قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٢، ٣] وَقَالَ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السَّجْدَة: ٢].
وَأَمَّا الْكِتَابُ فَأَصْلُهُ اسْمُ جِنْسٍ مُطْلَقٌ وَمَعْهُودٌ. وَبِاعْتِبَارِ عَهْدِهِ أُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢]، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْف: ١] وَإِنَّمَا سُمِّيَ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ جَامِعًا لِلشَّرِيعَةِ فَأَشْبَهَ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ بِهَا، وَأَشْبَهَ الْإِنْجِيلَ الَّذِي لَمْ يُكْتَبْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ وَلَكِنَّهُ كَتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وأصحابهم، وَأَن اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَتَلَقَّوْهُ بِحِفْظِ قُلُوبِهِمْ. وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مُعْجِزَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ سَيُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الْأَنْعَام: ٩٢]، وَقَالَ: وَهذا ذِكْرٌ (١) مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥٠] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَمن أَوَّلِ مَا ابْتُدِئَ نُزُولُهُ، وَمِنْ أَوَّلِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَدْ وُجِدَ جَمِيعُ مَا حَفِظَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى قَدْرِ مَا وَجَدُوهُ مَكْتُوبًا يَوْمَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ.
وَأَمَّا الذِّكْرُ فَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: ٤٤] أَيْ لِتُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
وَأَمَّا الْوَحْيُ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الْأَنْبِيَاء: ٤٥] وَوَجْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ أُلْقِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَذَلِكَ الْإِلْقَاءُ يُسَمَّى وَحْيًا لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَالْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْ مُرَادِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيفُ تَرَاكِيبِهِ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٦].
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَمَرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتِهِ كَتَبُوهُ عَلَى الْوَرَقِ فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ: الْتَمِسُوا اسْمًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ سُمُّوهُ إِنْجِيلًا فَكَرِهُوا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى،
_________
(١) فِي المطبوعة (كتاب).
قَالَ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة:
١٠٥] الْآيَةَ وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَة: ١١٨] فَلَمَّا اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ بِبَيَانِ لَعْنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ عُقُوبَةِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا فَالْقَوْلُ فِي الِاسْتِئْنَافِ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [الْبَقَرَة: ١٥٩] مِنْ كَوْنِهِ بَيَانِيًّا أَوْ مُجَرَّدًا.
وَقَالَ الْفَخْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ وَهُوَ شَامِلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُمُونَ وَغَيْرِهِمْ وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ أَيْ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْمِيمِ الْحُكْمِ بَعْدَ إِنَاطَتِهِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْمُرَادَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خُصُوصَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ (١) وَمَاتُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ ذَكَرَ لَعْنَتَهُمْ أَحْيَاءً ثُمَّ لَعَنْتَهُمْ أَمْوَاتًا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ إِعَادَةَ وَكَفَرُوا لَا نُكْتَةَ لَهَا لِلِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ يُقَالَ وَالَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، عَلَى أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَفَادُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَعَ اسْتِثْنَائِهَا، وَاللَّعْنَةُ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا معنى لجعلهما لَعْنَتَيْنِ، وَلِأَنَّ تَعْقِيبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَة: ١٦٣] يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْمُشْرِكُونَ لِتَظْهَرَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ.
وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَلْعَنُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَسَائِرُ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُوَحِّدِينَ لِلْخَالِقِ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّمَا يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعُمُومُ (النَّاسِ) عُرْفِيٌّ أَيِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
وَقَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها تَصْرِيحٌ بِلَازِمِ اللَّعْنَةِ الدَّائِمَةِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِجَهَنَّمَ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُقَامِ مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢]، كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَة: ٢٦]، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّعْنَةِ وَيُرَادَ أَثَرُهَا وَلَازِمُهَا.
وَقَوْلُهُ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أَيْ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ عَظِيمٌ يَصُدَّهُمْ عَنْ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ كُفْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
والإنظار الْإِمْهَال، نطره نَظَرَهُ أَمْهَلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ وَلَا هُمْ يُمْهَلُونَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ إِذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ دُونَ الْجِزْيَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٥، ١٦] وَهِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ.
_________
(١) يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى السَّابِق: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ [الْبَقَرَة: ١٥٩].
وَتَقْدِيم وَأَنْتُمْ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي وَزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ، وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ.
وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَاتِهِ الْأَحْكَامُ جُمَلًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَمْ تُجْعَلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً مُقَيَّدَةً فَائِدَتُهَا بِقُيُودِ جَمِيعِ الْجُمَلِ وَأُعِيدَ لَفْظُ الْإِنْفَاقِ فِي جَمِيعِهَا بِصِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ تَكْرِيرًا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، لِتَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةً بِمَعْنَاهَا قَصِيرَةَ الْأَلْفَاظِ كَثِيرَةَ الْمَعَانِي، فَتَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَتَتَنَاقَلُهَا الْأَجْيَالُ.
وَقَدْ أُخِذَ مِنَ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ- عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ- جَوَازُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالْمرَاد الكفّار الَّذِي يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْذِينَ لَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْجِيرَانُ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكَافِرِينَ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالْكَافِرُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ،
فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا. فَقَالَ: «فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ- أَعْنِي الزَّكَاةَ- لَا تُعْطَى لِلْكُفَّارِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهَا إِنَّمَا فُرِضَتْ لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْمُسْلِمِينَ وَمُوَاسَاتِهِمْ، فَهِيَ مَالُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُؤْخَذُ بِمَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ، فَفِيهِ غِنَى الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا يُعْطِيهِ الْمَرْءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَالْجُمْهُورُ أَلْحَقُوهَا بِالصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَلْحَقَهَا بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَأَجَازَ إعطاءها إِلَى الْكَافِر. وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ زَكَاةِ الْفِطْرِ كَانَ أَشْبَهَ، فَإِنَّ الْعِيدَ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّهُ رَآهَا صَدَقَةَ شُكْرٍ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيَامِ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ فِيهَا حَالَ الْمُتَصَدِّقِ لَا حَالَ المتصدّق عَلَيْهِ. وَقَوله الْجُمْهُورِ أَصَحُّ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا لِكِفَايَةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي يَوْمِ عِيدِهِمْ وَلِيَكُونُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْسَعَ حَالًا مِنْهُمْ فِي سَائِرِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِي فُقَرَاء الْكَافرين.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالتَّقْرِيرِيُّ يَكْثُرُ أَنْ يُورَدَ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٣].
وَإِنَّمَا جِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الَّذِي يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِقِلَّتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَشَوْكَتِهِ، كَالْآيِسِينَ مِنْ كِفَايَةِ هَذَا الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ تَلْقِينًا لِمَنْ يُخَالِجُ نَفْسَهُ الْيَأْسُ مِنْ كِفَايَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بِأَنْ يُصَرِّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ لَازِمُهُ، وَهَذَا إِثْبَاتُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ كَافٍ.
وَلِأَجْلِ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ كَانَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: بَلى لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَسَعُ الْمُمَارَاةُ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٩]، فَكَانَ (بَلَى) إِبْطَالًا لِلنَّفْيِ، وَإِثْبَاتًا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَافِيًا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ جَاءَ- فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٩]- عِنْدَ ذِكْرِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِمَدَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَدَدُهُ أَلْفٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى خَمْسَةِ آلَافٍ.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الله وعدهم بِثَلَاثَة آلَاف ثمّ صيّرهم إِلَى خَمْسَة آلَاف. وَوجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ أنّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَطْمَعَهُمْ بِالزِّيَادَةِ بقوله: مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مُرْدَفِينَ بِعَدَدٍ آخَرَ، وَدَلَّ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا وَجِلِينَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الْعَدُوِّ،
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ»
أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ زِيَادَةَ تَثْبِيتِهِمْ ثُمَّ زَادَهُمْ أَلْفَيْنِ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَرَّ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَاهَدَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَعْضُهُمْ شَهِدَ آثَارَ قَتْلِهِمْ رِجَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ، فَعَدَاوَتُهُمْ، وَسُوءُ نَوَايَاهُمْ، لَيْسَا بِالْأَمْرِ الَّذِي يُسْتَهَانُ بِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ:
وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، أَيْ إِذَا كَانُوا مُضْمِرِينَ لَكُمُ السُّوءَ فَاللَّهُ وَلِيُّكُمْ يَهْدِيكُمْ وَيَتَوَلَّى أُمُورَكُمْ شَأْنُ الْوَلِيِّ مَعَ مَوْلَاهُ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: بِأَعْدائِكُمْ، أَيْ فَاللَّهُ يَنْصُرُكُمْ.
وَفِعْلُ (كَفى) فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً مُسْتَعْمَلٌ فِي تَقْوِيَةِ اتِّصَافِ فَاعِلِهِ بِوَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّمْيِيزُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، أَيْ أَنَّ فَاعِلَ (كَفى) أَجْدَرُ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَلِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا غَلَبَ فِي الْكَلَامِ إِدْخَالُ بَاءٍ عَلَى فَاعِلِ فِعْلِ كَفَى، وَهِيَ بَاءٌ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْكِفَايَةِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ إِبْهَامٌ يُشَوِّقُ السَّامِعَ إِلَى مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِهِ، فَيَأْتُونَ بِاسْمٍ يُمَيِّزُ نَوْعَ تِلْكَ النِّسْبَةِ لِيَتَمَكَّنَ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
وَقَدْ يَجِيءُ فَاعِلُ (كَفى) غَيْرَ مَجْرُورٍ بِالْبَاءِ، كَقَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحِسْحَاسِ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ الْبَاءَ هُنَا غَيْرَ زَائِدَةٍ وَقَالَ: ضُمِّنَ فِعْلُ كَفَى مَعْنَى اكْتَفِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَشَذَّتْ زِيَادَةُ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرُنَا | حُبُّ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا |
كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا أَنَّنِي رَجُلٌ | لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي |
وَلَا تُزَادُ الْبَاءُ فِي فَاعِلِ كَفى بِمَعْنَى أَجْزَأَ، وَلَا الَّتِي بِمَعْنَى وَقَى، فَرْقًا بَيْنَ اسْتِعْمَالِ كَفَى الْمَجَازِيِّ وَاسْتِعْمَالِهَا الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الِاكْتِفَاءِ بِذَاتِ الشَّيْءِ نَحْوَ:
كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ من المَال
الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، كَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. وَوَقَعَ فِي أَوَّلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [الْمَائِدَة: ١]. فَكَانَتْ طَالِعَتُهَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ سَبْعٌ فِي قَوْلِهِ:
وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ. وَما أَكَلَ السَّبُعُ... وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [الْمَائِدَة: ٣]، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ [الْمَائِدَة: ٤]، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَة: ٥]، وَتَمَامُ الطُّهُورِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٦]، (أَيْ إِتْمَامُ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
[الْمَائِدَة: ٣٨]. وَلَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ- إِلَى قَوْلِهِ- عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [الْمَائِدَة: ٩٥]، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [الْمَائِدَة:
١٠٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْمَائِدَة: ١٠٦] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ:
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٥٨] لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْأَذَانِ لِلصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. اه.
وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى تَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْمَأْكُولَاتِ، وَعَلَى حِفْظِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالنَّهْيِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ مِثْلِ الْأَزْلَامِ، وَفِيهَا شَرَائِعُ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَمْرُ بِالصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَحْكَامُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَأَحْكَامُ الْحِرَابَةِ، وتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْأَيْمَانُ وَكَفَّارَتُهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُصُولُ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْخَشْيَةُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، وَإِبْطَالُ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَذِكْرُ مَسَاوٍ مِنْ أَعْمَالِ الْيَهُودِ، وَإِنْصَافُ النَّصَارَى فِيمَا لَهُمْ مَنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُمْ أَرْجَى لِلْإِسْلَامِ وَذِكْرُ قَضِيَّةِ التِّيهِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمْرُ بِتَخَلُّقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُنَاقِضُ أَخْلَاقَ الضَّالِّينَ فِي تَحْرِيمِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِالْكَعْبَةِ وَفَضَائِلِهَا وَبَرَكَاتِهَا عَلَى النَّاسِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ أَوْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِبَرِ، وَالتَّذْكِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْرِيضُ
بِمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ نَبْذِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ. وَاسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ.
إِلَى السَّدَنَةِ لِيُطْعِمُوا مِنْ أَلْبَانِهَا أَبْنَاءَ السَّبِيلِ. وَكَانَتْ عَلَامَتُهَا أَنْ تُقْطَعَ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدَةِ فَقَارِ الظَّهْرِ، فَيُقَالُ لَهَا: صَرِيمٌ وَجَمْعُهُ صُرُمٌ، وَإِذَا وَلَدَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ كُلَّهُنَّ إِنَاثٌ مُتَتَابِعَةٌ سَيَّبُوهَا أَيْضًا فَهِيَ سَائِبَةٌ، وَمَا تَلِدُهُ السَّائِبَةُ يَكُونُ بَحِيرَةً فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهَا سَائِبَةً.
وَالْوَصِيلَةُ مِنَ الْغَنَمِ هِيَ الشَّاةُ تَلِدُ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى، فَتُسَمَّى الْأُمُّ وَصِيلَةً لِأَنَّهَا وَصَلَتْ أُنْثَى بِأُنْثَى، كَذَا فَسَّرَهَا مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الْوَصِيلَةُ هِيَ الْمُتَقَرَّبَ بِهَا، وَيَكُونُ تَسْلِيطُ نَفْيِ الْجَعْلِ عَلَيْهَا ظَاهِرًا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْوَصِيلَةُ أَنْ تَلِدَ الشَّاةُ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ أَوْ سَبْعَةً (عَلَى اخْتِلَافِ مُصْطَلَحِ الْقَبَائِلِ) فَالْأَخِيرُ إِذَا كَانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ لِبُيُوتِ الطَّوَاغِيتِ وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، أَيْ لِلطَّوَاغِيتِ، وَإِنْ أَتْأَمَتِ اسْتَحْيَوْهُمَا جَمِيعًا وَقَالُوا: وَصَلَتِ الْأُنْثَى أَخَاهَا فَمَنَعَتْهُ مِنَ الذَّبْحِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالْوَصِيلَةُ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ نَسْلِ الْغَنَمِ، وَهِيَ الَّتِي أَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِبَقِيَّةِ أَحْوَالِ الشَّاةِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَصِيلَةَ اسْمٌ لِلشَّاةِ الَّتِي وَصَلَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ إِنَاثًا، جَمْعًا بَيْنَ تَفْسِيرِ مَالِكٍ
وَتَفْسِيرِ غَيْرِهِ، فَالشَّاةُ تُسَيَّبُ لِلطَّوَاغِيتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهَا أَوِ ابْنَتِهَا هُوَ مِنْ فُرُوعِ اسْتِحْقَاقِ تَسْيِيبِهَا لِتَكُونَ الْآيَةُ شَامِلَةً لِأَحْوَالِهَا كُلِّهَا. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ الشَّاةُ تُتْئِمُ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ عَشَرَةَ إِنَاثٍ فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ النِّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ شَيْءٌ مِنْهَا فَيَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ الْوَصِيلَةَ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا بَكَّرَتِ النَّاقَةُ فِي أَوَّلِ إِنْتَاجِ الْإِبِلِ بِأُنْثَى ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى فِي آخِرِ الْعَامِ فَكَانُوا يَجْعَلُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ.
وَهَذَا قَالَهُ سَعِيدٌ مِنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَقَعَ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ إِيهَامٌ اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ فِي «فَتْحِ الْبَارِي». وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالْوَصِيلَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ.
وَالْحَامِي هُوَ فَحْلُ الْإِبِلِ إِذَا نُتِجَتْ مِنْ صُلْبِهِ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ فَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُرْكَبَ أَوْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَرْعًى وَلَا مَاءٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ حَمَى ظَهْرَهُ، أَيْ كَانَ
مِنَ الْمَشِيئَةِ مِنْ جَعْلِ اسْتِحْقَاقِ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ مَنُوطًا بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الشِّرْكِ. وَجَعْلِ النَّجَاةِ من ذَلِك الخلود مَنُوطَةً بِالْإِيمَانِ.
وَالْحَكِيمُ: هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مُنَاسَبَاتِهَا، وَالْأَسْبَابَ لِمُسَبِّبَاتِهَا. وَالْعَلِيمُ:
الَّذِي يَعْلَمُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ جَمِيعُ خَلْقِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَحِقَّةِ للثّواب وَالْعِقَاب.
[١٢٩]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٢٩]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ، أَوْ مِنْ تَمَامِ التَّذْيِيلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، الْوَاوُ لِلْحَالِ: اعْتِرَاضِيَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الْأَنْعَام:
١٢٨].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْلِيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ: نُوَلِّي، وَجَاءَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ التَّوْلِيَةِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، فَيَجُوزُ فِي إِشَارَتِهِ مَا جَازَ فِي فِعْلِهِ الرَّافِعِ لِلظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى: وَكَمَا وَلَّيْنَا مَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِمْ نُوَلِّي بَيْنَ الظَّالِمِينَ كُلِّهِمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ.
وَالتَّوْلِيَةُ يَجِيءُ مِنَ الْوَلَاءِ وَمِنَ الْوِلَايَةِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يُقَالُ فِي فِعْلِهِ الْمُتَعَدِّي: وَلَّى، بِمَعْنَى جَعَلَ وَلِيًّا، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَعْطَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَّيْتُ ضَبَّةَ تَمِيمًا إِذَا حَالَفْتُ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: تَوَلَّتْ ضَبَّةُ تَمِيمًا بِمَعْنَى حَالَفَتْهُمْ، فَإِذَا عُدِّيَ الْفِعْلُ بِالتَّضْعِيفِ قِيلَ: وَلَّيْتُ ضَبَّةَ تَمِيمًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النِّسَاء: ١١٥] أَيْ نُلْزِمُهُ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ مَعْنَى: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَيَكُونُ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام:
١٢٨]. وَجَعَلَ الْفَرِيقَيْنِ ظَالِمِينَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَوْمًا يَصِيرُ مِنْهُمْ،
كَيْفَمَا تَفَنَّنَتْ أَسَالِيبُهُ وَتَنَاسَقَ نَظْمُهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ أَوْ مِنْ حِكَايَتِهَا هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ومكذّبو محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّلَتْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ مُسْتَطْرِدَاتٌ وَتَعْرِيضَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِمَا وَضَعَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكَاذِيبِ فِي نَقْضِ أَمْرِ الْفِطْرَةِ.
وَالْجُمَلُ الثَّلَاثُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧]- وَقَوْلِهِ- يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٣١] مُتَّصِلَةٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِقِصَّةِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ، أَوْ مُتَّصِلَةٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] عَلَى طَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْمَقُولِ تَعْدَادًا يُشْبِهُ التَّكْرِيرَ.
وَهَذَا الْخِطَابُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ: لِأَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ هُوَ الشُّكْرُ عَلَى يَقِينِهِمْ بِأَنَّهُمْ موافقون فِي شؤونهم لِمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا حَظُّ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، مُعَرَّضُونَ لِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ.
وَابْتُدِئَ الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ لِيَقَعَ إِقْبَالُهُمْ عَلَى مَا بَعْدَهُ بِشَرَاشِرِ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ لِاخْتِيَارِ اسْتِحْضَارِهِمْ عِنْدَ الْخِطَابِ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ مَرَّتَيْنِ وَقْعٌ عَجِيبٌ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ وَمَا لَقِيَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ: وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الذُّرِّيَّةِ أَنْ تَثْأَرَ لِآبَائِهَا، وَتُعَادِيَ عَدُوَّهُمْ، وَتَحْتَرِسَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَرَكِهِ.
وَلَمَّا كَانَ إِلْهَامُ اللَّهِ آدَمَ أَنْ يَسْتُرَ نَفْسَهُ بِوَرَقِ الْجَنَّةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَلَّدَهَا بَنُوهُ، خُوطِبَ النَّاسُ بِشُمُولِ هَذِهِ الْمِنَّةِ لَهُمْ بِعُنْوَانٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَّةٌ مَوْرُوثَةٌ، وَهِيَ أَوْقَعُ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَيْسِيرُ اللِّبَاسِ لَهُمْ وَإِلْهَامُهُمْ إِيَّاهُ إِنْزَالًا، لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذَا الْمَظْهَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ، بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ عَلَى آدَمَ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَكَانَ لَهُ فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ،
عَلَّمَكَ رَبُّكَ مِنْ وَسَائِلِ إِجَابَةِ دُعَائِكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مُوسَى مَبْعُوثًا مِنْ رَبٍّ لَهُ بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ مُوسَى الدُّعَاءَ بِكَشْفِ الرِّجْزِ عَنْهُمْ مَعَ سَابِقِيَّةِ كُفْرِهِمْ بِهِ يُثِيرُ سُؤَالَ مُوسَى أَنْ يَقُولَ: فَمَا الْجَزَاءُ عَلَى ذَلِكَ.
وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَجُمْلَةُ: لَنُؤْمِنَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ.
وَوَعْدُهُمْ بِالْإِيمَانِ لِمُوسَى وَعْدٌ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَلَيْسَ وَعْدًا بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ وَزَاعِمُونَ أَنَّهُ سَاحِرٌ يُرِيدُ إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنْ أَرْضِهِمْ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الْإِيمَانِ مُتَعَلِّقًا بِمُوسَى لَا بَاسِمِ اللَّهِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْوَعْدُ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ رَبٌّ خَاصٌّ بِهِ وَبِقَوْمِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ وَقَدْ وَضَّحُوا مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
وَجُمْلَةُ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى دَعَا اللَّهَ بِرَفْع الطَّاعُون فارتقع وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي التَّوْرَاةِ، وَحُذِفَ هُنَا لِلْإِيجَازِ.
وَقَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ مُتَعَلِّقٌ بِ كَشَفْنا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ كَشْفِ الرِّجْزِ إِزَالَةً لَلْمُوتَانِ الَّذِي سَبَّبَهُ الطَّاعُونُ، فَإِزَالَةٌ الْمُوتَانِ مُغَيَّاةٌ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِهَلَاكِهِمْ فَالْغَايَةُ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى فِعْلِ الْكَشْفِ لَا إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ الرِّجْزُ.
وَجُمْلَةُ: إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جَوَابُ (لَمَّا)، وَ (إِذَا) رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ لِوُقُوعِ جَوَابِ الشَّرْطِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، فَلَمَّا كَانَ (إِذَا) حَرْفًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قيل فاجأوا بِالنَّكْثِ، أَيْ: بَادَرُوا بِهِ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ. وَهَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِإِضْمَارِ الْكُفْرِ بِمُوسَى وَإِضْمَارِ النَّكْثِ لِلْيَمِينِ.
وَالنَّكْثُ حَقِيقَتُهُ نَقْضُ الْمَفْتُولِ مِنْ حَبْلٍ أَوْ غَزْلٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: ٩٢] وَاسْتُعِيرَ النَّكْثُ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْحَبْلُ لِلْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمرَان: ١١٢] فَفِي قَوْلِهِ: يَنْكُثُونَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.
رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
الْآيَةَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَحَبَّ وَاخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْيُسْرِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُسْلِمِينَ إِذْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ رَغْبَةَ أَكْثَرِهِمْ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ. وَلَمَّا اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَشُورَتِهِ تَعَيَّنَ
أَنَّهُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَأَى أَنْ يَسْتَشِيرَ النَّاسَ ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَ الرَّأْيَيْنِ بِاجْتِهَادٍ، وَقَدْ أَصَابَ الِاجْتِهَادَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، حِينَئِذٍ، سُهَيْلُ بن بَيْضَاءَ، وَأَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ الْعَبَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ إِضْمَارُ بَعْضِهِمْ- بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْمِهِمْ- أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ.
وَرُبَّمَا كَانُوا يُضْمِرُونَ اللَّحَاقَ بِفَلِّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ وَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ فَيَنْقَلِبُ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ هَزِيمَةً كَمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلِأَجْلِ هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» :
رَوَى عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُقَرِّبَ الْأَسَارَى فَيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ أَوْ يَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جِبْرِيلُ يُخَيِّرُكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الْأُسَارَى وَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ أَوْ تَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَقْوَى عَلَى عَدُوِّنَا وَيُقْتَلُ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَفَعَلُوا
. وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءَ إِذَا قَاتَلَ فَقِتَالُهُ مُتَمَحِّضٌ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ نَصْرُ الدَّين وَدفع عدائه، وَلَيْسَ قِتَالُهُ لِلْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ فَإِذَا كَانَ أَتْبَاعُ الدِّينِ فِي قِلَّةٍ كَانَ قَتْلُ الْأَسْرَى تَقْلِيلًا لِعَدَدِ أَعْدَاءِ الدِّينِ حَتَّى إِذَا انْتَشَرَ الدِّينُ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ صَلُحَ الْفِدَاءُ لِنَفْعِ أَتْبَاعِهِ بِالْمَالِ، وَانْتِفَاءِ خَشْيَةِ عَوْدِ الْعَدُوِّ إِلَى الْقُوَّةِ. فَهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِ هَذَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ.
(الرَّءُوفُ) : الشَّدِيدُ الرَّأْفَةِ. وَالرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهُمَا صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا يَتَنَازَعَانِ الْمَجْرُورَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمَا وَهُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
وَالرَّأْفَةُ: رِقَّةٌ تَنْشَأُ عِنْدَ حُدُوثِ ضُرٍّ بِالْمَرْءُوفِ بِهِ. يُقَال: رؤوف رَحِيمٌ. وَالرَّحْمَةُ:
رِقَّةٌ تَقْتَضِي الْإِحْسَانَ لِلْمَرْحُومِ، بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَهُمَا هُنَا وَلَوَازِمُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَتَقَدَّمَتِ الرَّأْفَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] وَالرَّحْمَةُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٣].
وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى عَامِلَيْهِ الْمُتَنَازِعَيْنِهِ فِي قَوْله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَجُّهِ صِفَتَيْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ. وَأما رَحمته بهم. وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ الثَّابِتَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] فَهِيَ رَحْمَةٌ مَشُوبَةٌ بِشِدَّةٍ عَلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ رَائِفٌ وَرَاحِمٌ، وَلَا يُقَال: بهم رؤوف رَحِيمٌ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى إِرْسَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ صِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةَ تَقْتَضِي مِنْ كُلِّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ الْإِيمَانَ بِهِ وَاتِّبَاعَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ومحب لخيرهم رؤوف رَحِيمٌ بِمَنْ يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فَإِنْ آمَنُوا فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَإِنَّ اللَّهَ حَسِيبُهُ وَكَافِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الشَّرْطُ عَلَى مُقَابِلِهِ لِأَنَّ فَإِنْ تَوَلَّوْا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ ضِدِّهِ وَهُوَ إِنْ أَذْعَنُوا بِالْإِيمَانِ.
وَبَعْدَ التَّفْرِيعِ الْتَفَتَ الْكَلَامُ مِنْ خِطَابِ الْعَرَبِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُخَاطَبُوا هُمْ بِهِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ حَرْفِ التَّفْرِيعِ فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ
اللَّهُ
. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ فَحَسْبُهُ اللَّهُ وَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ. فَجِيءَ بِهَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَرَاعَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عَدَمِ تَأَهُّلِهِمْ لِخِطَابِ اللَّهِ عَلَى تَقْدِيرِ حَالَةِ تَوَلِّيهِمْ.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ: وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ.
وَ (مَنْ آمَنَ) كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِيلِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْقِصَّةِ فِي قِلَّةِ الصَّالِحِينَ. قِيلَ: كَانَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَكَانَ مُعْظَمُ حُمُولَةِ السَّفِينَةِ من الْحَيَوَان.
[٤١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤١]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: ٤٠] أَيْ قُلْنَا لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَنْ أُمِرَ بِحَمْلِهِ ارْكَبُوا.
وَضَمِيرُ فِيها لَمَفْهُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ السَّفِينَةِ كَقَوْلِهِ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ
[الْقَمَر: ١٣] أَيْ سَفِينَةٍ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ ارْكَبُوا بِ (فِي) جَرْيًا عَلَى الْفَصِيحِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ إِذَا عَلَاهَا.
وَأَمَّا رُكُوبُ الْفلك فيعدّى ب (فِي) لِأَنَّ إِطْلَاقَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا هُوَ جُلُوسٌ وَاسْتِقْرَارٌ فَلَا يُقَالُ: رَكِبَ السَّفِينَةَ، فَأَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرُّكُوبِ الْحَقِيقِيِّ وَالرُّكُوبِ الْمُشَابِهِ لَهُ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ.
وَالْبَاء فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ارْكَبُوا أَيْ مُلَابِسِينَ لِاسْمِ اللَّهِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْقَوْلِ لِقَائِلِهِ، أَيْ قَائِلِينَ:
بِاسْمِ اللَّهِ.
ومَجْراها وَمُرْساها- بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ فِيهِمَا- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَهُمَا مَصْدَرَا، أَجْرَى السَّفِينَةَ إِذَا جَعَلَهَا جَارِيَةً، أَيْ سَيَّرَهَا بِسُرْعَةٍ، وَأَرْسَاهَا إِذَا جَعَلَهَا رَاسِيَةً، أَيْ وَاقِفَةً عَلَى الشاطئ. يُقَال: رما إِذَا ثَبَتَ فِي الْمَكَانِ.
دَلَالَةً عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ بِهَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ، فَتَصْلُحُ
أَحْوَالُهُمْ وَيَكُونُونَ فِي اطْمِئْنَانِ بَالٍ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَسَبَبٌ لِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
بِهِ، أَوِ اشْتُقَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ بُيُوتَهُمْ فِي صَخْرِ الْجَبَلِ نَحْتًا مُحْكَمًا. وَقَدْ جُعِلَتْ طَبَقَاتٌ وَفِي وَسَطِهَا بِئْرٌ عَظِيمَةٌ وَبِئَارٌ كَثِيرَةٌ.
وَالْحِجْرُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِاسْمِ مَدَائِنِ صَالِحٍ عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى تَبُوكَ.
وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ مَدِينَةِ بَنِي حَنِيفَةَ فَهِيَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهِيَ فِي بِلَادِ نَجْدٍ وَتُسَمَّى الْعُرُوضُ وَهِيَ الْيَوْمَ مِنْ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ كَانَتْ قُبُورًا، وَتَعَلَّقُوا بِحُجَجٍ وَهْمِيَّةٍ. وَمِمَّا يُفَنِّدُ أَقْوَالَهُمْ خَلُوُّ تِلْكَ الْكُهُوفِ عَنْ أَجْسَادٍ آدَمِيَّةٍ.
وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ قُبُورًا فَأَيْنَ كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَحْيَاءِ؟.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمُودَ لَمَّا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي خَارِجِ الْبُيُوتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. وَقَدْ وُجِدَتْ فِي مَدَاخِلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ نُقَرٌ صَغِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَجْعُولَةٌ لِوَصْدِ أَبْوَابِ الْمَدَاخِلِ فِي اللَّيْلِ.
وَتَعْرِيفُ الْمُرْسَلِينَ لِلْجِنْسِ، فَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا-
عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٠٥].
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: آياتِنا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، وَهِيَ آيَةُ النَّاقَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهَا آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهَا مِنْ صَخْرَةٍ، وَحَيَاتِهَا، وَرَعْيِهَا، وَشُرْبِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا خَرَجَ مَعَهَا فَصِيلُهَا، فَهُمَا آيَتَانِ.
وَجُمْلَةُ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مُعْتَرِضَةٌ. وَالنَّحْتُ: بَرْيُ الْحَجَرِ أَوِ الْعُودِ مِنْ وَسَطِهِ أَوْ مِنْ جَوَانِبِهِ.
ومِنَ الْجِبالِ تَبْعِيضٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَنْحِتُونَ. وَالْمَعْنَى مِنْ صَخْرِ الْجِبَالِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَنْحِتُونَ.
وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً لِلتَّشْبِيهِ الْمَجَازِيِّ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحَاةُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْكَافِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨]، أَيِ ارْحَمْهُمَا رَحْمَةً تُكَافِئُ مَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
وصَغِيراً حَالٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَمْثِيلُ حَالَةٍ خَاصَّةٍ فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَرْبِيَةٍ مُكَيَّفَةٍ بِرَحْمَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي رَحْمَة الْوَلَد، وَصِغَرَ الْوَلَدِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا فَصَارَ قَوْلُهُ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ كَمَا رَبَّيَانِي وَرَحِمَانِي بِتَرْبِيَتِهِمَا. فَالتَّرْبِيَةُ تَكْمِلَةٌ لِلْوُجُودِ، وَهِيَ وَحْدَهَا تَقْتَضِي الشُّكْرَ عَلَيْهَا. وَالرَّحْمَةُ حِفْظٌ لِلْوُجُودِ مِنِ اجْتِنَابِ انْتِهَاكِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الشُّكْرِ، فَجَمَعَ الشُّكْرَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ.
وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَأَمَّا مَوَاقِعُ الدُّعَاءِ لَهُمَا فَلَا تَنْضَبِطُ وَهُوَ بِحَسَبِ حَالِ كُلِّ امْرِئٍ فِي أَوْقَاتِ ابْتِهَالِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إِذَا دَعَا لَهُمَا فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ فَقَدِ امْتَثَلَ.
وَمَقْصِدُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ يَنْحَلُّ إِلَى مَقْصِدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَفْسَانِيٌّ وَهُوَ تَرْبِيَةُ نُفُوسِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْجَمِيلِ لِصَانِعِهِ، وَهُوَ الشُّكْرُ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ الْبَارِي تَعَالَى فِي اسْمِهِ الشَّكُورِ، فَكَمَا أَمَرَ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ أَمَرَ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ الصُّورِيِّ وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَفِي الْأَمْرِ بِشُكْرِ الْفَضَائِلِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي إِسْدَائِهَا.
وَالْمَقْصِدُ الثَّانِي عُمْرَانِيٌّ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَوَاصِرُ الْعَائِلَةِ قَوِيَّةَ الْعُرَى مَشْدُودَةَ الْوُثُوقِ فَأَمَرَ بِمَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْوُثُوقَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِيُرَبِّيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ التَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ مَا يَقُومُ مَقَامَ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْأُمِّ، ثُمَّ عَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ إِحْسَاسٍ بَعْضُهُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَدْ خَلَقْتُكَ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: (وَقَدْ خَلَقْنَاكَ) بنُون العظمة.
[١٠]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ١٠]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)
أَرَادَ نَصْبَ عَلَامَةٍ عَلَى وُقُوعِ الْحَمْلِ بِالْغُلَامِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَمْ تُعَيَّنْ زَمَنًا، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الْمَوْعُودُ بِهِ لِحِكْمَةٍ، فَأَرَادَ زَكَرِيَّاءُ أَنْ يَعْلَمَ وَقْتَ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِعْجَالِ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْمُبَادَرَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ آيَةً. وَإِضَافَةُ آيَتُكَ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ آيَةٌ لَكَ، أَيْ جَعَلْنَا عَلَامَةً لَك.
وَمعنى أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أَنْ لَا تَقْدِرَ عَلَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِ آيَةً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَهْيَهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ فِي ذَلِكَ لِلْكَوْنِ آيَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَجُعِلَتْ مُدَّةُ انْتِفَاءِ تَكْلِيمِهِ النَّاسَ هُنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَجُعِلَتْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا وَأَنَّ الْمُرَادَ فِي آلِ عِمْرَانَ أَيَّامٌ بِلَيَالِيهَا.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ هُنَا بِوَصْفِهَا بِ سَوِيًّا أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ كَامِلَةٍ، أَيْ بِأَيَّامِهَا.
وَسَوِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَسْتَوِي الْوَصْفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْوَاحِدَةُ وَالْمُتَعَدِّدُ مِنْهُمَا.
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٤١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: ٣٧] تَطْمِينٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِهَا عَلَى جُمْلَةِ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٩]
إِلَى آخِرِهَا ظَاهِرَةٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
[٤٢- ٤٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ بَعْدَ أَنْ سُلِّيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْوَعِيدِ أُمِرَ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِأَنَّ غُرُورَهُمْ بِالْإِمْهَالِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَشَأْنِهِ فِي الرَّحْمَةِ بِمَخْلُوقَاتِهِ بِأَنَّهُمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُهُ لَا يَجِدُونَ حَافِظًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرَهُ وَلَا تَمْنَعُهُمْ مِنْهُ آلِهَتُهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَقْرِيعٌ، أَي لَا يكلؤهم مِنْهُ أَحَدٌ فَكَيْفَ تَجْهَلُونَ ذَلِكَ، تَنْبِيها لَهُم إِذا نَسُوا نِعَمَهُ.
وَذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِاسْتِيعَابِ الْأَزْمِنَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.
نِحَلٍ كَثِيرَةٍ فَجَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ دِينًا. وَيَجُوزُ أَن يَجْعَل فَتَقَطَّعُوا قَاصِرًا أُسْنِدَ التَّقَطُّعُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ مُيِّزَ بِقَوْلِهِ أَمْرَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: تَقَطَّعُوا أَمْرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ يُجَوِّزُونَ كَوْنَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي معنى تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٣].
وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْحَالِ وَمَا صَدَقُهُ أُمُورُ دِينِهِمْ.
وَالزُّبُرُ بِضَمِّ الزَّايِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ.
اسْتُعِيرَ اسْمُ الْكِتَابِ لِلدِّينِ لِأَنَّ شَأْنَ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِهِ كِتَابٌ، فَيَظْهَرُ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ فَرِيقٍ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَدْيَانًا وَعَقَائِدَ لَوْ سُجِّلَتْ لَكَانَتْ زُبُرًا.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ زُبُراً بِضَمِّ الزَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ جَمْعُ زُبْرَةٍ بِمَعْنَى قِطْعَةٍ.
وَجُمْلَةُ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ التَّقَطُّعَ يَقْتَضِي التَّحَزُّبَ فَذُيِّلَ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَرِحٌ بِدِينِهِ، فَفِي الْكَلَامِ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لِ حِزْبٍ، أَيْ كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ، بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ.
وَالْفَرَحُ: شِدَّةُ الْمَسَرَّةِ، أَيْ رَاضُونَ جَذِلُونَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا طَرِيقَتَهُمْ فِي الدِّينِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِدِينِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا تَبَصُّرٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْعُكُوفِ عَلَى الْمُعْتَاد.
وَذَلِكَ يومىء إِلَيْهِ لَدَيْهِمْ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلُ، أَيْ بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ لَدَيْهِمْ فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَيُعَادُونَهُ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّفْرِيقِ وَالتَّخَاذُلِ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الْمُؤْمِنُونَ:
٥٢]. وَقَدِيمًا كَانَ التَّحَزُّبُ مُسَبِّبًا لِسُقُوطِ الْأَدْيَانِ وَالْأُمَمِ وَهُوَ مِنْ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي يُلْبِسُ فِيهَا الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ.
وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوِ المتفقون عَلَيْهِ.
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)هَذَا قِسْمٌ آخَرُ مِنْ صِفَات عباد الرحمان، وَهُوَ قِسْمُ التَّخَلِّي عَنِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ مُلَازِمَةً لِقَوْمِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَنَزَّهَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ عَنْهَا بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، وَذُكِرَ هُنَا تَنَزُّهُهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَوَصْفُ النَّفْسِ بِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بَيَان لِحُرْمَةِ النَّفْسِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ فِيمَا
حَكَى اللَّهُ من محاورة وَلَدي آدَمَ بِقَوْلِهِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [الْمَائِدَة: ٢٧] الْآيَاتِ، فَتَقَرَّرَ تَحْرِيمُ قَتْلِ النَّفْسِ مِنْ أَقْدَمِ أَزْمَانِ الْبَشَرِ وَلَمْ يَجْهَلْهُ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَذَلِكَ مَعْنَى وَصْفِ النَّفْسِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ. وَكَانَ قَتْلُ النَّفْسِ مُتَفَشِّيًا فِي الْعَرَبِ بِالْعَدَاوَاتِ، وَالْغَارَاتِ، وَبِالْوَأْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ بَنَاتِهِمْ، وَبِالْقَتْلِ لِفَرْطِ الْغَيْرَةِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا | عَلَيَّ حُرَّاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي |
عُلِّقْتُهَا عَرْضًا وَأَقْتُلُ قَوْمَهَا | زَعْمًا لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بِمَزْعَمِ |
وَقَدْ جُمِعَ التَّخَلِّي عَنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الثَّلَاثِ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَرَّرِ اسْمُ الْمَوْصُولِ كَمَا كُرِّرَ فِي ذِكْرِ خِصَالِ تَحَلِّيهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَقَدْ أَقْلَعُوا عَنْ أَشَدِّ الْقَبَائِحِ لُصُوقًا بِالشِّرْكِ وَذَلِكَ قتل النَّفس وَالزِّنَا.
فَجَعَلَ ذَلِكَ شَبِيهَ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجُعِلَ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَاحِدٍ.
وَالْجُنْدُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ: هُوَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى أَمْرٍ تَتَّبِعُهُ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَسْكَرِ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ خِدْمَةُ أَمِيرهمْ وطاعته.
[٧]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الْقَصَص: ٥]، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَإِ. وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْصِيلًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الذُّلِّ خَلَقَ اللَّهُ الْمُنْقِذَ لَهُمْ.
وَالْوَحْيُ هُنَا وَحْيُ إِلْهَامٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ مِنِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ مَا يُحَقِّقُ عِنْدَهَا أَنَّهُ خَاطِرٌ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّ الْإِلْهَامَ الصَّادِقَ يَعْرِضُ لِلصَّالِحِينَ فَيُوقِعُ فِي نُفُوسهم يَقِينا ينبعثون بِهِ إِلَى عَمَلِ مَا أُلْهِمُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ بِرُؤْيَا صَادِقَةٍ رَأَتْهَا. وَأَمُّ مُوسَى لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لَهَا أَسْمَاءً لَا يُوثَقُ بِصِحَّتِهَا.
وَقَوْلُهُ أَنْ أَرْضِعِيهِ تَفْسِيرٌ لِ أَوْحَيْنا. وَالْأَمْرُ بِإِرْضَاعِهِ يُؤْذِنُ بِجُمَلٍ طُوِيَتْ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرُ مَا أَرَادَهُ هُوَ الْجَنِينَ الَّذِي فِي بَطْنِ أَمِّ مُوسَى وَوَضَعَتْهُ أُمُّهُ، وَخَافَتْ عَلَيْهِ اعْتِدَاءَ أَنْصَارِ فِرْعَوْنَ عَلَى وَلِيدِهَا وَتَحَيَّرَتْ فِي أَمْرِهَا فَأُلْهِمَتْ أَوْ أُرِيَتْ مَا قَصَّهُ اللَّهُ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَالْإِرْضَاعُ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ يَتَضَمَّنُ أَنْ: أخفيه مُدَّة ترْضِعه فِيهَا فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْرَفَ خَبَرُهُ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ.
وَإِنَّمَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِإِرْضَاعِهِ لِتَقْوَى بُنْيَتُهُ بِلِبَانِ أُمِّهِ فَإِنَّهُ أَسْعَدُ بِالطِّفْلِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ مِنْ لِبَانِ غَيْرِهَا، وَلِيَكُونَ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ قُوتٌ يَشُدُّ بُنْيَتَهُ فِيمَا بَيْنَ قَذْفِهِ فِي الْيَمِّ وَبَيْنَ الْتِقَاطِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَإِيصَالِهِ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ
السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَمَا هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ من أحوالهما المتقاربة الْمُتَلَازِمَةِ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُصُولِ، وَالْمُتَضَادَّةِ كَالْعُلُوِّ وَالِانْخِفَاضِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ أَشْرَفُ مَا عَلَى الْأَرْضِ نَوْعَ الْإِنْسَانِ قُرِنَ مَا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا فِي خَلْقِ الْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ، وَخُصَّ مِنْ أَحْوَالِهِ الْمُتَخَالِفَةِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ عِبْرَةً إِذْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَّحِدَةٍ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَلِأَنَّ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِهَذَا النَّوْعِ الْوَاحِدِ نَجْدُ أَسْبَابَ اخْتِلَافِهَا مِنْ آثَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَاخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ سَبَّبَهُ الْقَرَارُ بِأَوْطَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ سَبَّبَهُ اخْتِلَافُ الْجِهَاتِ الْمَسْكُونَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَاخْتِلَافُ مُسَامَتَةِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ لَهَا فَهِيَ مِنْ آثَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ آيَةُ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض تمهيد لَهُ وَإِيمَاءً إِلَى انْطِوَاءِ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي أَسْرَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِأَحْوَالٍ عَرَضِيَّةٍ فِي الْإِنْسَانِ مُلَازِمَةٍ لَهُ فَبِتِلْكَ الْمُلَازَمَةِ أَشْبَهَتِ الْأَحْوَالَ الذَّاتِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ ثُمَّ النِّسْبِيَّةَ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ حَسَبِ التَّرْتِيبِ السَّابِقِ. وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِ أَلْسُنِ الْبَشَرِ وَأَلْوَانِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٠] قَوْلُهُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
وَالْأَلْسِنَةُ: جَمْعُ لِسَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللُّغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: ٤] وَقَوْلِهِ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النَّحْل: ١٠٣].
وَاخْتِلَافُ لُغَاتِ الْبَشَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِمْ فِي النَّوْعِ كَانَ اخْتِلَافُ لُغَاتِهِمْ آيَةً دَالَّةً عَلَى مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّفْكِيرِ وَتَنْوِيعِ التَّصَرُّفِ فِي وَضْعِ اللُّغَاتِ، وَتَبَدُّلِ كَيْفِيَّاتِهَا بِاللَّهَجَاتِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ الْأُصُولُ الْمُتَّحِدَةُ إِلَى لُغَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَالْإِيوَاءُ ضِدُّهُ.
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْإِرْجَاءُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْقَسَمِ فَوَسَّعَ الله على نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ مَعَهُنَّ فَصَارَ حَقُّ الْمَبِيتِ حَقًّا لَهُ لَا لَهُنَّ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي رَزِينٍ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَى نِسَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَتْ عَنْهُ حَقَّهَا فِي الْمَبِيتِ وَهِيَ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعَائِشَة فَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة صَار النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَيَّرًا فِي الْقَسْمِ لِأَزْوَاجِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
وَهَذَا تَخْيِير للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِهِ تَكَرُّمًا مِنْهُ عَلَى أَزْوَاجِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ. مَا عَلِمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْجَأَ أَحَدًا مِنْ أَزْوَاجِهِ بَلْ آوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ (١) : أَرْجَأَ مَيْمُونَةَ وَسَوْدَةَ وَجُوَيْرِيَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ وَصَفِيَّةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ، أَيْ دُونَ مُسَاوَاةٍ لِبَقِيَّةِ أَزْوَاجِهِ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.
وَفُسِّرَ الْإِرْجَاءُ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ، وَالْإِيوَاءُ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ فِي الْعِصْمَةِ، فَيَكُونُ إِذْنًا لَهُ بِتَطْلِيقِ مَنْ يَشَاءُ تَطْلِيقَهَا وَإِطْلَاقُ الْإِرْجَاءِ عَلَى التَّطْلِيقِ غَرِيبٌ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَقْوَالًا أُخَرَ وَأَخْبَارًا فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَمْ تَصِحَّ أَسَانِيدُهَا فَهِيَ آرَاءٌ لَا يُوثَقُ بِهَا. وَيَشْمَلُ الْإِرْجَاءُ الصِّنْفَ الثَّانِي وَهُنَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ وَهُوَ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ إِذْ لَا يَجِبُ لِلْإِمَاءِ عَدَلٌ فِي الْمُعَاشَرَةِ وَلَا فِي الْمَبِيتِ.
وَيَشْمَلُ الْإِرْجَاءُ الصِّنْفَ الثَّالِثَ وَهُنَّ: بَنَاتُ عَمِّهِ وَبَنَاتُ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتُ خَالِهِ وَبَنَاتُ خَالَاتِهِ، فَالْإِرْجَاءُ تَأْخِيرُ تَزَوُّجِ مَنْ يَحِلُّ مِنْهُنَّ، وَالْإِيوَاءُ الْعَقْدُ عَلَى إِحْدَاهِنَّ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ إِرْجَاءُ الْعَمَلِ بِالْإِذْنِ فِيهِنَّ إِلَى غَيْرِ أَجْلٍ مُعَيَّنٍ.
وَكَذَلِكَ إِرْجَاءُ الصِّنْفِ الرَّابِعِ اللَّاءِ وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا بَعْدَ
_________
(١) أَبُو رزين بِفَتْح الرَّاء اسْمه: لَقِيط. وَيُقَال لَهُ الْعقيلِيّ أَو العامري وَهُوَ من بني المنتفق. وَله صُحْبَة. [.....]
وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَحْزَنَهُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَزَنًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ مِنْ حَزَنَهُ بِفَتْحِ الزَّايِ بِمَعْنَى أَحْزَنَهُ وَهَمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَدَّمَ الْإِسْرَارَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْإِعْلَانَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ وَكُلِّيَّاتِهَا.
وَالْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ لِلْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَلَوْ قَالُوهُ لَمَا كَانَ مِمَّا يَحْزُنُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَنْهَى عَنِ الْحزن مِنْهُ.
[٧٧، ٧٩]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧٧ إِلَى ٧٩]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
لَمَّا أُبْطِلَتْ شُبَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِحَالَتِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْبَائِهِ بِذَلِكَ إِبْطَالًا كُلِّيًّا، عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى جَانِبِ تَسْفِيهِ أَقْوَالٍ جُزْئِيَّةٍ لِزُعَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ وَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحْسَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ الدَّلَائِل ويزينون الْجِدَال لِلنَّاسِ وَيَأْتُونَ لَهُمْ بِأَقْوَالٍ إِقْنَاعِيَّةٍ جَارِيَةٍ عَلَى وَفْقِ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، فَقيل أُرِيد ب الْإِنْسانُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ أُرِيد بِهِ العَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ بِأَسَانِيدَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضَهَا.
قَالُوا فِي الرِّوَايَاتِ: جَاءَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ عَظْمُ إِنْسَانٍ
رَمِيمٍ فَفَتَّهُ وَذَرَاهُ فِي الرِّيحِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ (أَيْ بَلِيَ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ كَلَامٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ لِمَنْ وَرِثَ الْمُلْكَ قَالَ تَعَالَى:
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥] فَعَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ مُرَادِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُخْتَلِفِي اللُّغَاتِ بِهَذَا التَّرْكِيبِ الْعَرَبِيِّ الدَّالِّ عَلَى مَعَانِي مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ لُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ نَطَقُوا بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ أَلْهَمَهُمْ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى. وَلَفْظُ الْأَرْضَ جَارٍ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْكِيبِ التَّمْثِيلِيِّ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ اضْمَحَلَّتْ أَوْ بُدِّلَتْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَرْضَ مُسْتَعَارًا لِلْجَنَّةِ لِأَنَّهَا قَرَارُهُمْ كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ قَرَارُ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى.
وَإِطْلَاقُ الْإِيرَاثِ اسْتِعَارَةٌ تَشْبِيهًا لِلْإِعْطَاءِ بِالتَّوْرِيثِ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ تَعَبِ الِاكْتِسَابِ.
وَالتَّبَؤُّ: السُّكْنَى وَالْحُلُولُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَنَقَّلُونَ فِي الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ تَفَنُّنًا فِي النَّعِيمِ.
وَأَرَادُوا بِ الْعامِلِينَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ عَامِلِي الْخَيْرِ، وَهَذَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْحَقَائِقِ فَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ الْكَامِلَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ شَوْبِ النَّقَائِصِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ وَصَفَتْ مَصِيرَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَصِيرَ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَسَكَتَتْ عَنْ مَصِيرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي الَّذِينَ لَمْ يَلْتَحِقُوا بِالْمُتَّقِينَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ وَصْفِ رِجَالٍ مِنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ إِلَّا عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْكَبَائِرَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا كَانَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَقَعُوا فِيهَا فَإِذَا وَقَعُوا فِيهَا فَعَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ، فَإِذَا مَاتُوا غَيْرَ تَائِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْصِي لَهُمْ حَسَنَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَطَيِّبَاتِ نَوَايَاهُمْ فَيُقَاصُّهُمْ بِهَا إِنْ شَاءَ، ثُمَّ هُمْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ يَقْتَرِبُونَ مِنَ الْعِقَابِ بِمِقْدَارِ اقْتِرَابِهِمْ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي وَفْرَةِ الْمَعَاصِي فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نُبْذَةٌ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالِاعْتِبَارَاتِ الْمُوَافِقَةِ لِدَقَائِقِ الْمَذَاهِبِ، إِذْ لَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي نِعْمَةِ الْمُنَعَّمِينَ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١].
وَعَطْفُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ عَلَى صِفَةِ لَطِيفٌ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَيُفِيدُ الِاحْتِرَاسَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ لُطْفَهُ عَنْ عَجْزٍ أَوْ مُصَانَعَةٍ، فَإِنَّهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا يَعْجِزُ وَلَا يُصَانِعُ، أَوْ عَنْ تَوَهُّمِ أَنَّ رِزْقَهُ لِمَنْ يَشَاءُ عَنْ شُحٍّ أَوْ قِلَّةٍ فَإِنَّهُ الْقَوِيُّ، وَالْقَوِيُّ تَنْتَفِي عَنْهُ أَسْبَابُ الشُّحِّ، وَالْعَزِيزُ يَنْتَفِي عَنْهُ سَبَبُ الْفَقْرِ فَرِزْقُهُ لِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ مَنُوطٌ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا فِي أَحْوَالِ خَلْقِهِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشورى: ٢٧] الْآيَةَ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْمُسْنَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ يُفِيدُ مَعْنَى قَصْرِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ الْجِنْسِ لِلْمُبَالَغَةِ لِكَمَالِهِ فِيهِ تَعَالَى حَتَّى كَأَنَّ قُوَّةَ غَيْرِهِ وَعِزَّةَ غَيره عدم.
[٢٠]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٢٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشورى: ١٨] الْآيَةَ، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ وُجُودِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَفَرِيقِ الَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ هَمهمْ قَاصِرَةٌ عَلَى حَيَاةِ الدُّنْيَا، فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلُ مُعَامَلَةِ اللَّهِ الْفَرِيقَيْنِ مُعَامَلَةً مُتَفَاوِتَةً مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ وَكَوْنِهِمْ بِمَحَلِّ لُطْفٍ مِنْهُ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩] تَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَكَانَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ تَفْصِيلًا لِحُظُوظِ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَأْنِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا.
وَلِأَجْلِ هَذَا الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى:
١٨] تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَيْهَا، وَتُرِكَ عَطْفُ تَوْطِئَتِهَا كَذَلِكَ، وَلِأَجْلِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩]
وَفِي الِابْتِدَاءِ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ كُفْرَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُنَاوَأَتَهُمْ لِدِينِ اللَّهِ تَشْوِيقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْحُكْمِ الْمُنَاسِبِ لِلصِّلَةِ، وَإِيمَاءٌ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ أَيْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ، وَبَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ.
وَالْكُفْرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ حَيْثُمَا أُطْلِقَ الْكُفْرَ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةِ إِرَادَةِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ لِلْمُشْرِكِينَ. وَهِيَ:
الْكُفْرُ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَضَلَالُ الْأَعْمَالِ النَّاشِئُ عَنْ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
والصدّ عَن سَبِيل: هُوَ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ مُتَابَعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَصَرْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأُضِيفَ (السَّبِيلُ) إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩]. وَاسْتُعِيرَ اسْمُ السَّبِيلِ لِلدِّينِ لِأَنَّ الدِّينَ يُوصل إِلَى رضى اللَّهِ كَمَا يُوَصِّلُ السَّبِيلُ السَّائِرَ فِيهِ إِلَى بُغْيَتِهِ.
وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَدُّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْحَج: ٢٥]. وَمِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
إخراجهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِطْعَامُهُمُ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ لِيَثْبُتُوا مَعَهُمْ وَيَكْثُرُوا حَوْلَهُمْ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُرَيْشٍ. وَهُمْ:
أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَنُبَيْهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَهَذَا الْأَخِيرُ أَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ وَصَارَ مِنْ خِيرَةِ الصَّحَابَةِ. وَعُدَّ مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو وَمِقْيَسٌ الْجُمَحِيُّ وَالْعَبَّاسُ بْنُ
فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ، أَيْ مَنَ اسْتَمَعَ مِنْهُمْ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ أَرْسَلُوهُ لِلسَّمْعِ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٤٩].
و (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ الرَّاقِيَ فِي السُّلَّمِ يَكُونُ كُلُّهُ عَلَيْهِ، فَالسُّلَّمِ لَهُ كَالظَّرْفِ لِلْمَظْرُوفِ، وَإِذْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِعْلَاءٌ ثُمَّ شَاعَ فِي الْكَلَامِ فَقَالُوا: صَعِدَ فِي السُّلَّمِ، وَلَمْ يَقُولُوا: صَعِدَ عَلَى السُّلَّمِ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَتْ ظَرْفِيَّةً حَقِيقِيَّةً، أَيْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً بِخِلَافِ الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: ٧١] لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ أَنْ يُقَالَ: صَلَبَهُ فِي جِذْعٍ، بَلْ يُقَالُ: صَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ اسْتِعَارَةً، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الظَّرْفِيَّةَ مَجَازِيَّةٌ وَقَوْلِ مَنْ زَعَمَهَا حَقِيقَةً.
وَالْفَاءُ فِي فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْأَمْرِ التَّعْجِيزِيِّ عَلَى النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ. فَالْمَعْنَى: فَمَا يَأْتِي مُسْتَمِعٌ مِنْهُمْ بِحُجَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُمْ. فَلَامُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ التَّعْجِيزِ بِقَرِينَةِ انْتِفَاءِ أَصِلِ الِاسْتِمَاعِ بِطَرِيقِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ، أَيْ حُجَّةٌ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي نَفْيِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي كَوْنِهِ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ.
وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْغَيْبِ مِنْ أَمَارَاتٍ كَأَنْ يَقُولُوا: آيَةُ صِدْقِنَا فِيمَا نَدَّعِيهِ وَسَمِعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْمَلَإِ الْأَعْلَى، أَنَّنَا سَمِعْنَا أَنَّهُ يَقَعُ غَدًا حَادِثُ كَذَا وَكَذَا مَثَلًا، مِمَّا لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ، فَيَقَعُ كَمَا قَالُوا وَيُتَوَسَّمُ مِنْهُ صِدْقُهُمْ فِيمَا عَدَاهُ. وَهَذَا مَعْنَى وصف السُّلْطَان بالمبين، أَيِ الْمُظْهِرُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى.
وَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِأَنْ يَأْتِيَ بَعْضُهُمْ بِحُجَّةٍ دُونَ تَكْلِيفِ جَمِيعِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣] أَيْ فَلْيَأْتِ مَنْ يَتَعَهَّدُ مِنْهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ بِحُجَّةٍ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْكَلَامِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطّور: ٣١] وَقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطّور: ٣٤].
[٣]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ٣]وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: ٢]. فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ قَرْيَتِهِمْ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وتكذيبهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْحَشْر: ٤] وَلَوْ لَمْ يُعَاقِبْهُمُ اللَّهُ بِالْجَلَاءِ لَعَاقَبَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ. فَلَوْ لَمْ يَقْذِفْ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى اسْتَسْلَمُوا لَعَاقَبَهُمْ بِجُوعِ الْحِصَارِ وَفَتَحَ دِيَارَهُمْ عَنْوَةً فَعُذِّبُوا قَتْلًا وَأَسْرًا.
وَالْمُرَادُ بِالتَّعْذِيبِ: الْأَلَمُ الْمَحْسُوسُ بِالْأَبْدَانِ بِالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْأَسْرِ وَالْإِهَانَةِ وَإِلَّا
فَإِنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ نَكْبَةٌ وَمُصِيبَةٌ لَكِنَّهَا لَا تُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِالْوِجْدَانِ.
ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، تُفِيدُ امْتِنَاعَ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا، أَيْ وُجُودُ تَقْدِيرِ اللَّهِ جَلَاءَهُمْ سَبَبٌ لِانْتِفَاءِ تَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ آخَرَ.
وَإِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَلَاءَ دُونَ التَّعْذِيبِ فِي الدُّنْيَا لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ، وَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَحَوَائِطَهُمْ دُونَ إِتْلَافٍ مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْقِتَالُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الْفُتُوحِ، فَلَيْسَ تَقْدِيرُ الْجَلَاءِ لَهُمْ لِقَصْدِ اللُّطْفِ بِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ آثَرُوهُ عَلَى الْحَرْبِ.
وَمَعْنَى كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ قَدَّرَ لَهُمْ تَقْدِيرًا كالكتابة فِي تحقق مَضْمُونِهِ وَكَانَ مَظْهَرُ هَذَا التَّقْدِيرِ الْإِلَهِيِّ مَا تَلَاحَقَ بِهِمْ مِنَ النَّكَبَاتِ مِنْ جَلَاءِ النَّضِيرِ ثُمَّ فَتْحِ قُرَيْظَةَ ثُمَّ فَتْحِ خَيْبَرَ.
وَالْجَلَاءُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ بِنِيَّةِ عَدَمِ الْعَوْدِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ | يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءٌ |
وَالْمَشْيُ: اسْتِعَارَةٌ لِتَشْوِيهِ حَالِهِ بِأَنَّهُ يَتَجَشَّمُ الْمَشَقَّةَ لِأَجْلِ النَّمِيمَةِ مِثْلُ ذِكْرِ السَّعْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [الْمَائِدَة: ٦٤]، ذَلِكَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ أَشَدُّ وَقْعًا فِي تَصَوُّرِ السَّامِعِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعْقُولَاتِ، فَذِكْرُ الْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ فِيهِ تَصْوِيرٌ لِحَالِ النَّمَّامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: قُطِعَ رَأْسُهُ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ قَوْلِكَ: قُتِلَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ
وَقَعَ مِثْلُهُ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»
. وَالنَّمِيمُ: اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلنَّمِيمَةِ، وَقِيلَ: النَّمِيمُ جَمْعُ نَمِيمَةٍ، أَيِ اسْمُ جَمْعٍ لِنَمِيمَةٍ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِدَةُ وصيرورتها اسْما.
[١٢]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : آيَة ١٢]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ.
هَذِهِ مَذَمَّةٌ خَامِسَةٌ.
مَنَّاعٍ: شَدِيدُ الْمَنْعِ. وَالْخَيْرُ: الْمَالُ، أَيْ شَحِيحٌ، وَالْخَيْرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَالِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨] وَقَالَ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: ١٨٠]، وَقَدْ رُوعِيَ تَمَاثُلُ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ حَلَّافٍ، هَمَّازٍ، مَشَّاءٍ، مَنَّاعٍ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ مُحَسِّنِ الْمُوَازَنَةِ.
وَالْمُرَادُ بِمَنْعِ الْخَيْرِ: مَنْعُهُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ ذَوِيِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ مَوَالِيهِ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ عُرِفُوا بِهَا مِنْ بَعْدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَأَيْضًا فَمِنْ مَنْعِ الْخَيْرِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطُونَ الْعَطَاءَ لِلْفَخْرِ وَالسُّمْعَةِ فَلَا يُعْطُونَ الضُّعَفَاءَ وَإِنَّمَا يُعْطُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَالْقَبَائِلِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٨]. قِيلَ: كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يُنْفِقُ فِي الْحَجِّ فِي كُلِّ حَجَّةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا يُطْعِمُ أَهْلَ مِنَى، وَلَا يُعْطِي الْمِسْكِينَ دِرْهَمًا وَاحِدًا.
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.
هُمَا مَذَمَّتَانِ سَادِسَةٌ وَسَابِعَةٌ قَرَنَ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ.
وَالْاعْتِدَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُدْوَانِ فَالْافْتِعَالُ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الشِّدَّةِ.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] فَهِيَ ثَانِيَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ الرَّادِفَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً أَنَّهَا لَا تُتْبَعُ بِثَانِيَةٍ لَهَا، وَقَدْ وُصِفَتْ بِوَاحِدَة فِي صُورَة الْحَاقَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَار.
و (الساهرة) : الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا يُخْتَارُ مِثْلُهَا لِاجْتِمَاعِ الْجُمُوعِ وَوَضْعِ الْمَغَانِمِ. وَأُرِيدَ بِهَا أَرْضٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ لِجَمْعِ النَّاسِ لِلْحَشْرِ.
وَالْإِتْيَانُ بِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى سُرْعَةِ حُضُورِهِمْ بِهَذَا الْمَكَانِ عَقِبَ الْبَعْثِ.
وَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ (إِذَا) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُفَاجَأَةِ وَالتَّفْرِيعِ أَشَدُّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ السُّرْعَةِ مَعَ إِيجَازِ اللَّفْظِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِخَلْقِ أَجْسَادٍ تَحِلُّ فِيهَا الْأَرْوَاحُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَتَحْضُرُ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ لِلْحسابِ بِسُرْعَة.
[١٥- ١٩]
[سُورَة النازعات (٧٩) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٩]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
هَذِهِ الْآيَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [النازعات: ١٣] وَبَيْنَ جُمْلَةِ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [النازعات: ٢٧] الَّذِي هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ ثُمَّ الْإِنْذَارُ بِمَا بَعْدَهُ
دَعَتْ إِلَى اسْتِطْرَادِهِ مُنَاسَبَةُ التَّهْدِيدِ لِمُنْكِرِي مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَعْثِ لِتَمَاثُلِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي طُغْيَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَتَمَاثُلِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ بِحَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ لِيَحْصُلَ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَضْرَابِهِمَا لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: ٢٦].
وهَلْ أَتاكَ اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ يُقْصَدُ مِنْ أَمْثَالِهِ تَشْوِيقُ السَّامِعِ إِلَى الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمُخَاطَبِ عَنْ سَابِقِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ