أَنَّ نِظَامَ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى إِرْسَالُ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْبَرِيحِ بِالْإِعْلَامِ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ. وَنَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يُوسُف: ١٠] أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُودَ الْأَجْبَابِ فِي الطُّرُقَاتِ وَهِيَ آبَارٌ قَصِيرَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسَافِرُونَ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهَا. وَقَوْلِ يَعْقُوبَ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُف: ١٣] أَنَّ بَادِيَةَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ كَانَتْ تُوجَدُ بِهَا الذِّئَابُ الْمُفْتَرِسَةُ وَقَدِ انْقَطَعَتْ مِنْهَا الْيَوْمَ.
وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ هَاجِسًا رَأَيْتُهُ خَطَرَ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالْمُتَشَكِّكِينَ وَهُوَ أَن يُقَال: لماذَا لَمْ يَقَعِ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا؟ وَمَا فَائِدَةُ تَكْرَارِ الْقِصَّةِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ؟ وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ هَذَا الْهَاجِسُ بِبَعْضِهِمْ إِلَى مَنَاهِجِ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ. وَالَّذِي يَكْشِفُ لِسَائِرِ الْمُتَحَيِّرِينَ حَيْرَتَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ نَوَايَاهُمْ وَتَفَاوُتِ مَدَارِكِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ- كَمَا قُلْنَا- هُوَ بِالْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّآلِيفِ، وَفَوَائِدُ الْقِصَصِ تجتلبها المناسبات فَتذكر الْقِصَّةُ كَالْبُرْهَانِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ هِيَ مَعَهُ، فَلَا يُعَدُّ ذِكْرُهَا مَعَ غَرَضِهَا تَكْرِيرًا لَهَا لِأَنَّ سَبْقَ ذِكْرِهَا إِنَّمَا كَانَ فِي مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى. كَمَا لَا يُقَالُ لِلْخَطِيبِ فِي قَوْمٍ، ثُمَّ دَعَتْهُ الْمُنَاسَبَاتُ إِلَى أَنْ وَقَفَ خَطِيبًا فِي مِثْلِ مَقَامِهِ الْأَوَّلِ فَخَطَبَ بِمَعَانٍ تَضَمَّنَتْهَا خُطْبَتُهُ السَّابِقَةُ: إِنَّهُ أَعَادَ الْخُطْبَةَ، بَلْ إِنَّهُ أَعَادَ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُعِدْ أَلْفَاظَ خُطْبَتِهِ. وَهَذَا مَقَامٌ تَظْهَرُ فِيهِ مَقْدِرَةُ الْخُطَبَاءِ فَيَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِهَا هَذَا الْمَقْصِدُ الْخِطَابِيُّ. ثُمَّ تَحْصُلُ مَعَهُ مَقَاصِدُ أُخْرَى.
أَحَدُهَا:
رُسُوخُهَا فِي الْأَذْهَانِ بِتَكْرِيرِهَا.
الثَّانِي:
ظُهُورُ الْبَلَاغَةِ، فَإِنَّ تَكْرِيرَ الْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَثْقُلَ عَلَى الْبَلِيغِ فَإِذَا جَاءَ اللَّاحِقُ مِنْهُ إِثْرَ السَّابِقِ مَعَ تَفَنُّنٍ فِي الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ طُرُقِ أَدَائِهَا مِنْ مَجَازٍ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ أَوْ كِنَايَةٍ. وَتَفَنُّنِ الْأَلْفَاظِ وَتَرَاكِيبِهَا بِمَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ وَسَعَةُ اللُّغَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُتَرَادِفَاتِ مِثْلَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ [الْكَهْف: ٣٦]، وَلَئِنْ رُجِعْتُ [فصلت: ٥٠]. وَتَفَنُّنِ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْحُدُودِ الْقُصْوَى فِي الْبَلَاغَةِ،
فَذَلِكَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ.
الثَّالِثُ:
أَنْ يَسْمَعَ اللَّاحِقُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ذِكْرَ الْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَاتَتْهُمْ مُمَاثَلَتُهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ أَوْ فِي مُدَّةِ مَغِيبِهِمْ، فَإِنَّ تَلَقِّيَ الْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ تَطَلُّبِهِ مِنْ حَافِظِيهِ.
وَاللَّعْنُ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ مَعَ إِذْلَالٍ وَغَضَبٍ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالْعَذَابِ فِي جَهَنَّمَ، وَأَمَّا لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ الدُّعَاءُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُبْعِدَهُمُ اللَّهُ عَنْ رَحْمَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَعَنَهُمْ أَيْضًا فِيمَا مَضَى إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ لَعْنِهِمْ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، وَكَرَّرَ فِعْلَ يَلْعَنُهُمُ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ تَكْرِيرِهِ لاخْتِلَاف معنى اللعنين فَإِنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّهِ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَاللَّعْنُ مِنَ الْبَشَرِ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [الْأَحْزَاب: ٥٦] لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي: اللَّاعِنُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيْ يَلْعَنُهُمْ كُلُّ لَاعِنٍ، وَالْمُرَادُ بِاللَّاعِنِينَ الْمُتَدَيِّنُونَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَأَصْحَابَهُ وَيَغْضَبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَطَّلِعُونَ عَلَى كِتْمَانِ هَؤُلَاءِ فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ بِالتَّعْيِينِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى تَعْيِينِهِمْ فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ بِالْعُنْوَانِ الْعَامِّ أَيْ حِينِ يَلْعَنُونَ كُلَّ مَنْ كَتَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ حِينَ يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ. وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُبَيِّنُوا التَّوْرَاةَ وَلَا يُخْفُوهَا كَمَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمرَان: ١٨٧].
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ اللَّعْنَةِ عَلَى إِضَاعَةِ عَهْدِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ مَرَّاتٍ وَأَشْهَرُهَا الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (حُورِيبَ) حَسْبَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي (مُؤَابٍ) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اللَّعْنَةُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَمِنْهُ:
«أَنْتُمْ وَاقِفُونَ الْيَوْم جميعكم أما الرَّبِّ إِلَهِكُمْ... لِكَيْ تَدْخُلُوا فِي عَهْدِ الرَّبِّ وَقَسَمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ فِيكُمُ الْيَوْمَ مُنْصَرِفٌ عَنِ الرَّبِّ... فَيَكُونُ مَتَى يَسْمَعُ كَلَامَ هَذِهِ اللَّعْنَةِ يَتَبَرَّكُ فِي قَلْبِهِ... حِينَئِذٍ يَحُلُّ غَضَبُ الرَّبِّ وَغَيْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَتَحُلُّ عَلَيْهِ كُلُّ اللَّعَنَاتِ الْمَكْتُوبَةِ
فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَمْحُو الرَّبُّ اسْمَهُ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ ويفرزه الرب للشر مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ جَمِيعِ لَعَنَاتِ الْعَهْدِ الْمَكْتُوبَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ هَذَا... لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ»
. وَفِي الْإِصْحَاحِ الثَلَاثِينَ: «وَمَتَى أَتَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْأُمُورُ الْبَرَكَةُ وَاللَّعْنَةُ جَعَلْتُهُمَا قُدَّامَكَ»
شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ»
، (يَعْنِي مَعَ شِدَّةِ الْقُرْبِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ لِأَنَّ حِسَابَ الدَّرَاهِمِ وَمُنَاوَلَةَ الْأَشْيَاءِ بِتَعَاوُنِهِمَا، فَلَوْ كَانَتِ الشِّمَالُ مِنْ ذَوَاتِ الْعِلْمِ لَمَا أُطْلِعَتْ عَلَى مَا أَنْفَقَتْهُ الْيَمِينُ).
وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَدَقَةَ السِّرِّ عَلَى صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ حُمِلَتِ الصَّدَقَاتُ عَلَى الْعُمُومِ- كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ- إِجْرَاءً لِلَفْظِ الصَّدَقَاتِ مَجْرَى لَفْظِ الْإِنْفَاقِ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ- كَانَ إِخْفَاءُ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ أَفْضَلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنِ ألْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَنَّ هَذَا أحد قَول الشَّافِعِيِّ. وَعَنِ الْمَهْدَوِيِّ: كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ فِيهِمَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَاءَتْ ظُنُونُ النَّاسِ بِالنَّاسِ فَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ إِظْهَارَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْآثَارِ أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ. فَيَكُونُ عُمُومُ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَمُخَصِّصُ الْعُمُومِ الْإِجْمَاعُ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ الزَّكَاةِ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَخَصَّ مِنَ الْإِنْفَاق الْمَذْكُور فِي الْآيِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَكَانَ تَفْضِيلُ الْإِخْفَاءِ مُخْتَصًّا بِالصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: إِظْهَارُ الزَّكَاةِ أَفْضَلُ، وَإِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَوْلُهُ: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ، تَوَقَّفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي حِكْمَةِ ذِكْرِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْفُقَرَاءِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُبْدَاةَ أَيْضًا تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ.
فَقَالَ الْعِصَامُ: «كَأَنَّ نُكْتَةَ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ الْإِبْدَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ إِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَظْهَرُ فِيهِ وَيَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ إِذْ يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِحَالِهِ، بِخِلَافِ الْإِخْفَاءِ، فَاشْتُرِطَ مَعَهُ إِيتَاؤُهَا لِلْفَقِيرِ حَثًّا عَلَى الْفَحْصِ عَنْ حَالِ مَنْ يُعْطِيهِ الصَّدَقَةَ» (أَيْ لِأَنَّ الْحَرِيصِينَ- مِنْ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ- يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِلصَّدَقَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَصُدُّهُمْ شَيْءٌ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلصَّدَقَاتِ الْخَفِيَّةِ).
وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: «لَمْ يَذْكُرِ الْفُقَرَاءَ مَعَ الْمُبْدَاةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الزَّكَاةُ وَمَصَارِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْمُخْفَاةُ فَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَمَصَارِفُهَا الْفُقَرَاءُ فَقَطْ». وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَصْرِ الصَّدَقَةِ الْمُبْدَاةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ بَلِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ تَفْضِيلَ الْإِخْفَاءِ هَلْ يعمّ الْفَرِيضَة أَولا، الثَّانِي أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُتَطَوَّعَ بِهَا لَا يَمْتَنِعُ صَرْفُهَا لِغَيْرِ الْفُقَرَاءِ كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٢٠]

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها.
زَادَ اللَّهُ كَشْفًا لِمَا فِي صُدُورِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أَيْ تُصِبْكُمْ حَسَنَةٌ وَالْمَسُّ الْإِصَابَةُ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالْخَيْرِ وَالْآخَرُ بِالشَّرِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ، وَبِالْآخَرِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ، تَفَنُّنٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٥].
وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هُنَا الْحَادِثَةُ أَوِ الْحَالَةُ الَّتِي تَحْسُنُ عِنْدَ صَاحِبِهَا أَوْ تَسُوءُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا الِاصْطِلَاحَ الشَّرْعِيَّ.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي أَذَى الْعَدُوِّ: بِأَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالصَّبْرِ وَالْحَذَرِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْحَذَرِ بِالِاتِّقَاءِ أَيِ اتِّقَاءَ كَيْدِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، وَقَوْلِهِ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أَيْ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الضُّرُّ كُلُّهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَذًى، فَالْأَذَى ضُرٌّ خَفِيفٌ، فَلَمَّا انْتَفَى الضُّرُّ الْأَعْظَمُ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي دَفْعِهِ إِلَى شَدِيدِ مقاومة من الْقِتَال وَحِرَاسَةٍ وَإِنْفَاقٍ، كَانَ انْتِفَاءُ مَا بَقِيَ مِنَ الضُّرِّ هَيِّنًا، وَذَلِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، مَعَ الْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ الْأَذَى إِلَى مَا يُوصِلُ ضُرًّا عَظِيمًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يَدْعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ».
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: لَا يَضُرُّكُمْ- بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ بِمَعْنَى أَضَرَّهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الضَّادِ
كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ (١)
وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ الَّذِي لَمْ تُلَوِّثْهُ نَجَاسَةٌ وَلَا قَذَرٌ، فَيَشْمَلُ الصَّعِيدُ التُّرَابَ وَالرَّمْلَ وَالْحِجَارَةَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّعِيدِ لِيَصْرِفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَوَسِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا التُّرَابَ أَوِ الرَّمْلَ
مِمَّا تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ غُلُوًّا فِي تَحْقِيقِ طَهَارَتِهِ.
وَقَدْ شُرِعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ أَوْ قُرِّرَ شَرْعُهُ السَّابِقُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَانَ شَرْعُ التَّيَمُّمِ سَنَةَ سِتٍّ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَسَبَبُ شَرْعِهِ مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبي بكر، فو الله مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قَالَتْ:
فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
وَالتَّيَمُّمُ مِنْ خَصَائِصِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا
فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ مِنْهَا- وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
. وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ جَعَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الطَّهَارَةِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانًا فِي حِكْمَةِ جَعْلِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ هَمِّي زَمَنًا طَوِيلًا وَقْتَ الطَّلَبِ ثُمَّ انْفَتَحَ لِي حِكْمَةُ ذَلِكَ.
_________
(١) أَرَادَ كَأَنَّهُ سَكرَان طرحته الْخمر على الأَرْض فَقَوله: دبابة اسْم فَاعل من دب وَهُوَ صفة لمَحْذُوف، أَي خمر دبابة، أَي تدب فِي الدِّمَاغ، وَعبر عَن الدفاع بعظام الرَّأْس، والخرطوم: الْخمر القوية
الْمَالِ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَةِ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ بَيِّنَةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا حِرْمَانٌ لِمَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِالْمُؤَاسَاةِ وَالْمَبَرَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ مَعَ (أَنْ) يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِ أَنْ تَضِلُّوا ضَلَالًا قَدْ مَضَى، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٦].
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ مَنْ بُيِّنَتْ لَهُ الْكَلَالَةُ فَلَمْ تُبَيَّنْ لِي».
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِخَتْمِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ:
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِ صَاحِبِ
مُوسَى ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: ٨٢]. فَتُؤْذِنُ بِخِتَامِ السُّورَةِ.
وَتُؤْذِنُ بِخِتَامِ التَّنْزِيلِ إِنْ صَحَّ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ كَمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَلَا أَرَى اصْطِلَاحَ عُلَمَاءِ بَلَدِنَا عَلَى أَنْ يَخْتِمُوا تَقْرِيرَ دُرُوسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ» إِلَّا تَيَمُّنًا بِمُحَاكَاةِ خَتْمِ التَّنْزِيلِ.
وَقَوْلُهُ: حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ ظَرْفٌ يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ الشَّرْط وَهُوَ تَسْئَلُوا، وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ الْجَوَابِ وَهُوَ تُبْدَ لَكُمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ حِينَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لَمْ يُجْعَلْ وَقْتًا لِإِلْقَاءِ الْأَسْئِلَةِ بَلْ جُعِلَ وَقْتًا لِلْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ الْجَوَابَ عَمَّا يَسْأَلُونَ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠] فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ. فَمَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَنْتَظِرِ الْجَوَابَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ سَأَلَ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ حَصَلَ جَوَابُهُ عَقِبَ سُؤَالِهِ. وَوَقْتُ نُزُولِ الْقُرْآنِ يَعْرِفُهُ مَنْ يَحْضُرُ مِنْهُمْ مجْلِس النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ لَهُ حَالَةً خَاصَّةً تعتري الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِفُهَا النَّاسُ، كَمَا وَرَدَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي حُكْمِ الْعُمْرَةِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا مَا وَقَعَ
فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُولَ الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى لَهُمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ فليسألني عَنهُ فو الله لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ»
الْحَدِيثَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ ذَلِكَ الْحِينُ فِي حَالِ نُزُولِ وَحْيٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ الْآيَةَ. فَتِلْكَ لَا مَحَالَةَ سَاعَةَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاتِّصَالِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِعَالَمِ
الْوَحْيِ.
وَقَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْها يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ قَوْله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ نَهَاكُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَعَفَا عَنْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ. وَهَذَا أظهر لعوذ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ عَفْوِهِ عَمَّا سَلَفَ مِنْ إِكْثَارِ الْمَسَائِلِ وإحفاء الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَا يَجِبُ مِنْ تَوْقِيرِهِ.
وَالْكَلَامُ تَوْبِيخٌ لِلْجِنِّ وَإِنْكَارٌ، أَيْ كَانَ أَكْثَرُ الْإِنْسِ طَوْعًا لَكُمْ، وَالْجِنُّ يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ، وَهُمْ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيُطَوِّعُونَهُمْ: بِالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّخْيِيلِ، وَالْإِرْهَابِ، وَالْمَسِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى تَوَهَّمَ النَّاسُ مَقْدِرَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِمْ بِالْإِرْضَاءِ وَتَرْكِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحهم وَفِي شؤونهم، وحتّى أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ:
«أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي، أَوْ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي، يَعْنِي بِهِ كَبِيرَ الْجِنِّ، أَوْ قَالَ: يَا رَبِّ الْوَادِي إِنِّي أَسْتَجِيرُ بِكَ» يَعْنِي سَيِّدَ الْجِنِّ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْفَيَافِيَ وَالْأَوْدِيَةَ الْمُتَّسِعَةَ بَيْنَ الْجِبَالِ مَعْمُورَةٌ بِالْجِنِّ، وَيَتَخَيَّلُونَ أَصْوَاتَ الرِّيَاحِ زَجَلَ الْجِنِّ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ لِلْجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلُ
وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْإِنْسِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، وَأَطَاعُوهُمْ، وَأَفْرَطُوا فِي مَرْضَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبْذِ مُتَابَعَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله الْآتِي: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الْأَنْعَام: ١٣٠] فَإِنَّهُ تَدَرُّجٌ فِي التَّوْبِيخِ وَقَطْعُ الْمَعْذِرَةِ.
وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَائِهِمْ أَوْلِيَاءُ الْجِنِّ: أَيِ الْمُوَالُونَ لَهُمْ، وَالْمُنْقَطِعُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِأَحْوَالِهِمْ.
وَأَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَافَوُا الْمَحْشَرَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْكُفَّارُ وَالْعُصَاةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَاصِيَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطَاعَ الشَّيَاطِينَ فَلَيْسَ وَلِيًّا لَهَا اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: ٢٥٧] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الْأَنْعَام: ١٣٠] وَقَالَ: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
ومِنَ الْإِنْسِ بَيَانٌ لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى حِكَايَةِ جَوَابِ الْإِنْسِ لِأَنَّ النَّاسَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
طَوَى الْقُرْآنُ هُنَا ذِكْرَ التَّوْبَةِ عَلَى آدَمَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ التَّذْكِيرُ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنَ اتِّبَاعِ وَسْوَسَتِهِ، وَإِظْهَارُ مَا يُعْقِبُهُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْفَسَادِ، وَمَقَامُ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى أَسْبَابِ الْخَسَارَةِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ التَّوْبَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بَيَانُ فَضْلِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَإِبْلِيسَ. وَالْأَمْرُ تَكْوِينِيٌّ، وَبِهِ صَارَ آدَمُ وَزَوْجُهُ وَإِبْلِيسُ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: اهْبِطُوا الْمَرْفُوعِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فَهَذِهِ الْحَالُ أَيْضًا تُفِيدُ مَعْنًى تَكْوِينِيًّا وَهُوَ مُقَارَنَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ لِوُجُودِهِمَا فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا التَّكْوِينُ تَأَكَّدَتْ بِهِ الْعَدَاوَةُ الْجِبِلِّيَّةُ السَّابِقَةُ فَرَسَخَتْ وَزَادَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْبَعْضُ الْمُخَالِفُ فِي الْجِنْسِ، فَأَحَدُ الْبَعْضَيْنِ هُوَ آدَمُ وَزَوْجُهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ هُوَ إِبْلِيسُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ تَكْوِينِيَّةً بَيْنَ أَصْلَيِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَتْ مَوْرُوثَةً فِي نَسْلَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ بَنِي آدَمَ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَلِأَصْلِهِمْ لِيَتَّهِمُوا كُلَّ وَسْوَسَةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ نَشَأَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ عَنْ حَسَدِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ سَرَتْ وَتَشَجَّرَتْ فَصَارَتْ عَدَاوَةً تَامَّةً فِي سَائِرِ نَوَاحِي الْوُجُودِ، فَهِيَ مُنْبَثَّةٌ فِي التَّفْكِيرِ وَالْجَسَدِ، وَمُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ التَّنَافُرِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ نُفُوسُ الشَّيَاطِينِ دَاعِيَةً إِلَى الشَّرِّ بِالْجِبِلَّةِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ مُنْصَرِفٌ بِجِبِلَّتِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَلَكِنَّهُ مُعْرِضٌ لِوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَيَقَعُ فِي شُذُوذٍ عَنْ أَصْلِ فِطْرَتِهِ، وَفِي هَذَا مَا يَكُونُ مِفْتَاحًا لِمَعْنَى كَوْنِ النَّاسِ يُولَدُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْخَيْرَ. أَمَّا كَوْنُ الْأَصْلِ فِي النَّاسِ الْعَدَالَةَ أَوِ الْجَرْحِ فَذَلِكَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى خَشْيَةِ الْوُقُوعِ فِي الشُّذُوذِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي الْحَاكِمُ وَلَا الرَّاوِي، لِأَنَّ أَحْوَالَ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الشُّذُوذِ مُبْهَمَةٌ فَوَجَبَ التَّبَصُّرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٣٢ إِلَى ١٣٣]

وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
جُمْلَةُ: وَقالُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣٠] الْآيَةَ، فَهُمْ قَابَلُوا الْمَصَائِبَ الَّتِي أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِهَا لِيَذَّكَّرُوا، بِازْدِيَادِ الْغُرُورِ فَأَيِسُوا مِنَ التَّذَكُّرِ بِهَا، وَعَانَدُوا مُوسَى حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِهَا فَقَالُوا: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالِ سِحْرِكِ الْعَجِيبَةِ فَمَا
نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، أَيْ: فَلَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ فِي السِّحْرِ.
ومَهْما اسْمٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ (مَا) الْمَوْصُولَةُ أَوِ النَّكِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعُمُومِ، فَرُكِّبَتْ مَعَهَا (مَا) لِتَصْيِيرِهَا شَرْطِيَّةً كَمَا رُكِّبَتْ (مَا) مَعَ (أَيْ) وَ (مَتَى) وَ (أَيْنَ) فَصَارَتْ أَسْمَاءَ شَرْطٍ، وَجُعِلَتِ الْأَلِفُ الْأُولَى هَاءً اسْتِثْقَالًا لِتَكْرِيرِ الْمُتَجَانِسَيْنِ، وَلِقُرْبِ الْهَاءِ مِنَ الْأَلِفِ فَصَارَتْ مَهْمَا، وَمَعْنَاهَا: شَيْءٌ مَا، وَهِيَ مُبْهَمَةٌ فَيُؤْتَى بَعْدَهَا بِمِنِ التَّبْيِينِيَّةِ، أَيْ: إِنْ تَأْتِنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
ومَهْما فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّمَا شَيْءٍ تَأْتِينَا بِهِ، وَخَبَرُهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَأْتِنا بِهِ الْمَذْكُورُ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ تُحْضِرُنَا تَأْتِينَا بِهِ.
وَذُكِّرَ ضَمِيرُ بِهِ رَعْيًا لِلَفْظِ مَهْما الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ، وَأُنِّثَ ضَمِيرُ بِها رَعْيًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَ بَيَانِ مَهْما بِاسْمٍ مُؤَنَّثٍ هُوَ آيَةٍ.
ومِنْ آيَةٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَهْما.
وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٩]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٧].
وَسَمَّوْا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى آيَةً بِاعْتِبَارِ الْغَرَضِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ بِهِ مُوسَى حِينَ الْإِتْيَانِ بِهَا، لِأَنَّ مُوسَى يَأْتِيهِمْ بِهَا اسْتِدْلَالًا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ، وَهُمْ لَا يَعُدُّونَهَا آيَةً وَلَكِنَّهُمْ جَارُوا مُوسَى فِي التَّسْمِيَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ لِتَسْحَرَنا بِها، وَفِي ذَلِكَ
فَهَذَا الْخَبَرُ كَفَالَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ الْعَدَدِ مِنْهُمْ عَلَى عَشْرَةِ أَمْثَالِهِ، مِنْ عَدَدِهِمْ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ ثَبَاتِ الْعَدَدِ مِنْهُمْ، لِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَبِذَلِكَ يُفِيدُ إِطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: ٤٥]، وَإِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ حُكْمٌ شَدِيدٌ شَاقٌّ اقْتَضَتْهُ قِلَّةُ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَكَثْرَةُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِمْ، وَقُصَارَى مَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ ثَبَتُوا لِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ زُهَاءَ الْأَلْفِ، ثُمَّ نَزَلَ التَّخْفِيفُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِالْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجه بِنَاء الْخَيْر الْآتِي: وَهُوَ سَلْبُ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. أَيْ بِعَدَمِ فِقْهِهِمْ. وَإِجْرَاءُ نَفْيِ الْفَقَاهَةِ صِفَةً
لِ قَوْمٌ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا فَيُقَالُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، لِقَصْدِ إِفَادَةِ أَنَّ عَدَمَ الْفَقَاهَةِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُمْ بِمَا هُمْ قَوْمٌ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ نَفْيَ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ فِي خُصُوصِ هَذَا الشَّأْنِ، وَهُوَ شَأْنُ الْحَرْبِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِكَ: حَدَّثْتُ فُلَانًا حَدِيثًا فَوَجَدْتُهُ لَا يَفْقَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: فَوَجَدْتُهُ رَجُلًا لَا يَفْقَهُ.
وَالْفِقْهُ فَهْمُ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ نَفِيُ الْفِقْهِ عَنْهُمْ مِنْ جَانِبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِمْ بَعْدَ إِجْرَاءِ صِلَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْكُفْرَ سَبَبًا فِي انْتِفَاءِ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ: لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ شَأْنِهِ إِنْكَارُ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ فَصَاحِبُهُ يَنْشَأُ عَلَى إِهْمَالِ النَّظَرِ، وَعَلَى تَعْطِيلِ حَرَكَاتِ فِكْرِهِ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ كَثْرَتَهُمْ تُوجِبُ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى الْأَقَلِّينَ لقَولهم: «إِنَّمَا الْغرَّة لِلْكَاثِرِ»، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ الْمَوْتَ فَإِذَا قَاتَلُوا مَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ نَصْرُهُمْ فِيهَا أَرْجَحَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُعَوِّلُونَ عَلَى نَصْرِ اللَّهِ، وَيَثْبُتُونَ لِلْعَدُوِّ رَجَاءَ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَا يَهَابُونَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُسِرَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيُّ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِهَا هُوَ زَائِدٌ- فِي رُتْبَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِ- عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْفِتْنَةِ فِي ذَاتِهِ عَجِيبٌ، وَعَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ لِلتَّدَارُكِ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّذَكُّرِ أَعْجَبُ. وَلَوْ كَانَتْ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ لَكَانَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ هُوَ تَأَخُّرَ تَوْبَتِهِمْ وَتَذَكُّرِهِمْ.
وَأُتِيَ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ مُبْتَدَأَةً بِاسْمٍ أُسْنِدَ إِلَيْهِ فِعْلٌ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا يَذَكَّرُونَ، قَصْدًا لِإِفَادَةِ التَّقْوَى، أَيِ انْتِفَاءُ تَذَكُّرِهِمْ مُحَقّق.
[١٢٧]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٢٧]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَة: ١٢٤] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَطْفُ جُمْلَةِ: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ عَلَى جُمْلَةِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَة: ١٢٤]. وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ وَجُمْلَةِ الْجَزَاءِ، أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلنُّزُولِ الَّذِي يَقُولُونَ عِنْدَهُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التَّوْبَة: ١٢٤] وَبِالنِّسْبَةِ لِلسُّورَةِ الَّتِي عِنْدَ نُزُولِهَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَوْ لِاخْتِلَافِ السُّورَتَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا سُورَةٌ فِيهَا شَيْءٌ خَاصٌّ بِهِمْ.
وَمُوجِبُ زِيَادَةِ (مَا) بَعْدَ (إِذَا) فِي الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدٍ لِاتِّحَادِ مُقْتَضِيهِ.
وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عِنْدِ نُزُولِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَدَاةُ الظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ (إِذَا). فَتَعَيِّنَ أَنْ يَكُونَ نَظَرُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ حَاصِلًا وَقْتَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَفَضْحِ مَكْرِهِمْ لِأَنَّ نَظَرَ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ هُوَ نَظَرُ تَعَجُّبٍ وَاسْتِفْهَامٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التَّوْبَة: ٦٤]. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمْ كَاتِمُونَ تَعَجُّبَهُمْ مِنْ
وكُلَّما كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (كُلَّ) وَ (مَا) الظَّرْفِيَّةِ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَانْتَصَبَتْ (كُلَّ) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظَّرْفِيَّةَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ سَخِرُوا، وَهُوَ جَوَابُهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: وَسَخِرَ مِنْهُ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي كُلِّ زَمَنِ مرورهم عَلَيْهِ.
و (لما) فِي (كُلَّمَا) مِنَ الْعُمُومِ مَعَ الظَّرْفِيَّةِ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلُ (إِذَا) فَاحْتَاجَتْ إِلَى جَوَابٍ وَهُوَ سَخِرُوا مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا حِكَايَةٌ لِمَا يُجِيبُ بِهِ سُخْرِيَتَهُمْ، أُجْرِيَتْ عَلَى طَرِيقَةِ
فِعْلِ الْقَوْلِ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ سَخِرُوا تَتَضَمَّنُ أَقْوَالًا تَنْبَنِي عَنْ سُخْرِيَتِهِمْ أَوْ تُبِينُ عَنْ كَلَامٍ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ فِي عَمَلِ السَّفِينَةِ وَمِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِذْ كَانُوا حَوْلَهُ وَاثِقِينَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ جَمْعُهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ.
وَالسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ بِاحْتِقَارٍ وَاسْتِحْمَاقٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠]، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى بِ (مِنْ).
وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنْهُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ لَا يَأْتِي بِتَصْدِيقِ مُدَّعَاهُ.
وَسُخْرِيَةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْ سَفَهِ عُقُولِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَالسُّخْرِيَتَانِ مُقْتَرِنَتَانِ فِي الزَّمَنِ.
وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما تَسْخَرُونَ فَهُوَ تَشْبِيهٌ فِي السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى السُّخْرِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ بَوْنٌ.
فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَمْ يَكُنِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- قَبْلَكَ مَلَائِكَةً أَوْ مُلُوكًا مِنْ
مُلُوكِ الْمُدُنِ الْكَبِيرَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ إِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِثْلَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ، وَيَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ كَانَ سَاكِنًا فِي الْبَدْوِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، يُوحَى- بِتَحْتِيَّةٍ وَبِفَتْحِ الْحَاءِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِنُونٍ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ وَالنُّونُ نُونُ الْعَظَمَةِ.
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا مِنَ الْأُسْوَةِ، أَيْ فَكَذَّبَهُمْ أَقْوَامُهُمْ مِنْ قَبْلِ قَوْمِكَ مِثْلَ مَا كَذَّبَكَ قَوْمُكَ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الْعِقَابَ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْأَقْوَامِ السَّابِقِينَ، أَيْ فَيَنْظُرُوا آثَارَ آخِرِ أَحْوَالِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ فَيَعْلَمُ قَوْمُكَ أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ عَلَى قِيَاسِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، فَضَمِيرُ يَسِيرُوا عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة يُوسُف: ١٠٨].
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. فَإِنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ سَارُوا فِي الْأَرْضِ فَرَأَوْا عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَهَذَا التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضٌ بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ.
وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ النَّظَرِ عَنْ مَفْعُولِهِ.
وَجُمْلَةُ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَبَرٌ. مَعْطُوفَةٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ فَلَهَا حُكْمُهُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالتَّبْشِيرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِلرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِسَلَامَةِ عَاقِبَةِ الْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا. وَتَعْرِيضٌ أَيْضًا بِأَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ أَيْضًا عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْعَاقِبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَحَصَلَ إِيجَازٌ بِحَذْفِ جملتين.
وَإِضَافَة لَدارُ إِلَى الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مِثْلَ «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ» فِي الْحَدِيثِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ.
وَكَلِمَةُ لَعَمْرُكَ صِيغَةُ قَسَمٍ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَفْظِ (عَمْرٍ) لَامُ الْقَسَمِ.
وَالْعَمْرُ- بِفَتْحِ الْعين وَسُكُون اللَّام- أَصْلُهُ لُغَةٌ فِي الْعُمْرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَخُصَّ الْمَفْتُوحُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِخِفَّتِهِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْقَسَمَ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي الْكَلَامِ. فَهُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ رَفَعُوهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ وُجُوبًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُكَ قَسَمِي.
وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ فِيهَا الْخَبَرُ حَذْفًا لَازِمًا فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. وَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِغَيْرِ اللَّامِ فَحِينَئِذٍ يُقْرِنُونَهُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَيَنْصِبُونَهُمَا، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
عَمْرَكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ فَنُصِبَ عَمْرَ بِنَزْعِ الْخَافِض وَهُوَ يَاء الْقَسَمِ وَنُصِبَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ، أَيْ بِتَعْمِيرِكَ اللَّهَ بِمَعْنَى بِتَعْظِيمِكَ اللَّهَ، أَيْ قَوْلِكِ لِلَّهِ لَعَمْرِكَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ
بِاسْمِ أَحَدٍ تَعْظِيمٌ لَهُ، فَاسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْقَسَمِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ التَّحِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ فِي كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» أَيْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِتَعْظِيمِكَ رَبَّكَ. هَذَا مَا يَظْهَرُ لِي فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ، وَقَدْ خَالَفْتُ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ لِأَدْفَعَ مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنْ إِشْكَالٍ.
وَالسَّكْرَةُ: ذَهَابُ الْعَقْلِ. مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّكْرِ- بِفَتْحِ السِّينِ- وَهُوَ السَّدُّ وَالْغَلْقُ.
وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الضَّلَالِ تَشْبِيهًا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الْهَوَى عَلَى دَوَاعِي الرَّشَادِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ وَغَشْيَتِهِ.
ويَعْمَهُونَ يَتَحَيَّرُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَبِالْوالِدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِحْساناً، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: أَحْسِنْ بِفُلَانٍ كَمَا يُقَالُ أَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠].
وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَالِدَيْنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِاعْتِبَارِ وَالِدَيْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مِمَّنْ شَمِلَهُمُ الْجَمْعُ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا.
وَعَطْفُ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ فَاسْتَحَقَّ الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ أَوْجَدَ النَّاسَ. وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْأَبَوَيْنِ مَظْهَرَ إِيجَادِ النَّاسِ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَالْخَالِقُ مُسْتَحِقُّ الْعِبَادَةِ لِغِنَاهُ عَنِ الْإِحْسَانِ، وَلِأَنَّهَا أَعْظَمُ الشُّكْرِ عَلَى أَعْظَمِ مِنَّةٍ، وَسَبَبُ الْوُجُودِ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ لَا الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِحْسَانِ دُونَ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِدٍ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَبَلَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَأَمَرَ الْوَلَدَ بِمُجَازَاةِ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَبَوَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
وَشَمِلَ الْإِحْسَانُ كُلَّ مَا يَصْدُقُ فِيهِ هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْبَذْلِ وَالْمُوَاسَاةِ.
وَجُمْلَةُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِحْساناً، وإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْمُهَيِّئَةِ لِنُونِ التَّوْكِيدِ، وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ بِنُونٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَبَعْدَهَا (مَا) وَلَكِنَّهُمْ رَاعَوْا حَالَةَ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً فَرَسَمُوهَا كَذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ وَتَبِعَهَا رَسْمُ النَّاسِ غَالِبًا، أَيْ إِنْ يَبْلُغْ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا حَدَّ الْكِبَرِ وَهُمَا عِنْدَكَ، أَيْ فِي كفالتك فوطّىء لَهُمَا خُلُقَكَ وَلَيِّنْ جَانِبَكَ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ بِقَرِينَةِ الْعَطْفِ عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَلَيْسَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ يَوْمَئِذٍ. وَإِيثَارُ ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ هُنَا دُونَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فَكَانَ الْإِفْرَادُ أَنْسَبَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ سَوَاءً فِي الْمَقْصُودِ لِأَنَّ خِطَابَ
غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُسَاوِي خِطَابَ الْجَمْعِ.
وَ (يَرِثُنِي) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِ وَلِيًّا. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الدُّعَاءِ فِي قَوْله فَهَبْ لِي لِإِرَادَةِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَجْوِبَةِ الثَّمَانِيَةِ أَنَّهَا عَلَى تَقْدِير فَاء السَّبَبِيَّة.
وآلِ يَعْقُوبَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ خَاصَّةً بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ
الْمُشْعِرِ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ، فَيَكُونَ يَعْقُوبُ هُوَ إِسْرَائِيلُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ إِسْرَائِيلَ، أَيْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: ٥٤]، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ آلُ الرَّجُلِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ إِذَا كَانُوا على سنَنه، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: ٦٨] وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الْإِسْرَاء: ٣]، مَعَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ ذَرِّيَّةُ مَنْ حُمِلُوا مَعَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ يَعْقُوبُ آخَرُ غَيْرُ إِسْرَائِيلَ. وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ، قَالَهُ: مَعْقِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ عَمُّ مَرْيَمَ أَخُو عِمْرَانَ أَبِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَخُو زَكَرِيَّاءَ، أَيْ لَيْسَ لَهُ أَوْلَادٌ فَيَكُونَ ابْنُ زَكَرِيَّاءَ وَارِثًا لِيَعْقُوبَ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، فَيَعْقُوبُ عَلَى هَذِهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَالِيَ الَّذِينَ خَافَهُمْ زَكَرِيَّاءُ من وَرَائه.
[٧- ٨]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)
مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ عَقِبَ الدُّعَاءِ إِيجَازًا، أَيْ قُلْنَا يَا زَكَرِيَّاءُ إِلَخْ...
وَأَهَمُّهَا مَصْلَحَةُ إِمْهَالِ الْقَوْمِ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ.
وَالْعَجَلُ: السُّرْعَةُ. وَخَلْقُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ اسْتِعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. شُبِّهَتْ شِدَّةُ مُلَازمَة الْوَصْف بِكَوْنِهِ مَادَّة لتكوين مَوْصُوفَةً، لِأَنَّ ضَعْفَ صِفَةِ الصَّبْرِ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ مُقْتَضَى التَّفْكِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ. فَإِذَا فَكَّرَ الْعَقْلُ فِي شَيْءٍ مَحْبُوبٍ اسْتَعْجَلَ حُصُولَهُ بِدَاعِي الْمَحَبَّةِ، وَإِذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ مَكْرُوهٍ اسْتَعْجَلَ إِزَالَتَهُ بِدَاعِي الْكَرَاهِيَةِ، وَلَا تَخْلُو أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ عَنْ هَذَيْنِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا بِالطَّبْعِ فَكَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْعَجَلَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الْإِسْرَاء: ١١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: ١٩]. ثُمَّ إِنَّ أَفْرَادَ النَّاسِ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاسْتِعْجَالِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي غور النّظر والفكر وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُونَ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْعَجَلَ بِالطِّينِ وَزَعَمَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ فَقَدْ أَبْعَدَ وَمَا أَسْعَدَ.
وَجُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَالْمَعْنَى: وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ آيَاتِ اللَّهِ فِي نَصْرِ الدِّينِ، وَذَلِكَ بِمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ من النَّصْر وَهلك أيمة الشِّرْكِ وَمَا حَصَلَ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ النَّصْرُ فِيهَا عَاقِبَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ نَهْيٌ عَنْ طَلَبِ التَّعْجِيلِ، أَيْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكِلُوا ذَلِكَ إِلَى مَا يُوَقِّتُهُ اللَّهُ وَيُؤَجِّلُهُ، وَلِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ. فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ وَعَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْوَعِيدِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلِمَةِ تَسْتَعْجِلُونِ تَخْفِيفًا مَعَ بَقَاءِ حَرَكَتِهَا فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ حُذِفَتِ الْحَرَكَةُ من النُّون.
(٥١)
يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اكْتِفَاءً بِالْمَقُولِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، أَيْ قُلْنَا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا. وَالْمَحْكِيُّ هُنَا حُكِيَ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا لِلرُّسُلِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِضَرُورَةِ اخْتِلَافِ عُصُورِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا لِكُلِّ رَسُولٍ مِمَّنْ مَضَى ذِكْرُهُمْ
كُلْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلْ صَالِحًا إِنِّي بِمَا تعْمل عَلَيْهِم.
وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْزِيعِ لِمَدْلُولِ الْكَلَامِ وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ:
رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الرُّسُلِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَزَاهَتِهِمْ فِي أُمُورِهِمُ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، فَالْأَكْلُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ نَزَاهَةٌ جِسْمِيَّةٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ نَزَاهَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ.
وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ هِيَ قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَلِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَامِ الْمُعَلِّلِينَ تَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣]، وَقَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧]، وَلِيُبْطِلَ بِذَلِكَ مَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَهَذِهِ فَوَائِدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ لَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْوَقْعُ الْعَظِيمُ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ أَمْرًا جِبِلِّيًّا لِلْبَشَرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا لَازِمُهُ وَهُوَ إِعْلَامُ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يُنَافِي الرِّسَالَةَ وَأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ.
وَتَعْلِيقُ مِنَ الطَّيِّباتِ بِكَسْبِ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْأَمْرِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ طَيِّبًا. وَيَزِيدُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبَائِثَ وَلَا يَجْتَنِبُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ.
وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا [الْفرْقَان: ٦٧] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:
وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ إِلَى قَوْلِهِ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الْفرْقَان: ٦٨- ٧٢] إِلَخْ.
وَقِسْمٌ مِنْ تَطَلُّبِ الزِّيَادَةِ مِنْ صَلَاحِ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا إِلَى قَوْلِهِ: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: ٧٤].
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أَنَّهُ مَدْحٌ لِمِشْيَةٍ بِالْأَرْجُلِ وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يَمْشُونَ عِبَارَةً عَنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِانْتِقَالِ فِي الْأَرْضِ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ ابْن أَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمَشْيِ بِأَنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ لِيَكُونَ فِي وَصْفِهِ بِالْهَوْنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَمْشُونَ كَذَلِكَ اخْتِيَارًا وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَشْيِ فِي الصُّعُدَاتِ أَوْ عَلَى الْجَنَادِلِ.
وَالْهَوْنُ: اللِّينُ وَالرِّفْقُ. وَوَقَعَ هُنَا صِفَةً لِمَصْدَرِ الْمَشْيِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (مَشْيًا) فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ.
وَالْمَشْيُ الْهَوْنُ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ضَرْبٌ بِالْأَقْدَامِ وَخَفْقُ النِّعَالِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَشْيِ الْمُتَجَبِّرِينَ الْمُعْجَبِينَ بِنُفُوسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. وَهَذَا الْهون ناشىء عَنِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ النَّفْسِ الْعَالِيَةِ وَزَوَالِ بَطَرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ مِنْ خِلَالِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الضِّدِّ مِنْ مَشْيِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ «إِنَّ الْبَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَامًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فاقصد فِي مِشْيَتِكَ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَن لُقْمَان قَوْله لِابْنِهِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاء: ٣٧].
وَالتَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ الْمُنَاسب لعباد الرحمان لِأَنَّ الرَّحْمَةَ ضِدُّ الشِّدَّةِ، فَالْهَوْنُ يُنَاسِبُ مَاهِيَّتَهَا وَفِيهِ سَلَامَةٌ مِنْ صَدْمِ الْمَارِّينَ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
لِأَنَّهُ عَدَّهُمْ ضُعَفَاءَ، أَيْ أَذِلَّةً فَكَانَ يَسُومُهُمُ الْعَذَابَ وَيُسَخِّرُهُمْ لِضَرْبِ اللَّبِنِ وَلِلْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَالطَّائِفَةُ الْمُسْتَضْعَفَةُ هِيَ طَائِفَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَهْلَها لَا إِلَى شِيَعاً. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَبْحِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [٦٧] أَنَّ الْخَبَرَ بِتِلْكَ الصِّيغَةِ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِمَّا لَوْ قِيلَ: أَنْ أَكُونَ جَاهِلًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الْإِفْسَادِ مِنْ خُلُقِهِ وَلِفِعْلِ الْكَوْنِ إِفَادَةُ تُمَكُّنِ خَبَرِ الْفِعْلِ مِنِ اسْمِهِ.
فَحَصَلَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى تَمَكُّنِ الْإِفْسَادِ مِنْ فِرْعَوْنَ، ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ.
الْمَفْسَدَةُ الْأُولَى: التَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ فَإِنَّهُ مَفْسَدَةٌ نَفْسِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَفَاسِدُ جَمَّةٌ مِنِ احْتِقَارِ النَّاسِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ وَسُوءِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَبَثِّ عَدَاوَتِهِ فِيهِمْ، وَسُوءِ ظَنِّهِ بِهِمْ وَأَنْ لَا يَرْقُبَ فِيهِمْ مُوجِبَاتِ فَضْلٍ سِوَى مَا يُرْضِي شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَلِيُّ أَمْرِهِمْ وَرَاعِيهِمْ كَانَتْ صِفَةُ الْكِبَرِ مُقْتَضِيَةً سُوءَ رِعَايَتِهِ لَهُمْ وَالِاجْتِرَاءَ عَلَى دَحْضِ حُقُوقِهِمْ، وَأَنْ يَرْمُقَهُمْ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَلَا يَعْبَأَ بِجَلْبِ الصَّالِحِ لَهُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَبْتَزَّ مَنَافِعَهُمْ لِنَفْسِهِ وَيُسَخِّرَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ لِخِدْمَةِ أَغْرَاضِهِ وَأَنْ لَا يَلِينَ لَهُمْ فِي سِيَاسَةٍ فَيُعَامِلَهُمْ بِالْغِلْظَةِ وَفِي ذَلِكَ بَثُّ الرُّعْبِ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ بَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ، فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ أَمُّ الْمَفَاسِدِ وَجِمَاعُهَا وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِأَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
الْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ الْمَمْلَكَةِ شِيَعًا وَفَرَّقَهُمْ أَقْسَامًا وَجَعَلَ مِنْهُمْ شِيَعًا مُقَرَّبِينَ مِنْهُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ وَذَلِكَ فَسَادٌ فِي الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ يثير بَينهَا التَّحَاسُدَ
وَالتَّبَاغُضَ، وَيَجْعَلُ بَعْضَهَا يَتَرَبَّصُ الدَّوَائِرَ بِبَعْضٍ، فَتَكُونُ الْفِرَقُ الْمَحْظُوظَةُ عِنْدَهُ مُتَطَاوِلَةً عَلَى الْفِرَقِ الْأُخْرَى، وَتَكْدَحُ الْفِرَقُ الْأُخْرَى لِتُزَحْزِحَ الْمَحْظُوظِينَ عَنْ حُظْوَتِهِمْ بِإِلْقَاءِ النَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَاتِ الْكَاذِبَةِ فَيَحُلُّوا مَحَلَّ الْآخَرِينَ. وَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ فِي مَكَائِدِ بَعضهم لبَعض فَيكون بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً،
وَالْإِخْرَاجُ: فَصْلُ شَيْءٍ مَحْوِيٍّ عَنْ حَاوِيهِ. يُقَالُ: أَخْرَجَهُ مِنَ الدَّارِ، وَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ لِإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُخْرِجُ
ويُحْيِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الرّوم: ٤٨]. فَهَذَا الْإِخْرَاجُ وَالْإِحْيَاءُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّعْظِيمَ وَالْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ إِذْ أَوْدَعَ هَذَا النِّظَامَ الْعَجِيبَ فِي الْمَوْجُودَاتِ فَجَعَلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لَهُ قُوَّةً وَخَصَائِصَ تَجْعَلُهُ يَنْتِجُ الْأَشْيَاءَ الْحَيَّةَ الثَّابِتَةَ الْمُتَصَرِّفَةَ وَيَجْعَلُ فِي تُرَابِ الْأَرْضِ قُوًى تُخْرِجُ الزَّرْعَ وَالنَّبَاتَ حَيًّا نَامِيًا.
وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ يَظْهَرُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: إِنْشَاءُ الْأَجِنَّةِ مِنَ النُّطَفِ، وَإِنْشَاءُ الْفِرَاخِ مِنَ الْبَيْضِ وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ يَظْهَرُ فِي الْعَكْسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ غُلَاةِ الْمُشْرِكِينَ أَفَاضِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ إِخْرَاجِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ،
وَإِخْرَاجِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ أَبِيهَا أَحَدِ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ وَقَدْ قَالَتْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مَنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ مَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مَنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَأَيْضًا»

(أَيْ سَتَزِيدِينَ حُبًّا لَنَا بِسَبَبِ نُورِ الْإِسْلَامِ).
وَإِخْرَاجُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ أَبِيهَا. وَلَمَّا كَلَّمَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ إِسْلَامِهَا وَهِجْرَتِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ حِينَ جَاءَ أَخَوَاهَا يَرُومَانِ رَدَّهَا إِلَى مَكَّةَ حَسَبِ شُرُوطِ الْهُدْنَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا امْرَأَةٌ وَحَالُ النِّسَاءِ إِلَى الضَّعْفِ فَأَخْشَى أَنْ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي وَلَا صَبْرَ لِي، فَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الِامْتِحَانِ فَلَمْ يَرُّدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا وَكَانَتْ أَوَّلَ النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَهُوَ مَا فِيهِ إِنْشَاءُ حَيَاةِ شَيْءٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لَيْسَ مَقْصُودًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ احْتِرَاسٌ وَتَكْمِلَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ رَاجِعًا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، أَيْ وَكَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيهَا يَكُونُ إِخْرَاجُكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ
هَذِهِ إِلَّا قَلِيلًا فَتُوُفِّيَتْ وَكَانَ تَزَوُّجُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنِ الْهِجْرَةِ فَلَيْسَتْ مِمَّا شَمَلَتْهُ الْآيَةُ. وَلَمْ يثبت أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ وَهُنَّ: أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ الدَّوْسِيَّةُ وَاسْمُهَا عِزِّيَّةُ، وَخَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحْيِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسهَا لِلرَّجُلِ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى عَرَضَتْ نَفسهَا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى ثَابِتٌ الْبَنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ حَاجَةٌ بِي؟ فَقَالَتِ ابْنَةُ أَنَسٍ- وَهِيَ تَسْمَعُ إِلَى رِوَايَةِ أَبِيهَا-: مَا أقل حياءها ووا سوأتاه وَا سوأتاه. فَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النبيء فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا».
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهَا. فَقَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا، إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ، مَلَّكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»
فَهَذَا
الصِّنْفُ حُكْمُهُ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ نِكَاحٌ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ بِدُونِ مَهْرٍ وَبِدُونِ وَلِيٍّ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النِّسْوَةَ اللَّاتِي وهبْنَ أَنْفسهنَّ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ هُنَّ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ الْمُلَقَّبَةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، وَأُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ الْأَسَدِيَّةُ أَوِ الْعَامِرِيَّةُ، وَخَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ بِنْتِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ. فَأَمَّا الْأُولَيَانِ فَتَزَوَّجَهُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا مِنْ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ والأخريان لم يتزوجهما.
وَمَعْنَى وَهَبَتْ نَفْسَها للنبيء أَنَّهَا مَلَّكَتْهُ نَفْسَهَا تَمْلِيكًا شَبِيهًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلِهَذَا عُطِفَتْ عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وأردفت بِقَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ خَاصَّةً لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهَا زَوْجَةً بِتِلْكَ الْهِبَةِ، أَيْ دُونَ مَهْرٍ وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ
فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ امْرَأَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ الرَّجُلُ الْحَاضِرُ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا حَاجَةَ لَهُ بهَا سَأَلَ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ تِلْكَ الْهِبَةَ لَا مَهْرَ مَعَهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ مَا يَصْدُقُهَا إِيَّاهُ، وَقد علم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنَّ هَذَا إِزَارِي فَلَهَا نِصْفُهُ. قَالَ سَهْلٌ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ، فَقَالَ النَّبِيءُ: «وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ- ثُمَّ قَالَ لَهُ- مَاذَا
مَعْنَاهُ: أَوْدَعْنَا لَهُمْ فِي
أَضْرَاعِهَا أَلْبَانًا يَشْرَبُونَهَا وَفِي أَبْدَانِهَا أَوْبَارًا وَأَشْعَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الِامْتِنَانِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ خَلَقَهَا الله لأجل انْتِفَاع الْإِنْسَانِ بِهَا تَكْرِمَةً لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩].
وَاسْتُعِيرَ عَمَلُ الْأَيْدِي الَّذِي هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الصُّنْعِ إِلَى إِيجَادِ أُصُولِ الْأَجْنَاسِ بِدُونِ سَابِقِ مَنْشَأٍ مِنْ تَوَالُدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي اللَّهِ تَعَالَى لِظُهُورِ أَنَّ تِلْكَ الْأُصُولَ لَمْ تَتَوَلَّدْ عَنْ سَبَبٍ كَقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧]، فَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي لَهُمْ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ أُصُولٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أُصُولِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ بِأَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِتَقْرِيبِ شَأْنِ الْخَلْقِ الْخَفِيِّ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]. وَقَرِينَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مَا تَقَرِّرَ مِنْ أَنَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَذَلِكَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنْ تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ فَسَمَّوْهَا الْمُتَشَابِهَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّنَا لَمْ نَصِلْ إِلَى حَقِيقَةِ مَا نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْكُنْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوهَا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا تَقْرِيبٌ وَإِسَاغَةٌ لِغُصَصِ الْعِبَارَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِظَوَاهِرِهَا فَبَاعِثُهُمْ فَرْطُ الْخَشْيَةِ، وَكَانَ لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ لَا يَسَعُ أَهْلَ الْعُصُورِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ فَهُمْ عَنْ إِقْنَاعِ السَّائِلِينَ بِمَعْزِلٍ، وَقَلَمُ التَّطْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَغْزِلٌ.
وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ. وَفَرَّعَ عَلَى خَلْقِهَا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَهَا مَالِكُونَ قَادِرُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَشَاءُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُعَمَّرِينَ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ التَّذْكِيرِ.
وَتَقْدِيمُ لَها عَلَى مالِكُونَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقَهُ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ
وَمِنَ الْقَضَاءِ الْقَضَاءُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا هِيَ بِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ. فَقَضَاءُ اللَّهِ هُوَ الْقَضَاءُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَنْصَافِ الْمُتَدَاعِينَ كَقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا عَلَى سُلُوكِ الدَّاعِرِينَ كَقَضَاءِ وَالِي الشُّرْطَةِ، وَلَا عَلَى مُرَاقَبَةِ الْمُغِيرِينَ كَقَضَاءِ وَالِي الْحِسْبَةِ، وَلَكِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى كُلِّ نفس فِيمَا اعْتَدَتْ وَفِيمَا سَلَكَتْ وَفِيمَا بَدَّلَتْ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا اخْتَلَتْ بِهِ مِنْ عَمَلٍ وَبِمَا أَضْمَرَتْهُ مِنْ ضَمَائِرَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَإِلَى ذَلِكَ تُشِيرُ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ فِي الْآيَةِ: مَرْتَبَةُ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَمَرْتَبَةُ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وَمَرْتَبَةُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا لَا نَقْصَ فِيهِ عَنِ الْحَقِّ فِي إِعْطَائِهِ وَلَا عَنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا عَمِلَتْ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ جَزَاء مَا عملت لظُهُور أَن مَا عَمِلَهُ الْمَرْءُ لَا يُوَفَّاهُ بَعْدَ أَنْ عَمِلَهُ وَإِنَّمَا يُوَفَّى جَزَاءَهُ.
وَالْقَوْلُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَاضَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ، وَوُضِعَ، وَجَاء، وَوُفِّيَتْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر: ٦٨].
[٧١- ٧٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٢]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
هَذَا تَنْفِيذُ الْقَضَاءِ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: ٦٩] وَقَوْلِهِ:
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر: ٧٠]، فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَنَتِيجَتَهُ إِيدَاعُ الْمُجْرِمِينَ فِي الْعِقَابِ
وَالْمِيزَانَ، لِأَجْلِ مَا فِي الْمَوْصُولِيَّةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْآتِي، وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مِثْلَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠].
وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْكِتابَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَيْ إِنْزَالُ الْكُتُبِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا: وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ [الشورى: ١٥].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَنْزَلَ الْكُتُبَ مُقْتَرِنَةً بِالْحَقِّ بَعِيدَةً عَنِ الْبَاطِلِ.
وَالْحَقُّ: كُلُّ مَا يَحِقُّ، أَيْ يَجِبُ فِي بَابِ الصَّلَاحِ عَمَلُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ النَّافِعَةِ.
والْمِيزانَ حَقِيقَتُهُ: آلَةُ الْوَزْنِ، وَالْوَزْنُ: تَقْدِيرُ ثِقَلِ جِسْمٍ، وَالْمِيزَانُ آلَةٌ ذَاتُ كِفَّتَيْنِ مُعْتَدِلَتَيْنِ مُعَلَّقَتَيْنِ فِي طَرَفَيْ قَضِيبٍ مُسْتَوٍ مُعْتَدِلٍ، لَهُ عُرْوَةٌ فِي وَسَطِهِ، بِحَيْثُ لَا تَتَدَلَّى إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى إِذَا أُمْسِكَ الْقَضِيبُ مِنْ عُرْوَتِهِ. وَالْمِيزَانُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَدْلِ وَالْهَدْيِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَنْزَلَ فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمُنَزَّلُ وَالدِّينُ يَدْعُو إِلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي الْمُجَادَلَةِ فِي الدِّينِ وَفِي إِعْطَاءِ الْحُقُوقِ، فَشُبِّهَ بِالْمِيزَانِ فِي تَسَاوِي رُجْحَانِ كِفَّتَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: ٢٥].
وَجُمْلَةُ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِيذَانِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِمُقَدَّرٍ.
وَكَلِمَةُ وَما يُدْرِيكَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَالْكَافُ مِنْهَا خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِمَعْنَى:
قَدْ تَدْرِي، أَيْ قَدْ يَدْرِي الدَّارِي، فَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالتَّهْيِئَةِ.
ويُدْرِيكَ مِنَ الدِّرَايَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَقَدْ عُلِّقَ فِعْلُ (يَدْرِي) عَنِ الْعَمَلِ بِحَرْفِ التَّرَجِّي.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ مَا جَاءَ فِعْلُ (مَا أَدْرَاكَ) فَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ أَيْ بَيَّنَهُ لَهُ عَقِبَ كَلِمَةِ (مَا أَدْرَاكَ) نَحْوَ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: ١٠، ١١] وَكُلُّ مَا جَاءَ فِيهِ وَما يُدْرِيكَ
عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ بِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُقُوعِهِ تَطْوِيلُ أَجْلِهِ وَلَا تَعْجِيلُهُ، قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَ قَوْلَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ
وَهُمْ عِنْدَ حُلُولِهِ مُنْذُ طُولِ الْمُدَّةِ يُشْبِهُ حَالُهُمْ حَالَ عَدَمِ الْمُهْلَةِ إِلَّا سَاعَةً قَلِيلَةً.
ومِنْ نَهارٍ وَصْفُ السَّاعَةِ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ سَاعَةَ النَّهَارِ تَبْدُو لِلنَّاسِ قَصِيرَةً لِمَا لِلنَّاسِ فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ بِخِلَافِ سَاعَةِ اللَّيْلِ تَطُولُ إِذْ لَا يَجِدُ السَّاهِرُ شَيْئًا يَشْغَلُهُ. فَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا
فِي حَدِيثِ الْجُمُعَة قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ»
، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَالسَّاعَةُ جُزْءٌ مِنَ الزَّمَنِ.
بَلاغٌ.
فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ لِيَعْلَمَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ:
بَلاغٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا بَلَاغٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعُنْوَانِ وَالطَّالِعِ نَحْوِ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الظَّهِيرِ: «ظَهِيرٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ»، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الصُّكُوكِ نَحْوِ: «إِيدَاعُ وَصِيَّةٍ»، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي التَّأْلِيفِ نَحْوِ مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» «وُقُوتُ الصَّلَاةِ». وَمِنْهُ مَا يُكْتَبُ فِي أَعَالِي الْمَنْشُورَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ كَلِمَةُ: «إِعْلَانٌ».
وَقَدْ يَظْهَرُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢]، وَقَوْلِ سِيبَوَيْهٍ: «هَذَا بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ»، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٦].
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالتَّحْصِيلِ مِثْلُ جُمْلَةِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: ١٩٦]، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [الْبَقَرَة: ١٣٤].
وَقَوْلِهِ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْنَى شَيْءٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْمَوْجُودُ فَغَيْرُ شَيْءٍ: الْمَعْدُومُ، وَالْمَعْنَى: أَخُلِقُوا مِنْ عَدَمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) إِنْكَارِيًّا، وَيَكُونَ اسْمُ شَيْءٍ صَادِقًا عَلَى مَا يَصْلُحُ لِمَعْنَى التَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَرْفِ (مِنَ) التَّعْلِيلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ خَلْقَهُمْ بِغَيْرِ حِكْمَةٍ، وَهَذَا إِثْبَاتٌ أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، بِأَنَّ الْجَزَاءَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي لَا يَخْلُو عَنْهَا فِعْلُ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَوْلِهِ: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ [الْحجر:
٨٥].
وَلِحَرْفِ (مِنْ) فِي هَذَا الْكَلَامِ الْوَقْعُ الْبَدِيعُ إِذْ كَانَتْ عَلَى احْتِمَالِ مَعْنَيَيْهَا دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَعَلَى وُقُوعِهِ وَعَلَى وُجُوبِ وُقُوعِهِ وُجُوبًا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْعُلْيَا. وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ صَوْغِ الْكَلَامِ بِالصِّيغَةِ الْغَالِبَةِ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، أَعْنِي صِيغَةَ النَّفْيِ بِأَنْ يُقَالَ: أَمَا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَالْعُدُولُ عَنْ تَعْيِينِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ غَيْرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ وَهُوَ لَفْظُ شَيْءٍ، رُوعِيَ فِيهِ الصَّلَاحِيَّةُ لِاحْتِمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ وَذَلِكَ مِنْ مُنْتَهى البلاغة.
وَإِذ كَانَ فَرْضُ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَاضِحَ الْبُطْلَانِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ عَلَى إِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ:
أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
وَهُوَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ أَيْضًا، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا هُمُ الْخَالِقُونَ وَإِذْ كَانُوا لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ فَالْإِنْكَارُ مُرَتَّبٌ عَلَى تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خَالِقُونَ.
وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ الْحَصْرِ الَّذِي طَرِيقُهُ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلرَّدِ عَلَيْهِمْ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْخَالِقُونَ لَا اللَّهَ، لِأَنَّهُمْ عَدُّوا مِنَ
ثُمَّ أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ فَامْتَنَعُوا وَتَنَادَوْا إِلَى الْحَرْبِ وَدَسَّ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ وَقَالَ: إِنْ قَاتَلَكُمُ الْمُسْلِمُونَ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ فَدَرَّبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ (أَيْ سَدُّوا مَنَافِذَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ لِيَكُونَ كُلُّ دَرْبٍ مِنْهَا صَالحا للمدافعة) وحصّونها، وَوَعَدَهُمْ أَنَّ مَعَهُ أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مَعَهُمْ قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ غَطَفَانَ مِنَ الْعَرَبِ فَحَاصَرَهُمْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَظَرُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ وَقُرَيْظَةَ وَغَطَفَانَ أَنْ يَقْدَمُوا إِلَيْهِمْ لِيَرُدُّوا عَنْهُمْ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْجِدُوهُمْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَطَلَبُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ فَأَبَى إِلَّا الْجَلَاءَ عَنْ دِيَارِهِمْ وَتَشَارَطُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا وَيَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ حِمْلَ بعير مِمَّا شاؤوا مِنْ مَتَاعِهِمْ، فَجَعَلُوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ لِيَحْمِلُوا مَعَهُمْ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْخَشَبِ وَالْأَبْوَابِ.
فَخَرَجُوا فَمِنْهُمْ مَنْ لَحِقَ بِخَيْبَرَ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ لَحِقُوا بِبِلَادِ الشَّامِ فِي مُدُنِ (أَرِيحَا) وَأَذْرِعَاتٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَخَرَجَ قَلِيلٌ مِنْهُمْ إِلَى الْحِيرَةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لَامُ التَّوْقِيتِ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَوَّلِ الزَّمَانِ الْمَجْعُولِ ظَرْفًا لِعَمَلٍ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: ٢٤] أَيْ مِنْ وَقْتِ حَيَاتِي. وَقَوْلُهُمْ: كَتَبَ لِيَوْمِ كَذَا. وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ). فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ عِنْدَ مَبْدَأِ الْحَشْرِ الْمُقَدَّرِ لَهُمْ، وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ جَمِيعِ دِيَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَمَرَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَشْرِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ.
وَالْحَشْرُ: جَمْعُ نَاسٍ فِي مَكَانٍ قَالَ تَعَالَى: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٣٦، ٣٧].
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: حَشْرُ يَهُودِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِلَى أَرْضٍ غَيْرِهَا، أَيْ جَمْعُهُمْ لِلْخُرُوجِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ الْجَلَاءَ إِذَا كَانَ الْجَلَاءُ لِجَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ تُجْمَعُ مِنْ مُتَفَرِّقِ دِيَارِ الْبِلَادِ.
وَهَذَا الْانْتِقَالُ تَضَمَّنَ وَعْدًا وَوَعِيدًا، بِإِضَافَةِ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ وَمُقَابَلَةِ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وَعُمُومُ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَعُمُومُ الْمُهْتَدِينَ يَجْعَلُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعَ كَوْنِهَا كَالدَّلِيلِ هِيَ أَيْضًا مِنَ التَّذْيِيلِ.
وَهُوَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: ٨].
[٨- ٩]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الْقَلَم: ٧] إِلَى آخِرِهَا، بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنه على الْهدى، وَأَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ فِي ضَلَالِ السَّبِيلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُشَادَّةَ مَعَهُمْ وَأَنْ لَا يَلِينَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ أَذَاهُمْ إِيَّاهُ آلَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَتَصَلُّبٍ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يَسْتَأْهِلُونَ بِهِ لِينًا وَلَكِنْ يَسْتَأْهِلُونَ إِغْلَاظًا.
رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْحَسَنِ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ تَحُومُ حَوْلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَدُّوا أَنْ يُمْسِكَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُجَاهَرَتِهِمْ بِالتَّضْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ فَيُمْسِكُوا عَنْ أَذَاهُ، وَيُصَانِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ إِجَابَتِهِمْ لِمَا وَدُّوا.
وَمَعْنَى وَدُّوا: أَحَبُّوا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَدُّوا ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَوَرَدَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَقَدَّمُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَرْضِ وَوَسَّطُوا فِي ذَلِكَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ وَعُتْبَةَ بْنَ ربيعَة.
فينتظم من هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ نَهْيٌ عَنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى شَيْءٍ عرضوه عَلَيْهِ عِنْد مَا قَرَّعَهُمْ بِأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَبِخَاصَّةٍ مِنْ وَقْعِ مَعْنَى التَّعْرِيضِ الْبَدِيعِ الْمَمْزُوجِ بِالْوَعِيدِ بِسُوءِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِلَى قَوْله:
بِالْمُهْتَدِينَ [الْقَلَم: ٥- ٧] فَلَعَلَّهُمْ تَحَدَّثُوا أَوْ أَوْعَزُوا إِلَى مَنْ يُخْبِرُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَارَحُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ إِنْ سَاءَهُ قَوْلُهُمْ فِيهِ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [الْقَلَم: ٥١] فَقَدْ
وَالْمُرَادُ: قُلُوبُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ الْبَعْثَ فَإِنَّهُمْ إِذَا قَامُوا فَعَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ حَقٌّ تَوَقَّعُوا مَا كَانَ يُحَذِّرُهُمْ مِنْهُ مِنْ عِقَابِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
فَأَمَّا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ فِيهَا اطْمِئْنَانًا مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي التَّقْوَى.
وَالْخَوْفُ يَوْمَئِذٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَنَّ أَشَدَّهُ خَوْفُ الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِسُوءِ الْمَصِيرِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَالْوَاجِفَةُ: الْمُضْطَرِبَةُ مِنَ الْخَوْفِ، يُقَال: وجف كضرف وَجْفًا وَوَجِيفًا، وَوُجُوفًا، إِذَا اضْطَرَبَ.
وواجِفَةٌ خَبَرُ قُلُوبٌ وَجُمْلَةُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ قُلُوبٌ وَقَدْ زَادَ الْمُرَادَ مِنَ الْوَجِيفِ بَيَانًا قَوْلُهُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ، أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ.
وَالْخُشُوعُ حَقِيقَتُهُ: الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَهُوَ هَيْئَةٌ لِلْإِنْسَانِ، وَوَصْفُ الْأَبْصَارِ بِهِ مَجَازٌ فِي الِانْخِفَاضِ وَالنَّظَرِ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ مِنْ شِدَّةِ الْهَلَعِ وَالْخَوْفِ مِنْ فَظِيعِ مَا تُشَاهِدُهُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ قَالَ تَعَالَى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [٧]. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [الْقِيَامَة: ٢٤].
وَإِضَافَةُ (أَبْصَارُ) إِلَى ضَمِيرِ الْقُلُوبِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ لِأَصْحَابِ الْقُلُوبِ وَكِلَاهُمَا مِنْ جَوَارِحِ الْأَجْسَادِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: ٤٦].
[١٠، ١١]
[سُورَة النازعات (٧٩) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١)
اسْتِئْنَافٌ إِمَّا ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ جُمْلَةِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ سَيَكُونُونَ أَصْحَابَ الْقُلُوبِ الْوَاجِفَةِ وَالْأَبْصَارِ الْخَاشِعَةِ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.
وَإِمَّا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْقَسَمَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ


الصفحة التالية
Icon