وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ
صَبَغْنَا عَلَى ذَلِكَ أَبْنَاءَنَا فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ
وَقَدْ جَعَلَ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ أَحْوَاضًا صَغِيرَةً فِيهَا مَاءٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَخْلُوطٌ بِبَقَايَا الْمَاءِ الَّذِي أُهْرِقَ عَلَى عِيسَى حِينَ عمده يحيى وَإِنَّمَا تَقَاطَرَ مِنْهُ جُمِعَ وَصُبَّ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ تُؤْخَذُ مَقَادِيرُ تُعْتَبَرُ مُبَارَكَةً لِأَنَّهَا لَا تخلوعن جُزْءٍ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي تَقَاطَرَ مِنَ اغْتِسَالِ عِيسَى حِينَ تعميده كَمَا ذَلِك فِي أَوَائِلِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ.
فَقَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعًا أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّ الصِّبْغَةَ نَشَأَتْ فِيهِمْ وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْمُودِيَّةُ مَشْرُوعَةً لَهُمْ لِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى عَقَائِدِهِمْ رُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ صِبْغَةَ الْإِسْلَامِ الِاعْتِقَادُ وَالْعَمَلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا
بِقَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٣٦] إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦] أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ حَاصِلًا بِصِبْغَةِ الْقِسِّيسِ فَإِيمَانُنَا بِصِبْغِ اللَّهِ وَتَلْوِينِهِ أَيْ تَكْيِيفِهِ الْإِيمَانَ فِي الْفِطْرَةِ مَعَ إِرْشَادِهِ إِلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الصِّبْغَةِ عَلَى الْإِيمَانِ اسْتِعَارَةٌ عَلَاقَتُهَا الْمُشَابِهَةٌ وَهِيَ مُشَابَهَةٌ خَفِيَّةٌ حَسَّنَهَا قَصْدُ الْمُشَاكَلَةِ، وَالْمُشَاكَلَةُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى الِاسْتِعَارَةِ وَإِنَّمَا قَصْدُ الْمُشَاكَلَةِ بَاعِثٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا الْعُلَمَاءُ الْمُشَاكَلَةَ لِخَفَاءِ وَجْهِ التَّشْبِيهِ فَأَغْفَلُوا أَنْ يُسَمُّوهَا اسْتِعَارَةً وَسَمُّوهَا الْمُشَاكَلَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْإِتْيَانُ بِالِاسْتِعَارَةِ لِدَاعِي مُشَاكَلَةِ لَفْظٍ لِلَفْظٍ وَقَعَ مَعَهُ. فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمَقْصُودُ مُشَاكَلَتَهُ مَذْكُورًا فَهِيَ الْمُشَاكَلَةُ، وَلَنَا أَنْ نَصِفَهَا بِالْمُشَاكَلَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ كَقَوْلِ ابْنِ الرَّقَعْمَقِ (١) :
قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا
اسْتَعَارَ الطَّبْخَ لِلْخِيَاطَةِ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَذْكُورٍ بَلْ مَعْلُومًا مِنَ السِّيَاقِ سُمِّيَتْ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
مَنْ مُبْلِغٌ أَفَنَاءَ يَعْرُبَ كُلِّهَا أَنِّي بَنَيْتُ الْجَارَ قَبْلَ الْمَنْزِلِ
اسْتَعَارَ الْبِنَاءَ لِلِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ شَاكَلَ بِهِ بِنَاءَ الْمَنْزِلِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَلَامِ الْمَعْلُومِ
_________
(١) هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَنْطَاكِي ويكنى أَبَا حَامِد توفّي سنة ٣٩٩ هـ وكني أَبَا الرقعمق (برَاء مَفْتُوحَة وقاف مَفْتُوحَة وَعين سَاكِنة وَمِيم مَفْتُوحَة آخِره قَاف) وَلم أَقف على مَعْنَاهُ وَهُوَ لَيْسَ بعربي وَلَعَلَّه لفظ هزلي وَقبل هَذَا الْبَيْت قَوْله:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
إِخْوَاننَا قصدُوا الصّبوح بسحرة فَأتى رسولهم إليّ خصيصا