الْآيَةُ غَيْرَ مُنْتَهِيَةٍ وَلَوْ طَالَتْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤]، فَهَذِهِ الْجُمَلُ كُلُّهَا عُدَّتْ آيَةً وَاحِدَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاصِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَهِيَ مِنْ جَانِبِ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، فَمِنَ الْغَرَضِ الْبَلَاغِيِّ الْوُقُوفُ عِنْدَ الْفَوَاصِلِ لِتَقَعَ فِي الْأَسْمَاعِ فَتَتَأَثَّرَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ بِمَحَاسِنِ ذَلِكَ التَّمَاثُلِ، كَمَا تَتَأَثَّرُ بِالْقَوَافِي فِي الشِّعْرِ وَبِالْأَسْجَاعِ فِي الْكَلَامِ الْمَسْجُوعِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ بالقوافي وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غَافِر: ٧١] فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِر: ٧٢] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ [غَافِر: ٧٣] مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. فَقَوْلُهُ: فِي الْحَمِيمِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يُسْحَبُونَ وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تُشْرِكُونَ. وَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عِنْدَ نِهَايَةِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ آيَةٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِهِ ابْتِدَاءُ الْآيَةِ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٤].
أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْإِضَاعَةِ لِدَقَائِقِ الشِّعْرِ أَنْ يُلْقِيَهُ مُلْقِيهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ دُونَ وَقْفٍ عِنْدَ قَوَافِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِضَاعَةٌ لِجُهُودِ الشُّعَرَاءِ، وَتَغْطِيَةٌ عَلَى مَحَاسِنِ الشِّعْرِ، وَإِلْحَاقٌ لِلشِّعْرِ بالنثر. وإنّ الْفَاء السَّجْعِ دُونَ وُقُوفٍ عِنْدَ أَسْجَاعِهِ هُوَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ. وَمِنَ السَّذَاجَةِ أَنْ يَنْصَرِفَ مُلْقِي الْكَلَامِ عَنْ مُحَافَظَةِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ فَيَكُونَ مُضَيِّعًا لِأَمْرٍ نَفِيسٍ أَجْهَدَ فِيهِ قَائِلُهُ نَفْسَهَ وَعِنَايَتَهُ. وَالْعِلَّةُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّامِعِينَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ، فُضُولٌ، فَإِنَّ الْبَيَانَ وَظِيفَةُ مُلْقِي دَرْسٍ لَا وَظِيفَةُ مُنْشِدِ الشِّعْرِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الشَّاعِرَ نَفْسَهُ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَقْف على رُؤُوس الْآيِ سُنَّةٌ. وَفِيهِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» : الْأَفْضَلُ الْوَقْف على رُؤُوس الْآيَاتِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا اتِّبَاعًا لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ،
وَفِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» عَنْ أُمِّ سَلمَة أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ قَطَّعَ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ يَقِفُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ثُمَّ يَقِفُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: ١- ٣] ثُمَّ يَقِفُ.
فَكَانَ مَا يَذْكُرُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأُلُوهِيَّةِ هُوَ فِي مَعْنَى قَصْرِهَا عَلَيْهِ تَعَالَى، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفَيِ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى أَنَّ فِي ذِكْرِ صِفَةِ الرَّحْمَنِ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ أَبَوْا وَصْفَ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْإِلَهِ الْمَنْفِيِّ أَيْ أَنَّ جِنْسَ الْإِلَهِ مَنْفِيٌّ إِلَّا هَذَا الْفَرْدَ، وَخَبَرُ (لَا) فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْمَوَاضِعِ يَكْثُرُ حَذْفُهُ لِأَنَّ لَا التَّبْرِئَةِ مُفِيدَةٌ لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَالْفَائِدَةُ حَاصِلَةٌ مِنْهَا وَلَا تَحْتَاجُ لِلْخَبَرِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَقْيِيدُ النَّفْيِ بِحَالَةٍ نَحْوَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَرِهُوا بَقَاءَ صُورَةِ اسْمٍ وَحَرْفٍ بِلَا خَبَرٍ ذَكَرُوا مَعَ اسْمِ لَا خَبَرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا شَيْئًا يَسُدُّ مَسَدَّ الْخَبَرِ فِي الصُّورَةِ حَذَفُوا الْخَبَرَ مَعَ لَا نَحْوَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَنَحْوَ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةَ. وَلِأَبِي حَيَّانَ هُنَا تكلفات.
[١٦٤]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
مَوْقِعُ هَاتِهِ الْآيَةِ عَقِبَ سَابِقَتِهَا مَوْقِعُ الْحُجَّةِ مِنَ الدَّعْوَى، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَنَ أَنَّ الْإِلَهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَهِيَ قَضِيَّةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتَلَقَّى بِالْإِنْكَارِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَنَاسَبَ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ لِمَنْ لَا يَقْتَنِعُ فَجَاءَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا يَسَعُ النَّاظِرَ إِلَّا التَّسْلِيم إِلَيْهَا.
فَإِن هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِلَفْتِ الْأَنْظَارِ إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ.
وَلَيْسَتْ إِنَّ هُنَا بِمُؤْذِنَةٍ بِتَعْلِيلٍ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا صَالِحًا لِتَعْلِيلِ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَوْقِعُ لِفَاءِ الْعَطْفِ فَحِينَئِذٍ يُغْنِي وُقُوعُ
وَقَوْلُهُ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ بَيَانًا ثَانِيًا، لِكَيْفِيَّةِ حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ أُخِّرَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سبقه من الحقّ عَلَى تَوَسُّمِ احتياجهم بأنّهم محصرون لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ لَمْ يُغَادِرِ الْقُرْآنُ شَيْئًا مِنَ الْحَثِّ عَلَى إِبْلَاغِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَيْدِي الْفُقَرَاءِ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ بِهِ، وَأَظْهَرَ بِهِ مَزِيدَ الِاعْتِنَاءِ.
وَالْإِلْحَافُ الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَنُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ ضَمِيرِ يَسْأَلُونَ بِتَأْوِيلِ مُلْحِفِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ السُّؤَالُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِلْحَافِ أوِ الْمُقَيَّدُونَ فِيهِ بِأَنَّهُمْ مُلْحِفُونَ- وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ نَفْيَ صُدُورِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ- مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ أَصْلًا، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الزَّجَاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَافِ مَعًا كَقَوْلِ امْرِئِ
الْقَيْسِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ يُرِيدُ نَفْيَ الْمَنَارِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَقَرِينَةُ هَذَا الْمَقْصُودِ أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُحْسَبُونَ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِر: ١٨] أَيْ لَا شَفِيعَ أَصْلًا، ثُمَّ حَيْثُ لَا شَفِيعَ فَلَا إِطَاعَةَ، فَأَنْتَجَ لَا شَفِيعَ يُطَاعُ، فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ كَنَفْيِهِ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَجَعَلُوهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكِنَايَةِ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «إِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إِذَا كَانَ الْقَيْدُ الْوَاقِعُ بَعْدَ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ لِلنَّفْيِ لِأَنَّ شَأْنَ اللَّاحِبِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَارٌ، وَشَأْنَ الشَّفِيعِ أَنْ يُطَاعَ، فَيَكُونَ نَفْيُ اللَّازِمِ نَفْيًا لِلْمَلْزُومِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ، وَلَيْسَ الْإِلْحَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّؤَالِ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ضِدُّ الْإِلْحَافِ- وَهُوَ الرِّفْقُ وَالتَّلَطُّفُ- أَشْبَهَ باللَّازِمِ» (أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ مُطَّرِدَ اللُّزُومِ لِلْمَنْفِيِّ عَنْهُ). وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ خَفِيفٍ دُونَ إِلْحَافٍ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُمْ أَنْ يَتَعَفَّفُوا، فَإِذَا سَأَلُوا سَأَلُوا بِغَيْرِ إِلْحَافٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَالْبَيَانِ لَهَا، وَالْأَظْهَرُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ- الَّذِي جُعِلَ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا- وَأَجَابَ الْفَخْرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَنَّهُمْ لَا
وَاسْتَبَقُوا إِلَى طَلَبِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُمْدِدْهُمُ اللَّهُ وَلَا بِمَلَكٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
بَدَلًا مِنْ وَإِذْ غَدَوْتَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَيَأْتُوكُمْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ تَحْقِيقِ سُرْعَةِ النَّصْرِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ وَيَأْتُوكُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَمَعْنَى مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا الْمُبَادَرَةُ السَّرِيعَةُ، فَإِنَّ الْفَوْرَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِضَافَةُ الْفَوْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْآتِينَ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ اخْتِصَاصِ الْفَوْرِ بِهِمْ، أَيْ شِدَّةِ اتِّصَافِهِمْ بِهِ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِأَنَّهُ فَوْرُهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ خَرَجَ من فوره. و (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ (هَذَا) إِلَى الْفَوْرِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ الْقَرِيبِ، وَتِلْكَ كِنَايَة أَو استعادة لِكَوْنِهِ عَاجِلًا.
ومُسَوِّمِينَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ سَوَّمَهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّومَةِ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ الْعَلَامَةُ مَقْلُوبُ سِمَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ سِمَةٍ وَسْمَةٌ. وَتُطْلَقُ السُّومَةُ عَلَى عَلَامَةٍ يَجْعَلُهَا الْبَطَلُ لِنَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ مِنْ صُوفٍ أَوْ رِيشٍ مُلَوَّنٍ، يَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى رَأْسِ فَرَسِهِ، يَرْمُزُ بِهَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَّقِي أَنْ يَعْرِفَهُ أَعْدَاؤُهُ، فَيُسَدِّدُوا إِلَيْهِ سِهَامَهُمْ، أَوْ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ، فَهُوَ يَرْمُزُ بِهَا إِلَى أَنَّهُ وَاثِقٌ بِحِمَايَتِهِ نَفْسَهُ بِشَجَاعَتِهِ، وَصِدْقِ لِقَائِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمرَان: ١٤] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ وَالِاسْتِفْعَالِ تَكْثُرَانِ فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ.
وَوَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ كِنَايَةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ شِدَادًا.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَعْدَادَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مُنَاسِبَةٌ لِجَيْشِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ جَيْشَ الْعَدُوِّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ أَلْفًا فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِمَدَدِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا خَشُوا أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَدُوِّ مَدَدٌ مِنْ كُرْزٍ الْمُحَارِبِيِّ. وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَيْ بِجَيْشٍ لَهُ قَلْبٌ.
أَنْ لَا يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ:- اسْمَعْ وَانْظُرْنا فَأَزَالَ لَهُمْ كَلِمَةَ (غَيْرَ مُسْمَعٍ). وَقَصْدُهُمْ مِنْ إِيرَادِ كَلَامٍ ذِي وَجْهَيْنِ أَنْ يُرْضُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيُرْضُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُوءِ نِيَّتِهِمْ مَعَ الرَّسُول- عَلَيْهِ السَّلَام- وَيُرْضُوا قَوْمَهُمْ، فَلَا يَجِدُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةً.
وَقَوْلُهُمْ: وَراعِنا أَتَوْا بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ طَلَبُ الْمُرَاعَاةِ، أَيِ الرِّفْقِ، وَالْمُرَاعَاةُ مُفَاعَلَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّعْيِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ الشَّائِعَةِ الَّتِي سَاوَتِ الْأَصْلَ، ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّعْيَ مِنْ لَوَازِمِهِ الرِّفْقُ بِالْمَرْعِيِّ، وَطَلَبُ الْخِصْبِ لَهُ، وَدَفْعُ الْعَادِيَةِ عَنْهُ. وَهُمْ يُرِيدُونَ بِ راعِنا كَلِمَةً فِي الْعِبْرَانِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الرُّعُونَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا كَلِمَةُ رَاعُونَا وَأَنَّ مَعْنَاهَا الرُّعُونَةُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا، يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ
النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ اغْتِرَارًا فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٤] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا.
وَاللَّيُّ أَصْلُهُ الِانْعِطَافُ وَالِانْثِنَاءُ، وَمِنْهُ «وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ»، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ فِي كِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ: اللَّيُّ، وَالْأَلْسِنَةُ، أَيْ أَنَّهُمْ يُثْنُونَ أَلْسِنَتَهُمْ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُشْبِهًا لُغَتَيْنِ بِأَنْ يُشْبِعُوا حَرَكَاتٍ، أَوْ يَقْصُرُوا مُشْبَعَاتٍ، أَوْ يُفَخِّمُوا مُرَقَّقًا، أَوْ يُرَقِّقُوا مُفَخَّمًا، لِيُعْطِيَ اللَّفْظُ فِي السَّمْعِ صُورَةً تُشْبِهُ صُورَةَ كَلِمَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ قَدْ تَخْرُجُ كَلِمَةٌ مِنْ زِنَةٍ إِلَى زِنَةٍ، وَمِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ بِمِثْلِ هَذَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ (اللي) مجازه، وب (الْأَلْسِنَة) مَجَازُهُ: فَاللَّيُّ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ الْكَلِمَةِ، وَالْأَلْسِنَةُ مَجَازٌ عَلَى الْكَلَامِ، أَيْ يَأْتُونَ فِي كَلَامِهِمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَمَحِّضٍ لِمَعْنَى الْخَيْرِ.
وَانْتَصَبَ «لَيًّا» عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَقُولُونَ، لِأَنَّ اللَّيَّ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْقَوْلِ.
وَانْتَصَبَ طَعْناً فِي الدِّينِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الْمَفَاعِيلِ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ، وَلَا ضَيْرَ فِيهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُمَا مَعًا مَفْعُولَيْنِ مُطْلَقَيْنِ أَوْ مَفْعُولَيْنِ لِأَجْلِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُهُمْ (طَعْناً فِي الدِّينِ)، لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا فِي كَلَامِهِمْ قَصْدًا خَبِيثًا فَكَانُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ، وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولًا لَعَلِمَ مَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا، فَلِذَلِكَ فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا.
الصِّيغَةِ نَحْوَ الْإِشَارَةِ لِلْأَبْكَمِ، وَنَحْوَ الْمُعَاطَاةِ فِي الْبُيُوعِ. وَالْعُقُودُ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِي انْعِقَادِهَا الشُّرُوعَ فِيهَا بَعْدَ الصِّيغَةِ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، كَالْجُعْلِ وَالْقِرَاضِ. وَتَمْيِيزُ جُزْئِيَّاتِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْآخَرِ مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالْمِائَتَيْنِ: إِنَّ أَصْلَ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ هِيَ اللُّزُومُ، وَإِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ أَوْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ بِالْقَوْلِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ خَفَاءَ الْحَقِّ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فَيُخْشَى تَطَرُّقُ الْغَرَرِ إِلَيْهِ، فَوَسَّعَ فِيهَا عَلَى الْمُتَعَاقِدِينَ فَلَا تَلْزَمُهُمْ إِلَّا بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، لِأَنَّ الشُّرُوعَ فَرْعُ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ
الْمَالِكِيَّةُ فِي عُقُودِ الْمُغَارَسَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالشَّرِكَةِ هَلْ تُلْحَقُ بِمَا مَصْلَحَتُهُ فِي لُزُومِهِ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِمَا مَصْلَحَتُهُ فِي لُزُومِهِ بِالشُّرُوعِ. وَقَدِ احْتَجَّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالتِسْعِينَ وَالْمِائَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعُقُودِ أَنْ تُلْزَمَ بِالْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَدِيثِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ يَعْنِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ مِنَ الْعُقُودِ تَمَامُهَا، وَبِذَلِكَ صَارَ مَا قَرَّرْتُهُ مُقَدَّمًا عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى خَبَرِ الْآحَادِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَنْعَقِدُ عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ اللُّزُومِ، كَبَيْعِ الْخِيَارِ، فَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِمُدَّةٍ يُحْتَاجُ إِلَى مِثْلِهَا عَادَةً فِي اخْتِيَارِ الْمَبِيعِ أَوِ التَّشَاوُرِ فِي شَأْنِهِ.
وَمِنَ الْعُقُودِ الْمَأْمُورِ بِالْوَفَاءِ بِهَا عُقُودُ الْمُصَالَحَاتِ وَالْمُهَادَنَاتِ فِي الْحُرُوبِ، وَالتَّعَاقُدُ عَلَى نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَكُلُّ تَعَاقُدٍ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ أَمْرٍ حَرَامٍ، وَقَدْ أَغْنَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَنِ التَّعَاقُدِ فِي مِثْلِ هَذَا إِذْ أَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ الْمُنْعَقِدَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَنَحْوِهِ: كَحِلْفِ الْفُضُولِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوْفُوا
وَقَوْلُهُ قالُوا حَسْبُنا أَيْ كَافِينَا، إِذَا جُعِلَتْ (حَسْبُ) اسْمًا صَرِيحًا وَمَا وَجَدْنا هُوَ الْخَبَرَ، أَوْ كَفَانَا إِذَا جُعِلَتْ (حَسْبُ) اسْمَ فِعْلٍ وَمَا وَجَدْنا هُوَ الْفَاعِلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٧٣].
وَ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ: مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا مَجَازٌ فِي تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَقَوْلُهُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَخْ، تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٠] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الْآيَةَ.
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي تَنَازُعٍ بَيْنَ أَهْلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَهْلِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنِ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَتَحْمِيلُ الْآيَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِكْرَاهٌ لِلْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنى.
[١٠٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٠٥]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
تَذْيِيلٌ جَرَى عَلَى مُنَاسَبَةٍ فِي الِانْتِقَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مُكَابَرَةَ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْ دَعْوَةِ الْخَيْرِ عَقَّبَهُ بِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ حُدُودَ انْتِهَاءِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ إِذَا ظَهَرَتِ الْمُكَابَرَةُ، وَعَذَرَ الْمُسْلِمِينَ بِكِفَايَةِ قِيَامِهِمْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، فَأَعْلَمَهُمْ هُنَا أَنْ لَيْسَ تَحْصِيلُ أَثَرِ الدُّعَاءِ على الْخَيْر بمسؤولين عَنْهُ، بَلْ عَلَى الدَّاعِي بَذْلُ جَهْدِهِ وَمَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُصْغِ الْمَدْعُوُّ إِلَى الدَّعْوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقَصَص: ٥٦].
وعَلَيْكُمْ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَتَكُونُ جُمْلَةً مِنْ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ وَمُبْتَدَأٍ مُؤَخَّرٍ، وَتَكُونُ (عَلَى) دَالَّةً عَلَى اسْتِعْلَاءٍ
فِي تَقْرِيرِهِمْ عَلَى بِعْثَةِ الرّسل إِلَيْهِم بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ نَفْيِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدُوا لِإِنْكَارِ مَجِيءِ الرُّسُلِ مَسَاغًا، وَاعْتَرَفُوا بِمَجِيئِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ أَحْرَى لِأَخْذِهِمْ بِالْعِقَابِ.
وَالرُّسُلُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، أَيْ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ: مِنِ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَنْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: ١٣] وَهُمْ رُسُلُ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ عِيسَى.
فَوَصْفُ الرّسل بقوله: نْكُمْ
لِزِيَادَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، أَيْ رُسُلٌ تَعْرِفُونَهُمْ وَتَسْمَعُونَهُمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةً مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، فَلَيْسَتْ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَة: ٢] وَذَلِكَ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنَ الْإِنْسِ، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ إِلَّا فِي أَشْرَفِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَجِنْسُ الْجِنِّ أَحَطُّ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ.
وَتَكُونُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً، وَيَكُونُ المُرَاد بضمير: نْكُمْ
خُصُوصَ الْإِنْسِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، أَوْ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ
[الرَّحْمَن: ٢٢] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ. فَأَمَّا مُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْجِنِّ إِلْهَامًا بِوُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ- فَقالُوا- إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: ١] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣٠، ٣١] :
قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ذَلِكَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ تَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ لَهُمُ اتِّصَالٌ بِهَذَا الْعَالَمِ وَاطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: ٢٧]
وُجُودِهِ، وَفِيهَا آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ سَتَكُونَ أُمَّةٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ فَيَكُونُونَ فِي حَجِّهِمْ عُرَاةً، فَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْوِصَايَةَ بِهِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ، بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، عَيْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى وَلِلِاهْتِمَامِ بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ جُعِلَتِ الثَّانِيَةُ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِ: وَلِباسُ التَّقْوى تَكُونُ جُمْلَةُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ اسْتِئْنَاف وَاحِدًا وَالْإِشَارَةُ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلُ مِنْ أَصْنَافِ اللِّبَاسِ حَتَّى الْمَجَازِيِّ عَلَى تَفْسِيرِ لِبَاسِ التَّقْوَى بِالْمَجَازِيِّ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ الْتِفَاتٌ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ آيَةً لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ عَظِيمَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَاللُّطْفِ، وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَعْرِيضٌ بِمَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ حَضْرَةِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّ ضَمَائِرَ الْغَيْبَةِ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقُرْآنِ، كَثِيرًا مَا يُقْصَدُ بِهَا مشركو الْعَرَب.
[٢٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٧]
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
أُعِيدَ خِطَابُ بَنِي آدَمَ، فَهَذَا النِّدَاءُ تَكْمِلَةٌ لِلْآيِ قَبْلَهُ، بُنِيَ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ مُتَابَعَةِ
الشَّيْطَانِ إِلَى إِظْهَارِ كَيْدِهِ لِلنَّاسِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهِمْ، إِذْ كَادَ لِأَصْلِهِمْ.
وَالنِّدَاءُ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ: لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، مَعَ زِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِمِنَّةِ اللِّبَاسِ تَوْكِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِحَمَاقَةِ الَّذِينَ يَحُجُّونَ عُرَاةً.
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَالَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، فَلِذَلِكَ أُعِيدَ التَّصْرِيحُ بِتَسَبُّبِ الْإِعْرَاضِ فِي غَرَقِهِمْ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنَ التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الْقِصَّةِ إِلَى الْعِبْرَةِ.
وَقَدْ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ ثَابِتٌ لَهُمْ، وَرَاسِخٌ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ هُوَ عِلَّةُ التَّكْذِيبِ الْمَصُوغِ خَبَرُهُ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِهِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْآيَاتِ.
[١٣٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها.
عُطِفَ عَلَى فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الْأَعْرَاف: ١٣٦]. وَالْمَعْنَى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ وَجَازَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَة.
وَتقدم ءانفا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى أَوْرَثْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الْأَعْرَاف: ١٠٠] وَالْمُرَادُ هُنَا تَمْلِيكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَهْلِهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ تَمْلِكُهَا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْيِينُ
الْمَوْرُوثِ عَنْهُ.
وَالْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَمَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ٥٩]، وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِهِمْ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى تَعْرِيفِهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِنُكْتَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: الْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ مَلَّكَهُمُ الْأَرْضَ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حَاكِمَةً جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا صَبَرُوا عَلَى الِاسْتِعْبَادِ، غَيْرَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبِيدِهِ.
الثَّانِيَةُ: التَّعْرِيضُ بِبِشَارَةِ الْمُؤمنِينَ بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ سَتَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةُ السُّلْطَانِ كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، جَزَاءً عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى الْأَذَى فِي اللَّهِ، وَنِذَارَةُ الْمُشْرِكِينَ بِزَوَالِ سُلْطَانِ دِينِهِمْ.
وَمَعْنَى يُسْتَضْعَفُونَ: يُسْتَعْبَدُونَ وَيُهَانُونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ مِثْلَ اسْتَنْجَبَ، أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي اسْتَجَابَ.
وَ (عَرَضَ الدُّنْيا) هُوَ الْمَالُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرَضًا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ قَلِيلُ اللُّبْثِ، فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الْعَارِضَ إِذِ الْعُرُوضُ مُرُورُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ مُكْثِهِ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِلْمَاشِينَ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ.
وَالْمُرَادُ عَرَضُ الدُّنْيَا الْمَحْضُ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِهِ.
وَالْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ، أَيْ: تُحِبُّونَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُحِبُّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، أَيْ يُحِبُّ لَكُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَعُلِّقَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ بِذَاتِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَهُوَ حَذْفُ مُضَافٍ لِلْإِيجَازِ، وَمِمَّا يُحَسِّنُهُ أَنَّ الْآخِرَةَ الْمُرَادَةَ لِلْمُؤْمِنِ لَا يُخَالِطُ نَفْعَهَا ضُرٌّ وَلَا مَشَقَّةٌ، بِخِلَافِ نَفْعِ الدُّنْيَا.
وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الدُّنْيا الْمُضَافُ وَلَمْ يُحْذَفْ: لِأَنَّ فِي ذِكْرِهِ إِشْعَارًا بِعُرُوضِهِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ.
وَإِنَّمَا أَحَبَّ اللَّهُ نَفْعَ الْآخِرَةِ: لِأَنَّهُ نَفْعٌ خَالِدٌ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَصَلَاحُ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ أَمَارَاتٍ، هِيَ أَمَارَاتُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَكُلُّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ نَفْعِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا فِيهِ نَفْعٌ مِنَ الْآخِرَةِ فَفِيهِ مَحَبَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْفِدَاءُ الَّذِي أَحَبُّوهُ لَمْ يَكُنْ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ، وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ عِتَابَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
اخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ اسْتَشَارَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا هُوَ عِتَابٌ عَلَى نَوَايَا فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْجَيْشِ، حِينَ تَخَيَّرُوا الْفِدَاءَ أَيْ أَنَّهُمْ مَا رَاعَوْا فِيهِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْمَالِ لِنَفْعِ أَنْفُسِهِمْ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّ حَقِيقًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَنْسَوْا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمُ، الِالْتِفَاتَ إِلَى نَفْعِ الدِّينِ وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الِاسْتِشَارَةِ «قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تُقَوِّي بِهَا أَصْحَابَكَ» فَنَظَرَ إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا الْمَلْحَظَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْجَيْشِ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تُحِبُّونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لَكُمُ الثَّوَابَ وَقُوَّةَ
وَجُمْلَةُ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَادَى وَهِيَ إِرْشَادٌ لَهُ وَرِفْقٌ بِهِ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ ارْكَبْ مَعَنا لِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُ عَنِ الرُّكُوبِ يَجْعَلُهُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ إِذْ لَا يَكُونُ إِعْرَاضُهُ عَنِ الرُّكُوبِ إِلَّا أَثَرًا لِتَكْذِيبِهِ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ. فَقَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ ارْكَبْ مَعَنا كِنَايَةٌ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقَةِ الْعَرْضِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَدْ زَادَ ابْنَهُ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ بِالطُّوفَانِ قَوْلُهُ مُتَهَكِّمًا سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.
و (بنيّ) تَصْغِيرُ (ابْنٍ) مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَتَصْغِيرُهُ هُنَا تَصْغِيرُ شَفَقَةٍ بِحَيْثُ يُجْعَلُ كَالصَّغِيرِ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. فَأَصْلُهُ بُنَيْو، لِأَنَّ أَصْلَ ابْنٍ بَنْو، فَلَمَّا حَذَفُوا مِنْهُ الْوَاوَ لِثِقَلِهَا فِي آخِرِ كَلِمَةٍ ثُلَاثِيَّةٍ نَقَصَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَعَوَّضُوهُ هَمْزَةَ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ، وَمَهْمَا عَادَتْ لَهُ الْوَاوُ الْمَحْذُوفَةُ لِزَوَالِ دَاعِي الْحَذْفِ طُرِحَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ إِضَافَةُ الْمُصَغَّرِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَزِمَ كَسْرُ الْوَاوِ لِيَصِيرَ بُنَيْوِي، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْوَاوُ بَيْنَ عَدُوَّتَيْهَا الْيَاءَيْنِ قُلِبَتْ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي يَاءِ التَّصْغِيرِ فَصَارَ بُنَيَّي بِيَاءَيْنِ فِي آخِرِهِ أُولَاهُمَا مُشَدَّدَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُنَادَى الْمُضَافُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ يَجُوزُ حَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ وَإِبْقَاءُ الْكَسْرَةِ صَارَ بُنَيَّ- بِكَسْرِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بُنَيَّ بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا يَجُوزُ فَتْحُهَا فِي النِّدَاءِ، أَصله يَا بُنَيِّيَ بِيَاءَيْنِ أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ وَهِيَ يَاءُ التَّصْغِيرِ مَعَ لَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي أَصْلُهَا الْوَاوُ ثُمَّ اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ الْأَصْلِيَّةُ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ سَآوِي وَجُمْلَةُ قالَ لَا عاصِمَ لِوُقُوعِهِمَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ قَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ أعالي الْجبَال. و (آوي) :
أَنْزِلُ، وَمَصْدَرُهُ: الْأُوِيُّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ-.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَدَنِيَّ فِيهَا كَثِيرٌ، وَكُلُّ مَا نَزَلْ فِي شَأْنِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ فَهُوَ مَدَنِيٌّ.
وَأَقُولُ أَشْبَهُ آيَاتِهَا بِأَنْ يَكُونَ مَدَنِيًّا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: ٤١] كَمَا سَتَعْلَمُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ- إِلَى-
وَإِلَيْهِ مَتابِ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠]، فَقَدْ قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِهَا.
وَمَعَانِيهَا جَارِيَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ على الوحدانية وتقريع الْمُشْرِكِينَ وَتَهْدِيدِهِمْ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي أَثَارَتِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ أَخْبَارٌ وَاهِيَةٌ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةً. وَمن آياتها آيَات نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأُلْحِقَتْ بِهَا. فَإِن ذَلِك وَقع فِي بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَذْكُرُوا مَوْقِعَهَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمَكِّيَّاتِ سِوَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوهَا بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ وَذَكَرُوا بَعْدَهَا سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ.
وَالَّذِينَ جَعَلُوهَا مَدَنِيَّةً عَدُّوهَا فِي النُّزُولِ بَعْدَ سُورَةِ الْقِتَالِ وَقبل سُورَة الرحمان وَعَدُّوهَا سَابِعَةً وَتِسْعِينَ فِي عِدَادِ النُّزُولِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْقِتَالِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ عَامَ الْفَتْحِ تَكُونُ سُورَةُ الرَّعْدِ بَعْدَهَا.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَأَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ فِي عَدَدِ الْمَدَنِيِّينَ وَخَمْسًا وَأَرْبَعِينَ عِنْد الشَّام.
مقاصدها
أُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى أَسَاسِ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَإِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَتْ حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ مُوَزَّعَةً عَلَى السُّورَةِ بَدْءًا وَنِهَايَةً.
وَمُهِّدَ لِذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ
إِلَّا حَقًّا، وَمَا كَانَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهَا إِلَّا حَقًّا عِنْدَ حُلُولِ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ التَّمَرُّدُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ أَنْ تُعَطِّلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ عُطْلِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ أَوِ الْخَاصَّةُ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فِي الْكَلَامِ يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ الِاسْتِدْلَالِ، فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَأَيْقَنَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَخَلَّفُ
عَنْ مُسْتَحِقِّهِ وَلَوْ غَابَ وَتَأَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نِظَامُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا قَدْ يُعَطِّلُ ظُهُورَ الْحَقِّ فِي نِصَابِهِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ.
فَعَلِمَ أَنَّ وَرَاءَ هَذَا النِّظَامِ نِظَامًا مُدَّخَرًا يَتَّصِلُ فِيهِ الْحَقُّ بِكُلِّ مُسْتَحِقٍّ إِنْ خَيْرًا وَإِنْ شَرًّا، فَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ فَاتَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ مُفْلِتًا مِنَ الْجَزَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ عَالَمًا آخَرَ يُعْطِي فِيهِ الْأُمُورَ مُسْتَحِقِّيهَا.
فَلِذَلِكَ أعقب الله ووَ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِآيَةِ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، أَيْ أَنَّ سَاعَةَ إِنْفَاذِ الْحَقِّ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُرِيبُكَ مَا تَرَاهُ مِنْ سَلَامَةِ مُكَذِّبِيكَ وَإِمْهَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ [سُورَة يُونُس: ٤١]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مُقْتَضَى الظَّاهِرِ حَرِيَّةً بِالْفَصْلِ وَعَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَقَّهَا الِاسْتِئْنَافُ وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِإِبْرَازِهَا فِي صُورَةِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا، وَلِأَنَّهَا تَسْلِيَة للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَلِيَصِحَّ تَفْرِيعُ أَمْرِهِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ جَزَاءَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ.
وَفِي إِمْهَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ فِي إِنْجَائِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ حِكْمَةٌ تَحَقَّقَ بِهَا مُرَادُ اللَّهِ مِنْ بَقَاءِ هَذَا الدِّينِ وَانْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ بِتَبْلِيغِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ وَحَمْلِهِ إِلَى الْأُمَمِ.

[٢٦، ٢٧]

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٢٦ الى ٢٧]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.
الْقَرَابَةُ كُلُّهَا مُتَشَعِّبَةٌ عَنِ الْأُبُوَّةِ فَلَا جَرَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ الْأَبَوَيْنِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ الْقَرَابَةِ.
وَلِلْقَرَابَةِ حَقَّانِ: حُقُّ الصِّلَةِ، وَحَقُّ الْمُوَاسَاةِ. وَقَدْ جَمَعَهُمَا جِنْسُ الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ حَقَّهُ. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ على مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَعَلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الْإِسْرَاء: ٢٣].
وَالْعُدُولُ عَنِ الْخِطَابِ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ [الْإِسْرَاء: ٢٥] الْآيَةَ إِلَى الْخِطَابِ بِالْإِفْرَادِ بِقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الصِّيغَةِ الْوَاحِدَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَالْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِعْطَاءِ الْأَشْيَاءِ، وَمَجَازٌ شَائِع فِي التَّمْكِين مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَمِنْهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا»
الْحَدِيثَ.
وَإِطْلَاقُ الْإِيتَاءِ هَنَا صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي تَوْفِيرِ الْمَعَانِي وَإِيجَازِ الْأَلْفَاظِ.
وَقَدْ بَيَّنَتْ أَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ حُقُوقَ ذِي الْقُرْبَى وَمَرَاتِبَهَا: مِنْ وَاجِبَةٍ مِثْلِ بَعْضِ النَّفَقَةِ عَلَى بَعْضِ الْقَرَابَةِ مُبَيَّنَةٍ شُرُوطَهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ وَاجِبَةٍ مِثْلِ الْإِحْسَانِ.
وَلَيْسَ لِهَاتِهِ تَعَلُّقٌ بِحُقُوقِ قرَابَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ فِي الْمَالِ تَقَرَّرَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمَّا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَشُرِعَتِ الْمَغَانِمُ وَالْأَفْيَاءُ وَقِسْمَتُهَا. وَلِذَلِكَ حَمَلَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى حُقُوقِ قَرَابَةِ
وَ (آتَيْناهُ) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ قُلْنَا: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ.
وَالْحُكْمُ: اسْمٌ لِلْحِكْمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٩]. وَالْمُرَادُ بِهَا النُّبُوءَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٢٢]، فَيَكُونُ هَذَا خُصُوصِيَّةً لِيَحْيَى أَنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ فِي حَالِ صِبَاهُ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ هُوَ الْحِكْمَةُ وَالْفَهْمُ.
وصَبِيًّا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي وَآتَيْناهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ اسْتِقَامَةَ الْفِكْرِ وَإِدْرَاكَ الْحَقَائِقِ فِي حَالِ الصِّبَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ، كَمَا أَعْطَى نَبِيئَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِقَامَةَ وَإِصَابَةَ الرَّأْيِ فِي صِبَاهُ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى أُعْطِي النُّبُوءَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ، لِأَنَّ النُّبُوءَةَ رُتْبَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّمَا تُعْطَى عِنْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ يَحْيَى أُعْطِيَ النُّبُوءَةَ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً بِكَثِيرٍ. وَلَعَلَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ شَهِيدًا فِي مُقْتَبَلِ عُمْرِهِ بَاكَرَهُ بِالنُّبُوءَةِ.
وَالْحَنَانُ: الشَّفَقَةُ. وَمِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْحَنَّانُ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: حَنَانَيْكَ، أَيْ حَنَانًا مِنْكَ بَعْدَ حَنَانٍ. وَجُعِلَ حَنَانُ يَحْيَى مِنْ لَدُنِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُتَجَاوِزُ الْمُعْتَادِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالزَّكَاةُ: زَكَاةُ النَّفْسِ وَنَقَاؤُهَا مِنَ الْخَبَائِثِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى
أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨] أَوْ أُرِيدَ بِهَا الْبَرَكَةُ.
وَتَقِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، مِنِ اتَّقَى إِذَا اتَّصَفَ بِالتَّقْوَى، وَهِيَ تَجَنُّبُ مَا يُخَالِفُ الدِّينَ. وَجِيءَ فِي وَصْفِهِ بِالتَّقْوَى بِفِعْلِ كانَ تَقِيًّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنَ الْوَصْفِ.
وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا ذُكِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ دُونَ وُجُودِ مُشَارٍ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ يَعْنِي بِهَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ.
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ تقريع عَلَى إِحَالَتِهِمْ نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ وَعَدِّهِمْ تَأْخِيرَ الْوَعْدِ بِهِ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِ وُقُوعِهِ حَتَّى قَالُوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨] تَهَكُّمًا وَتَكْذِيبًا. فَلَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٩- ٤١] فَرْعٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتِفْهَامًا تَعْجِيبِيًّا مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى أَمَارَاتِ اقْتِرَانِ الْوَعْدِ بِالْمَوْعُودِ اسْتِدْلَالًا عَلَى قُرْبِهِ بِحُصُولِ أَمَارَاتِهِ.
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَسَدَّتِ الْجُمْلَةُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيِ اعْجَبُوا مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى نُقْصَانِ أَرْضِهِمْ مِنْ أَطْرَافِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَوَجُّهِ عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، فَمَنْ تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صِدْقِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ وَعِنَايَةِ رَبِّهِ بِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ نَأْتِي.
فَالْإِتْيَانُ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْغَازِي الَّذِي يَسْعَى إِلَى أَرْضِ قَوْمٍ فَيَقْتُلُ وَيَأْسِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النَّحْل: ٢٦].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ أَرْضَ الْعَرَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: ٨٠] فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أَيْ أَرْضَ مِصْرَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٨٨]، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٧٣- ٩٠].
وَ (بَلْ) إِضْرَابٌ عَنِ الْمَظْنُونِ لَا عَلَى الظَّنِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ لَسْنَا نُسَارِعُ لَهُمْ بِالْخَيْرَاتِ كَمَا ظَنُّوا بَلْ لَا يَشْعُرُونَ بِحِكْمَةِ ذَلِكَ الْإِمْدَادِ وَأَنَّهَا لِاسْتِدْرَاجِهِمْ وَفَضْحِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحجَّة عَلَيْهِم.
[٥٧- ٦١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٦١]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
هَذَا الْكَلَامُ مُقَابِلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْغَمْرَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنِ التَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، وَمِنْ إِشْرَاكِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَمِنْ شُحِّهِمْ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِمْ فِي اللَّذَّاتِ، وَمِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْغَمْرَةُ فَجِيءَ فِي مُقَابِلِهَا بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣].
فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ الْغَمْرَةِ مَعَ إِفَادَةِ الْمُقَابَلَةِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ الْمُقَابِلِ لِحُسْنِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَقُبْحِ أَضْدَادِهَا تَنْزِيهًا لِلذِّكْرِ عَنْ تَعْدَادِ رَذَائِلِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَطِبَاقٌ مِنْ أَلْطَفِ الْبَدِيعِ، وَصَوْنٌ لِلْفَصَاحَةِ مِنْ كَرَاهَةِ الْوَصْفِ الشَّنِيعِ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولَاتِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُسَابِقُونَ إِلَيْهَا وَتَكْرِيرُ
يُعَذَّبُ عَذَابًا غَيْرَ مُضَاعَفٍ وَغَيْرَ مُخَلَّدٍ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَجَارِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ بَلِ الْأَصْلُ فِي ارْتِفَاعِ الشَّيْءِ الْمُقَيَّدِ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهُ رَفْعُهُ بِأَسْرِهِ لَا رَفْعُ قُيُودِهِ، إِلَّا بِقَرِينَةٍ.
وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، وَإِذْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ ذِكْرُ الشِّرْكِ فَالتَّوْبَةُ هُنَا التَّلَبُّسُ بِالْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ الْكُفْرِ يُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا اقْتَرَفَهُ الْمُشْرِكُ فِي مُدَّةِ شَرَكِهِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»
، وَلِذَلِكَ فَعُطِفَ وَآمَنَ عَلَى مَنْ تابَ لِلتَّنْوِيهِ بِالْإِيمَانِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً وَهُوَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الصَّالِحَاتِ وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَلَدِ [١٧] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَالَ فِي عَكْسِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: ٣٩].
وَقَتْلُ النَّفْسِ الْوَاقِعُ فِي مُدَّةِ الشِّرْكِ يَجُبُّهُ إِيمَانُ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ مَزِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤْمِنَ الْقَاتِلِ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا. وَلَمَّا كَانَ مِمَّا تَشْمَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّ سِيَاقَهَا فِي الثَّنَاء على الْمُؤمنِينَ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو آثَامَ كُلِّ ذَنْب من هَذِه الذُّنُوبِ الْمَعْدُودَةِ وَمِنْهَا قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ حَقٍّ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٣] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الْآيَةَ.
وَفُرِّعَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِينَ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا أَنَّهُمْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ كَلَامٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ فَضْلِ التَّوْبَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ بَعْدَ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ تابَ مُسْتَثْنًى مِنْ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الْفرْقَان: ٦٨] فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَاتِ الْمُضَافَةَ إِلَيْهِمْ هِيَ
السَّيِّئَاتُ الْمَعْرُوفَةُ، أَيِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، الْوَاقِعَةُ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ شِرْكِهِمْ.
وَالتَّبْدِيلُ: جَعْلُ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٥]، أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً عِوَضًا عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهَذَا التَّبْدِيلُ جَاءَ مُجْمَلًا وَهُوَ
الْآيَةِ اسْتِعْمَالًا وَارِدًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيهِمْ إِلَى الْتِقَاطِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وَلَكِنَّهُمُ الْتَقَطُوهُ رَأْفَةً بِهِ وَحُبًّا لَهُ لِمَا أُلْقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ شَفَقَةٍ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ كَانَ لَهُمْ عَدُوًّا فِي اللَّهِ وَمُوجِبَ حَزَنٍ لَهُمْ، شُبِّهَتِ الْعَاقِبَةُ بِالْعِلَّةِ فِي كَوْنِهَا نَتِيجَةً لِلْفِعْلِ كشأن الْعلَّة غَالِبا فاستعير لترتب الْعَاقِبَة المشبهة الْحَرْف الَّذِي يدل على تَرْتِيب الْعِلَّةِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ مَعْنَى الْحَرْفِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، أَيِ اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ تَبَعًا لاستعارة مَعْنَاهُ لِأَن الْحُرُوف بمعزل عَن الِاسْتِعَارَة لِأَن الْحَرْف لَا يَقع مَوْصُوفا، فالاستعارة تكون فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ تَسْرِي مِنَ الْمَعْنَى إِلَى الْحَرْفِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي خِلَافًا لِلسَّكَّاكِيِّ.
وَضَمِيرُ لَهُمْ يَعُودُ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْعُنْوَانِيِّ لِأَنَّ مُوسَى كَانَ عَدُوًّا لِفِرْعَوْنٍ آخَرَ بَعْدَ هَذَا، أَيْ لِيَكُونَ لِدَوْلَتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا فَقَدْ كَانَتْ بَعْثَةُ مُوسَى فِي مُدَّةِ ابْنِ فِرْعَوْنَ هَذَا.
وَوَصْفُهُ بِالْحَزَنِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ حَزَنًا لَهُمْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لَهُمُ السَّابِقِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلِ قَوْلِكَ: فُلَانٌ عَدْلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ وَاقِعًا مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ فَكَانَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ قَائِمًا بِالْمَوْصُوفِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: لِيَكُونَ لَهُمْ حَزَنًا. وَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَزَنِ وَلَيْسَ هُوَ حَزَنًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَزَناً بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْعَدَمِ وَالْعُدْمِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَالْخَاطِئُ: اسْمُ فَاعل من خطىء كَفَرِحَ إِذَا فَعَلَ الْخَطِيئَةَ وَهِيَ الْإِثْمُ وَالذَّنْبُ، قَالَ تَعَالَى ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: ١٦]. وَمَصْدَرُهُ الْخِطْءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً فِي الْإِسْرَاءِ [٣١]. وَأَمَّا
أَفْرَادِهِمْ، إِلَّا أَنَّهَا أَعْرَاضٌ مُفَارِقَةٌ غَيْرُ مُلَازِمَةٍ فَكَانَتْ دُونَ الْأَعْرَاضِ الَّتِي أُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَهَا.
وَحَالَةُ النَّوْمِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي نِظَامِ أَعْصَابِ دِمَاغِهِ قَانُونًا يَسْتَرِدُّ بِهِ قُوَّةَ مَجْمُوعِهِ الْعَصَبِيِّ بَعْدَ أَنْ يَعْتَرِيَهُ فَشَلُ الْإِعْيَاءِ مِنْ إِعْمَالِ عَقْلِهِ وَجَسَدِهِ فَيَعْتَرِيَهُ شِبْهُ مَوْتٍ يُخَدِّرُ إِدْرَاكَهُ وَلَا يُعَطِّلُ حَرَكَاتِ أَعْضَائِهِ الرَّئِيسِيَّةَ وَلَكِنَّهُ يُثَبِّطُهَا حَتَّى يَبْلُغَ مِنَ الزَّمَنِ مِقْدَارًا كَافِيًا لِاسْتِرْجَاعِ قُوَّتِهِ فَيُفِيقُ مِنْ نَوْمَتِهِ وَتَعُودُ إِلَيْهِ حَيَاتُهُ كَامِلَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَالْمَنَامُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلنَّوْمِ أَوْ هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ.
وَقَوْلُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مُتَعَلِّقٌ بِ مَنامُكُمْ. وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى (فِي) فَالنَّاسُ يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ بِالنَّهَارِ فِي الْقَائِلَةِ وَبِخَاصَّةٍ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الْمُضْنِيَةِ إِذَا اسْتَرَاحُوا مِنْهَا فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ خُصُوصًا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَوْ فِي فَصْلِ الْحَرِّ.
وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: طَلَبُ الرِّزْقِ بِالْعَمَلِ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ الرِّزْقُ، وَجُعِلَ هَذَا كِنَايَةً عَنِ الْهُبُوبِ إِلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْهُبُوبَ مِنَ النَّوْمِ، وَذَلِكَ آيَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ نَشَاطُ الْقُوَّةِ بَعْدَ أَنْ خَارَتْ وَفَشِلَتْ. وَلِكَوْنِ ابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنْ خَصَائِصِ النَّهَارِ أُطْلِقَ هُنَا فَلَمْ يُقَيَّدْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَدَمَ تَقْيِيدِهِ بِمِثْلِ مَا قَيَّدَ بِهِ مَنامُكُمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِدَلَالَةِ الْقَيْدِ
الَّذِي قَبْلَهُ بِتَقْدِيرِ: وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فِيهِمَا، وَقَدْ تَكَلَّفَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ عَلَى أَنَّ اللَّفَّ وَقَعَ فِيهِ تَفْرِيقٌ، وَوَجَّهَهُ مُحَشِّيهِ الْقَزْوِينِيُّ بِأَنَّ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ بِآيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَقَدْ جُعِلَتْ دَلَالَاتُ الْمَنَامِ وَالِابْتِغَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَيْنِ حَالَتَانِ مُتَعَاوِرَتَانِ عَلَى النَّاسِ قَدِ اعْتَادُوهُمَا فَقَلَّ مَنْ يَتَدَبَّرُ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَمُعْظَمُ النَّاسِ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُوقِفُهُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَيْهَا. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ فِي مَا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْ أَحْوَالِ النَّوْمِ مَا هُوَ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ
مِمَّا يُعَزِّزُ الْأُخُوَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمُرَغَّبَ فِيهَا. وَنُقِلَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجِبَّائِيِّ وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِأَنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ لَا تَحْصُلُ عَلَى مَضَضٍ وَلِأَنَّ الْحَطَّ فِي الْحَقِّ يُوجِبُ الْكَدَرَ. وَيُؤَيِّدهُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا بِهِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ آثَرَ إِحْدَى أَزْوَاجِهِ
بِلَيْلَةٍ سِوَى لَيْلَةِ سَوْدَةَ الَّتِي وَهَبَتْهَا لِعَائِشَةَ، اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ يُطَافُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ، وَكَانَ مَبْدَأُ شَكْوَاهُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ إِلَى أَنْ جَاءَتْ نَوْبَةُ لَيْلَةِ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا رِفْقًا بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ قَسَمَ لَهُنَّ «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ»
، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَن المُرَاد الرضى الَّذِي يَتَسَاوَيْنَ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْكِيدِ بِ كُلُّهُنَّ نُكْتَةٌ زَائِدَةٌ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ ضَمِيرِهِنَّ فِي قَوْله: كُلُّهُنَّ يومىء إِلَى رضى مُتَسَاوٍ بَيْنَهُنَّ.
وَضَمِيرَا أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ عَائِدَانِ إِلَى (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ عَزَلْتَ. وَذِكْرُ وَلا يَحْزَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ مَعَ مَا فِي قُرَّةِ الْعَيْنِ مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى انْتِفَاءِ الْحُزْنِ بِالْإِيمَاءِ إِلَى تَرْغِيبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِغَاءِ بَقَاءِ جَمِيعِ نِسَائِهِ فِي مُوَاصَلَتِهِ لِأَنَّ فِي عَزْلِ بَعْضِهِنَّ حُزْنًا لِلْمَعْزُولَاتِ وَهُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف لَا يُحِبُّ أَنْ يُحْزِنَ أَحَدًا.
وكُلُّهُنَّ تَوْكِيدٌ لِضَمِيرِ يَرْضَيْنَ أَوْ يَتَنَازَعُهُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ وَغَلَبَ عَلَى إِعْطَاءِ الْخَيْرِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، أَوْ ذُكِرَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٤]، فَإِذَا ذَكَرَ مَفْعُولَهُ الثَّانِيَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُوءٍ. وَلَمْ أَرَهُ يُسْتَعْمَلُ فِي إِعْطَاءِ السُّوءِ فَلَا تَقُولُ: آتَاهُ سِجْنًا وَآتَاهُ ضَرْبًا، إِلَّا فِي مَقَامِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْمُشَاكَلَةِ، فَمَا هُنَا مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا يَبْعُدُ تَفْسِيره بأنهن يرضين بِمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ مِنْ عَزْلِهِنَّ وَإِرْجَائِهِنَّ. وَتَوْجِيهُهُ فِي «الْكَشَّافِ» تَكَلُّفٌ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً كَلَامٌ جَامِعٌ لِمَعْنَى التَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ فَفِيهِ ترغيب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِحْسَانِ بِأَزْوَاجِهِ وَإِمَائِهِ
فَلِذَلِكَ بُنِيَ الْجَوَابُ عَلَى فِعْلِ الْإِحْيَاءِ مُسْنَدًا لِلْمُحْيِي، عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ صَالِحٌ لِأَن يكون إبطالا لِلنَّفْيِ الْمُرَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَلَمْ يُبْنَ الْجَوَابُ عَلَى بَيَانِ إِمْكَانِ الْإِحْيَاءِ وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيَانُ الْإِمْكَانِ فِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولًا لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى الْإِمْكَانِ فَيَحْصُلُ الْغَرَضَانِ، فَالْمَوْصُولُ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ يُحْيِيهَا، أَيْ
يُحْيِيهَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْشَائِهَا ثَانِي مرّة كَمَا أَنْشَأَهَا أول مَرَّةٍ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٢]، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧].
وَذُيِّلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِجُمْلَةِ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أَيْ وَاسِعُ الْعِلْمِ مُحِيطٌ بِكُلِّ وَسَائِلِ الْخَلْقِ الَّتِي لَا نَعْلَمُهَا: كَالْخَلْقِ مِنْ نُطْفَةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ ذَرَّةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَاتِ الْمُغْلَقَةِ كَسُوسِ الْفُولِ وَسُوسِ الْخَشَبِ، فَتِلْكَ أَعْجَبُ مِنْ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِظَامِهِ.
وَفِي تَعْلِيقِ الْإِحْيَاءِ بِالْعِظَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِظَامَ الْحَيِّ تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ كَلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَبِ وَالْخَشَبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلِذَلِكَ تَنَجَّسُ عِظَامُ الْحَيَوَانِ الَّذِي مَاتَ دُونَ ذَكَاةٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْعَظْمَ لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ فَلَا يَنَجُسُ بِالْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدِ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ، يَعْنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ نَسَبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَيَصِيرُ اتِّفَاقًا وَعُلَمَاءُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ الْحَيَاةَ فِي الْعِظَامِ وَالْإِحْسَاسِ. وَقَالَ ابْنُ زُهْرٍ الْحَكِيمُ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِ «التَّيْسِيرِ» : أَنَّ جَالِينُوس اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فِي الْعِظَامِ هَلْ لَهَا إحساسا وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ لَهَا إحساسا بطيئا.
[٨٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)
بَدَلٌ مِنَ الَّذِي أَنْشَأَها [يس: ٧٩] بَدَلًا مُطَابِقًا، وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الصِّلَةُ عَلَى الصِّلَةِ فَيُكْتَفَى بِالْعَطْفِ عَنْ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ وَاهْتِمَامًا بِالثَّانِي حَتَّى تَسْتَشْرِفَ نَفْسُ السَّامِعِ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَفْطَنُ بِمَا فِي
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: ٥٦] نَزَلَتْ فِي يَهُودٍ مِنَ الْمَدِينَةِ جَادَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [٤]
مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْمُرَادُ بِهِمُ: الْمُشْرِكُونَ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ جُعِلَتِ السِّتِّينَ فِي عِدَادِ تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الزُّمَرِ وَقَبْلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ وَهِيَ أَوَّلُ سُوَرِ (آلِ حم) نُزُولًا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَقْرُوءَةً عَقِبَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، أَيْ سَنَةَ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ آيَةَ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غَافِر: ٢٨] حِينَ آذَى نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا اشْتَدَّ أَذَى قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالسُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِكَلِمَةِ حم سَبْعُ سُوَرٍ مرتبَة فِي الْمُصحف عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي النُّزُولِ وَيُدْعَى مَجْمُوعُهَا «آلَ حم» جَعَلُوا لَهَا اسْمَ (آلِ) لِتَآخِيهَا فِي فَوَاتِحِهَا. فَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَلِمَةٌ (آلِ) تُضَافُ إِلَى ذِي شَرَفٍ (وَيُقَالُ لِغَيْرِ الْمَقْصُودِ تَشْرِيفُهُ أَهْلُ فُلَانٍ) قَالَ الْكُمَيْتُ:
قَرَأْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا فَقِيهٌ وَمُعْرِبُ
يُرِيدُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «حم عسق» قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلِذَلِكَ عَزَّزَهُ بِقَوْلِهِ: تَأَوَّلَهَا مِنَّا فَقِيهٌ وَمُعْرِبُ.
وَرُبَّمَا جُمِعَتِ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِكَلِمَةِ حم فَقِيلَ الْحَوَامِيمَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ عَلَى زِنَةِ فَعَالِيلَ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلٍ وَزْنًا عَرَضَ لَهُ مِنْ تَرْكِيبِ اسْمَيِ الْحَرْفَيْنِ: حَا، مِيمٍ، فَصَارَ كَالْأَوْزَانِ الْعَجَمِيَّةِ مثل (قابيل)، و (راحيل) وَمَا هُوَ بِعَجَمِيٍّ لِأَنَّهُ وَزْنٌ عَارِضٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عَلَى فَعَالِيلٍ يَطَّرِدُ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ جَمَعُوا حم عَلَى حَوَامِيمَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَنُسِبَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ
وَالنَّصِيبُ: مَا يُعَيَّنُ لِأَحَدٍ مِنَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ نَصَبَ لِأَنَّ الْحَظَّ يُنْصَبُ، أَيْ يُجْعَلُ كَالصُّبْرَةِ لِصَاحِبِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٢].
[٢١]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٢١]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى تَفَرُّقِ أَهْلِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ فِي شَرَائِعِهِمْ مَنِ انْقَرَضَ مِنْهُمْ وَمَنْ بَقِيَ كَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا يُشَابِهُ ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَصْلِ الدِّيَانَةِ، وَتِلْكَ مُخَالَفَةُ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَتَلَقِّيهِمْ دِينَ الْإِشْرَاك من أيمة الْكُفْرِ وَقَادَةِ الضَّلَالِ.
وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَام الَّذِي تقضيه أَمْ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ هُوَ هُنَا لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّهَكُّمِ، فَالتَّقْرِيعُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُمْ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَالتَّهَكُّمُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ شَرَعُوا
لَهُمُ الشِّرْكَ، فَسُئِلُوا عَمَّنْ شَرَعَ لَهُمْ دِينَ الشِّرْكِ: أَهُمْ شُرَكَاءُ آخَرُونَ اعْتَقَدُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَفِي شَرْعِ الْأَدْيَانِ كَمَا شَرَعَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الْأَدْيَانَ؟ وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لَمْ يَدَّعِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُسَاعِدُ تَنْكِيرَ شُرَكاءُ وَوَصْفَهُ بِجُمْلَةِ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنِ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ هُوَ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَيَكُونَ لَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ شُرَكاءُ.
وَالْمَقْصُودُ: فَضْحُ فَظَاعَةِ شِرْكِهِمْ بِعُرُوِّهِ عَنْ الِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا مِنَ الْإِلَهِ الْحَقِّ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ وَهِيَ الشُّرَكَاءُ. وَظَاهِرٌ أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ لَا تَصْلُحُ لِتَشْرِيعِ دِينٍ لِأَنَّهَا لَا تَعْقِلُ وَلَا تَتَكَلَّمُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ دِينَ الشِّرْكِ دِينٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧].
حَسَبِ رَأْيِهِ، فَالتَّوْحِيدُ أَصْلُ صَلَاحِ بَالِ الْمُؤْمِنِ، وَمِنْهُ تَنْبَعِثُ الْقُوَى الْمُقَاوِمَةُ لِلْأَخْطَاءِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تَلَبَّسَ بِهَا أَهْلُ الشِّرْكِ، وَحَكَاهَا عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَالْمَعْنَى: أَقَامَ أَنْظَارَهُمْ وَعُقُولَهُمْ فَلَا يُفَكِّرُونَ إِلَّا صَالِحًا وَلَا يَتَدَبَّرُونَ إِلَّا نَاجِحًا.
[٣]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ هَذَا تَبْيِينٌ لِلسَّبَبِ الْأَصِيلِ فِي إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ وَإِصْلَاحِ بَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلُ تَمْيِيزٍ تَنْوِيهًا بِهِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَتَابِعَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَهَمَّا أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١] وكَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [مُحَمَّد: ٢]، مَعَ اعْتِبَارِ عِلَّتَيِ الْخَبَرَيْنِ الْمُسْتَفَادَتَيْنِ مِنِ اسْمِي الْمَوْصُولِ وَالصِّلَتَيْنِ وَمَا عُطِفَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ إِلَخْ خَبَرُهُ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَمَجْرُورُهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ ذَلِكَ كَائِنٌ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ الْبَاطِلَ وَاتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَامِعًا لِلْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْهُ مُتَعَلِّقًا بِالْخَبَرَيْنِ وَسَبَبًا لَهُمَا. وَفِي هَذَا مُحَسِّنُ الْجَمْعِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ وَيُسَمُّونَهُ كَعَكْسِهِ التَّفْسِيرَ لِأَنَّ فِي الْجَمْعِ تَفْسِيرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. وَشَاهِدُهُ قَوْلُ حَسَّانَ مِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمْ أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ إِنِ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا البِدَعُ
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا الْكَلَامُ يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّفْسِيرَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ. وَنُقِلَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ لَمَّا فَسَّرَ لِطَلَبَتِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقُيِّدَ عَنْهُ فِي الْحَوَاشِي قَوْلَهُ:
عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، شَبَّهَ طَلَبَهُ أَدَاءَ مَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ بِحِمْلِ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ عَلَى مَنْ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ.
ومِنْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مُثْقَلُونَ مِنْ أَجْلِ مُغْرَمٍ حُمِلَ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ مَا كَلَّفْتَهُمْ شَيْئًا يُعْطُونَهُ إِيَّاكَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ تَخَلُّصًا مِنْ أَدَاءِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ، أَيِ انْتَفَى عُذْرُ إِعْرَاضِهِمْ عَن دعوتك.
[٤١]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٤١]
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١)
هَذَا نَظِيرُ الْإِضْرَابِ وَالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطّور: ٣٧]، أَيْ بَلْ أَعِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا يَجِدُونَهُ فِيهِ وَيَرْوُونَهُ لِلنَّاسِ؟! أَيْ مَا عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حَتَّى يَكْتُبُوهُ، فَبَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ إِنْكَارَهُمُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ كَالَّذِينَ سَأَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِهَا أَعْقَبَهُ بِرَدٍّ آخَرَ بِأَنَّهُمْ كَالَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ مَا ادَّعَى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْلَاغَهُ عَنِ اللَّهِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا قَالُوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أَيْ حَتَّى عَلِمُوا مَتَى يَمُوتُ مُحَمَّدٌ، أَوْ إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ فَجَعَلَهُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠]. وَالْوَجْهُ مَا سَمِعْتَهُ آنِفًا.
وَالْغَيْبُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَكَلِمَةٌ (عِنْدَ) تُؤْذِنُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِئْثَارِ، أَيِ اسْتَأْثَرُوا بِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ فَعَلِمُوا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُمْ.
وَالْكِتَابَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ يَجُوزُ أَنَّهَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْجَزْمِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّخَلُّفَ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَام: ٥٤] لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ أَنْ يُكْتَبَ وَيُسَجَّلَ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَا أُبْقِيَ لَمْ يُقْطَعْ فِي بَقَائِهِ مَصْلَحَةٌ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِي كِلَا الْقَطْعِ وَالْإِبْقَاءِ مَصْلَحَةٌ فَتَعَارَضَ الْمَصْلَحَتَانِ فَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَخْيِيرَ الْمُسْلِمِينَ. وَالتَّصَرُّفُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ يَكُونُ تَابِعًا لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَطْعَ وَالْإِبْقَاءَ كِلَيْهِمَا بِإِذْنِهِ، أَيْ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ، فَأَطْلَقَ الْإِذْنَ عَلَى الرِّضَى عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، أَوْ أَطْلَقَ إِذَنَ اللَّهِ عَلَى إِذن رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ ثَبَتَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُ.
وَكَلَامُ الْأَئِمَةِ غَيْرُ وَاضِحٍ فِي إِذن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ابْتِدَاءً وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ قَوْلُ مُجَاهِدُ:
إِنَّ الْقَطْعَ وَالِامْتِنَاعَ مِنْهُ كَانَ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ. وَفِي ذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَتَوَرَّكُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ إِذْ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ بَنِي النَّضِيرِ أَحْلَافَهُمْ وَيَتَوَرَّكُ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ إِذْ لَمْ يَنْصُرْهُمْ أَحْلَافُهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ:
تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ نَصِيرُ
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
يُرِيدُ سَرَاةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَكُلُّهُمْ مِنْ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَفِهْرٌ هُوَ قُرَيْشٌ أَيْ لَمْ يُنْقِذُوا أَحْلَافَهُمْ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبْ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أَيَّنَا مِنْهَا بِنَزْهٍ وَتَعْلَمُ أَيَّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ
يُرِيدُ أَنَّ التَّحْرِيقَ وَقَعَ بِنَوَاحِيَ مَدِينَتِكُمْ فَلَا يَضِيرُ إِلَّا أَرْضُكُمْ وَلَا يَضِيرُ أَرْضَنَا، فَقَوْلُهُ: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ، تَهَكُّمٌ.
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَحْرِيقَ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَخْرِيبَهَا وَقَطْعَ
ثِمَارِهَا جَائِزٌ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُتَعَيَّنَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِإِنْقَاذِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ وَقَوْلُهُ: مِنْ لِينَةٍ بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا قَطَعْتُمْ.
وَاللِّينَةُ: النَّخْلَةُ ذَاتُ الثَّمَرِ الطَّيِّبِ تُطْلِقُ اسْمَ اللِّينَةِ عَلَى كُلِّ نَخْلَةٍ غَيْرِِِ
(١٥)
يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ بِفِعْلِ قالَ بِتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ أَنْ، وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ظَرْفٌ هُوَ إِذا تُتْلى وَمَجْرُورٌ هُوَ أَنْ كانَ ذَا مالٍ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَتْ إِذا بِشَرْطِيَّةٍ هُنَا فَلَا يَهُولَنَّكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ (مَا) بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يُعْمَلُ فِيمَا قَبِلَهُ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً لَمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَجْرُورَاتِ مَا لَا يَتَوَسَّعُونَ فِي غَيْرِهَا وَهَذَا مَجْرُورٌ بِاللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ.
وَالْمُرَادُ: كُلُّ مَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١]. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِذْ هُوَ الَّذِي اخْتَلَقَ
أَنْ يَقُولَ فِي الْقُرْآنِ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [الْقَلَم: ١٠]. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ ذَا سَعَة فِي الْمَالِ كَثِيرُ الْأَبْنَاءِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: ١١- ٢٥]. وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا الْوَصْفُ بِهِ. وَأَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا بِهِ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمَعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأُسْطُورَةُ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي الْأَنْعَامِ [٢٥] وَقَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٤].
وَخُتِمَتِ الْأَوْصَافُ الْمُحَذَّرُ عَنْ إِطَاعَةِ أَصْحَابِهَا بِوَصْفِ التَّكْذِيبِ لِيُرْجَعَ إِلَى صِفَةِ التَّكْذِيبِ الَّتِي انْتُقِلَ الْأُسْلُوبُ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: ٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ كانَ ذَا مالٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرَ بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ ألفا للتَّخْفِيف.
[١٦]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : آيَة ١٦]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ: مَا جَزَاءُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا أَتَوْهُ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْاجْتِرَاءِ عَلَى رَبِّهِمْ.
وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ حَلَّافٍ بِاعْتِبَارِ
وَقَوْلُهُ: هَلْ لَكَ تَرْكِيبٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يُغَيَّرُ عَنْ هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ الْإِيجَازُ يُقَالُ: هَلْ لَكَ إِلَى كَذَا؟ وَهَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ وَهُوَ كَلَامٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الْعَرْضُ بِقَوْلِ الرَّجُلِ لِضَيْفِهِ: هَلْ لَكَ أَنْ تَنْزِلَ؟ وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبٍ:
أَلَا بَلِّغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتُ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
بِضَمِّ تَاءِ (قُلْتُ). وَقَوْلٌ بُجَيْرٍ أَخِيهِ فِي جَوَابِهِ عَنْ أَبْيَاتِهِ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
ولَكَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ فِي كَذَا؟ فَحُذِفَ (رَغْبَةٌ) وَاكْتُفِيَ بِدِلَالَةِ حَرْفِ (فِي) عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى كَذَا؟ عَلَى تَقْدِيرِ: هَلْ لَكَ مَيْلٌ؟ فَحُذِفَ (مَيْلٌ) لِدِلَالَةِ (إِلَى) عَلَيْهِ.
قَالَ الطَّيِّبِيُّ: «قَالَ ابْنُ جِنِّي: مَتَّى كَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ فِي مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ فَكَثِيرًا مَا يُجْرَى أَحَدُهُمَا مَجْرَى صَاحِبِهِ فَيُعَوَّلُ بِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَيْهِ (كَذَا) وَيُحْتَذَى بِهِ فِي تَصَرُّفِهِ حَذْوَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ الِاسْتِعْمَال وَالْعرْف ضِدّه مَأْخَذِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَنْتَ إِنَّمَا تَقُولُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ لَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَهُ مَعْنَى: آخُذُ بِكَ إِلَى كَذَا أَوْ أَدْعُوكَ إِلَيْهِ، قَالَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٧] لَا يُقَالُ: رَفَثْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ، إِنَّمَا يُقَال: رفثتت بِهَا، وَمَعَهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّفَث فِي معنى الْإِفْضَاءِ عُدِّيَ بِ (إِلَى) وَهَذَا مِنْ أَسَدِّ مَذَاهِبِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَمْلِكُ فِيهِ الْمَعْنَى عِنَانَ الْكَلَامِ فَيَأْخُذُهُ إِلَيْهِ»
اهـ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ بَلْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَالْقَرِينَةِ الْجَارَّةِ.
وتَزَكَّى قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ: تَتَزَكَّى، بِتَاءَيْنِ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ الْمُجَاوِرَةُ لِلزَّايِ زَايًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ على أَنه حدفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ اقْتِصَارًا لِلتَّخْفِيفِ.
وَفِعْلُ تَزَكَّى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَصْلُهُ: تَتَزَكَّى بِتَاءَيْنِ مُضَارِعُ تَزَكَّى مُطَاوِعُ زَكَّاهُ، أَيْ جَعَلَهُ زَكِيًّا.


الصفحة التالية
Icon