النَّاظِرِينَ. وَزَائِرًا بَيْنَ ضُبَاحِ الزَّائِرِينَ (١)، فَجَعَلْتُ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُبْدِيَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ نُكَتًا لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إِلَيْهَا، وَأَنْ أَقِفَ مَوْقِفَ الْحَكَمِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُفَسِّرِينَ تَارَةً لَهَا وَآوِنَةً عَلَيْهَا، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْحَدِيثِ الْمُعَادِ، تَعْطِيلٌ لِفَيْضِ الْقُرْآن الَّذِي مَاله مِنْ نَفَادٍ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَ كَلَامِ الْأَقْدَمِينَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ معتكف فِيمَا أشاده الْأَقْدَمُونَ، وَآخَرُ آخِذٌ بِمِعْوَلِهِ فِي هَدْمِ مَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْقُرُونُ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ ضرّ كثير، وَهنا لَك حَالَةٌ أُخْرَى يَنْجَبِرُ بِهَا الْجَنَاحُ الْكَسِيرُ، وَهِيَ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى مَا شاده الْأَقْدَمُونَ فَنُهَذِّبَهُ وَنَزِيدَهُ، وَحَاشَا أَنْ نَنْقُضَهُ أَوْ نُبِيدَهُ، عَالِمًا بِأَنَّ غَمْضَ فَضْلِهِمْ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ، وَجَحْدَ مَزَايَا سَلَفِهَا لَيْسَ مِنْ حَمِيدِ خِصَالِ الْأُمَّةِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ الْأَمَلَ، وَيَسَّرَ إِلَى هَذَا الْخَيْرِ وَدَلَّ.
وَالتَّفَاسِيرُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ الْكَثِيرَ مِنْهَا إِلَّا عَالَةً عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ بِحَيْثُ لَا حَظَّ لِمُؤَلِّفِهِ إِلَّا الْجَمْعُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ اخْتِصَارٍ وَتَطْوِيلٍ. وَإِنَّ أَهَمَّ التَّفَاسِيرِ تَفْسِير «الْكَشَّاف» و «الْمُحَرر الْوَجِيزُ» لِابْنِ عَطِيَّة و «مَفَاتِيح الْغَيْبِ» لِفَخْرِ الدَّين الرَّازِيّ، و «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيِّ» الْمُلَخَّصُ مِنَ «الْكَشَّافِ» وَمِنْ «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» بتحقيق بديع، و «تَفْسِير الشِّهَابِ الْأَلُوسِيِّ»، وَمَا كَتَبَهُ الطِّيبِيُّ والقزويني والقطب والتفتازانيّ عَلَى «الْكَشَّافِ»، وَمَا كَتَبَهُ الْخَفَاجِيُّ عَلَى «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ»، و «تَفْسِيرِ أبي السُّعُود»، و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» وَالْمَوْجُودُ مِنْ «تَفْسِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ» مِنْ تَقْيِيدِ تِلْمِيذِهِ الْأبيِّ وَهُوَ بِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا عَلَى «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّفْسِيرِ، لِذَلِكَ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ آي الْقُرْآن، و «تفاسير الْأَحْكَامِ، وَتَفْسِيرُ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ ابْن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ»، وَكِتَابُ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» الْمَنْسُوبُ لِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَرُبَّمَا يُنْسَبُ لِلرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ. وَلِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ أُعْرِضُ عَنِ الْعَزْوِ إِلَيْهَا، وَقَدْ مَيَّزْتُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِي مِنْ فَهْمٍ فِي مَعَانِي كِتَابِهِ وَمَا أَجْلِبُهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، مِمَّا لَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَإِنَّمَا حَسْبِي فِي ذَلِكَ عَدَمُ عُثُورِي عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ يَدِي مِنَ التَّفَاسِيرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ خَاصَّةً، وَلَسْتُ أَدَّعِي انْفِرَادِي بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَمْ مِنْ كَلَامٍ تُنْشِئُهُ، تَجِدُكَ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ مُتَكَلِّمٌ،
_________
(١) الزائرين هُنَا اسْم فَاعل من زأر بِهَمْزَة بعد الزَّاي، وَهُوَ الَّذِي مصدره الزئير، وَهُوَ صَوت الْأسد قَالَ عنترة:
حلّت بِأَرْض لزائرين فَأَصْبَحت | عسرا عليّ طلابك ابْنة مخرم |
إِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ | فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ |
إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي | عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ |
وَهَذَا إِعْلَامٌ بِأَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَعَدَمِ تَعْيِينِ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَفْضُولِ: ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اشْتَرَكُوا فِي صِفَةِ خَيْرٍ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بِمَا لِلْبَعْضِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى الصِّفَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ، وَفِي تَمْيِيزِ صِفَاتِ التَّفَاضُلِ غُمُوضٌ، وَتَطَرُّقٌ لِتَوَقُّعِ الْخَطَأِ وَعُرُوضٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسَهْلٍ عَلَى الْعُقُولِ الْمُعَرَّضَةِ لِلْغَفْلَةِ وَالْخَطَأِ. فَإِذَا كَانَ التَّفْضِيلُ قَدْ أَنْبَأَ بِهِ رَبُّ الْجَمِيعِ، وَمَنْ إِلَيْهِ التَّفْضِيلُ، فَلَيْسَ مِنْ قَدْرِ النّاس أَن يتصدّوا لِوَضْعِ الرُّسُلِ فِي مَرَاتِبِهِمْ، وَحَسْبُهُمُ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
وَهَذَا مَوْرِدُ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ»
يَعْنِي بِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّفْضِيلِ التَّفْصِيلِيِّ، بِخِلَافِ التَّفْضِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، كَمَا نَقُولُ: الرُّسُلُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ لِمَا تَظَاهَرَ مِنْ آيَاتِ تَفْضِيلِهِ وَتَفْضِيلِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَتَفْضِيلِ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَهِيَ مُتَقَارِنَةُ الدَّلَالَةِ تَنْصِيصًا وَظُهُورًا. إِلَّا أَنَّ كَثْرَتَهَا تُحَصِّلُ الْيَقِينَ بِمَجْمُوعِ مَعَانِيهَا عَمَلًا بِقَاعِدَةِ كَثْرَةُ الظَّوَاهِرِ تُفِيدُ الْقَطْعَ. وَأَعْظَمُهَا آيَةُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: ٨١] الْآيَةَ.
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ بِئْرَ حَاءٍ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي بِئْرُ حَاءٍ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَخٍ (١) ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ خِصَالَ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
فَالْبِرُّ هُوَ الْوَفَاءُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ فِي أَفْعَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: ٢] فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَعْمِيمُ أَنْوَاعِ الْإِنْفَاقِ، وَتَبْيِينُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُنْفِقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ نَفِيسًا بِحَسْبِ حَالِ صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [التَّوْبَة: ٧٩].
_________
(١) فِي رِوَايَة يحيى بن يحيى عَن مَالك فبخ بفاء قبل الْبَاء الْمُوَحدَة وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» بخ بِدُونِ الْفَاء.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إِذَا زَوَّجَهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ قُرْبَانُهَا، مَعَ كَوْنِهَا ذَاتَ زَوْجٍ. وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهَلْ يَطَؤُهَا، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ لَهُ: لَوِ اعْتَرَفْتَ لَجَعَلْتُكَ نَكَالًا.
وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ، فَ عَلَيْكُمْ نَائِبٌ مَنَابَ (الْزَمُوا)، وَهُوَ مُصَيَّرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِمْ: إِلَيْكَ، وَدُونَكَ، وَعَلَيْكَ. وكِتابَ اللَّهِ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ يُجْعَلُ مَنْصُوبًا بِ (عَلَيْكُمْ) مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، تَخْرِيجًا عَلَى تَأْوِيلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَول الراجز:
يَا أيّها الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَ | إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَ |
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] وَمَا بَعْدَهُ، وَبِذَلِكَ تَلْتَئِمُ
الْجُمَلُ الثَّلَاثُ فِي الْخَبَرِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَفِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَأُسْنِدَ التَّحْلِيلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ طَرِيقَةَ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَشَقَّةٌ فَلَيْسَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ مِنَّةٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَأُحِلَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ.
الْمَظْلُومِ فِي جَانِبِ ظَالِمِهِ وَمِنْهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»
أَيْ فَلِلْمَمْطُولِ أَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ مُمَاطِلٌ وَظَالِمٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»
. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً عَطْفٌ عَلَى لَا يُحِبُّ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ كُلِّهَا، عَلِيمٌ بِالْمَقَاصِدِ وَالْأُمُورِ كُلِّهَا، فَذَكَرَ «عَلِيمًا» بَعْدَ «سَمِيعًا» لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْعِلْمِ، تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَعْضِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ.
وَبَعْدَ أَنْ نَهَى وَرَخَّصَ، نَدَبَ الْمُرَخَّصَ لَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ وَقَوْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً، فَإِبْدَاءُ الْخَيْرِ إِظْهَارُهُ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ أَوْ تُخْفُوهُ لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ أَنْ لَا يَظُنُّوا أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى إِبْدَاءِ الْخَيْرِ خَاصَّةً، كَقَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة:
٢٧١]. وَالْعَفْوُ عَنِ السُّوءِ بِالصَّفْحِ وَتَرْكِ الْمُجَازَاةِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لَهُ، وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: يَعْفُ عَنْكُمْ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُ الْخَيْرَ جَهْرًا وَخُفْيَةً وَعَفَوْتُمْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْأَخْذِ بِحَقِّكُمْ، لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا يُعْتَبَرُ مَقْدُورًا لِلْمَأْذُونِ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ وَعْدٌ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ فِي بَعْضِ مَا يَقْتَرِفُونَهُ جَزَاءً عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَعَنِ الْعَفْوِ عَمَّنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا فَذَكَرَ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ تَكْمِلَةً لِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ اسْتِكْمَالًا لِمُوجِبَاتِ الْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا.
هَذَا مَا أَرَاهُ فِي مَعْنَى الْجَوَابِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جُمْلَةُ الْجَزَاءِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْعَفْوِ بِبَيَانِ أنّ فِيهِ تخلّفا بِالْكَمَالِ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَايَةُ الْكَمَالَاتِ. وَالتَّقْدِير: إِن تبدو خَيْرًا إِلَخْ تَكُونُوا مُتَخَلِّقِينَ بِصِفَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا قَوْلَهُ:
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ وَلَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ:
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى النَّصَارَى.
وَالْقِسِّيسُونَ جَمْعُ سَلَامَةٍ لِقِسِّيسٍ بِوَزْنِ سِجِينٍ. وَيُقَالُ قَسَّ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- وَهُوَ عَالِمُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ بِلُغَةِ الرُّومِ. وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْوِفَاقُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ.
وَالرُّهْبَانُ هُنَا جَمْعُ رَاهِبٍ، مِثْلُ رُكْبَانٍ جَمْعِ رَاكِبٍ، وَفُرْسَانٍ جَمْعِ فَارِسٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَقِيسٍ فِي وَصْفٍ عَلَى فَاعِلٍ. وَالرَّاهِبُ مِنَ النَّصَارَى الْمُنْقَطِعُ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلْعِبَادَةِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرُّهْبَانُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، فَمَنْ جَعَلَهُ وَاحِدًا جَمَعَهُ عَلَى رَهَابِينَ وَرَهَابِنَةٍ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَلَمْ يَحْكِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ أَنَّ رُهْبَانَ يَكُونُ مُفْرَدًا. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْوَاحِدِ فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ بِالْجَبَلِ | لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيَزِلُّ |
عَرَبِ الشَّامِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الرُّومِ، فَقَدْ عَرَفَهُمُ الْعَرَبُ بِالزُّهْدِ وَمُسَالَمَةِ النَّاسِ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ شُعَرَائِهِمْ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَوْ أَنَّهَا بَرَزَتْ لِأَشْمَطَ رَاهِبٍ | عَبَدَ الْإِلَهَ صَرُورَةٍ مُتَعَبِّدِ |
لَرَنَا لِطَلْعَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا | وَلَخَالَهُ رُشْدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ |
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ. فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعْرِيضٌ بِوَعْدِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَحُذِفَتِ الْبَاءُ مَعَ «أَنْ».
وَوَقَعَ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ: لِأَنَّ اسْم الْجَلالَة يوميء إِلَى مَقَامِ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مقَام لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]، ويومىء إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَا سَأَلُوا الْآيَاتِ إِلَّا لِتَوْجِيهِ بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ بِطَلَبِ الْآيَاتِ اسْتِهْزَاءً، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ- فِي نَظَرِهِمْ- مِنْ قَبِيلِ الْمُحَالِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا شَاءَ إِيمَانَهُمْ آمَنُوا، فَالْجَهْلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ. وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَقَدْ حَصَلَ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ عُقَلَاءَ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعًا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ: مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ
مَعَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ لَهُمْ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجَهْلِ ضِدَّ الْحِلْمِ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ، وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِإِخْرَاجِ قَلِيلٍ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْحِلْمِ فَإِنَّهُمْ يُرْجَى إِيمَانُهُمْ، لَوْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ.
فَضَمِيرُ يَجْهَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا مَحَالَةَ كَبَقِيَّةِ الضَّمَائِرِ الَّتِي قبله.
ظُهُورِ دَعْوَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهٌ بِأَصْحَابِهِ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَلَا أَحسب أَن تكون سُورَةَ الْأَعْرَافِ قَدْ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السُّورَ الطِّوَالَ يَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فِي أوّل الْبعْثَة. وَلم أَقف على هَاتين التّسميتين فِي كَلَام غَيره.
وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ الَّتِي جُعِلَتْ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ لِطُولِهَا وَهِيَ سُوَرُ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءِ، وَالْمَائِدَةِ، الْأَنْعَام، وَالْأَعْرَافِ، وَبَرَاءَةٍ، وَقُدِّمَ الْمَدَنِيُّ مِنْهَا وَهِيَ سُوَرُ:
الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءِ، وَالْمَائِدَةِ، ثُمَّ ذُكِرَ الْمَكِّيُّ وَهُوَ: الْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ اعْتِبَارًا بِأَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ بَعْدَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهِيَ
أَقْرَبُ إِلَى الْمَدَنِيِّ مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ص وَقَبْلَ سُورَةِ الْجِنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، قَالُوا جَعَلَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ عَقِبَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَجَعَلَ بَعْدَهَا سُورَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، وَوَقَعَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ الْأَنْعَامُ ثُمَّ الْأَعْرَافُ، وَسُورَةُ النِّسَاءِ هِيَ الَّتِي تَلِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الطُّولِ وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ تَلِي سُورَةَ النِّسَاءِ فِي الطُّولِ.
وَعَدُّ آيِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، وَمِائَتَانِ وَخَمْسٌ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» وَقيل مِائَتَان وَسبع.
أغراضها
افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَالْوَعْدِ بتيسيره على النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبْلُغَهُ وَكَانَ افْتِتَاحُهَا كَلَامًا جَامِعًا وَهُوَ مُنَاسِبٌ
الْمُفَسِّرِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَدَلِيلُ الْعِصْمَةِ مِنْ هَذَا هُوَ كَمَالُهُمْ، وَالدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْكَمَالِ قَبْلَ الْوَحْيِ يُعَدُّ نَقْصًا، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِ شُعَيْبٍ إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٩] فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَاهُ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ وَالتَّغْلِيبِ. وَكِلَاهُمَا مُصَحِّحٌ لِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَوْدِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَدْ
تَوَلَّى شُعَيْبٌ الْجَوَابَ عَمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَقِينِهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ.
وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٠].
وَفَصْلُ جُمْلَةِ: قالَ الْمَلَأُ لِوُقُوعِهَا فِي الْمُحَاوَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَة الْبَقَرَة [٣٠].
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩).
فَصْلُ جُمْلَةِ قالَ.. لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا الْمُؤْذِنِ مَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ بِأَنَّهُمْ يُكْرِهُونَهُمْ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ التَّعَجُّبُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ تَصْمِيمِهِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ أَحَاطَ خَبَرًا بِمَا أَرَادُوا مِنْ تَخْيِيرِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: الْإِخْرَاجُ أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، شَأْنَ الْخَصْمِ اللَّبِيبِ الَّذِي يَأْتِي فِي جَوَابِهِ بِمَا لَا يُغَادِرُ شَيْئًا مِمَّا أَرَادَهُ خَصْمُهُ فِي حِوَارِهِ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْرِيضٌ بِحَمَاقَةِ خُصُومِهِ إِذْ يُحَاوِلُونَ حَمْلَهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ المحقّ أَن يُشْرك لِلْحَقِّ سُلْطَانَهُ عَلَى النُّفُوسِ وَلَا يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا الضَّغْطِ وَالْإِكْرَاهِ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَة: ٢٥٦]. فَإِنَّ الْتِزَامَ الدِّينِ عَنْ إِكْرَاهٍ لَا يَأْتِي بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنَ التَّدَيُّنِ وَهُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَكْثِيرُ جُنْدِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحُ الْمَطْلُوبُ.
فِي دِيَارِهِمْ، إِذَا فَرُّوا عِنْدَ هُجُومِ الْجَيْشِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ. فَأَمَّا مَا يَظْفَرُ بِهِ الْجَيْشُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَزْوِ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَتْرُكُهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمَتَاعِ إِذَا أَخْلَوْا بِلَادَهُمْ قَبْلَ هُجُومِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الْفَيْءُ وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: ١] إلَخْ. فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلِ حَقٌّ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ. وَأَمَّا النَّفْلُ فَلَيْسَ حَقًّا مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِبَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، عَلَى مَا يَرَى مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا تَعْيِينَ لِمِقْدَارِ النَّفْلِ فِي الْخُمُسِ وَلَا حَدَّ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخُمُسِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الْجَارِي عَلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: النَّفْلُ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: النَّفْلُ مَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْخُمُسِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: أَنَّما اسْمٌ مَوْصُولٌ وَهُوَ اسْمُ (أَنَّ) وَكُتِبَتْ هَذِهِ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَةً بِ (أَنَّ) لِأَنَّ زَمَانَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِ الرَّسْمِ وَضَبْطِ الْفُرُوقِ فِيهِ بَيْنَ مَا يَتَشَابَهُ نُطْقُهُ وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ، فَالتَّفْرِقَةُ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ (مَا) الْكَافَّةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَنْضَبِطْ زَمَنَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ الْأُولَى، وَبَقِيَتْ كِتَابَةُ الْمَصَاحِفِ عَلَى مِثَالِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مُبَالَغَةً فِي احْتِرَامِ الْقُرْآنِ عَنِ التَّغْيِيرِ.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِعُمُومِ (مَا) لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ غَنِيمَةٌ مُعَيَّنَةٌ خَاصَّةٌ. وَالْفَاءُ فِي
قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، وَمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ بِتَأْوِيلِ: إِنْ غَنِمْتُمْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ إلَخْ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ بَعْدَ (أَنَّ) فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ. وَإِنَّمَا صِيغَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، مَعَ كَوْنِ مَعْنَى اللَّامِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ
مُعَادٍ
وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التَّوْبَة: ٩٠] فَإِنَّهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمُ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا بَعْدَ رُجُوعِ النَّاسِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ.
وإِذا هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقُفُولِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَجُعِلَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ عِنْدَ الرُّجُوعِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقْصِدُونَ بِأَعْذَارِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِيدُونَهَا مَعَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَالنَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْتَذِرُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّأْيِيسِ.
وَجُمْلَةُ: لَنْ نُؤْمِنَ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِذَارِ لِعَدَمِ جَدْوَى الِاعْتِذَارِ، يُقَالُ: آمَنَ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦١] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ تَصْدِيقِهِمْ، أَيْ قَدْ نَبَّأْنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ بِمَا يَقْتَضِي تَكْذِيبَكُمْ، فَالْإِبْهَامُ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ نَبَّأَنَا السَّادِّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْنِ تَعْوِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ يُبَيِّنُهُ.
ومِنْ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَوْ هِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَدْ نَبَّأْنَا اللَّهُ الْيَقِينَ مِنْ أَخْبَارِكُمْ.
وَجُمْلَةُ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا تَعْتَذِرُوا، أَيْ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِذَارِكُمْ فَإِنْ خَشِيتُمُ الْمُؤَاخَذَةَ فَاعْمَلُوا الْخَيْرَ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ إِنْ أَحْسَنْتُمْ فَالْمَقْصُودُ فَتْحُ بَابِ التَّوْبَةِ لَهُمْ، وَالتَّنْبِيهُ إِلَى الْمِكْنَةِ مِنِ اسْتِدْرَاكِ أَمْرِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا.
فَالْإِخْبَارُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَمَلَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى حَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ: تُمَكُّنُهُمْ مِنْ إِصْلَاحِ ظَاهِرِ
[٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٧]وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦]. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ عِلْمِ اللَّهِ وَتَعَلُّقَاتِ قُدْرَتِهِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ،
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَازَمُهُ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِسِعَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَجُمْلَةُ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا وَأَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ فِعْلِ (خَلَقَ) وَلَامِ التَّعْلِيلِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] الْمَسُوقَةِ مَسَاقَ الدَّلِيلِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَغَيْرُ رَشِيقٍ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ مَحْسُوسًا وَلَا مُتَقَرِّرًا لَدَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ هُوَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَبَعْضُهُ طَرَأَ عَلَيْهِ تَغْيِير بِخلق السَّمَوَات فَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِثْبَاتِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقَدْرَتِهِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [هود: ٦] إلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مخلوقا قبل السَّمَوَات وَكَانَ مُحِيطًا بِالْمَاءِ أَوْ حَاوِيًا لِلْمَاءِ. وَحَمْلُ الْعَرْشِ عَلَى أَنَّهُ ذَاتٌ مخلوقة فَوق السَّمَوَات هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَاءَ مَخْلُوق قبل السَّمَوَات وَالْأَرْضِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَكَيْفِيَّتُهُ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ مِمَّا لَا قِبَلَ لِلْأَفْهَامِ بِهِ إِذِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ تَقْرِيبٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَرْشِ مُلْكَ اللَّهِ وَحُكْمَهُ تَمْثِيلًا بِعَرْشِ السُّلْطَانِ، أَيْ كَانَ مُلْكُ اللَّهِ قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مُلْكًا عَلَى الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ خَلَقَ وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْبَلْوُ: الِابْتِلَاءُ، أَيِ اخْتِبَارُ شَيْءٍ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ بِأَحْوَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ ظُهُورِ آثَارٍ خَلْقِهِ
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٥]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)السِّينُ وَالتَّاءُ فِي أَسْتَخْلِصْهُ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلَهَا فِي اسْتَجَابَ وَاسْتَأْجَرَ. وَالْمَعْنَى أَجْعَلُهُ خَالِصًا لِنَفْسِي، أَيْ خَاصًّا بِي لَا يُشَارِكُنِي فِيهِ أَحَدٌ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِهِ وَالْعَمَلِ مَعَهُ. وَقَدْ دَلَّ الْمَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَقْرِيبَهُ مِنْهُ مَا ظَهَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَحُسْنِ خُلُقِهِ، وَنَزَاهَتِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَوْجَبَ اصْطِفَاءَهُ.
وَجُمْلَةُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَوْهُ بِهِ، أَي بِيُوسُف- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَحَضَرَ لَدَيْهِ وَكَلَّمَهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي كَلَّمَهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَلِكِ، فَالْمُكَلِّمُ هُوَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السّلام-. وَالْمَقْصُود من جملَة فَلَمَّا كَلَّمَهُ إِفَادَة أَن يُوسُف- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَّمَ
الْمَلِكَ كَلَامًا أَعْجَبَ الْمَلِكَ بِمَا فِيهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَأَدَبٍ. وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ جَوَابُ (لَمَّا). وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلِكُ لَا مَحَالَةَ.
وَالْمَكِينُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ مَكُنَ- بِضَمِّ الْكَافِ- إِذَا صَارَ ذَا مَكَانَةٍ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَكَانِ.
وَالْأَمِينُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَأْمُونٍ عَلَى شَيْءٍ، أَيْ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي حِفْظِهِ.
وَتَرَتُّبُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى تَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَّمَ الْمَلِكَ كَلَامَ حَكِيمٍ أَدِيبٍ فَلَمَّا رَأَى حُسْنَ مَنْطِقِهِ وَبَلَاغَةَ قَوْلِهِ وَأَصَالَةَ رَأْيِهِ رَآهُ أَهْلًا لِثِقَتِهِ وَتَقْرِيبِهِ مِنْهُ.
مَقَاصِدُ هَذِهِ السُّورَةِ
افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِيهَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى التَّنْوِيهِ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ.
وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِنَدَمٍ يَنْدَمُونَهُ عَلَى عَدَمِ إِسْلَامِهِمْ.
وَتَوْبِيخِهِمْ بِأَنَّهُمْ شَغَلَهُمْ عَنِ الْهُدَى انْغِمَاسُهُمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ.
وَإِنْذَارِهِمْ بِالْهَلَاكِ عِنْدَ حُلُولِ إِبَّانِ الْوَعِيدِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِ.
وَتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَمَا يَقُولُونَهُ فِي شَأْنِهِ وَمَا يَتَوَرَّكُونَ بِطَلَبِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ تِلْكَ عَادَةُ الْمُكَذِّبِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ.
وَأَنَّهُمْ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ لَوْ أُسْعِفُوا بِمَجِيءِ آيَاتٍ حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ حَافِظٌ كِتَابَهُ مِنْ كَيْدِهِمْ.
ثُمَّ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمَا فِيهِ مِنْ نِعَمٍ عَلَيْهِمْ.
وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَدَلَائِلِ إِمْكَانِهِ.
وَانْتَقَلَ إِلَى خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ.
وَقِصَّةِ كُفْرِ الشَّيْطَانِ.
ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ الْحِجْرِ.
وَخُتِمَتْ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِظَارِ سَاعَةِ النَّصْرِ، وَأَنْ يَصْفَحَ عَنِ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُ، وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْتَغِلَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ كَافِيهِ أَعْدَاءَهُ.
مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْإِدْمَاجِ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْجِنِّ، وَاسْتِرَاقِهِمُ السَّمْعَ، وَوَصْفِ أَحْوَالِ الْمُتَّقِينَ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الْعَذَاب.
وَذُكِرَ فِيهَا الْإِسْرَاءُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَنْوِيهًا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَتَذْكِيرًا بِحُرْمَتِهِ.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ الْقَصَصِ وَقَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ.
وَعُدَّتِ السُّورَةُ الْخَمْسِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ سُورَةِ الْقُرْآنِ.
وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَعَشْرٌ فِي عد أهل الْعدَد بِالْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالشَّامِ، وَالْبَصْرَةِ. وَمِائَةٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
أَغْرَاضُهَا
الْعِمَادُ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتُ نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ.
وَإِثْبَاتُ فَضْلِهِ وَفضل من أنزل عَلَيْهِ.
وَذِكْرُ أَنَّهُ مُعْجِزٌ.
وَرَدُّ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَفِيمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوهُ فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَإِبْطَالُ إِحَالَتِهِمْ أَن يكون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. فَافْتُتِحَتْ بِمُعْجِزَةِ الْإِسْرَاءِ تَوْطِئَةً لِلتَّنْظِيرِ بَيْنَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ الدِّينِيَّة، ورمزا إِلَيْهَا إِلَى أَنَّ اللَّهَ أعْطى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَضَائِلِ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى مَنْ قَبْلَهُ.
وَأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ الْفَضَائِلَ فَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا فَائِتٌ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَحَلَّهُ بِالْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي تَدَاوَلَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ يَسْتَأْثِرْهُمْ بِالْحُلُولِ
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٧٧]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧)نَظْمُ قَوْلِهِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها كَنَظْمِ نَظِيرَيْهِ السَّابِقَيْنِ.
وَالِاسْتِطْعَامُ: طَلَبُ الطَّعَامِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ اسْتَطْعَما أَهْلَها كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ (خَرَقَهَا) وَجُمْلَةِ (فَقَتَلَهُ)، فَهُوَ مُتَعَلِّقُ (إِذَا). وَإِظْهَارُ لَفْظِ أَهْلَها دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ بِأَنْ يُقَالَ:
اسْتَطْعَمَاهُمْ، لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ، تَشْنِيعًا بِهِمْ فِي لُؤْمِهِمْ، إِذْ أَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا. وَذَلِكَ لُؤْمٌ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ الْمُتَّبَعَةِ عِنْدَ النَّاسِ. وَيَقُومُ بِهَا مَنْ يُنْتَدَبُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ عَابِرُ السَّبِيلِ وَيَسْأَلُهُمُ الضِّيَافَةَ، أَوْ مَنْ أَعَدَّ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مِنْ كِرَامِ الْقَبِيلَةِ فَإِبَايَةُ أَهْلِ قَرْيَةٍ كُلِّهِمْ مِنَ الْإِضَافَةِ لُؤْمٌ لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الصَّفَدِيُّ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ سُؤَالًا عَنْ نُكْتَةِ هَذَا الْإِظْهَارِ فِي أَبْيَاتٍ. وَأَجَابَهُ السُّبْكِيُّ جَوَابًا طَوِيلًا نَثْرًا وَنَظْمًا بِمَا لَا يُقْنِعُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْآلُوسِيُّ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ طَلَبِ الطَّعَامِ لِعَابِرِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَرِدْ مَا يَنْسَخُهُ.
وَدَلَّ لَوْمُ مُوسَى الْخَضِرَ، عَلَى أَنْ لَمْ يَأْخُذْ أَجْرَ إِقَامَةِ الْحَائِطِ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُقَابَلَةَ حِرْمَانِهِمْ لِحَقِّ الضِّيَافَةِ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْجِدَارِ فِي قَرْيَتِهِمْ.
- وَالتَّحْذِيرُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ.
- وَالتَّذْكِيرُ بِأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ إِلَّا كَأَمْثَالِهِ مِنَ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَ إِلَّا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ.
- وَذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
- وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَشَأْنِ رَسُولِ الْإِسْلَامِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ.
- وَالتَّذْكِيرُ بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ وَأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لِلَّذِينَ كَذَّبُوا وَاقِعٌ لَا يَغُرُّهُمْ تَأْخِيرُهُ فَهُوَ جَاءٍ لَا مَحَالَةَ.
- وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِتَأْخِيرِهِ كَمَا اغْتَرَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى أَصَابَهُمْ بَغْتَةً، وَذَكَرَ
مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَتْحَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ.
- وَذَكَّرَهُمْ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ.
- وَمِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَيَنْتَصِرُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ.
- ثُمَّ مَا فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا النِّظَامُ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ.
- وَتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَنِ الْأَوْلَادِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
- وَمَا يُكْرِهُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يُرِيدُ.
- وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ صَائِرُونَ إِلَى الْفَنَاءِ.
وَإِلَى الِاعْتِبَارِ وَالِامْتِنَانِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَصْلُهَا الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الصُّنْعِ، وَمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنْهَا الْحَمْلُ.
وَمِنْ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ وَمَا أُوتِيَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ آلَاتِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ. وَوَرَدَ ذِكْرُ الْحَمْلِ عَلَى الْفُلْكِ فَكَانَ مِنْهُ تَخَلُّصٌ إِلَى بِعْثَةِ نُوحٍ وَحَدَثِ الطُّوفَانِ.
وَانْتَقَلَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَا تَلَقَّاهَا بِهِ أَقْوَامُهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالطَّعْنِ وَالتَّفَرُّقِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِقَابِ الْمُكَذِّبِينَ، وَتِلْكَ أَمْثَالٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوْا.
وَبِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ مُمَاثِلٌ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ وَكَلِمَتَهُمْ وَاحِدَةٌ فَهُمْ عُرْضَةٌ لِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ. وَقَدْ أَرَاهُمُ اللَّهُ مَخَائِلَ الْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنِ الْعِنَادِ فَأَصَرُّوا عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي عُقُولِهِمْ.
وَذُكِّرُوا بِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ إِذَا سُئِلُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُفْرَدٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَى مُقْتَضَى إِقْرَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ على الْكفْر عِنْد مَا يَحْضُرُهُمُ الْمَوْتُ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَبِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الرَّسُولَ وَخَبَرُوا صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَنُصْحَهُ الْمُجَرَّدَ عَنْ طَلَبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ إِلَّا ثَوَابَ اللَّهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِحَالٍ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرِّسَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.
وَخُتِمَتْ بِأَمْر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغُضَّ عَنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ وَيَدْفَعَهَا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَيَسْأَلَ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَلَاحُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَة.
[١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَعَلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ إِبْلَاغُهُ لَهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَهُ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ يَرَوْنَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ لَا بُشْرى. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِإِثَارَةِ الطَّمَعِ وَلِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَعْيِينِ إِبَّانِهِ حَتَّى إِذَا وَرَدَ مَا فِيهِ خَيْبَةُ طَمَعِهِمْ كَانَ لَهُ وَقْعُ الْكَآبَةِ عَلَى نُفُوسِهِمْ حِينَمَا يَسْمَعُونَهُ. وَإِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ تَأْكِيدٌ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْيَأْسِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ. وَانْتِفَاءُ الْبُشْرَى مُسْتَعْمَلٌ فِي إِثْبَاتِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْحُزْنُ.
وَ (حِجْرٌ) - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى النُّدْرَةِ- فَهِيَ
كَلِمَةٌ يَقُولُونَهَا عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُخَافُ مِنْ إِصَابَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَاذَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:
كَانَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى الرَّجُلَ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ يَقُولُ لَهُ: حِجْراً مَحْجُوراً، أَيْ حَرَامٌ قَتْلِي، وَهِيَ عُوذَةٌ.
وَ (حِجْرٌ) مَصْدَرُ: حَجَرَهُ، إِذَا مَنَعَهُ، قَالَ تَعَالَى وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨]، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَازِمُ النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمَنْصُوبِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مِثْلُ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَأَمَّا رَفْعُهُ فِي قَول الرّاجز:
قَالَت فِيهَا حَيْدَةٌ وَذُعْرُ | عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمُ وَحِجْرُ |
ومَحْجُوراً وَصَفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَذَيْلٌ ذَائِلٌ، وَشعر شَاعِر.
مَفْعُولُهُ الْمُطْلَقُ بَدَلًا عَنْهُ. وَعَدَلَ عَنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِلَى تَصْيِيرِهِ مُبْتَدَأً مَرْفُوعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالسَّلَامُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ يَقُولُهُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُلَاقِيهِ بِلَفْظِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكَ. وَمَعْنَاهُ سَلَامَةٌ وَأَمْنٌ ثَابِتٌ لَكَ لَا نُكُولَ فِيهِ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ (عَلَى) مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَكُّنُ كَمَا فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَأَصْلُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ هُوَ التَّأْمِينُ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِذْ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَلَاقَيْنِ إِحَنٌ أَوْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِغْرَاءٌ بِالْآخَرِ، فَكَانَ لَفْظُ (السَّلَامُ عَلَيْكَ) كَالْعَهْدِ بِالْأَمَانِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْمُفَاتَحَةُ بِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّلَطُّفِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَنِيَّةِ الْإِعَانَةِ وَالْقِرَى، شَاعَ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَنَحْوِهَا عِنْدَ قَصْدِ الْإِعْرَابِ عَنِ التَّلَطُّفِ وَالتَّكْرِيمِ وَتُنُوسِيَ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى بَذْلِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، فَصَارَ النَّاسُ يَتَقَاوَلُونَهَا فِي غَيْرِ مَظَانِّ الرِّيبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَشَاعَتْ فِي الْعَرَبِ فِي أَحْيَائِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ إِعْرَابٌ عَنْ إِضْمَارِ الْخَيْرِ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ بِالسَّلَامَةِ فِي حَيَاتِهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦١] وَصَارَ قَوْلُ: السَّلَامُ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ: حَيَّاكَ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوا كَلِمَةَ: (حَيَّاكَ اللَّهُ) بِمُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فَانْتَقَلَتْ كَلِمَةُ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) بِهَذَا إِلَى طَوْرٍ آخَرَ مِنْ أَطْوَارِ اسْتِعْمَالِهَا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ تَحِيَّةً لِلْبَشَرِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْآنُ السَّلَامَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى كَوْنِهِ مُعَامَلَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِكَرَامَةِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ لِلَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى إِذْ أَنْطَقَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ [مَرْيَم: ٣٣]. وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ عَنْ عِيسَى وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَم: ٣٣]، وَقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي ابْتِدَاءِ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِقَدْرِ مَا يُسْمَحُ بِهِ رَجَاءُ الِاهْتِدَاءِ مِنْ طَرِيقِ اللِّينِ، فَإِنْ هُمْ قَابَلُوا الْحُسْنَى بِضِدِّهَا انْتَقَلَ الْحُكْمُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. والَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَابَرُوا وَأَظْهَرُوا الْعَدَاءَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَوْا أَنْ يَتَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ فَهَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمَيْنِ حَسَدًا وَبُغْضًا عَلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ، وَجَعَلُوا يَكِيدُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشَأَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَكُلُّ هَذَا ظُلْمٌ وَاعْتِدَاءٌ.
وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ قَبْلَ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسَالِمِينَ الْإِسْلَامَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ
كَمَا قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟
فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ»
. فَلَمَّا جَاءَ الْمَدِينَةَ دَعَاهُمْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ فِيهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَأَخَذُوا مِنْ يَوْمِئِذٍ يَتَنَكَّرُونَ لِلْإِسْلَامِ.
وَعَطْفُ وَقُولُوا آمَنَّا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَعْلِيمٌ لِمُقَدِّمَةِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَهَذَا مِمَّا يُسَمَّى تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَتَقْرِيبُ شُقَّةِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ تَأْصِيلُ طُرُقِ الْإِلْزَامِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى كَذَا وَكَذَا فَلْنَحْتَجَّ عَلَى مَا عَدَا ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا أُمِرُوا بِقَوْلِهِ هُنَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبِيلَ إِلَى الْوِفَاقِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْمُجَادَلَةِ لِأَنَّ الْمُجَادَلَةَ تَقَعُ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ وَلِأَنَّ مَا أُمِرُوا بِقَوْلِهِ هُنَا هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُجَادَلَةُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّا يُخَالِفُ عَقَائِدَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. [آل عمرَان: ٦٥- ٦٧]. وَلِأَجْلِ أَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمُجَادَلَةِ عُطِفَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا
شَمِلَتْهُ الْمُجَادَلَةُ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا فَصْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ.
وَمَعْنَى بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا الْقُرْآنُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَأِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ جَحَدُوا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، قَالَ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٧] فَإِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ دَلَّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ.
وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ هُنَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِثْلُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: ٩٥]، فَلَوْلَا قَصْدُ التَّفْضِيلِ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَجْدٌ وَلَا لِسَبَبِ نُزُولِهَا دَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٥]. فَالْمَعْنَى: أَنْتُنَّ أَفْضَلُ النِّسَاءِ، وَظَاهِرُهُ تَفْضِيلٌ لِجُمْلَتِهِنَّ عَلَى نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُنَّ اتَّصَلْنَ بِالنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام اتِّصَالًا أقرب مِنْ كُلِّ اتِّصَالٍ وَصِرْنَ أنيساته ملازمات شؤونه فَيَخْتَصِصْنَ بِاطِّلَاعِ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ أَحْوَالِهِ وَخُلُقِهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَيَتَخَلَّقْنَ بِخُلُقِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْتَبِسُ مِنْهُ غَيْرُهُنَّ، وَلَأَنَّ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِنَّ إِقْبَالٌ خَاصٌّ، أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حبّب إِلَيْكُم مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ»
، وَقَالَ تَعَالَى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النُّور: ٢٦]. ثُمَّ إِنَّ نِسَاءَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يتفاضلن بَينهُنَّ.
وَالتَّقْيِيد بِقَوْلِهِ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ لَيْسَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ إلهاب وتحريض على الِازْدِيَادِ مِنَ التَّقْوَى، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَفْصَةَ: «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ- يَعْنِي أَخَاهَا- رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يقوم من اللَّيْل»
، فَلَمَّا أَبْلَغَتْ حَفْصَةُ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر لم يَتْرُكْ قِيَامَ اللَّيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِيَامِ.
وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ إِنْ دُمْتُنَّ عَلَى التَّقْوَى فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّقِيَاتٌ مِنْ قَبْلُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ تَفْضِيلُ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَبَيْنَ بَنَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلِاخْتِلَافِ جِهَاتِ أُصُولِ التَّفْضِيلِ الدِّينِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ ضَبْطُهَا بِضَوَابِطَ.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء [١٥]، فَكَانَ هَذَا الْإِيجَازُ فِي الْآيَةِ بَدِيعًا لِحُصُولِ مَعْنَى بَيْتِ لَبِيَدٍ فِي ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى حَدَثٍ عَظِيمٍ حَدَثَ بِأَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ عَقِبَ دَعْوَةِ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ كَرَامَةٌ لِشُهَدَاءِ أَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ كَانَتِ الصَّيْحَةُ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودٍ كَانَ الَّذِينَ خَمَدُوا بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا كُلُّهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الرَّجُلِ الَّذِي وَعَظَهُمْ وَبَعْدَ مُغَادَرَةِ الرُّسُلِ الْقَرْيَةَ. وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْحَادِثِ لَمْ يَذْكُرِ التَّارِيخُ حُدُوثَهُ فِي أَنْطَاكِيَةَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُهْمِلَ
التَّارِيخُ بَعْضَ الْحَوَادِثِ وَخَاصَّةً فِي أَزْمِنَةِ الِاضْطِرَاب والفتنة.
[٣٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٠]
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠)
تَذْيِيلٌ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقِعٌ مَوْقِعَ الرَّثَاءِ لِلْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الرُّسُلَ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ الْمَقْصُودَةِ بِسَوْقِ الْأَمْثَالِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَاطِّرَادِ هَذَا السَنَنِ الْقَبِيحِ فِيهِمْ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِبادِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ ادِّعَائِيٌّ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْأَغْلَبِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي يَأْتِيهَا رَسُولٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِقِلَّةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ وَنَصَرُوهُمْ فَكَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا.
والْعِبادِ: اسْمٌ لِلْبَشَرِ وَهُوَ جَمْعُ عَبْدٍ. وَالْعَبْدُ: الْمَمْلُوكُ وَجَمِيعُ النَّاسِ عَبِيدُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى: رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: ١١]، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَبْنَاءَ:
أَمْسَى الْعِبَادُ بِشَرٍّ لَا غِيَاثَ لَهُمْ | إِلَّا الْمُهَلَّبُ بَعْدَ اللَّهِ وَالْمَطَرُ |
وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ مَشُوبًا بِتَلَهُّفٍ عَلَى نَفْعٍ فَائِتٍ.
عَلَى الْغَالِبِ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَهِيَ طَرِيقَةُ إِرْخَاءِ الْعَنَانِ لِلْمُقَرَّرِ بِحَيْثُ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْإِنْكَارِ عِلْمًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَسَعُهُ الْإِنْكَارُ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقِرَّ بِالْإِثْبَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ النَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَصْمِيمُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْقُرْآنِ.
وَالْكَافِرُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَأَثْبَتُوا لَهُ الشُّرَكَاءَ أَوْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بَعْدَ ظُهُورِ دَلَالَةِ صِدْقِهِمْ، وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكَافِرِينَ) لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمِلَ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ شُمُولًا أَوَّلِيًّا. وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُفِيدَةً لِلتَّذْيِيلِ أَيْضًا، وَيَكُونُ اقْتِضَاءُ مَصِيرِ الْكَافِرِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِلَى النَّارِ ثَابِتًا بِشِبْهِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَعُمُّ مَصِيرَ جَمِيعِ الْجِنْسِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَصْنَافِهِ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَالْمَثْوَى: اسْمُ مَكَانِ الثُّوَاءِ، وَهُوَ الْقَرَارُ، فالمثوى الْمقر.
[٣٣- ٣٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالصِّدْقُ: الْقُرْآنُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [الزمر: ٣٢].
وَجُمْلَةُ وَصَدَّقَ بِهِ صِلَةُ مَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الَّذِي صَدَّقَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ فَالْعَطْفُ عَطْفُ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةِ صِلَةٍ.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨).
عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ إِبْطَالَ شُبْهَتِهِمْ بِأَنَّ عَدَمَ بَيَانِ وَقْتِهَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِهَا، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَظَائِرَ لِوَقْتِ السَّاعَةِ مِمَّا هُوَ جَارٍ فِي الدُّنْيَا دَوْمًا عَادَ الْكَلَامُ إِلَى شَأْنِ السَّاعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْذَارِ مُقْتَضِيًا إِثْبَاتَ وُقُوعِ السَّاعَةِ بِذِكْرِ بَعْضِ مَا يَلْقَوْنَهُ فِي يَوْمِهَا.
ويَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ شَائِعٍ حَذْفُهُ فِي الْقُرْآنِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي (يُنَادِي) عَائِدٌ إِلَى رَبُّكَ فِي قَوْلِهِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
٤٦]، وَالنِّدَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِطَابِ الْعَلَنِيِّ كَقَوْلِهِ: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الْحَدِيد: ١٤].
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النِّدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٣]، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٣].
وَجُمْلَةُ أَيْنَ شُرَكائِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: ٧٤] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٦٥]. وَحَذْفُ الْقَوْلِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ يُنادِيهِمْ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُعْلَنِ بِهِ. وَجَاءَتْ جُمْلَةُ قالُوا آذَنَّاكَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠].
وآذَنَّاكَ أَخْبَرْنَاكَ وَأَعْلَمْنَاكَ. وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ مُشْتَقٌّ مِنْ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْأُذْنُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ وَقَالَ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٩]، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَالْعِبْرَةُ بِضَلَالِهِمْ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَأَهْلَكَ أُمَمًا أُخْرَى فَجَعَلَهُمْ عِظَةً لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَرْبَابُهُمُ الْمَكْذُوبَةُ.
وَقَدْ أَشْبَهَتْ كَثِيرًا مِنْ أَغْرَاضِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ مَعَ تفنّن.
[١]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١)تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ غَافِرٍ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِثْلُ نَظَائِرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ مِنْ سور الْقُرْآن.
[٢]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أول الجاثية.
[٣]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣]
مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)
لَمَّا كَانَ مِنْ أَهَمِّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِتَوَقُّفِ حُصُولِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا، جُعِلَ قَوْلُهُ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ [الْأَحْقَاف: ٢] تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَجُعِلَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ، وَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إِلَّا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، وَتَقْتَضِي مُلَابَسَتُهُ لِلْحَقِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلْقًا عَبَثًا بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَعْقُبُهُ جَزَاءٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمَخْلُوقُونَ. وَاسْتِثْنَاءُ بِالْحَقِّ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، أَي مَا خلقنَا هما إِلَّا فِي حَالَةِ الْمُصَاحَبَةِ لِلْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُقَدَّرِ فِي مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِ
وَالْمُسْرِفُونَ: الْمُفْرِطُونَ فِي الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ بَكُفْرِهِمْ وَشُيُوعِ الْفَاحِشَةِ فِيهِمْ، فَالْمُسْرِفُونَ: الْقَوْمُ الْمُجْرِمُونَ، عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الْوَصْفِ الظَّاهِرِ، لِتَسْجِيلِ إِفْرَاطِهِمْ فِي الإجرام.
[٣٥- ٣٧]
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٧]
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ بَلْ هِيَ تَذْيِيلٌ لِقِصَّةِ مُحَاوَرَةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْفَاءُ فِي فَأَخْرَجْنا فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ هُودٍ مِنْ مَجِيءِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى لُوطٍ وَمَا حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَحَلُّوا بِقَرْيَةِ لُوطٍ فَأَمَرْنَاهُمْ بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْرَجُوهُمْ. وَضَمِيرُ «أَخْرَجْنَا» ضَمِيرُ عَظَمَةِ الْجَلَالَةِ.
وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لُوطًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِينَ وَنَجَاتَهُمْ إِذْ أَخَّرَ نُزُولَ الْحِجَارَةِ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ لُوطٌ وَأَهْلُهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ.
وَعبر عَنْهُم ب الْمُؤْمِنِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ، أَيْ إِيمَانُهُمْ بلوط. وَالتَّعْبِير عَنهُ ب الْمُسْلِمِينَ لأَنهم آل نبيء وَإِيمَانُ الْأَنْبِيَاءِ إِسْلَامٌ قَالَ تَعَالَى:
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢].
وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْقَرْيَةِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الْفرْقَان: ٤٠].
وَتَفْرِيعُ فَما وَجَدْنا تَفْرِيعُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَفِعْلُ وَجَدْنا مَعْنَى عَلِمْنَا لِأَنَّ (وَجَدَ) مِنْ أَخَوَاتِ (ظَنَّ) فَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ (مِنَ) مَزِيدَةٌ لَتِأْكِيدِ النَّفْيِ وَقَوْلُهُ: فِيها فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي.
(١)
افْتُتِحَتْ آيَاتُ أَحْكَامِ الظِّهَارِ بِذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِهَا تَنْوِيهًا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي وَجَّهَتْ شَكْوَاهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا لَمْ تُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْعَدْلِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ بَنِيهَا. وَلَمْ تَرْضَ بِعُنْجُهِيَّةِ زَوْجِهَا وَابْتِدَارِهِ إِلَى مَا يَنْثُرُ عِقْدَ عَائِلَتِهِ دُونَ تَبَصُّرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَتَعْلِيمًا لِنِسَاءِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرِجَالِهَا وَاجِبَ الذَّوْدِ عَنْ مَصَالِحِهَا.
تِلْكَ هِيَ قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ خَوْلَةَ أَوْ خُوَيْلَةَ مُصَغَّرًا أَوْ جَمِيلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَوْ بِنْتِ دُلَيْجٍ (مُصَغَّرًا) الْعَوْفِيَّةِ. وَرُبَّمَا قَالُوا: الْخَزْرَجِيَّةُ، وَهِيَ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْ بُطُونِ الْأَنْصَارِ مَعَ زَوْجِهَا أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ الْخَزْرَجِيِّ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ حُدُوثِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا رَآهَا وَهِيَ تُصَلِّي وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ، فَلَمَّا سَلَّمَتْ أَرَادَهَا فَأَبَتْ فَغَضِبَ وَكَانَ قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْرِيمًا لِلْمَرْأَةِ مُؤَبَّدًا (أَيْ وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَدِينَةِ بِعِلْمٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارِهِ النَّاسَ عَلَيْهِ فَاسْتَقَرَّ مَشْرُوعًا) فَجَاءَتْ خَوْلَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَت للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتَهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتَهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي فِي أَمْرِكِ شَيْءٌ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا. وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَقَالَ:
«حُرِّمْتِ عَلَيْهِ». فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَجْدِي. كُلَّمَا قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُرِّمْتِ عَلَيْهِ» هَتَفَتْ وَشَكَتْ إِلَى اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ
. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ دَاوُدُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مُجْمَلًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ قِصَّتِهِ فَمِنْ رِوَايَاتِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَكُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُجَادِلَةَ خَوْلَةُ أَوْ خُوَيْلَةُ أَوْ جَمِيلَةُ، وَعَلَى أَنَّ زَوْجَهَا أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا فِي الظِّهَارِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى مَنْسُوبَةٍ إِلَى سَلَمَةَ بْنِ
وَذَكَرَ الْفَخْرُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُسَمِّيهَا «الْمُجَادَلَةَ» لِأَنَّهَا تُجَادِلُ عَنْ قَارِئِهَا عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِ الْفَخْرِ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ سُمِّيَتْ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ: بِاتِفَّاقِ الْجَمِيعِ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَخْرَجَ جُوَيْبِرٌ (١) فِي «تَفْسِيرِهِ» «عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ
تَبَارَكَ الْمُلْكُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ اهـ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّحَّاكَ عَنَى اسْتِثْنَاءَ ثَلَاثِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِخْرَاجُ صَاحِبِ «الْإِتْقَانِ» هَذَا النَّقْلَ فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي بَعْضِ آيَاتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَهُوَ لَمْ يُعَيِّنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ وَلَيْسَ فِي آيَاتِ السُّورَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً بَلْ نَجِدُ الْخَمْسَ الْآيَاتِ الْأَوَائِلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابَ السَّعِيرِ [الْملك: ٥].
وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَيْضًا «فِيهَا قَوْلٌ غَرِيبٌ (لَمْ يَعْزُهُ) أَنَّ جَمِيعَ السُّورَةِ مَدَنِيٌّ». وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَاقَّةِ.
وَآيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْحِجَازِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَفِي عَدِّ غَيْرِهِمْ ثَلَاثُونَ.
أَغْرَاضُ السُّورَةِ
وَالْأَغْرَاضُ الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ الْأَغْرَاضِ فِي السُّور المكية.
ابتدئت بِتَعْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَانِيَ مِنَ الْعِلْمِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفَرُّدَهُ بِالْمُلْكِ الْحَقِّ وَالنَّظَرَ فِي إِتْقَانِ صُنْعِهِ الدَّالِّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَبِذَلِكَ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ حَظٌّ لِعِظَةِ الْمُشْرِكِيَن.
_________
(١) كتب فِي نُسْخَة مخطوطة جُوَيْبِر بِصِيغَة تَصْغِير جَابر وَالَّذِي فِي المطبوعة جُبَير بِصِيغَة تَصْغِير جبر تَرْجمهُ فِي طَبَقَات الْمُفَسّرين فِي اسْم جُبَير بن غَالب يكنى أَبَا فراس كَانَ فَقِيها شَاعِرًا خَطِيبًا فصيحا، لَهُ كتاب «أَحْكَام الْقُرْآن». وَكتاب «السّنَن وَالْأَحْكَام». و «الْجَامِع الْكَبِير» فِي الْفِقْه، وَله رِسَالَة كتب بهَا إِلَى مَالك بن أنس، ذكره ابْن النديم وعدّه من الشراة من الْخَوَارِج. [.....]
وَلَفْظُ عَمَّ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا حَرْفُ (عَنْ) الْجَارُّ وَ (مَا) الَّتِي هِيَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيُّ وَيَتَعَلَّقُ عَمَّ بِفِعْلِ يَتَساءَلُونَ فَهَذَا مُرَكَّبٌ. وَأَصْلُ تَرْتِيبِهِ: يَتَسَاءَلُونَ عَنْ مَا، فَقُدِّمَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْمُسْتَفْهَمِ بِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ
اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ الْفِعْلُ إِلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَانَ الْحَرْفُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ مَجْرُورِهِ قُدِّمَا مَعًا فَصَارَ عَمَّا يَتَسَاءَلُونَ.
وَقَدْ جَرَى الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ عَلَى أَنَّ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ يُحْذَفُ الْأَلِفُ الْمَخْتُومَةُ هِيَ بِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى اسْتِعْمَالُ نُطْقِهِمْ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ جَرَوْا عَلَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ فِي النُّطْقِ فَكَتَبُوا (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةَ بِدُونِ أَلِفٍ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النازعات: ٤٣] فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: ٥٤] لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣] عَمَّ يَتَساءَلُونَ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٥] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْهَا أَحَدٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ إِلَّا فِي الشَّاذِّ.
وَلَمَّا بَقِيَتْ كَلِمَةُ (مَا) بَعْدَ حَذْفِ أَلِفِهَا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ جَرَوْا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّ مِيمَهَا الْبَاقِيَةَ تُكْتَبُ مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ (عَنْ) لِأَنَّ (مَا) لَمَّا حُذِفَ أَلِفُهَا بَقِيَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ حُرُوفَ التَّهَجِّي، فَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي قَبْلَ (مَا) مَخْتُومًا بِنُونٍ وَالْتَقَتِ النُّونُ مَعَ مِيمِ (مَا)، وَالْعَرَبُ يَنْطِقُونَ بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِيمٌ مِيمًا وَيُدْغِمُونَهَا فِيهَا، فَلَمَّا حُذِفَتِ النُّونُ فِي النُّطْقِ جَرَى رَسْمُهُمْ عَلَى كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفَةَ النُّونِ تَبَعًا لِلنُّطْقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّ خُلِقَ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَسَنٌ.
وَالتَّسَاؤُلُ: تَفَاعُلٌ وَحَقِيقَةُ صِيغَةِ التَّفَاعُلِ تُفِيدُ صُدُورَ مَعْنَى الْمَادَّةِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا مِنَ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَصُدُورَ مِثْلِهِ مِنَ الْمَفْعُولِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَتَرِدُ كَثِيرًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ وُقُوعِ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: سَاءَلَ، بِمَعْنَى: سَأَلَ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أُسَائِلُ عَنْ سُعْدَى وَقَدْ مَرَّ بَعْدَنَا | عَلَى عَرَصَاتِ الدَّارِ سَبْعٌ كَوَامِلُ |
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ | سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُِِ |