيرُ مَعَهُ وَوُصُولُهُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ قَبْلَهُ. وَيُطْلَقُ السَّبْقُ عَلَى سُرْعَةِ الْوُصُولِ مِنْ دُونِ وُجُودِ سَائِرٍ مَعَ السَّابِقِ قَالَ تَعَالَى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
[الْبَقَرَة: ١٤٨] وَقَالَ: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦١].
وَيُطْلَقُ السَّبْقُ عَلَى الْغَلَبِ وَالْقَهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: ٤] وَقَوْلُ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً | إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ |
وَأُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ الْمُرَادِفِ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ سَبْقاً لِلتَّأْكِيدِ وَلِدِلَالَةِ التَّنْكِيرِ عَلَى عِظَمِ ذَلِك السَّبق.
فَالْمُدَبِّراتِ: الْمَوْصُوفَةُ بِالتَّدْبِيرِ.