حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدَةِ الِاتِّصَالَ مِثْلَ الْفَاءِ وَلَكِنْ وَبَلْ (١) وَمِثْلَ أَدَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ، عَلَى أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ لَا يُعَيِّنُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهُ بِمَا قَبْلَهُ فِي النُّزُولِ، فَإِنَّهُ قَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ إِلَى قَوْله:
وَأَنْفُسِهِمْ [النِّسَاء: ٩٥] قَالَ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ: «قَالَ بعض مَشَايِخنَا الْمُحَقِّقِينَ قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ لَا تُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلَ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ».
عَلَى أَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَجْلِ نُزُولِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ سُورَةٍ هِيَ بِصَدَدِ النُّزُولِ فَيُؤْمَرُ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقْرَأَهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَم: ٦٤] عَقِبَ قَوْلِهِ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٣]،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَبِثَ أَيَّامًا لَمْ ينزل على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَاتَبَهُ النَّبِيءُ، فَأَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَقُولَ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فَكَانَتْ وَحَيًّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل، فقرىء مَعَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَ بِأَثَرِهَا، وَكَذَلِكَ آيَةُ:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [الْبَقَرَة: ٢٦] عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥]، إِذْ كَانَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلهم: أما يستحي مُحَمَّدٌ أَنْ يُمَثِّلَ بِالذُّبَابِ وَبِالْعَنْكَبُوتِ؟ فَلَمَّا ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: ١٧] تخلص إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثَالِ. عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْدَمُ مُنَاسَبَةُ مَا، وَقَدْ لَا تَكُونُ لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَلَكِنَّهُ اقْتَضَاهُ سَبَبٌ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
فَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [١٦- ١٩] فِي خِلَالِ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَوَصْفِ يَوْمِ الْحَشْرِ وَأَهْوَالِهِ، وَلَيْسَتْ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ سَبَبُ نُزُولِهَا حَصَلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ كَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ
[الْقِيَامَةِ: ١] اهـ، فَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
_________
(١) دون الْوَاو لِأَنَّهَا تعطف الْجمل والقصص، وَكَذَلِكَ ثمَّ لِأَنَّهَا قد تعطف الْجمل.
ذَاتِيٍّ فَإِنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يَخْتَلِفُ فَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَيْسَا ذَاتَيْنِ وَلَكِنَّهُمَا عَرَضَانِ خِلَافَ مُعْتَقَدِ الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ أَنَّ اللَّيْلَ جِسْمٌ أَسْوَدُ كَمَا صَوَّرَهُ الْمِصْرِيُّونَ الْقُدَمَاءُ عَلَى بَعْضِ الْهَيَاكِلِ وَكَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي اللَّيْلِ:

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشَّمْس: ٣- ٤].
وَقَوْلُهُ: وَالْفُلْكِ عَطْفٌ عَلَى خَلْقِ واخْتِلافِ فَهُوَ مَعْمُول لفي أَيْ وَفِي الْفُلْكِ، وَوَصْفُهَا بِالَّتِي تَجْرِي الْمَوْصُولِ لِتَعْلِيلِ الْعَطْفِ أَيْ أَنَّ عَطْفَهَا عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَجْرِي فِي الْبَحْرِ، وَفِي كَوْنِهَا نِعْمَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا
تَجْرِي بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، فَأَمَّا جَرْيُهَا فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ آيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا آيَةُ خَلْقِ الْبَحْرِ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ الْفُلْكُ خَلْقًا عَجِيبًا عَظِيمًا إِذْ كَانَ مَاءً غَامِرًا لِأَكْثَرِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَمَا رُكِّبَ فِي مَائِهِ مِنَ الْأَمْلَاحِ وَالْعَقَاقِيرِ الْكِيمْيَاوِيَّةِ لِيَكُونَ غَيْرَ مُتَعَفِّنٍ بَلْ بِالْعَكْسِ يُخْرِجُ لِلْهَوَاءِ أَجْزَاءً نَافِعَةً لِلْأَحْيَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالثَّانِيَةُ آيَةُ سَيْرِ السُّفُنِ فِيهِ وَهُوَ مَاءٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ فَجَرْيُ السُّفُنِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْسَانَ لِلتَّفَطُّنِ لِهَذَا التَّسْخِيرِ الْعَجِيبِ الَّذِي اسْتَطَاعَ بِهِ أَنْ يَسْلُكَ الْبَحْرَ كَمَا يَمْشِي فِي الْأَرْضِ، وَصُنْعُ الْفُلْكِ مِنْ أَقْدَمِ مُخْتَرَعَاتِ الْبَشَرِ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَقْدَمِ عُصُورِ الْبَشَرِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لِلْفُلْكِ الرِّيَاحَ الدَّوْرِيَّةَ وَهِيَ رِيَاحٌ تَهُبُّ فِي الصَّبَاحِ إِلَى جِهَةٍ وَفِي الْمَسَاءِ إِلَى جِهَةٍ فِي السَّوَاحِلِ تنشأ عَن إحْيَاء أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ الْهَوَاءُ الَّذِي فِي الْبَرِّ حَتَّى يَخِفَّ الْهَوَاءُ فَيَأْتِي هَوَاءٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ لِيَخْلُفَ ذَلِكَ الْهَوَاءَ الْبَرِّيَّ الَّذِي تَصَاعَدَ فَتَحْدُثُ رِيحٌ رُخَاءٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ وَيَقَعُ عَكْسُ ذَلِكَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَتَأْتِي رِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْبَرِّ إِلَى الْبَحْرِ، وَهَذِهِ الرِّيحُ يَنْتَفِعُ بِهَا الصَّيَّادُونَ وَالتُّجَّارُ وَهِيَ تَكُونُ أَكْثَرَ انْتِظَامًا فِي مَوَاقِعَ مِنْهَا فِي مَوَاقِعَ أُخْرَى.
وَسَخَّرَ لِلْفُلْكِ رِيَاحًا مَوْسِمِيَّةً وَهِيَ تَهُبُّ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ وَإِلَى عَكْسِهَا فِي أَشْهُرٍ أُخْرَى تَحْدُثُ مِنَ اتِّجَاهِ حَرَارَةِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ مَدَارِ السَّرَطَانِ وَمَدَارِ الْجَدْيِ، مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ عِنْدَ انْتِقَالِ الشَّمْسِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ إِلَى جِهَةِ مَدَارِ السَّرَطَانِ وَإِلَى جِهَةِ مَدَارِ الْجَدْيِ، فَتَحْدُثُ هَاتِهِ الرِّيحُ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي شطوط الْيمن وَحضر موت وَالْبَحْرِ الْهِنْدِيِّ وَتُسَمَّى الرِّيحَ التِّجَارِيَّةَ.
وَكُتِبَ الرِّبَا فِي الْمُصْحَفِ حَيْثُمَا وَقَعَ بِوَاوٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَالشَّأْنُ أَنْ يُكْتَبَ أَلِفًا، فَقَالَ
صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كُتِبَتْ كَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ أَيْ يَنْحُو بِالْأَلِفِ مَنْحَى الْوَاوِ، وَالتَّفْخِيمُ عَكْسُ الْإِمَالَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ التَّفْخِيمُ لُغَةَ قُرَيْشٍ حَتَّى يُكْتَبَ بِهَا الْمُصْحَفُ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كُتِبَ كَذَلِكَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرِّبَا وَالزِّنَا، وَهُوَ أَبْعَدُ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَا يَتْرُكُ اشْتِبَاهًا بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الْإِسْرَاء: ٣٢]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَهُمْ نَبَطٌ يَقُولُونَ فِي الرِّبَا: رِبَوْ- بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ- فَكُتِبَتْ كَذَلِكَ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنَ الْجَمِيعِ.
وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوهُ بِالْوَاوِ لِيُشِيرُوا إِلَى أَصْلِهِ كَمَا كَتَبُوا الْأَلِفَاتِ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْيَاءِ فِي أَوَاسِطِ الْكَلِمَاتِ بِيَاءَاتٍ عَلَيْهَا أَلِفَاتٌ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ أَنْ يَجْعَلُوا الرَّسْمَ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ اسْتَعْجَلُوا فَلَمْ يَطَّرِدْ فِي رَسْمِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَتَبُوا الزَّكَاةَ بِالْوَاوِ، وَكَتَبُوا الصَّلَاةَ بِالْوَاوِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ أَصْلَهَا هُوَ الرُّكُوعُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلْوَيْنِ لَا مِنَ الِاصْطِلَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَكَتَبُوا بَعْدَهَا أَلِفًا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا مَعْنًى لِلتَّعْلِيلِ بِهِ، بَلْ إِنَّمَا كَتَبُوا الْأَلِفَ بَعْدَهَا عِوَضًا عَنْ أَنْ يَضَعُوا الْأَلِفَ فَوْقَ الْوَاوِ، كَمَا وَضَعُوا الْمُنْقَلِبَ عَنْ يَاءٍ أَلِفًا فَوْقَ الْيَاءِ لِئَلَّا يَقْرَأَهَا النَّاسُ الرَّبْوَ.
وَأُرِيدَ بِالَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا هُنَا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ وَالتَّشْنِيعَ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا التَّوَجُّهَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ وَهُمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنْهَا مَا دَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَسَبَقَ لَهُمْ تَشْرِيعٌ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٣٠]، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَجَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْوَعِيدَ مِنْ جُمْلَةِ أَصْنَافِ الْعَذَابِ خَاصًّا لِلْكَافِرِينَ لِأَجْلِ مَا تَفَرَّعَ عَنْ كُفْرِهِمْ مِنْ وَضْعِ الرِّبَا.
وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنْكَارُ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِعْطَاءَهُمُ الرِّبَا، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَعَاهُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي مَكَّةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣٩] : وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
وَلَفْظُ (الْأَمْرِ) مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ الشَّأْنُ، وَ (الْ) فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَيْ مِنَ الشَّأْنِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ وَهُوَ النَّصْرُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ صَرْفِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الِاشْتِغَالِ بِشَأْنِ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ قَطْعِ طَرَفِهِمْ، وَكَبْتِهِمْ أَوْ تَوْبَةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَعْذِيبٍ لَهُم: أَي فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَيْنَا نُحَقِّقُهُ مَتَى أَرَدْنَا، وَيَتَخَلَّفُ مَتَى أَرَدْنَا عَلَى حَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُنَا، وَذَلِكَ كَالِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَلَفْظُ (الْأَمْرِ) بِمَعْنَى شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمُ اهْتِمَامٌ. وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ تَخَوُّفِ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِلْحَاحِهِ فِي الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ. وَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يودّ استيصال جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ وَجَدَ مُقْتَضَى ذَلِكَ وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرِ اسْتِيصَالَهُمْ جَمِيعًا بَلْ جَعَلَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ أَلْوَانًا فَانْتَقَمَ مِنْ طَائِفَةٍ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُمْ، وَمِنْ بَقِيَّتِهِمْ بِالْكَبْتِ، وَهُوَ الْحُزْنُ عَلَى قَتْلَاهُمْ، وَذَهَابُ رُؤَسَائِهِمْ، وَاخْتِلَالُ أُمُورِهِمْ، وَاسْتَبْقَى طَائِفَةً لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ، فَيَكُونُوا قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَيَوْمَ الْفَتْحِ: مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخِي أَبِي جَهْلٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَذَّبَ طَائِفَةً عَذَابَ الدُّنْيَا بِالْأَسْرِ، أَوْ بِالْقَتْلِ: مِثْلَ ابْنِ خَطَلٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ:
«لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ». وَوُضِعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْأَمر هُوَ الْأَمْرِ الدَّائِرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اسْتِئْنَاسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، ثُمَّ
وَقَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أُرِيدَ بِاللَّعْنِ هُنَا الْخِزْيُ، فَهُوَ غَيْرُ الطَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ مُرَادًا بِهِ الْمَسْخُ فَاللَّعْنُ مُرَادٌ بِهِ الذُّلُّ، وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ مُرَادًا بِهِ الذُّلُّ فَاللَّعْنُ مُرَادٌ بِهِ الْمَسْخُ.
وأَصْحابَ السَّبْتِ هُمُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
[٤٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَهْدِيدِ الْيَهُودِ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَرْغِيبِ الْيَهُودِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ، وَلَوْ كَانَ عَذَابُ الطَّمْسِ نَازِلًا عَلَيْهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالْغُفْرَانِ التَّجَاوُزُ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ لَهُمْ بِعِظَمِ كُفْرِهِمْ وذنوبهم، أَي يرفع الْعَذَابَ عَنْهُمْ. وَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ تَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يَحِلُّ بِهِمْ فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يُونُسَ: ٩٨] الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ آمِنُوا بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ، لِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا دُونُ الْإِشْرَاكِ بِهِ، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣]، أَيْ لِيُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤]، أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عذابل الْجُوعِ وَالسَّيْفِ. وَقَوْلُهُ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: ١٠، ١١]، أَيْ دُخَانُ عَامِ الْمَجَاعَةِ فِي قُرَيْشٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٥، ١٦] أَيْ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْغُفْرَانِ التَّسَامُحَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قَبِلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الدُّخُولَ تَحْتَ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَرْضَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ دُونَ الْجِزْيَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ-
وَقَدْ تَفَنَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ وَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ، فَجِيءَ بِالْأَوَّلِ بِأَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِالثَّانِي بِالْحَالَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحَالَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا الصَّيْدَ فِي حَالَةِ كَوْنِكُمْ مُحْرِمِينَ، أَوْ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ. وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِحُكْمِ
الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ كَوْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي حَالٍ خَاصٍّ، فَذُكِرَ هُنَا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ غَيْرُ ذَاتِيٍّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ مَعَ الْمَمْنُوعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ٢] الْآيَةَ.
وَالصَّيْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مَصْدَرًا عَلَى أَصْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ:
كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ أَشْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ هُنَا لِتَكُونَ مَوَاقِعُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: غَيْرَ مُحِلِّي إِصَابَةً لِصَيْدٍ. وَالصَّيْدُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ: إِمْسَاكُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَأْلَفُ، بِالْيَدِ أَوْ بِوَسِيلَةٍ مُمْسِكَةٍ، أَوْ جَارِحَةٍ: كَالشِّبَاكِ، وَالْحَبَائِلِ، وَالرِّمَاحِ، وَالسِّهَامِ، وَالْكِلَابِ، وَالْبُزَاةِ وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ هُوَ الْمَصِيدُ. وَانْتَصَبَ غَيْرَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (مُحِلِّي)، وَهَذَا نَسْجٌ بَدِيعٌ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ إِبَاحَةٌ وَتَحْرِيمٌ: فَالْإِبَاحَةُ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِحْرَامِ، وَالتَّحْرِيمُ لَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، أَيْ لَا يَصْرِفُكُمْ عَنِ الْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ شَيْءٌ مِنْ ثِقَلٍ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّكُمْ عَاقَدْتُمْ عَلَى عَدَمِ الْعِصْيَانِ، وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مَا تُرِيدُونَ أَنْتُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِصَالِحِكُمْ مِنْكُمْ.
(١٠٨)
اسْتُؤْنِفَتْ هَذِهِ الْآيُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِشَرْعِ أَحْكَامِ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، تَحْقِيقًا لِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَاسْتِقْصَاءً لِمَا قَدْ يحْتَاج إِلَى علمه الْمُسْلِمُونَ وَمَوْقِعُهَا هُنَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ كَانَت الْوَصِيَّة مَشْرُوعِيَّة بِآيَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٠] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ابْتِدَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَفِي مِقْدَارِ مَا نُسِخَ مِنْ حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ وَمَا أُحْكِمَ فِي مَوْضِعِهِ هُنَالِكَ. وَحَرَصَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَأَمَرَ بِهَا، فَكَانَتْ مَعْرُوفَةً مُتَدَاوَلَةً مُنْذُ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ الْمَرْءُ يُوصِي لِمَنْ يُوصِي لَهُ بِحَضْرَةِ وَرَثَتِهِ وَقَرَابَتِهِ فَلَا يَقَعُ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ حُرْمَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِنْفَاذِهَا حِفْظًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْقِيقِ حَقِّهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى الْقُرْآنُ عَنْ شَرْعِ التَّوَثُّقِ لَهَا بِالْإِشْهَادِ، خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ بِهِ مِنْ بَيَانِ التَّوَثُّقِ فِي التَّبَايُعِ بِآيَةِ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] وَالتَّوَثُّقُ فِي الدَّيْنِ بِآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] إِلَخْ فَأَكْمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانَ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ اهْتِمَامًا بِهَا وَلِجَدَارَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّوْثِيقِ لَهَا لِضَعْفِ الذِّيَادِ عَنْهَا لِأَنَّ الْبُيُوعَ وَالدُّيُونَ فِيهَا جَانِبَانِ عَالِمَانِ بِصُورَةِ مَا انْعَقَدَ فِيهَا وَيَذُبَّانِ عَنْ مَصَالِحِهِمَا فَيَتَّضِحُ الْحَقُّ مِنْ
خِلَالِ سَعْيِهِمَا فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ فِيهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا جَانِبًا وَاحِدًا وَهُوَ جَانِبُ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصِي يَكُونُ قَدْ مَاتَ وَجَانِبُ الْمُوصَى لَهُ ضَعِيفٌ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا عَقَدَ الْمُوصِي وَلَا بِمَا تَرَكَ، فَكَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا.
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْفِظُونَ وَصَايَاهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَى أَحَدٍ يَثِقُونَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَوْ كُبَرَاءِ قَبِيلَتِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ احْتِضَارَ الْمُوصِي أَوْ مَنْ كَانَ أَوْدَعَ
الْإِنْسَ بِعِبَادَتِهِمْ وَوَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ شُرَكَاء الله تَعَالَى، فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ، وَهَذَا مِثْلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْجِيبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الْملك: ١٠، ١١]. فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ عَيْنُ الِاعْتِرَافِ، فَلَا يُفَرَّعُ الشَّيْءُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ مِنَ الْخَبَرِ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ، وَالتَّسْمِيعُ بِهِمْ، حِينَ أُلْجِئُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ.
وَشَهَادُتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ كَانَتْ بَعْدَ التَّمْحِيصِ وَالْإِلْجَاءِ، فَلَا تُنَافِي أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْكُفْرَ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْحِسَابِ، إِذْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٢٣]. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنِّي أَجِدُ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ اللَّهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاء: ٤٢]، وَقَالَ: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام:
٢٣]، فَقَدْ كَتَمُوا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ:
تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِق أَيْديهم»
.
[١٣١]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣١]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، تَهْدِيدٌ وَمَوْعِظَةٌ، وَعِبْرَةٌ بِتَفْرِيطِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي فَائِدَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَنْبِيهٌ لِجَدْوَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ لِيُعِيدَ الْمُشْرِكُونَ نَظَرًا فِي أَمْرِهِمْ، مَا دَامُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُسْرَى، فَيَتَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، وَإِنْذَارٌ بِاقْتِرَابِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَإِيقَاظٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِ مَحْسُوسٍ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَذْكُورُ
مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا
وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ فِي صَلَاتِي فَهَمَمْتُ أَنْ أُوثِقُهُ فِي سَارِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ»
الْحَدِيثَ، أَوْ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا فِي حَدِيثِ الَّذِي جَاءَ يَسْرِقُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَلِكَ شَيْطَانٌ»
كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَشَكُّلِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْجِنِّ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بِتَسْخِيرِ اللَّهِ لِتَتَمَكَّنَ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَالْمَرْئِيُّ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّكْلُ الَّذِي مَاهِيَّةُ الشَّيْطَانِ مِنْ وَرَائِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَةِ مَكَانٍ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شَيْطَانًا، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ هُوَ الْخَبَرُ الصَّادِقُ، فَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا عُلِمَ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا قُصِدَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ائْتِمَارِهِمْ بِأَمْرِ الشَّيْطَانِ، تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِهِمْ، وَتَنْفِيرًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ التَّحْذِيرُ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعَلُّقٌ بِجُمْلَةِ:
إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْجَعْلُ هُنَا جَعْلُ التَّكْوِينِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْأَعْرَاف: ٢٤] بِمَعْنَى خَلَقْنَا الشَّيَاطِينَ.
وأَوْلِياءَ حَالٌ مِنَ الشَّياطِينَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ خَلَقْنَاهُمْ مُقَدَّرَةٌ وِلَايَتُهُمْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَبَلَ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَجْنَاسَهَا عَلَى طَبَائِعَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِتَغْيِيرِهَا: كَالِافْتِرَاسِ فِي الْأَسَدِ، وَاللَّسْعِ فِي الْعَقْرَبِ، وَخَلَقَ لِلْإِنْسَانِ الْعَقْلَ وَالْفِكْرَ فَجَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ مَا يُخْتَارُ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِبِلَّةِ الشَّيَاطِينِ حُبُّ مَا هُوَ فَسَادٌ، وَكَانَ مِنْ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ أَنَّهُ قَدْ يَتَطَلَّبُ الْأَمْرَ الْعَائِدَ بِالْفَسَادِ، إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ عَاجِلُ شَهْوَةٍ أَوْ كَانَ يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ
بِمَعْنَى أَجَزْتُهُ، كَمَا قَالُوا: ذَهَبْتَ بِهِ بِمَعْنَى أَذْهَبْتَهُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قَدَّرْنَا لَهُمْ جَوَازَهُ وَيَسَّرْنَاهُ لَهُمْ.
وَالْبَحْرُ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ- الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِالْبَحْرِ الْأَحْمَرِ- وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْيَمِّ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، أَيِ الْبَحْرَ الْمَذْكُورَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ تَفَنُّنٌ، وتجنبا لِلْإِعَادَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَطَعُوا الْبَحْرَ وَخَرَجُوا عَلَى شاطئه الشَّرْقِي.
وفَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ مَعْنَاهُ أَتَوْا قَوْمًا، وَلما ضمن فَأَتَوْا مَعْنَى مَرُّوا عُدِّيَ بِعَلَى، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْإِقَامَةَ فِي الْقَوْمِ، وَلَكِنَّهُمْ أَلْفَوْهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ.
وَالْقَوْمُ هُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ وَيُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْعَرَبِ الْعَمَالِقَةُ وَيُعْرَفُونَ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْمُؤَرِّخِينَ بِالْفِنِيقِيِّينَ.
وَالْأَصْنَامُ كَانَتْ صُوَرَ الْبَقَرِ، وَقَدْ كَانَ الْبَقَرُ يُعْبَدُ عِنْدَ الكنعانيين، أَي الفنيقيين بَاسِمِ (بَعْلَ)، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥١].
وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٧]، وَتَعْدِيَةُ الْعُكُوفِ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى النُّزُولِ وَتَمَكُّنِهِ كَقَوْلِهِ: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ [طه: ٩١].
وقريء يَعْكُفُونَ- بِضَمِّ الْكَافِ- لِلْجُمْهُورِ، وَبِكَسْرِهَا لِحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَخَلَفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي مُضَارِعِ عَكَفَ.
وَاخْتِيرَ طَرِيقُ التَّنْكِيرِ فِي أَصْنَامٍ وَوَصْفُهُ بِأَنَّهَا لَهُمْ، أَيِ الْقَوْمِ دُونَ طَرِيق الْإِضَافَة ليتوسل بِالتَّنْكِيرِ إِلَى إِرَادَةِ تَحْقِيرِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَسْتَلْزِمُ خَفَاءَ الْمَعْرِفَةِ.
وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْأَصْنَامُ بِأَنَّهَا لَهُمْ وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى قَوْلِهِ: أَصْنامٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ التُّونِسِيُّ: «عَادَتُهُمْ يُجِيبُونَ بِأَنَّهُ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ بِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى جَهْلِهِمْ وَغَوَايَتِهِمْ فِي أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا هُوَ مِلْكٌ لَهُمْ فيجعلون مملوكهم إِلَّا ههم».
وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ إِحْدَى قَضَايَا جَاءَ فِيهَا الْقُرْآنُ مُؤَيِّدًا لِرَأْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَدْ رَوَى
مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بدر».
[٧٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٠]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِحَالِ سَرَائِرِ بَعْضِ الْأَسْرَى، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى وَكَانَ ظَهَرَ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ فَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَفَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ: عَقِيلًا وَنَوْفَلًا. وَقَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكْتَنِي أَتَكَفَّفُ قُرَيْشًا.
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ أَنْ يفارقوهم.
فَمَعْنَى لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مَنْ فِي مَلْكَتِكُمْ وَوِثَاقِكُمْ، فَالْأَيْدِي مُسْتَعَارَةٌ لِلْمِلْكِ.
وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَالِكِينَ. وَكَانَ الْأَسْرَى مُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا فَادَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا لِقَصْدِ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَحَبَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَإِذَا آمَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِدَاءِ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ. وَلَيْسَ إِيتَاءُ الْخَيْرِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْإِيمَانِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ الْعَبَّاسُ عَنْ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْخَيْرُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الْجَزْمَ بِالْإِيمَانِ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدَّعُوهُ وَلَا عُرِفُوا بِهِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ أَسْرَى بَدْرٍ مُشْرِكِينَ فَفَادَوْا وَرَجَعُوا وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا.
وَتَبْشِيرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَتَسْلِيَةُ الرَّسُولِ عَمَّا يَقُولُهُ الْكَافِرُونَ.
وَأَنَّهُ لَو شَاءَ الله لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ.
ثُمَّ تَخْلُصُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ نُوحٍ وَرُسُلٍ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونَ.
ثُمَّ اسْتُشْهِدَ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِتَلْقِينِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا يَعْذُرُ بِهِ لِأَهْلِ الشَّكِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ اهْتِدَاءَ مَنِ اهْتَدَى لِنَفْسِهِ وَضَلَالَ مَنْ ضَلَّ عَلَيْهَا، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ معانديه.
[١]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١)
الر تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي فَوَاتِحِ بَعْضِ السُّورِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَلَا يُنْطَقُ بِهَا إِلَّا عَلَى حَالِ السَّكْتِ، وَحَالُ السَّكْتِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَقْفِ، فَلِذَلِكَ لَا يُمَدُّ اسْمُ را فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي اللُّغَةِ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ لِأَنَّهُ بِالسَّكْتِ تُحْذَفُ الْهَمْزَةُ كَمَا تُحْذَفُ فِي الْوَقْفِ لِثِقَلِ السُّكُوتِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي الْوَقْفِ وَالسَّكْتِ، فَبِذَلِكَ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَلَا تُمَدُّ. وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى عَدَمِ مَدِّ الْحُرُوفِ: را. هَا. يَا. طا. حا. الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مَمْدُودَةً فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ اسْمُ الْإِشَارَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِاعْتِبَارِ حُضُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَكَأَنَّهَا مَنْظُورَةٌ مُشَاهِدَةٌ، فَصَحَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِذْ هِيَ مَتْلُوَّةٌ مَحْفُوظَةٌ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَتَدَبَّرَهَا أَمْكَنَهُ
الْمُؤْمِنُونَ تَحْقِيرًا لِلْكُفَّارِ وَتَشَفِّيًا مِنْهُمْ وَاسْتِرَاحَةً، فَبُنِيَ فِعْلُ وَقِيلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ قَائِلِهِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نُكَتًا مِمَّا أَتَيْنَا عَلَى أَكْثَرِهِ «وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي وَالنُّكَتِ اسْتَفْصَحَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ هَذِهِ الْآيَةَ ورقصوا لَهَا رؤوسهم لَا لِتَجَانُسِ الْكَلِمَتَيْنِ ابْلَعِي وأَقْلِعِي وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلِي الْكَلَامَ مِنْ حُسْنٍ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي هِيَ اللُّبُّ وَمَا عَدَاهَا قُشُورٌ» اه.
وَقَدْ تَصَدَّى السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ لِبَيَانِ بَعْضِ خَصَائِصِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، تَقْفِيَةً عَلَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فِيمَا نَرَى فَقَالَ:
«وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ، مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي... (١) وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ. أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ... فَنَقُولُ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنًى أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا... وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ... وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ.. وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا وَعَدْنَا مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ.. وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ.. وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ بِالْمَأْمُورِ... وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ.. وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ... كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ...
ثُمَّ بَنَى عَلَى تَشْبِيهِهِ هَذَا نَظْمُ الْكَلَامِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: قِيلَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ الْوَاقِعِ بِسَبَبِهَا قَوْلُ الْقَائِلِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الْمَجَازِ الْخِطَابَ لِلْجَمَادِ... فَقَالَ: يَا أَرْضُ- وَيا سَماءُ... ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغَوْرِ الْمَاءِ فِي الأَرْض البلغ.. لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ، ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ... تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي)... ثُمَّ أَمَرَ عَلَى
_________
(١) النكت مَوَاضِع كَلَام اختصرناه
وَالِافْتِتَاحُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَى رَبِّكَ [الرَّعْد: ١] لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ بِهِ لَا يَشْتَبِهُ غَيْرُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ لِيَكُونَ الْخَبَرُ الْمَقْصُودُ جَارِيًا عَلَى مُعَيَّنٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إِبْلَاغًا فِي قَطْعِ شَائِبَةِ الْإِشْرَاكِ.
والَّذِي رَفَعَ هُوَ الْخَبَرُ. وَجُعِلَ اسْمَ مَوْصُولٍ لِكَوْنِ الصِّلَةِ مَعْلُومَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَثْبُتُ لَهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ مِثْلَ تِلْكَ الصِّلَةِ غَيْرُ الْمُتَوَحِّدِ وَلِأَنَّهُ مُسَلَّمٌ لَهُ ذَلِكَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥].
وَالسَّمَاوَاتُ تَقَدَّمَتْ مِرَارًا، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ وَطَبَقَاتُ الْجَوِّ الَّتِي تَسْبَحُ فِيهَا.
وَرَفَعَهَا: خَلَقَهَا مُرْتَفِعَةً، كَمَا يُقَالُ: وَسِّعْ طَوْقَ الْجُبَّةِ وَضَيِّقْ كُمَّهَا، لَا تُرِيدُ وُسِّعْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَيِّقًا وَلَا ضَيِّقْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ وَاسِعًا وَإِنَّمَا يُرَادُ اجْعَلْهُ وَاسِعًا وَاجْعَلْهُ ضَيِّقًا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ رَفَعَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُنْخَفِضَةً.
وَالْعَمَدُ: جَمْعُ عِمَادٍ مِثْلُ إهَاب وَأهب، والعماد: مَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْقُبَّةُ وَالْبَيْتُ. وَجُمْلَةُ تَرَوْنَها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّماواتِ، أَيْ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ.
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ. وَسَيْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي مَسَافَاتٍ شَاسِعَةٍ، فَهُوَ أَسْرَعُ التَّنَقُّلَاتِ فِي بَابِهَا وَذَلِكَ سَيْرُهَا فِي مَدَارَاتِهَا.
تَسْمِيَتُهَا عَلَى التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا
أُجْرِيَ عَلَيْهَا اسْمُ عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتٌ أَوْ سُوَرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَذَلِكَ أَيْضًا شَأْنُ مِنَ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ اسْمِ عَدَدٍ. وَأَنَّ الْمُرَادَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٌ أَوْ سُوَرٌ لَهَا مَزِيَّةٌ اقْتَضَتْ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْمَثَانِيَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الزُّمَرِ، وَكَمَا اقْتَضَتْهُ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ، وَلِكَوْنِ الْمَثَانِي غَيْرَ السَّبْعِ مُغَايَرَةً بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ تَصْحِيحًا لِلْعَطْفِ.
والْمَثانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مُثَنًّى- بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- اسْمَ مَفْعُولٍ مُشْتَقًّا مِنْ ثَنَّى إِذَا كَرَّرَ تَكْرِيرَةً. قِيلَ الْمَثانِي جَمْعُ مَثْنَاةٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ-. فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي هِيَ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا يُثَنَّى بِهَا، أَيْ تُعَادُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ التَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ هَذَا مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَوْ كِنَايَةً لِأَنَّ التَّكْرِيرَ لَازِمٌ كَمَا اسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [سُورَة الْملك: ٤] أَيْ كَرَّاتٍ وَفِي قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَدَوَالَيْكَ.
أَوْ هُوَ جَمْعُ مَثْنَاةٍ مَصْدَرًا مِيمِيًّا عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلَةِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ سَبْعَ آيَاتٍ فَالْمُؤْتَى هُوَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ أُمَّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي»
فَهُوَ الْأَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ الْفَاتِحَةِ. وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا تُكَرَّرُ فِي الصَّلَاةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السُّوَرُ السَّبْعُ الطِّوَالُ: أُولَاهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةٌ. وَقِيلَ: السُّوَرُ الَّتِي فَوْقَ ذَوَاتِ الْمِئِينَ.
وَلِهَذَا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاء: ٥] وَلَمْ يَقُلْ أَمْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهَا أَمْوَالُ السُّفَهَاءِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦] فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ حِينَ صَارُوا رُشَدَاءَ.
وَمَا مَنَعَ السُّفَهَاءَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ إِلَّا خَشْيَةَ التَّبْذِيرِ. وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ تَصَرُّفَ السَّدَادِ وَالصَّلَاحِ لَمَضَى.
وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ تَبْذِيراً بَعْدَ وَلا تُبَذِّرْ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُبَذِّرْ، لَا تُبَذِّرْ، مَعَ مَا فِي الْمَصْدَرِ مِنِ اسْتِحْضَارِ جِنْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ اسْتِحْضَارًا لِمَا تُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تَعْلِيل للْمُبَالَغَة فِي النَّهْي عَن التبذير.
والتعريف فِي الْمُبَذِّرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ الَّذِينَ عَرَفُوا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢].
وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازِمِ غَيْرِ الْمُفَارِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَخِ، كَقَوْلِهِمْ: أَخُو الْعِلْمِ، أَيْ مَلَازِمُهُ وَالْمُتَّصِفُ بِهِ، وَأَخُو السَّفَرِ لِمَنْ يُكْثِرُ الْأَسْفَارَ. وَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
وَأَخُو الْحَضَرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ لَةُ تَجْبِي إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ
يُرِيدُ صَاحِبَ قَصْرِ الْحَضَرِ، وَهُوَ مَلِكُ بَلَدِ الْحَضَرِ الْمُسَمَّى الضَّيْزَنَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْقُضَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ السيَّطْرُونَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَحُلَفَائِهِمْ كَمَا يُتَابِعُ الْأَخُ أَخَاهُ.
وَقَدْ زِيدَ تَأْكِيدُ ذَلِكَ بِلَفْظِ كانُوا الْمُفِيدِ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ، وَكَفَى بِحَقِيقَةِ الشَّيْطَانِ كَرَاهَةً فِي النُّفُوسِ وَاسْتِقْبَاحًا.
وَنُكِّرَ الْمَكَانُ إِبْهَامًا لَهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِتَعْيِينِ نَوْعِهِ إِذْ لَا يُفِيدُ كَمَالًا فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا التَّصَدِّي لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ شَرْقِيٌّ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلِ اتِّخَاذِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ إِذْ كَانَ حَمْلُ مَرْيَمَ بِعِيسَى فِي مَكَانٍ مِنْ جِهَةِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكاناً شَرْقِيًّا
»
، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالَ لَيْسَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَذِكْرُ كَوْنِ الْمَكَانِ شَرْقِيًّا نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ تَارِيخِ الشَّرَائِعِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُؤَاخَاةِ الْفَوَاصِلِ.
وَاتِّخَاذُ الْحِجَابِ: جَعْلُ شَيْءٍ يُحْجَبُ عَنِ النَّاسِ. قِيلَ: إِنَّهَا احْتَجَبَتْ لِتَغْتَسِلَ وَقِيلَ لِتَمْتَشِطَ.
وَالرُّوحُ: الْمَلَكُ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْإِرْسَالِ بِهِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دَلَّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا.
والتمثل: تكلّف الممائلة، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّكْلَ لَيْسَ شَكْلَ الْمَلَكَ بِالْأَصَالَةِ.
وبَشَراً
حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (تَمَثَّلَ)، وَهُوَ حَالٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَالْبَشَرُ: الْإِنْسَانُ. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: ٧١]، أَيْ خَالِقٌ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالسَّوِيُّ: الْمُسَوَّى، أَيِ التَّامُّ الْخَلْقِ. وَإِنَّمَا تَمَثَّلَ لَهَا كَذَلِكَ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ كَمَالِ الْحَقِيقَةِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى كَمَالِ عِصْمَتِهَا إِذْ قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي صُورَتِهِ مَا يُكْرَهُ لِأَمْثَالِهَا، لِأَنَّهَا حَسِبَتْ أَنَّهُ بَشَرٌ اخْتَبَأَ لَهَا لِيُرَاوِدَهَا
وَفِي مَادَّةِ النَّفْحِ أَنَّهُ عَطَاءٌ قَلِيل نزر، وبضميمة بِنَاءِ الْمَرَّةِ فِيهَا، وَالتَّنْكِيرِ، وَإِسْنَادِ الْمَسِّ إِلَيْهَا دُونَ فِعْلٍ آخَرَ أَرْبَعُ مُبَالَغَاتٍ فِي التَّقْلِيلِ، فَمَا ظَنُّكَ بِعَذَابٍ يَدْفَعُ قَلِيلُهُ مَنْ حَلَّ بِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِاسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهُ وَإِنْشَاءِ تُعَجُّبِهِ مِنْ سُوءِ حَالِ نَفْسِهِ.
وَالْوَيْلُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
٧٩]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ فِي أَوَّلِ [سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: ٢].
وَمَعْنَى إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّا كُنَّا مُعْتَدِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا إِذْ أَعْرَضْنَا عَنِ التَّأَمُّلِ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالظُّلْمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْإِشْرَاكُ لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ مَعْرُوفٌ لَدَيْهِمْ فَلَيْسَ مِمَّا يَعْرِفُونَهُ إِذَا مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ من الْعَذَاب.
[٤٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٤٧]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ [الْأَنْبِيَاء: ٤٦] إِلَخْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِمْ إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٤٦]، وَلِبَيَانِ أَنَّهُمْ مُجَازَوْنَ عَلَى جَمِيعِ مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ بَيَانًا بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْعُمُومِ بَعْدَ الْخُصُوصِ فِي الْمُجَازَيْنِ، فَشَابَهَ التَّذْيِيلَ مِنْ أَجْلِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَفِي الْمُجَازَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ قَوْله رَبِّكَ [الْأَنْبِيَاء: ٤٦]، وَتَكُونَ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ الْتِفَاتًا لِمُنَاسِبَةِ الْجَزَاءِ لِلْأَعْمَالِ كَمَا يُقَالُ:
وَالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ حِرْمَانُ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَاءُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى عُمُومِ الْأَنْفُسِ فِي قَوْلِهِ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مِنْ بَقِيَّةِ التَّذْيِيلِ، وَالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف:
٣٣] فَيَكُونُ وَعِيدًا لِفَرِيقٍ وَوَعْدًا لِفَرِيقٍ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْوَجْهَيْنِ بالإعجاز.
[٦٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٦٣]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
إِضْرَابُ انْتِقَالٍ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ مِمَّا سَبَقَ وَهُوَ وَصْفُ غَمْرَةٍ أُخْرَى انْغَمَسَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ غَمَرَتْ قُلُوبَهُمْ وَأَبْعَدَتْهَا عَنْ أَنْ تَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ كَيْفَ وأعمالهم على الضِّدِّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ تُنَاسِبُ كُفْرَهُمْ، فَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ.
فَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ هَذَا يُوهِمُ الْبَدَلِيَّةَ، أَيْ فِي غَمْرَةِ تَبَاعُدِهِمْ عَنْ هَذَا.
وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٧- ٦١].
ودُونِ تَدُلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّحَلِّي بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَكَارِمِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ يُبَيِّنُ (هَذَا)، أَيْ وَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَيُذَكِّرُنِي هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ فِي مَدْحِ عُرْوَةَ بْنِ زَيْدِ الْخَيْلِ:
يَا أَيُّهَا الْمُتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ فَتًى مِثْلَ ابْنِ زَيْدٍ لَقَدْ أَخْلَى لَكَ السُّبُلَا
أَعْدِدْ فَضَائِلَ أَخْلَاقٍ عُدِدْنَ لَهُ هَلْ سَبَّ مِنْ أَحَدٍ أَوْ سُبَّ أَوْ بَخِلَا

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: ٧].
[٧٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٣]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَفَةِ حَالَةٍ هِيَ مِنْ حَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَتِلْكَ هِيَ حَالَةُ سَمَاعِهِمْ دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بالصلة منفية لِتَحْصِيلِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ التَّعْرِيضِ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَرُّوا صُمًّا وَعُمْيَانًا كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى شَيْئًا فَيَجْعَلُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَاسْتُعِيرَ الْخُرُورُ لِشِدَّةِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّبَاعُدِ بِحَيْثُ إِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَحَالِ الَّذِي يَخِرُّ إِلَى الْأَرْضِ لِئَلَّا يَرَى مَا يَكْرَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّقَوُّمِ وَالنُّهُوضِ، فَتِلْكَ حَالَةٌ هِيَ غَايَةٌ فِي نَفْيِ إِمْكَانِ الْقَبُولِ.
وَمِنْهُ اسْتِعَارَةُ الْقُعُودِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ، وَفِي عَكْسِ ذَلِكَ يُسْتَعَارُ الْإِقْبَالُ وَالتَّلَقِّي وَالْقِيَامُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُرُورُ وَاقِعًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ جُلُوسًا فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ فَإِذَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَام طأطأوا رؤوسهم وَقَرَّبُوهَا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْقَاعِدِ يَقُومُ مَقَامَ الْفِرَارِ، أَوْ سَتْرِ الْوَجْهِ كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ يَهْجُو قوما من طَيء، أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ:
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تَكْلَفْ مَسَاعِيَهُ يُشْفِقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ تشابهت المناكب والرؤوس
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة فِي سُورَةِ نُوحٍ [٧] وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. وَتَقَدَّمَ الْخُرُورُ الْحَقِيقِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٠٧]، وَقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل: ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فِي الْأَعْرَافِ
الِانْتِقَامِ مِنْ أُمَّةِ الْقِبْطِ بِسَبَبِ مُوسَى. وَلَعَلَّ اللَّهَ حَقَّقَ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ رَجَاءَهَا فَكَانَ مُوسَى قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا وَلِزَوْجِهَا، فَلَمَّا هَلَكَا وَجَاءَ فِرْعَوْنٌ آخَرُ بَعْدَهُمَا كَانَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ نَصْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَاخْتِيرَ يَشْعُرُونَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الْخَفِيِّ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا الْأَمر الْخَفي.
[١٠]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ١٠]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)
أَصْبَحَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (صَارَ) فَاقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، أَيْ كَانَ فُؤَادُهَا غَيْرَ فَارِغٍ فَأَصْبَحَ فَارِغًا.
وَالْفُؤَادُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْعَقْلِ وَاللُّبِّ.
وَالْفَرَاغُ مَجَازِيٌّ. وَمَعْنَى فَرَاغِ الْعَقْلِ مِنْ أَمْرٍ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ احْتِوَاءِ الْعَقْلِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ احْتِوَاءً مَجَازِيًّا، أَيْ عَدَمِ جَوَلَانِ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي الْعَقْلِ، أَيْ تَرْكِ التَّفْكِيرِ فِيهِ.
وَإِذْ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ فُؤَادَ أم مُوسَى لماذَا أَصْبَحَ فَارِغًا احْتَمَلَتِ الْآيَةُ مَعَانِيَ تَرْجِعُ إِلَى مُحْتَمَلَاتِ مُتَعَلِّقِ الْفَرَاغِ مَا هُوَ. فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا، وَمَرْجِعُ أَقْوَالِهِمْ إِلَى نَاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةٍ تُؤْذِنُ بِثَبَاتِ أُمِّ مُوسَى وَرِبَاطَةِ جَاشِهَا، وَنَاحِيَةٍ تُؤْذِنُ بِتَطَرُّقِ الضَّعْفِ وَالشَّكِّ إِلَى نَفْسِهَا.
فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ فَارِغٌ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَأَصْبَحَتْ وَاثِقَةً بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ تَبَعًا لِمَا أَلْهَمَهَا مِنْ أَنْ لَا تَخَافَ وَلَا تَحْزَنَ فَيَرْجِعُ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَسْعَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدُ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّبْطَ مِنْ تَوَابِعِ مَا أَلْهَمَهَا اللَّهُ مِنْ أَنْ لَا تَخَافَ وَلَا تَحْزَنَ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ كَمَا أَلْهَمَهَا اللَّهُ زَالَ عَنْهَا مَا كَانَتْ تَخَافُهُ عَلَيْهِ مِنَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ عِنْدَهَا وَقَتْلِهِ لِأَنَّهَا لَمَّا تَمَكَّنَتْ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا أَحَدٌ قَدْ
حِفْظِ نِظَامِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ بَعْدَ خَلْقِهَا فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَقَدَّمَتْ، وَبَقَاءُ نِظَامِهِمَا عَلَى مَمَرِّ الْقُرُونِ آيَةٌ أُخْرَى. وَمَوْقِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ هُوَ أَوَّلُهَا وَهُوَ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَذَا الْقِيَامَ الْمُتْقَنَ بِأَمْرِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ.
فَمَعْنَى الْقِيَامِ هُنَا: الْبَقَاءُ الْكَامِلُ الَّذِي يُشْبِهُ بَقَاءَ الْقَائِمِ غَيْرِ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِ الْقَاعِدِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَتِ السُّوقُ، إِذَا عَظُمَ فِيهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: ٤١] وَقَوْلِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْحَج: ٦٥].
وَالْأَمْرُ الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ وَهُوَ مَجْمُوعُ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ
الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، ذَلِكَ النِّظَامُ الْحَارِسُ لَهُمَا مِنْ تَطَرُّقِ الِاخْتِلَالِ بِإِيجَادِ ذَلِكَ النِّظَامِ.
وبِأَمْرِهِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ تَقُومَ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
وثُمَّ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ الِاحْتِرَاسُ عَمًّا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ مِنْ أَبَدِيَّةِ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْأَرْضِيَّ يَعْتَوِرُهُ الِاخْتِلَالُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ انْقِضَاءَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَإِحْضَارَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَشْرِ تَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. فَمَضْمُونُ جُمْلَةِ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ لَيْسَ مِنْ تَمَامِ هَذِهِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَلَكِنَّهُ تَكْمِلَةٌ وَإِدْمَاجٌ مُوَجَّهٌ إِلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ.
وَفِي مُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَرْضِ اضْطِرَابٌ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ دَعاكُمْ لِأَنَّ دَعاكُمْ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى فَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يكون من شؤون الْفَاعِلِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون من شؤون الْمَفْعُولِ عَلَى حَسَبِ الْقَرِينَةِ، كَمَا تَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَانًا مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ فَنَزَلَ إِلَيَّ، أَيْ دَعْوَتُهُ وَهُوَ فِي أَعْلَى الْجَبَلِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ خِلَافُ الْغَالِبِ وَلَكِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ مَعَ التَّفَصِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِ تَخْرُجُونَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْمَنْعِ نَظَرًا. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ
فَهِيَ إِنْ أَرَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْكِحَهَا فَقَدِ انْتَظَمَتْ فِي سلك الْأزْوَاج، فَشَمَلَهَا حَكْمُهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَنْكِحَهَا فَقَدْ بَقِيَتْ أَجْنَبِيَّةً لَا تَدْخُلُ فِي تِلْكَ الْأَصْنَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يَحِلُّ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ عَلَى اعْتِبَارِ التَّذْكِيرِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَيَجُوزُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الْجَمْعِ غَيْرِ السَّالِمِ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُهُ، وَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَبَدَّلَ. ولَوْ لِلشَّرْطِ الْمَقْطُوعِ بِانْتِفَائِهِ وَهِيَ لِلْفَرْضِ وَالتَّقْدِير وَتسَمى وصيلة، فَتَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مَا هُوَ دُونَ الْمَشْرُوطِ بِالْأَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ بِزِيَادَةٍ عَلَى نِسَائِكَ وَبِتَعْوِيضِ إِحْدَاهِنَّ بِجَدِيدَةٍ فِي كُلِّ حَالَةٍ حَتَّى فِي حَالَةِ إِعْجَابِ حُسْنِهِنَّ إِيَّاكَ.
وَفِي هَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَبَاحَ لِرَسُولِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةِ أَرَادَ اللُّطْفَ لَهُ وَأَنْ لَا يُنَاكِدَ رَغْبَتَهُ إِذَا أَعْجَبَتْهُ امْرَأَةً لَكِنَّهُ حَدَّدَ لَهُ أَصْنَافًا مُعَيَّنَةً وَفِيهِنَّ غِنَاءٌ.
وَقَدْ عَبَّرَتْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ شَيِّقَةٍ، إِذْ قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. وَأُكِّدَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ بِالتَّذْيِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أَيْ عَالِمًا بِجَرْيِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى نَحْوِ مَا حَدَّدَهُ أَوْ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ يُجَازِي عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. وَهَذَا وعد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوَابٍ عَظِيمٍ عَلَى مَا حَدَّدَ لَهُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مُنْقَطِعٌ. وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ حَلَالٌ فِي كُلِّ حَالٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ النِّساءُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مَا يُرَادِفُ لَفْظَ الْإِنَاثِ دُونَ اسْتِعْمَالِهِ الْعُرْفِيِّ بِمَعْنَى الْأَزْوَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَهُوَ يَكُونُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَقُولَ الْمَنْصُوب.
[٨٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٣]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِذَا ظَهَرَ كُلُّ مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَنْشَأُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ فِي شَأْنِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى نَقْصِ عَظْمَتِهِ لِأَنَّ بِيَدِهِ الْمُلْكَ الْأَتَمَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ.
وَالْمَلَكُوتُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمِلْكِ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) فَإِنَّ مَادَّةَ فَعَلَوْتٍ وَرَدَتْ بِقِلَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَهَبُوتٌ وَرَحَمُوتٌ، وَمِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِالْأَمْثَالِ «رَهَبُوتٌ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوتٍ» أَيْ لَأَنْ يَرْهَبَكَ النَّاسُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَرْحَمُوكَ، أَيْ لَأَنْ تَكُونَ عَزِيزًا يُخْشَى بَأْسُكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَيِّنًا يَرِقُّ لَكَ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٥].
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّسْبِيحِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْفَصِيحَةُ. وَالْمَعْنَى: قَدِ اتَّضَحَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ خَارِجِينَ مِنْ قَبْضَةِ مُلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ خَلْقِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ ثَمَّةَ رَجْعَةً إِلَى غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ مِنْ أَصْلِهِ.
بِتَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِهِ لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِتَدَارُكِ أَمْرِهِ فَوَصْفُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ، وَصِفَتَا شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْهِيبِ. وَالتَّوْبُ: مَصْدَرُ تَابَ،
وَالتَّوْبُ بِالْمُثَنَّاةِ وَالثَّوْبُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْأَوْبُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالِهِ بَعْدَ الِابْتِعَادِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ صِفَةُ وَقابِلِ التَّوْبِ بِالْوَاوِ عَلَى صِفَةِ غافِرِ الذَّنْبِ وَلَمْ تُفْصَلْ كَمَا فُصِلَتْ صِفَتَا الْعَلِيمِ [غَافِر: ٢] غافِرِ الذَّنْبِ وَصِفَةُ شَدِيدِ الْعِقابِ إِشَارَةٌ إِلَى نُكْتَةٍ جَلِيلَةٍ وَهِيَ إِفَادَةُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمُذْنِبِ التَّائِبِ بَيْنَ رَحْمَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُ فَيَجْعَلَهَا لَهُ طَاعَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ بِهَا الذُّنُوبَ الَّتِي تَابَ مِنْهَا وَنَدِمَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيُصْبِحَ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا. وَهَذَا فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: شَدِيدِ الْعِقابِ إِفْضَاءٌ بِصَرِيحِ الْوَعِيدِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ مَجِيئَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [غَافِر: ٢] يُفِيدُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ مُسْتَتْبِعَاتِ التَّرَاكِيبِ.
وَالْمُرَادُ بِ غافِرِ وقابِلِ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِمَدْلُولَيْهِمَا فِيمَا مَضَى إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَيَغْفِرُ وَسَيَقْبَلُ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِيهِمَا مَقْطُوعٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ يَكْتَسِبُ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ الَّتِي تَزِيدُ تَقْرِيبَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ الْمَحْمَلُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ غَيْرَهُ هُنَا.
وشَدِيدِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُضَافَةٌ لِفَاعِلِهَا، وَقَدْ وَقَعَتْ نَعْتًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ التَّعْرِيفَ الدَّاخِلَ عَلَى فَاعِلِ الصِّفَةِ يَقُومُ مَقَامَ تَعْرِيفِ الصِّفَةِ فَلَمْ يُخَالِفْ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْكَلَامِ مِنَ اتِّحَادِ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ فِي التَّعْرِيفِ وَاكْتِسَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ هُوَ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ طَرْدًا لِبَابِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ، وَسِيبَوَيْهِ يُجَوِّزُ اكْتِسَابَ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ إِلَّا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِنَّمَا هِيَ لِفَاعِلِهَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ أَصْلَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ أَنَّهُ كَانَ فَاعِلًا فَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ مُجَرَّدَ تَخْفِيفٍ لَفْظِيٍّ وَالْخَطْبُ سَهُلٌ.
وَالطَّوْلُ يُطْلَقُ عَلَى سَعَةِ الْفَضْلِ وَسَعَةِ الْمَالِ، وَيُطلق على مُطلق الْقُدْرَةِ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ»، وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَقَرَّهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» وَجَعَلَهُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ،
فِي الْحُصُولِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ الضَّيْفَ أَوِ الْوَافِدَ يَنْزِلُ أَوَّلَ قُدُومِهِ فِي مَنْزِلِ إِكْرَامٍ ثُمَّ يُحْضَرُ إِلَيْهِ الْقِرَى ثُمَّ يُخَالِطُهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ وَيَقْتَرِبُ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِتَأْوِيلِ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ. وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ اسْتِعَارَةً لِكَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بَعِيدَ الْمَكَانَةِ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ مَجَازِيٍّ وَهُوَ الشَّرَفُ.
والْفَضْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالتَّفَوُّقِ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى: فَضْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَا يُتَفَضَّلُ بِهِ مِنْ عَطَاءٍ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى: ذَلِكَ فَضْلُنَا عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ طَاعَةَ الْعِبَادِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَدَّوْهَا فَقَدْ فَعَلُوا مَا لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا فِعْلُهُ فَلَوْ لَمْ يُثَابُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ إِثَابَتِهِمْ ظُلْمًا.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَعَظْمِيَّةِ الْفَضْلِ، والْفَضْلُ يَصْلُحُ لِأَنَّ يُعْتَبَرُ كَالْمُضَافِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ كَالْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ فَضْلُهُمْ، أَيْ شَرَفُهُمْ وَبَرَكَتُهُمْ فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى الْقَصْرِ إِلَى أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي حَصَلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَكْبَرُ فَضْلٍ.
[٢٣]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٢٣]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
اسْمُ الْإِشَارَةِ مُؤَكِّدٌ لِنَظِيرِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ الَّذِي هُوَ فَضْلٌ يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ هُوَ أَيْضًا بُشْرَى لَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَالْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. وَحَذْفُهُ هُنَا لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِاعْتِبَارِ حَذْفِ الْجَارِّ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَاف: ١٥٥] بِتَقْدِيرِ: مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَنْصُوبِ حُذِفَ كَمَا يُحْذَفُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ.
وَالشَّدُّ: قُوَّةُ الرَّبْطِ، وَقُوَّةُ الْإِمْسَاكِ.
وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: الشَّيْءُ الَّذِي يَوْثَقُ بِهِ، وَيَجُوزُ فِيهِ كَسْرُ الْوَاوِ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْأَسْرِ لِأَنَّ الْأَسْرَ يَسْتَلْزِمُ الْوَضْعَ فِي الْقَيْدِ يُشَدُّ بِهِ الْأَسِيرُ. وَالْمَعْنَى:
فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنْ أَثْخَنْتُمْ مِنْهُمْ فَأْسِرُوا مِنْهُمْ.
وَتَعْرِيفُ الرِّقابِ والْوَثاقَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فَضَرْبَ رِقَابَهُمْ وَشُدُّوا وَثَاقَهُمْ.
وَالْمَنُّ: الْإِنْعَامُ: وَالْمُرَادُ بِهِ: إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ وَاسْتِرْقَاقُهُ فَإِنَّ الِاسْتِرْقَاقَ منّ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يُقْتَلْ، وَالْفِدَاءُ: بِكَسْرِ الْفَاءِ مَمْدُودًا تَخْلِيصُ الْأَسِيرِ مِنَ الْأَسْرِ بِعِوَضٍ مِنْ مَالٍ أَوْ مُبَادَلَةٍ بِأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَدَيِ الْعَدُوِّ. وَقَدَّمَ الْمَنَّ عَلَى الْفِدَاءِ تَرْجِيحًا لَهُ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى امْتِلَاكِ ضَمِيرِ الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ ليستعمل بذلك بغضه.
وَانْتَصَبَ مَنًّا وفِداءً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ عَامِلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا تَمُنُّونَ وَإِمَّا تَفْدُونَ.
وَقَوْلُهُ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِإِبَاحَةِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا فعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ غَزْوَةِ هَوَازِنَ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ النَّظَرِ. فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ، أَيْ مُشْرِكٍ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَهُمُ الْمَعْرُوفُ حَرْبُهُمْ وَيَشْمَلُ مَنْ حَارَبَ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لِتَحْدِيدِ أَحْوَالِ الْقِتَالِ وَمَا بَعْدَهُ، لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْقِتَالِ وَلَا لِبَيَانِ مَنْ هُمُ الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ أَوْقَاتَ الْقِتَالِ مُبِيَّنَةٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَمَعْرِفَةُ الْكَافِرِينَ مَعْلُومَةٌ مِنَ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: ٥].
ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٧]. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَالْمَعْنَى: إِنْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُوا سَحَابٌ، وَهَذَا لَا يتقضي أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ
أَدَاةَ الشَّرْطِ إِنَّمَا تَقْتَضِي تَعْلِيقَ وُقُوعِ جَوَابِهَا عَلَى وُقُوعِ فِعْلِهَا لَوْ وَقَعَ. وَوَقَعَ سَحابٌ مَرْكُومٌ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ: هُوَ سَحَابٌ وَهَذَا سَحَابٌ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنَادًا مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ سَحَابًا. وَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ أَنَّ الْعِنَادَ شِيمَتُهُمْ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَنَّ أَمر الله رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتْرُكَهُمْ، أَيْ يَتْرُكَ عَرْضَ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَنْ لَا يَسْأَلَ اللَّهَ إِظْهَارَ مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْتَرِحُونَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْحُجَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٩٦، ٩٧]. وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ دَعْوَتِهِمْ وَعَرْضَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي تَهْدِيدِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ حِينَ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا يُقَالُ لِلَّذِي لَا يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ: دَعْهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْلِعُ.
وَأَفَادَتِ الْغَايَةُ أَنَّهُ يَتْرُكُهُمْ إِلَى الْأَبَدِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ يُصْعَقُوا لَا تُعَادُ مُحَاجَّتُهُمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلاقُوا. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُلْقُوا بِدُونِ أَلِفٍ بعد اللَّام.
و «الْيَوْم الَّذِي فِيهِ يَصْعَقُونَ» هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ الَّذِي يُصْعَقُ عِنْدَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ.
وَإِضَافَةُ الْيَوْمِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِإِنْكَارِهِ وَعُرِفُوا بِالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة.
وَهَذَا نَظِيرُ النِّسَبِ فِي قَوْلِ أَهْلِ أُصُولِ الدِّينِ: فُلَانٌ قَدَرِيٌّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ. فَالْمَعْنَى بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْقَدَرِ أَنَّهُ يَخُوضُ فِي شَأْنِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أُوعِدُوهُ، فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء:
١٠٣].
وَعُمُومُ مَنْ يَشاءُ لِشِمُولِ أَنَّهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مُقَاتِلِينَ وَيُسَلِّطُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ.
وَالْمَعْنَى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِم، وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. فَأَغْنَى التَّذْيِيلُ عَنِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ مَالِ اللَّهِ يتصرّف فِيهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ مِنْ بَعْدِهِ.
فَتَكُونُ الْآيَةُ تَبْيِينًا لِمَا وَقَعَ فِي قِسْمَةِ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ. ذَلِكَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَسِّمْهُ عَلَى جَمِيعِ الْغُزَاةِ وَلَكِنْ قَسَمَهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ سَوَاءٌ كَانُوا مِمَّنْ غَزَوْا مَعَهُ أَمْ لَمْ يَغْزُوا إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ. فَأَرَادَ أَنْ يَكْفِيَهُمْ وَيَكْفِيَ الْأَنْصَارَ مَا مَنَحُوهُ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ النَّخِيلِ. وَلَمْ يُعْطِ مِنْهُ الْأَنْصَارَ إِلَّا ثَلَاثَةً لِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ وَهُمْ أَبُو دُجَانَةَ (سِمَاكُ بْنُ خُزَيْنَةَ)، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ أَبِي الْحُقَيْقِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِاجْتِهَاد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ لَهُ.
فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ قُسِّمَتْ أَمْوَالُ النَّضِيرِ كَانَتْ بَيَانًا بِأَنَّ مَا فعله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، أَوْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إِذْ
رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْجَيْشَ سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْمِيسَ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ مِثْلِ غَنَائِمَ بَدْرٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
، كَانَت الْآيَةُ تَشْرِيعًا لِاسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ.
قَالَ أَبُو بَكْرُ ابْن الْعَرَبِيِّ: «لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى خَاصَّةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَاصَّةٌ بِأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَعَلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ. وَبِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَحْضِرِ عُثْمَان، وَعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا
رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ صَافِيَةً لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَمِّسْهَا
. وَاخْتُلِفَ فِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا كُلُّ مَالٍ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
صَنْعَاءَ.
وَقِيلَ: ضَرَوَانُ اسْمُ هَذِهِ الْجَنَّةِ، وَكَانَتْ جَنَّةً عَظِيمَةً غَرَسَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ: أَمِنَ الْيَهُودِ أَمْ مِنَ النَّصَارَى؟ فَقِيلَ: كَانَ يَهُودِيًّا، أَيْ لِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ كَانُوا تَدَيَّنُوا باليهودية من عَهْدِ بِلْقِيسَ كَمَا قِيلَ أَوْ بَعْدَهَا بِهِجْرَةِ بَعْضِ جُنُودِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَتْ زَكَاةُ الثِّمَارِ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْجَنَّةِ بَعْدَ عِيسَى بِقَلِيلٍ، أَيْ قَبْلَ انْتِشَارِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الْيَمَنِ لِأَنَّهَا مَا دَخَلَتِ الْيَمَنَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْأَحْبَاشِ إِلَى الْيَمَنِ فِي قِصَّةِ الْقُلَّيْسِ وَكَانَ ذَلِكَ زَمَانَ عَامِ الْفِيلِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانُوا مِنَ الْحَبَشَةِ كَانَتْ لِأَبِيهِمْ جَنَّةٌ وَجَعَلَ فِي ثَمَرِهَا حَقًّا لِلْمَسَاكِينِ وَكَانَ يُدْخِلُ مَعَهُ الْمَسَاكِينَ لِيَأْخُذُوا مِنْ ثَمَارِهَا فَكَانَ يَعِيشُ مِنْهَا الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلُ وَالْمَسَاكِينُ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ وَصَارَتْ لِأَوْلَادِهِ أَصْبَحُوا ذَوِي ثَرْوَةٍ وَكَانُوا أَشِحَّةً أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ شَحِيحًا وَبَعْضهمْ دونه فتمالؤوا عَلَى حِرْمَانِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَرَامِلِ وَقَالُوا: لَنَغْدُوَنَّ إِلَى الْجَنَّةِ فِي سُدْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ انْبِلَاجِ الصَّبَاحِ مِثْلُ وَقْتِ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى جَنَّاتِهِمْ لِلْجِذَاذِ فَلَنَجُذُّنَّهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسَاكِينُ. فَبَيَّتُوا ذَلِكَ وَأَقْسَمُوا أَيْمَانًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُمْ أَقْسَمُوا لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَنْفِيذِ مَا تَدَاعَوْا إِلَيْهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ أَلْجَمُوهُ بِالْقَسَمِ وَهَذَا الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [الْقَلَم: ٢٨]، قِيلَ كَانَ يَقُولُ لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا عَنْ خُبْثِ نِيَّتِكُمْ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، وَذَكَّرَهُمُ انْتِقَامَ اللَّهِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ فغلبوه ومضوا لما عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُمْ أَقْسَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمْ ذَلِكَ فَأَقْسَمَ مَعَهُمْ أَوْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا الْاعْتِبَارِ أُسْنِدَ الْقَسَمُ إِلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ.
فَلَمَّا جَاءُوا جَنَّتَهُمْ وَجَدُوهَا مُسْوَّدَةً قَدْ أَصَابَهَا مَا يُشَبِّهُ الْاحْتِرَاقَ فَلَمَّا رَأَوْهَا بِتِلْكَ الْحَالَةِ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ أَصَابَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ لِعَزْمِهِمْ عَلَى قَطْعِ مَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الضُّعَفَاءُ مِنْ قَوْمِهِمْ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ خَيْرًا مِنْهَا.
قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ مِنْ أَعْنَابٍ.
وَالصَّرْمُ: قَطْعُ الثَّمَرَةِ وَجِذَاذُهَا.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ (حَشَرَ) لِظُهُورِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ هُمْ أَهْلُ مَدِينَتِهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ.
وَعَطْفُ فَنادى بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أَعْلَنَ هَذَا الْقَوْلَ لَهُمْ بِفَوْرِ حُضُورِهِمْ لِفَرْطِ حِرْصِهِ عَلَى إِبْلَاغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.
وَالنِّدَاءُ: حَقِيقَتُهُ جَهْرُ الصَّوْتِ بِدَعْوَةِ أَحَدٍ لِيَحْضُرَ وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُرُوفُ النِّدَاءِ نَائِبَةً مَنَابَ (أَدْعُو) فَنَصَبَتِ الِاسْمَ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا. وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ دُونَ طَلَبِ حُضُورٍ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي «الْمَقَامَةِ الثَّلَاثِينَ» «فَحِينَ جَلَسَ كَأَنَّهُ ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ الْأَحْمَاءِ» إِلَخْ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ (نَادَى) كَمَا حُذِفَ مَفْعُولُ (حَشَرَ).
وَإِسْنَادُ الْحَشْرِ وَالنِّدَاءِ إِلَى فِرْعَوْنَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ حَشْرَ النَّاسِ وَلَا نِدَاءَهُمْ وَلَكِنْ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ وَجُنْدَهُ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: بَنَى الْمَنْصُورُ بَغْدَادَ.
وَالْقَوْلُ الَّذِي نَادَى بِهِ هُوَ تَذْكِيرُ قَوْمِهِ بِمُعْتَقَدِهِمْ فِيهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ مَلِكَ مِصْرَ إِلَهًا لِأَنَّ الْكَهَنَةَ يُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّهُ ابْنُ (آمُونَ رَعِ) الَّذِي يَجْعَلُونَهُ إِلَهًا وَمَظْهَرُهُ الشَّمْسُ.
وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي أَنَا رَبُّكُمُ لِرَدِّ دَعْوَةِ مُوسَى.
وَقَوْلُهُ: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ فَنادى بَدَلًا مُطَابِقًا بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ الْفَاءُ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِمِثْلِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ يَسْعى عَلَى أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنْحَاءِ مَمْلَكَتِهِ، وَلَيْسَ قَاصِرًا عَلَى إِعْلَانِهِ فِي الْحَشْرِ الَّذِينَ حَشَرَهُمْ حَوْلَ قَصْرِهِ.
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّبِّ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ ابْنُ (آمُونَ رَعْ) وَهُوَ الرَّبُّ الْأَعْلَى، فَابْنُهُ هُوَ


الصفحة التالية
Icon