وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ مَكَانًا يَجِبُ الْوَقْفُ فِيهِ وَلَا يَحْرُمُ الْوَقْفُ فِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي «أُرْجُوزَتِهِ»، وَلَكِنَّ الْوَقْفَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَكِيدٍ حَسَنٍ وَدُونَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَبَعْضُهُمُ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ نِهَايَةِ الْكَلَامِ وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَطَلَّبُ الْمَعْنَى الْوَقْفَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَعْنَى سَكْتًا وَهُوَ قَطْعُ الصَّوْتِ حِصَّةً أَقَلَّ مِنْ حِصَّةِ قَطْعِهِ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَاضِحَةٌ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ حَارِسٌ مِنَ الْفَهْمِ الْمُخْطِئِ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: ١] لَوْ وَقَفَ الْقَارِئُ عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تَحْذِيرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَكَيْفَ يَخْطُرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: رَبِّكُمْ فَهَلْ يُحَذَّرُ أَحَدٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: ٢٧] فَإِنَّ كَلِمَةَ بَناها هِيَ مُنْتَهَى الْآيَةِ وَالْوَقْفُ عِنْدَ أَمِ السَّماءُ وَلَكِنْ لَوْ وَصَلَ الْقَارِئُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَكُونَ بَناها مِنْ جُمْلَةِ أَمِ السَّماءُ لِأَنَّ مُعَادِلَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفْرَدًا.
عَلَى أَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْوَقْفِ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِتَعَدُّدِ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَعْنَى مَعَ اتِّحَادِ الْكَلِمَاتِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الْإِنْسَان: ١٥، ١٦] فَإِذَا وُقِفَ عَلَى قَوارِيرَا الْأَوَّلُ كَانَ قَوارِيرَا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي لَفْظِ قَوارِيرَا، وَإِذَا وُقِفَ عَلَى قَوارِيرَا الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى التَّرْتِيبَ وَالتَّصْنِيفَ، كَمَا يُقَالُ: قَرَأَ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا، وَحَضَرُوا صَفًّا صَفًّا، وَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ فِضَّةٍ عَائِد إِلَى قَوْلِهِ: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ.
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُرَادًا مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَإِعْجَازُ الْجَاحِدِينَ بِهِ وَكَانَ قَدْ نَزَلَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، كَانَ فَهْمُ مَعَانِيهِ مَفْرُوغًا مِنْ حُصُولِهِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا التَّحَدِّي بِعَجْزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَأَمْرٌ يَرْتَبِطُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَوِي فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا جَمِيعُهُمْ بَلْ خَاصَّةُ بُلَغَائِهِمْ مِنْ خُطَبَاءَ وَشُعَرَاءَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْإِعْجَازِ مَا يَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ مِنْ فَنِّ الْبَدِيعِ، وَمِنْ ذَلِكَ فَوَاصِلُ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ شِبْهُ قوافي الشّعْر وأسجاع النَّثْرِ، وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فَكَانَ عَدَمُ الْوَقْفِ عَلَيْهَا تَفْرِيطًا فِي الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
وَوجه الْعبْرَة فِيهِ أَنَّ شَأْنَ الْمَاءِ الَّذِي يَسْقِي الْأَرْضَ أَنْ يَنْبُعَ مِنْهَا فَجَعْلُ الْمَاءِ نَازِلًا عَلَيْهَا مِنْ- ضِدِّهَا وَهُوَ السَّمَاءُ- عِبْرَةٌ عَجِيبَةٌ.
وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِمَنْ يَجِيءُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ جَعْلَ الْمَاءِ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ يَصِيرُ مَاءً فِي الكرة الهوائية عِنْد مَا يُلَامِسُ الطَّبَقَةَ
الزَّمْهَرِيرِيَّةَ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ تصير زمهريرا عِنْد مَا تَقِلُّ حَرَارَةُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلَعَلَّ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَخَاصَّةً الْقَمَرِ أَهْوِيَةً بَارِدَةً يَحْصُلُ بِهَا الزَّمْهَرِيرُ فِي ارْتِفَاعِ الْجَوِّ فَيَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي تَكْوِينِ الْبُرُودَةِ فِي أَعْلَى الْجَوِّ فأسند إِلَيْهَا بإنزال الْمَاءِ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَرُبَّمَا يُسْتَرْوَحُ لِهَذَا بِحَدِيثٍ مَرْوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْ بَحْرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ أَيْ أَنَّ عُنْصُرَ الْمَائِيَّةِ يَتَكَوَّنُ هُنَالك ويصل بالمجاورة حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى جَوِّنَا قَلِيلٌ مِنْهُ فَإِذَا صَادَفَتْهُ الْأَرْضُ تكون من ازدواجهما الْمَاءُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: ٤٣]، وَلَعَلَّهَا جِبَالُ كُرَةِ الْقَمَرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ أَنَّ نَهَارَ الْقَمَرِ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَيْلُهُ كَذَلِكَ، فَيَحْصُلُ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى شِدَّةِ الْبَرْدِ فَإِذَا كَانَتْ مُدَّةُ شِدَّةِ الْبَرْدِ هِيَ مُدَّةَ اسْتِقْبَالِهِ الْأَرْضَ أَحْدَثَ فِي جَوِّ الْأَرْضِ عُنْصُرَ الْبُرُودَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ بِالْفَاءِ لِسُرْعَةِ حَيَاةِ الْأَرْضِ إِثْرَ نُزُولِ الْمَاءِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ الْفِعْلُ وَالْفَاءُ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَمَوْضِعُ مِنَّةٍ. وَأُطْلِقَتِ الْحَيَاةُ عَلَى تَحَرُّكِ الْقُوَى النَّامِيَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ قُوَّةُ النَّبَاتِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْحَيَاةَ حَقِيقَةً هِيَ ظُهُورُ الْقُوَى النَّامِيَةِ فِي الْحَيَوَانِ فَشُبِّهَتِ الْأَرْضُ بِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا الْحَيَاةَ حَقِيقَةً فِي ظُهُورِ قَوَى النَّمَاءِ وَجَعَلْنَا النَّبَاتَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَبِالْمَوْتِ فَقَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْمُرَادُ إِحْيَاءُ مَا تُرَادُ لَهُ الْأَرْضُ وَهُوَ النَّبَاتُ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ أَحْيَا وَمَوْتٍ طِبَاقَانِ.
وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَطْفٌ إِمَّا عَلَى أَنْزَلَ فَيَكُونُ صِلَةً ثَانِيَةً وَبِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ قَبْلَهُ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةً ثَالِثَةً، وَإِمَّا عطف على فَأَحْيا فَيَكُونُ مَعْطُوفًا ثَانِيًا عَلَى الصِّلَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ بَيَانِيَّةٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ عَطْفًا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَة وَهُوَ فَأَحْيا فَمِنْ
تَعْتَرِي الْجِسْمَ مِثْلِ فَيَضَانِ الْمِرَّةِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَشَنُّجِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ هَاتِهِ الْعِلَلُ كُلُّهَا تَنْشَأُ فِي الْأَصْلِ مِنْ تَوَجُّهَاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ، فَإِنَّ عَوَالِمَ الْمُجَرَّدَاتِ- كَالْأَرْوَاحِ- لَمْ تَنْكَشِفْ أَسْرَارُهَا لَنَا حَتَّى الْآنَ وَلَعَلَّ لَهَا ارْتِبَاطَاتٍ شُعَاعِيَّةً هِيَ مَصَادِرُ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الْإِشَارَةُ إِلَى كَما يَقُومُ لِأَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْبَاءَ سَبَبِيَّةٌ.
وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، إِنْ كَانَ قَوْلًا لِسَانِيًّا فَالْمُرَادُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْ قَوْلُ دُعَاتِهِمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ، ظَنُّوا بِسُوءِ فَهْمِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا
اضْطِرَابٌ فِي حِينِ تَحْلِيلِ الْبَيْعِ، لِقَصْدِ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِمْ إِذْ يَتَعَذَّرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا حَالِيًّا بِحَيْثُ يَقُولُهُ كُلُّ مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ وَجْهِ تَعَاطِيهِ الرِّبَا، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قالُوا مَجَازًا لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ مُسَاوَاةَ الْبَيْعِ لِلرِّبَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقُولَهُ قَائِلٌ، فَأُطْلِقَ الْقَوْلُ وَأُرِيدَ لَازِمُهُ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ بِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ تَخَالُفَ حُكْمِهِمَا فَحُرِّمَ الرِّبَا وَأُحِلَّ الْبَيْعُ، وَلَمَّا صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ مِثْلُ سَاغَ أَنْ يُقَالَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا كَمَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قُصِدَ إِلْحَاقُهُ بِهِ، كَمَا فِي سُؤَالِ الْكَشَّافِ وَبَنَى عَلَيْهِ جَعْلَ الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسُوا هُمْ بِصَدَدِ إِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ بَلْ هُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعَ، فَهُمَا فِي الْخُطُورِ بِأَذْهَانِهِمْ سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا بِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَبَقَاءِ الْبَيْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ سَبَقَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ إِلَى أَذْهَانِهِمْ فَأَحْضَرُوهُ لِيُثْبِتُوا بِهِ إِبَاحَةَ الرِّبَا، أَوْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَيْعَ هُوَ الْأَصْلَ تَعْرِيضًا بِالْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِهِ الرِّبَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي الْأُصُولِ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ (١) لِأَنَّ قِيَاسَ الْعَكْسِ إِنَّمَا يُلْتَجَأُ إِلَيْهِ عِنْدَ كِفَاحِ الْمُنَاظَرَةِ لَا فِي وَقْتِ اسْتِنْبَاطِ الْمُجْتِهِدِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ.
_________
(١) هُوَ الِاسْتِدْلَال بِحكم الْفَرْع على حكم الأَصْل لقصد إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ ويقابله قِيَاس الطَّرْد وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِحكم الأَصْل على حكم الْفَرْع لإِثْبَات حكم الْفَرْع فِي نفس الْأَمر. مِثَال الأول أَن تَقول: النَّبِيذ مثل الْخمر فِي الْإِسْكَار، فَلَو كَانَ النَّبِيذ حَلَالا لكَانَتْ الْخمر حَلَالا وَهُوَ بَاطِل. وَمِثَال الثَّانِي أَن تَقول: النَّبِيذ مُسكر فَهُوَ حرَام كَالْخمرِ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا جَمَعَ الْعُقُوبَاتِ مُتَوَالِيَةً: فَقَالَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، قُلْتُ: رُوعِيَ قَضَاءُ حَقِّ جَمْعِ النَّظِيرِ أَوَّلًا، وَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ ثَانِيًا، بِجَمْعِ الْقَطْعِ وَالْكَبْتِ، ثُمَّ جَمْعِ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ، عَلَى نَحْوِ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو الطَّيِّبِ عَن نقد من نَقْدِ قَوْلِهِ فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ | كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ |
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً | وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ |
وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لَامُ الْمِلْكِ، وَكَافُ الْخِطَابِ لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ إِذْ رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا وَجِيزًا مَحْذُوفًا مِنْهُ بَعْضُ الْكَلِمَاتِ، وَلَمْ أَظْفَرْ، فِيمَا حَفِظْتُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَعَلَّهَا مِنْ
مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: ٤] وَسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمرَان: ١٥٤] ويَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمرَان: ١٥٤] فَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى فَلَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ أَجْدَرُ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ إِنْ وَقَعَتْ فَضْلٌ مِنَ الله تَعَالَى.
[١٢٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٢٩]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ الْإِيمَانَ، أَيْ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ تَعَسُّفَاتٌ تُكْرِهُ الْقُرْآنَ عَلَى خِدْمَةِ مَذَاهِبِهِمْ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، إِنْ كَانَتْ مُرَادًا بِهَا الْإِعْلَامُ بِأَحْوَالِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فَهِيَ آيَةٌ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ شَأْنِ الْإِشْرَاكِ، وَأُجْمِلَ مَا عَدَاهُ إِجْمَالًا عَجِيبًا، بِأَنْ أُدْخِلَتْ صُوَرُهُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ الْمُقْتَضِي مَغْفِرَةً لِفَرِيقٍ مُبْهَمٍ وَمُؤَاخَذَةً لِفَرِيقٍ
مُبْهَمٍ. وَالْحِوَالَةُ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى الْمُسْتَقْرَاةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ نَسَخَ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَلَا يَهُولُنَا أَنَّهَا خَبَرٌ لِأَنَّهَا خَبَرٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مُعْظَمِ الْقُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَهَا، وَبِذَلِكَ يَسْتَغْنِي جَمِيعُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّعَسُّفِ فِي تَأْوِيلِهَا كُلٌّ بِمَا يُسَاعِدُ نِحْلَتَهُ، وَتُصْبِحُ صَالِحَةً لِمَحَامِلِ الْجَمِيعِ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَأْوِيلِهَا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ حمل الْإِشْرَاك على مَعْنَاهُ الْمُتَعَارف فِي الْقُرْآن والشريعة الْمُخَالف لِمَعْنى التَّوْحِيد، خلاف تَأْوِيل الشَّافِعِي الْإِشْرَاكِ بِمَا يَشْمَلُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَعَلَّهُ نَظَرَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بِأَنَّهُمَا مُشْرِكَتَانِ.. وَقَالَ: أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِنْ أَن يدعى الله ابْنٌ.
وَأَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ مَفْهُومِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَكَوْنُ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، لَا يَقْتَضِي جَعْلَهُمْ مُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَدَّعُوَا مَعَ ذَلِكَ لِهَذَيْنِ إِلَهِيَّةً تُشَارِكُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَفْهُومُ مُطْلَقِ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّهُ مَاذَا يُغْنِي هَذَا التَّأْوِيلُ إِذَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ لَا يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مِثْلَ مُعْظَمِ الْيَهُودِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، أَيِ الْإِيمَانَ، يُوجِبُ مَغْفِرَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرَ إِشْرَاكٍ أَمْ كُفْرًا بِالْإِسْلَامِ، لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا لَا يُغْفَرُ بِلَا شَكٍّ. إِمَّا بِوَعِيدِ اللَّهِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ وَأَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ يُغْفَرُ ذَنْبُهُ قَطْعًا، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُذْنِبِ إِذَا مَاتَ عَلَى ذَنْبِهِ وَلَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يُغَطِّي عَلَى ذُنُوبِهِ، فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: يُعَاقَبُ وَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ بِنَصِّ الشَّرِيعَةِ، لَا بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ، فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعَرَّفَنَا مَشِيئَتَهُ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْقَلَائِدَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِذْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْقَلَائِدِ نِعَالًا لِفُقَرَائِهِمْ، كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِجِلَالِ الْبَدَنِ، وَهِيَ شُقَقٌ مِنْ ثِيَابٍ تُوضَعُ عَلَى كِفْلِ الْبَدَنَةِ فَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا قُمُصًا لَهُمْ وَأُزُرًا، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِحْلَالِهَا كَالنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ الْهَدْيِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْطِيلَ مَصَالِحِ سُكَّانِ الْحَرَمِ الَّذِينَ اسْتَجَابَ اللَّهُ فِيهِمْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيم: ٣٧] قَالَ تَعَالَى:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: ٩٧].
وَقَوْلُهُ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ عَطْفٌ عَلَى شَعائِرَ اللَّهِ: أَيْ وَلَا تَحِلُّوا قَاصِدِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهُمُ الْحُجَّاجُ، فَالْمُرَادُ قَاصِدُوهُ لِحَجَّةٍ، لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يُقْصَدُ إِلَّا لِلْحَجِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا آمِّينَ مَكَّةَ، لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ قَدْ يَقْصِدُهَا لِتُجْرٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حُرْمَةِ الْبَيْتِ حُرْمَةَ قَاصِدِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ آمِّينَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ آمِّينَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُحَرَّمٌ أَذَاهُمْ فِي حَالَةِ قَصْدِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ
رُوِيَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: وَهُوَ أَنَّ خَيْلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَقَائِدُهُمْ شُرَيْحُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْمُلَقَّبُ بِالْحُطَمِ (بِوَزْنِ زُفَرَ)، وَالْمُكَنَّى أَيْضًا بِابْنِ هِنْدٍ. نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ هِنْدِ بِنْتِ حَسَّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ، وَكَانَ الْحُطَمُ هَذَا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ نُزَلَاءِ الْيَمَامَةِ، فَتَرَكَ خَيْلَهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَدَخَلَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِلَامَ تَدْعُو» فَقَالَ رَسُولُ الله: «إِلَى شهاد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ». فَقَالَ: «حَسَنٌ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَسَأَنْظُرُ وَلَعَلِّي أَنْ أُسْلِمَ وَأَرَى فِي أَمْرِكَ غِلْظَةً وَلِي مِنْ وَرَائِي مَنْ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُمْ»
وَخَرَجَ فَمَرَّ بِسَرْحِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَ إِبِلًا كَثِيرَةً وَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا أُعْلِمُوا بِهِ فَلَمْ يَلْحَقُوهُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجَزًا، وَقِيلَ: الرَّجَزُ لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ رُشَيْدُ بْنُ رُمَيْضٍ الْعَنَزِيُّ وَهُوَ:
هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ
أَنْ يَعْمَلَهُ يَسْتَدْعِي وَقْتًا طَوِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٠].
وَقَوْلُهُ: اثْنانِ خَبَرٌ عَنْ شَهادَةُ، أَيْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأَخَذَ إِعْرَابَهُ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَالْمَقْصُود الإيجاز.
فَمَا صدق اثْنانِ شَاهِدَانِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، وَقَوْلِهِ: ذَوا عَدْلٍ. وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ هُمَا وَصِيَّانِ مِنَ الْمَيِّتِ عَلَى صِفَةِ وَصِيَّتِهِ وَإِبْلَاغِهَا، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْمُوصِي وَصِيًّا غَيْرَهُمَا فَيَكُونَا شَاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْعَدْلُ وَالْعَدَالَةُ مُتَّحِدَانِ، أَيْ صَاحِبَا اتِّصَافٍ بِالْعَدَالَةِ.
وَمَعْنَى مِنْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا خَاطَبَ مُخَاطَبَهُ بِوَصْفٍ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْوَصْفِ، كَمَا قَالَ الْأَنْصَارُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَالْكَلَامُ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ مِنْكُمْ فِي مَوَاقِعِهَا فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْكُمْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مُقَابِلِهِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِكُمْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ. فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِمَّنْ قَالُوا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ إِلَى إِعْمَالِ هَذَا وَأَجَازُوا شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً، وَخَصُّوا ذَلِكَ بِالذِّمِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاق: ٢]، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الصُّورَةِ الْكَامِلَةِ فِي شَهَادَةِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.
(١٣٢)
احْتِرَاسٌ عَلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ١٣١] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْغَالِبِ عَلَى أَهْلِهَا الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ لَا يُحْرَمُونَ جَزَاءَ صَلَاحِهِمْ.
وَالتَّنْوِينُ فِي: وَلِكُلٍّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: أَيْ وَلِكُلِّهِمْ، أَيْ كُلِّ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ دَرَجَاتٌ. يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ لَا يُضَاعُ إِيمَانُهُمْ. وَالْكَافِرُونَ يُحْشَرُونَ إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. بَعْدَ أَنْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا. فَاللَّهُ قَدْ
يُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ. فَتِلْكَ دَرَجَةٌ نَالُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ دَرَجَةُ إِظْهَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، وَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْكَافِرُونَ يَحِيقُ بِهِمْ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَهْلِكُ الْقَرْيَةُ بِمُؤْمِنِيهَا ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّعِيمِ فَيَظْهَرُ تَفَاوُتُ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]
رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ».
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي «الشُّعَبِ» مَرْفُوعًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَنْزَلَ سَطْوَتَهُ بِأَهْلِ نِقْمَتِهِ وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ قُبِضُوا مَعَهُمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ (أَيْ عَقَدَ إِصْبَعَيْنِ بِعَلَامَةِ تِسْعِينَ فِي الْحِسَابِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْعُقَدِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْقَافِ) - قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»
. وَالدَّرَجَاتُ هِيَ مَا يُرْتَقَى عَلَيْهِ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، فِي سُلَّمٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَإِنْ قُصِدَ بِهَا النُّزُولُ إِلَى مَحَلٍّ مُنْخَفِضٍ مِنْ جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ فَهِيَ دَرَكَاتٌ،
لِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتَذَرُوا لِآبَائِهِمْ، فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها لَيْسَ ادِّعَاءُ بُلُوغِ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ آبَاءَهُمُ الَّذِينَ رَسَمُوا تِلْكَ الرُّسُومَ وَسَنُّوهَا فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ آبَاءَهُمْ أَمْرًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بَقَاءَ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّاتِهِمْ، فَهَذَا مَعْنَى اسْتِدْلَالِهِمْ، وَقَدْ أَجْمَلَهُ إِيجَازُ الْقُرْآنِ اعْتِمَادًا عَلَى فِطْنَةِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ وَالْقَوْلُ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: عَلَى مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَجْمُوعِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَائِلُ غَيْرَ الْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ غَيْرَ قَائِلٍ، اعْتِدَادًا بِأَنَّهُمْ لَمَّا صَدَّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ كُلُّهُمْ وَاعْتَذَرُوا عَنْهُ كُلُّهُمْ.
وَأَفَادَ الشَّرْطُ رَبْطًا بَيْنَ فِعْلِهِمُ الْفَاحِشَةَ وَقَوْلِهِمْ: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا بِاعْتِبَارِ إِيجَازٍ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، إِذِ الْمَفْهُومُ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً فَأُنْكِرَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ نُهُوا عَنْهَا
قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْكَارِ وَالنَّهْيِ خُصُوصَ نَهْيِ الْإِسْلَامِ إِيَّاهُمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ أَيِّ نَاهٍ وَإِنْكَارُ أَيِّ مُنْكِرٍ، فَقَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمُ الْفَوَاحِشَ مَنْ لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَيْهَا مِنَ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ دِينَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ أَشْتَاتًا مُخْتَلِفًا، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَنْ خَلَعُوا الشِّرْكَ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ ابْن أَبِي الصَّلْتِ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّاةَ وَأَنْزَلَ لَهَا الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ لَهَا الْعُشْبَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَذْبَحُونَهَا لِغَيْرِهِ» وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَتَحَرَّجُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ ثُمَّ لَا يَسَعُهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُمْ فِيهَا إِكْرَاهًا.
وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَنْ لَا تُوَافِقُ أَعْمَالُهُمْ هَوَاهُ: كَمَا وَقع لامرىء الْقَيْسِ، حَيْثُ عَزَمَ عَلَى قِتَالِ بَنِي أَسَدٍ بَعْدَ قَتْلِهِمْ أَبَاهُ حُجْرًا، فَقَصَدَ ذَا الْخَلَصَةِ- صَنَمَ خَثْعَمَ- وَاسْتَقْسَمَ عِنْدَهُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ لَهُ النَّاهِي فَكَسَرَ الْأَزْلَامَ وَقَالَ:
لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخَلَصِ الْمُوتُورَا | مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا |
صَائِرٌ إِلَى السُّوءِ.
وَمَا هُمْ فِيهِ هُوَ حَالُهُمْ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ فِي تَعْرِيفِهَا طَرِيقُ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ الصِّلَةَ تُحِيطُ بِأَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ وَلَا الْمُخَاطَبُونَ.
وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمُلَابَسَةِ، تَشْبِيهًا لِلتَّلَبُّسِ بِاحْتِوَاءِ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ.
وَالْبَاطِلُ اسْمٌ لِضِدِّ الْحَقَّ فَالْإِخْبَارُ بِهِ كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ يُفِيدُ مُبَالَغَةً فِي بُطْلَانِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّوْبِيخِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى الْبَاطِلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١١٨].
وَفِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ باطِلٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ.
وَإِعَادَةُ لَفْظِ قالَ مُسْتَأْنَفًا فِي حِكَايَةِ تَكْمِلَةِ جَوَابِ مُوسَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (١) - إِلَى قَوْلِهِ- قالَ فِيها تَحْيَوْنَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [٢٤، ٢٥].
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُعَادُ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ إِذَا طَالَ الْمَقُولُ، أَوْ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ التَّوْبِيخِ عَلَى سُؤَالِهِمْ إِلَى غَرَضِ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يَقْتَضِي زَجْرَهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ عِبَادَةِ غَيْرِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَيْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْآلِهَةُ بَاطِلًا لَكَانَ فِي اشْتِغَالِكُمْ بِعِبَادَتِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِلَهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ وَنِدَاءٌ عَلَى الْحَمَاقَةِ وَتَنَزُّهٌ عَنْ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي حَمَاقَتِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ طَلَبِهِمْ أَنْ يَجْعَل لَهُم إلاها غَيْرَ اللَّهِ، وَقَدْ أُولِيَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْهَمْزَةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ اتِّخَاذُ غير الله إلاها، فَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلِاخْتِصَاصِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ أَيِ: اخْتِصَاصِ الْإِنْكَارِ بِبَغْيِ غير الله إلاها.
وَهَمْزَةُ أَبْغِيكُمْ هَمْزَةُ الْمُتَكَلِّمِ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ مُضَارِعُ بَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ، وَمَصْدَرُهُ الْبُغَاءُ- بِضَمِّ الْبَاءِ.
_________
(١) فِي المطبوعة: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [الْبَقَرَة: ٣٨]، والمثبت هُوَ الْمُنَاسب للسياق.
وَ «مِنْ» الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ أَمْكَنَ اتِّصَالِيَّةٌ مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَيْ أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، أَيْ لَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْكَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَتَاكُمْ بِهِمْ إِلَى بَدْرٍ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْكُمْ فَسَلَّطَكُمْ عَلَيْهِمْ.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ حَكِيمٌ فِي مُعَامَلَتِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يعلم مِنْهُم.
[٧٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
هَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْإِعْلَامِ بِأَحْكَامِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، نَشَأَ عَنْ قَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْأَسْرَى غَيْرَهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانُوا صَادِقِينَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِمْ وَظَنُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ بِحُكْمِ مَنْ آمَنَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْبَقَاءِ بِدَارِ الشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «مَقْصِدُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا تَبْيِينُ مَنَازِلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا وَالْكُفَّارِ، وَالْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَذِكْرُ نِسَبِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ».
وَتَعَرَّضَتِ الْآيَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَابْتَدَأَتْ بِبَيَانِ فَرِيقَيْنِ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُهُمْ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ فَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ فَرِيقَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس ١٦].
[٢]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٢]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُس: ١] بِمَا فِيهَا مِنْ إِبْهَامِ الدَّاعِي إِلَى التَّوَقُّفِ عَلَى آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ تُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ ذَلِكَ الدَّاعِي فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ هُوَ اسْتِبْعَادُ النَّاسِ الْوَحْيَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ اسْتِبْعَادَ إِحَالَةٍ. وَجَاءَتْ عَلَى هَذَا النَّظْمِ الْجَامِعِ بَيْنَ بَيَانِ الدَّاعِي وَبَيْنَ إِنْكَارِ السَّبَبِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ وَتَجْهِيلِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِيهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِأَنَّهُ مَبْدَأُ الْغَرَضِ الَّذِي جَاءَتْ لَهُ السُّورَةُ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ كَيْفَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبَ إِحَالَةٍ.
وَفَائِدَةُ إِدْخَال الِاسْتِفْهَام الْمُسْتَعْمل فِي الْإِنْكَار، عَلَى (كَانَ) دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَعَجِبَ النَّاسُ، هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَعَجُّبِهِمُ الْمُرَادِ بِهِ إِحَالَةُ الْوَحْيِ إِلَى بَشَرٍ.
وَالْمَعْنَى: أُحْدِثَ وَتَقَرَّرَ فِيهِمُ التَّعَجُّبُ مِنْ وَحْيِنَا، لِأَنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ يُشْعِرُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّمَكُّنِ فَإِذَا عُبِّرَ بِهِ أَشْعَرَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ حُصُولُهُ.
ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب كانَ لِزِيَادَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ هَذَا التَّعَجُّبِ فِيهِمْ، لِأَنَّ أَصْلَ اللَّامِ أَنْ تُفِيدَ الْمِلْكِ، وَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلتَّمَكُّنِ، أَيْ لِتَمَكُّنِ الْكَوْنِ عَجَبًا مِنْ نُفُوسِهِمْ.
وعَجَباً خَبَرُ كانَ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ.
وأَنْ وأَوْحَيْنا اسْمُ كَانَ، وَجِيءَ فِيهِ بِ (أَنْ) وَالْفِعْل دُونَ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَهُوَ وَحْيُنًا
لِيُتَوَسَّلَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ الْفِعْلُ مِنَ التَّجَدُّدِ وَصِيغَةِ الْمُضِيِّ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِ الْوَحْيِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ وَتَجَدُّدِهِ وَذَلِكَ مَا يَزِيدُهُمْ كَمَدًا.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَهِيَ كَمَا تَرَى نَظْمٌ لِلْمَعَانِي لِطَيْفٌ وَتَأْدِيَةٌ لَهَا مُلَخَّصَةٌ مُبَيَّنَةٌ، لَا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الْفِكْرَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ. وَلَا الْتِوَاءَ يُشِيكُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُرْتَادِ، بَلْ إِذَا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا وجدت ألفاظها تطابق مَعَانِيهَا ومعانيها تطابق أَلْفَاظَهَا.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَأَلْفَاظُهَا عَلَى مَا تَرَى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ، سَلِيمَةٌ عَنِ التَّنَافُرِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَشَاعَةِ، عَذْبَةٌ على العذبات، سلسلة عَلَى الْأَسَلَاتِ... ». هَذِهِ نِهَايَةُ كَلَام الْمِفْتَاح.
[٤٥- ٤٧]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٧]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
مَوْقِعُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ نِدَاءَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا كَانَ بَعْدَ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ نِدَاءً دَعَاهُ إِلَيْهِ دَاعِيَ الشَّفَقَةِ فَأَرَادَ بِهِ نَفْعَ ابْنِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ نَجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ إِلَّا لِلَّذِينَ يَرْكَبُونَ السَّفِينَةَ، وَلِأَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا ابْنَهُ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فَأَبَى وَجَرَتِ السَّفِينَةُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى نَجَاتِهِ فَكَيْفَ
يَسْأَلُهَا مِنَ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كَمَا سَيَأْتِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا وَقَعَ قَبْلَ غَرَقِ النَّاسِ، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يُنَجِّيَ ابْنَهُ مِنَ الْغَرَقِ.
وَالْأَنْهَارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وَهُوَ الْوَادِي الْعَظِيمُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [٢٤٩].
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى أَنْهاراً فَهُوَ مَعْمُولٌ لِ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ. وَدُخُولُ مِنْ عَلَى كُلِّ جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ فِي ذِكْرِ أَجْنَاسِ غَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. ومِنَ هَذِهِ تُحْمَلُ عَلَى التَّبْعِيضِ لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْحَصِرُ وَالْمَوْجُودُ مِنْهَا مَا هُوَ إِلَّا بَعْضُ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ مِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ انْقَضَتْ وَمِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ سَتُوجَدُ.
وَالْمُرَادُ بِ الثَّمَراتِ هِيَ وَأَشْجَارُهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الثَّمَراتِ لِأَنَّهَا مَوْقِعُ مِنَّةٍ مَعَ الْعِبْرَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٥٧]. فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَبِذَلِكَ انْتَهَى تَعْدَادُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْأَرْضِ. وَهَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرًا. وَيُعَضِّدُهُ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١].
وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ.
وَتَتَعَلَّقُ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ بِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَبِهَذَا فَسَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُبْعِدُهُ أَنَّهُ لَا نُكْتَةَ فِي تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورِ مَحَلُّ اهْتِمَامٍ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلثَّمَرَاتِ هُنَا، وَلِأَنَّ الثَّمَرَاتِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا وُجُودُ أَزْوَاجٍ وَلَا كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَيْضًا فِيهِ فَوَاتُ الْمِنَّةِ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وَتَنَاسُلِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مُعْظَمَ نَفْعِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ. وَمِمَّا يُقَرِّبُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: ٦- ٨]. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ هَمَّا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [سُورَة الْقِيَامَة: ٣٩].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ
الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ جِنْسُ الْحَيَوَانِ الْمَخْلُوقِ صِنْفَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى أَحَدُهُمَا زَوْجٌ
وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ شِدَّةَ قَلْبٍ وَغِلْظَةً لَا جَرَمَ اعْتَرَضَهُ بِالْأَمْرِ بِالرِّفْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُرَادٌ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [سُورَة الْفَتْح: ٢٩].
وَخَفْضُ الْجَنَاحِ تَمْثِيلٌ لِلرِّفْقِ وَالتَّوَاضُعِ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ ينحطّ للوقوع حفض جَنَاحَهُ يُرِيدُ الدُّنُوَّ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ إِذَا لَاعَبَ أُنْثَاهُ فَهُوَ رَاكِنٌ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالرِّفْقِ، أَوِ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لِحَضْنِ فِرَاخِهِ. وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَالْجَنَاحُ تَخْيِيلٌ. وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [سُورَة الْإِسْرَاء: ٢٤] وَقَدْ شَاعَتْ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْمَثَلِ فِي التَّوَاضُعِ وَاللِّينِ فِي الْمُعَامَلَةِ. وَضِدُّ ذَلِكَ رفع الْجنَاح تَمْثِيل لِلْجَفَاءِ وَالشِّدَّةِ.
وَمِنْ شِعْرِ الْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ يُخَاطِبُ مَنْ كَانَ مُتَوَاضِعًا فَظَهَرَ مِنْهُ تَكَبُّرٌ (ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ) :
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ | فَلَا تَكُ فِي رِفْعَةٍ أَجْدَلَا |
وَجُمْلَةُ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
فَالْمَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ هُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِالضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُرَادٌ مِنْهُ الْمُتَارَكَةُ، أَيْ مَا عَلَيَّ إِلَّا
إِنْذَارُكُمْ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ ذِكْرُ النذارة دون الْبشَارَة لِأَنَّ النِّذَارَةَ تُنَاسِبُ الْمُكَذِّبِينَ إِذِ النِّذَارَةُ هِيَ الْإِعْلَامُ بِحَدَثٍ فِيهِ ضُرٌّ.
وَالنَّذِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مِثْلُ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، وَضَرْبٌ وَجِيعٌ، أَيْ مُوجِعٌ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَمن تَعْرِيف الجزءين قَصْرُ قلب، أَي لست كَمَا تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَغِيظُونَنِي بِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ فَإِنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ غَيْرُ مُتَقَايِضٍ مَعَكُمْ لِتَحْصِيلِ إِيمَانِكُمْ.
وَنُحِسَ، وَالْمَعْنَى: جُعِلَ يَسِيرًا غَيْرَ عَسِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُقَال: عسر. وَالْقَوْلُ الْمَيْسُورُ: اللِّينُ الْحَسَنُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُمْ شِبْهُ الْمَقْبُولِ بِالْمَيْسُورِ فِي قَبُولِ النَّفْسِ إِيَّاهُ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَقْبُولِ عَسِيرٌ. أَمَرَ اللَّهُ بِإِرْفَاقِ عَدَمِ الْإِعْطَاءِ لِعَدَمِ الْمَوْجِدَةِ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ بِالِاعْتِذَارِ وَالْوَعْدِ عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ، لِئَلَّا يُحْمَلَ الْإِعْرَاضُ عَلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَالشُّحِّ.
وَقَدْ شَرَطَ الْإِعْرَاضَ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضًا لِابْتِغَاءِ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ إِعْرَاضًا لِعَدَمِ الْجِدَةِ لَا اعْتِرَاضًا لِبُخْلٍ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَوْلٌ لَيِّنٌ فِي الِاعْتِذَارِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَنَّهُ اعْتِذَارٌ صَادِقٌ وَلَيْسَ تَعَلُّلًا كَمَا قَالَ بَشَّارٌ:
وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَاله علل | رزق الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودٌ |
وَفِي ضِمْنِ هَذَا الشَّرْطِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ كَانَ فَاقِدًا مَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَرْجُوَ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ، وَأَنْ لَا يَحْمِلَهُ الشُّحُّ عَلَى السُّرُورِ بِفَقْدِ الرِّزْقِ لِلرَّاحَةِ مِنَ الْبَذْلِ بِحَيْثُ لَا يعْدم الْبَذْل الْآن إِلَّا وَهُوَ رَاجٍ أَنْ يَسْهُلَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حِرْصًا عَلَى فَضِيلَتِهِ،
وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرِضَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلَّا فِي حَالِ رَجَاءِ حُصُولِ نِعْمَةٍ فَإِنْ حصلت أَعْطَاهُم.
الْبَغْيِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَكَنَ السَّابِقُ مِنْهُمَا قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَعُوِّضَ عَنْ ضَمَّةِ الْغَيْنِ كَسْرَةً لِمُنَاسَبَةِ الْيَاءِ فَصَارَ بَغِيٌّ.
وَجَوَابُ الْمَلَكِ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتُ، نَظِيرَ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّاءَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ إِبْطَالِ مُرَادِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَةِ إِلَى بَيَانِ هَوْنِ هَذَا الْخَلْقِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ.
وَفِي قَوْلِهِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ مَا اشْتَكَتْهُ مِنْ تَوَقُّعِ ضِدِّ قَوْلِهَا وَطَعْنِهِمْ فِي عِرْضِهَا لَيْسَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فِي جَانِبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هُدَى النَّاسِ لِرِسَالَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَصْرِفُهُ عَنْ إِنْفَاذِ مُرَادِهِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ مِنْ ضُرٍّ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُقَدَّمُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ.
فَضَمِيرُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ عَائِدٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ حِوَارُهَا مِنْ لِحَاقِ الضُّرِّ بِهَا كَمَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. فَبَيْنَ جَوَابِ الْمَلَكِ إِيَّاهَا وَبَيْنَ جَوَابِ اللَّهِ زَكَرِيَّاءَ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعْنَى.
وَالْكَلَام فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ أُسْنِدَ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّاءَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَلَكِ كَانَ تَبْلِيغَ وَحْيٍ عَنِ اللَّهِ جَوَابًا مِنَ اللَّهِ عَنْ مُنَاجَاةِ زَكَرِيَّاءَ، وَأُسْنِدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى الْمَلَكِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ خِطَابِهَا إِيَّاهُ.
وَقَوْلُهُ وَلِنَجْعَلَهُ عَطْفٌ عَلَى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
بِاعْتِبَارِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرُّوحِ لَهَا لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
، أَيْ لِأَنَّ هِبَةَ الْغُلَامِ الزَّكِيِّ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهَا، وَجَعْلَهُ
آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً كَرَامَةٌ لِلْغُلَامِ، فَوَقَعَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقَةِ التَّكَلُّمِ.
وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فَفَرِيقٌ قَالُوا: الْمِيزَانُ حَقِيقَةٌ، وَفَرِيقٌ قَالُوا: هُوَ مَجَازٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي «الْكَشَّافِ» فَدَلَّ صَنِيعُهُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ جَارِيَانِ عَلَى أَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ وَصَرَّحَ بِهِ فِي «تَقْرِيرِ الْمَوَاقِفِ».
وَفِي «الْمَقَاصِدِ» :«وَنِسْبَةُ الْقَوْلِ بِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِيزَانِ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قُصُورٌ مِنْ بعض الْمُتَكَلِّمين» هـ.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّسَفِيَّ فِي «عَقَائِدِهِ».
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» :«انْفَرَدَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ الْمِيزَانِ، وَتَفَرَّدَتِ السَّنَةُ بِذِكْرِ الصِّرَاطِ وَالْحَوْضِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ هَكَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَعْمَالَ تُوزَنُ حَقِيقَةً فِي مِيزَانٍ لَهُ كِفَّتَانِ وَشَاهِينٌ وَتُجْعَلُ فِي الْكِفَّتَيْنِ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَيَخْلُقُ اللَّهُ الِاعْتِمَادَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّمَا يَرْجِعُ الْخَبَرُ عَنِ الْوَزْنِ إِلَى تَعْرِيفِ اللَّهِ الْعِبَادَ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ. وَنَقَلَ الطَّبَرَيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى هَذَا.
وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ الْمِيزَانُ وَالْوَزْنُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ أَعْرَاضٌ فَهَا هُنَا يَقِفُ مَنْ وَقَفَ وَيَمْشِي عَلَى هَذَا مَنْ مَشَى. فَمَنْ كَانَ رَأْيُهُ الْوُقُوفَ فَمِنَ الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ، وَمَنْ أَرَادَ الْمَشْيَ لَيَجِدَنَّ سَبِيلًا مِئْتَاءً (١) إِذْ يَجِدُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ مِيزَانًا وَوَزْنًا وَمَوْزُونًا، فَإِذَا مَشَى فِي طَرِيقِ الْمِيزَانِ وَالْوَزْنِ وَوَجَدَهُ صَحِيحًا فِي كُلِّ لَفْظَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ تَمْيِيزَ الْمَوْزُونِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ الْقَهْقَرَى فَيُبْطِلَ مَا قَدْ أَثْبَتَ بَلْ يُبْقِي مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَصِحَّتِهِ وَيَسْعَى فِي تَأْوِيلِ هَذَا وَتَبْيِينِهِ اه.
_________
(١) بِكَسْر الْمِيم وبهمزة سَاكِنة بعْدهَا وَمد فِي آخِره: الطَّرِيق الْعَام المسلوك.
يُزِيلُ عَنْهُمْ تَرَفَهُمْ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي تَرَفٍ وَدَعَةٍ إِذْ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ غَارَاتِ الْأَقْوَامِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ الْآمِنِ وَكَانُوا تُجْبَى إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانُوا مُكَرَّمِينَ لَدَى جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، قَالَ الْأَخْطَلُ:
فَأَمَّا النَّاسُ مَا حَاشَا قُرَيْشًا | فَإِنَّا نَحْنُ أَفْضَلُهُمْ فِعَالَا |
مِنْ خَوْفٍ
[قُرَيْش: ٤]، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَاهُمْ وَهُمْ فِي تَرَفِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُلُولَ الْعَذَابِ بِالْمُتْرَفِينَ خَاصَّةً، أَيْ بِسَادَتِهِمْ وَصَنَادِيدِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ. قَالَ شَدَّادُ ابْن الْأَسْوَدِ:
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ | مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ |
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ | مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ |
وَضَمِيرُ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتْرَفِينَ لِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ قَدْ هَلَكُوا فَالْبَقِيَّةُ يَجْأَرُونَ مِنَ التَّلَهُّفِ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُمْ وَالْإِشْفَاقِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْقَتْلُ فِي سَائِرِهِمْ فَهُمْ يَجْأَرُونَ كُلَّمَا صُرِعَ وَاحِدٌ مِنْ سَادَتِهِمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَجِبُوا مِنْ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَرَثُوا أَمْوَاتَهُمْ بِالْمَرَاثِي وَالنِّيَاحَاتِ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ عَذَابٌ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا عَذَابٌ مَسْبُوقٌ بِعَذَابٍ حَلَّ بِهِمْ قَبْلَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْله تَعَالَى بعد وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٦] الْآيَةَ.
وَلِذَا فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا عَذَابٌ هُدِّدُوا بِهِ، وَهُوَ إِمَّا عَذَابُ الْجُوعِ الثَّانِي الَّذِي أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ عَقِبَ سَرِيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي كَلْبٍِِ
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِنا لِلِابْتِدَاءِ، أَيِ اجْعَلْ لَنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ تَنْشَأُ مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَذُرِّيَّاتِنا جَمْعُ ذُرِّيَّة، وَالْجمع مراعى فِيهِ التَّوْزِيع عَلَى الطَّوَائِفِ مِنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَكُونُ لِأَحَدِ الدَّاعِينَ وَلَدٌ وَاحِدٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وذُرِّيَّتِنا بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ، وَيُسْتَفَادُ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَيْ ذُرِّيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ.
وَالْأَعْيُنُ: هِيَ أَعْيُنُ الدَّاعِينَ، أَيْ قُرَّةُ أَعْيُنٍ لَنَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الدُّعَاءُ صَادِرًا مِنْهُمْ جَمِيعًا اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قُرَّةَ أَعْيُنِ جَمِيعِهِمْ.
وَكَمَا سَأَلُوا التَّوْفِيقَ وَالْخَيْرَ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ سَأَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ قدوة يَقْتَدِي بهم الْمُتَّقُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بُلُوغَ الدَّرَجَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّ الْقُدْوَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَقْصَى غَايَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَرْغَبُ الْمُهْتَمُّونَ بِهِ الْكَمَالَ فِيهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً لِلدُّخُولِ
فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَهْتَدِيَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَتِهِمْ.
وَالْإِمَامُ أَصْلُهُ: الْمِثَالُ وَالْقَالَبُ الَّذِي يُصْنَعُ عَلَى شَكْلِهِ مَصْنُوعٌ مِنْ مِثْلِهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَبُوهُ قَبْلَهُ وَأَبُو أَبِيهِ | بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ |
إمّ.
وَأُخْتُ مُوسَى اسْمُهَا مَرْيَمُ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه.
وَالْقَصُّ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، اسْتُعْمِلَ فِي تَتَبُّعِ الذَّاتِ بِالنَّظَرِ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى دُونَ ذِكْرِ الْأَثَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦٤] عِنْدَ قَوْلِهِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.
وَبَصُرَ بِالشَّيْءِ صَارَ ذَا بَصَرٍ بِهِ، أَيْ بَاصِرًا لَهُ فَهُوَ يُفِيدُ قُوَّةَ الْإِبْصَارِ، أَيْ قُوَّةَ اسْتِعْمَالِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ وَهُوَ التَّحْدِيقُ إِلَى الْمُبْصَرِ، فَ (بَصُرَ) أَشَدُّ مِنْ (أَبْصَرَ). فَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَفْعُولِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِرُؤْيَةِ الْمَرْئِيِّ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ بَاصِرًا بِسَبَبِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فَتُفِيدَ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فِي سُورَةِ طه [٩٦].
وَالْجُنُبُ: بِضَمَّتَيْنِ الْبَعِيدُ. وَهُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ يُعْرَفُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ عَنْ مَكَانِ جُنُبٍ.
وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ (بَصُرَتْ) لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ هُنَا مِنْ أَحْوَالِ أُخْتِهِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْمَكَانِ.
وهُمْ أَيْ آلُ فِرْعَوْنَ حِينَ الْتَقَطُوهُ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ أُخْتَهُ تُرَاقِبُ أَحْوَالَهُ وَذَلِكَ مِنْ حَذَقِ أُخْتِهِ فِي كَيْفيَّة مراقبته.
[١٢]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ١٢]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢)
الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ ضمير لِأُخْتِهِ [الْقَصَص: ١١]. وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ، وَهُوَ تَحْرِيمٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ قَدَّرْنَا فِي نَفْسِ الطِّفْلِ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْتِقَامِ أَثْدَاءِ الْمَرَاضِعِ وَكَرَاهَتَهَا لِيَضْطَرَّ آلُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ مُرْضِعٍ يَتَقَبَّلُ ثَدْيَهَا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتَهُ حَرِيصَانِ عَلَى حَيَاةِ الطِّفْلِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ إِرْضَاعَهُ مِنْ أُمِّهِ مُدَّةً تَعَوَّدَ فِيهَا بِثَدْيِهَا.
لِجُمْلَةِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: ٢٥] عَلَى مَعْنَى: وَلَهُ يَوْمئِذٍ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، فَالْقُنُوتُ بِمَعْنَى الِامْتِثَالِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ امْتِثَالُ الْخُضُوعِ لِأَنَّ امْتِثَالَ التَّكْلِيفِ قَدِ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الخضوع فِيهَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ مِنْ شَأْنِهِمْ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّور: ٢٤]، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: ٢٥]. وَالْقُنُوتُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً فِي سُورَة النَّحْل [١٢٠].
[٢٧]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٢٧]
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
تَقَدَّمَ نَظِيرُ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأُعِيدَ هُنَا لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ تَكْمِلَةً لِلدَّلِيلِ إِذْ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ التَّكْمِلَةُ هُنَاكَ. فَهَذَا ابْتِدَاءٌ بِتَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِرُجُوعِهِ إِلَى نَظِيرِهِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فِي الْمُنَاظَرَةِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الله هُوَ بادىء خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَأَنْكَرُوا إِعَادَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ هُنَالِكَ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَمَّا كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْإِعَادَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَضَمِّنًا تَحْدِيدَ مَفْعُولِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَاءَ التَّنَازُلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ مَفْعُولِ الْقُدْرَةِ لَوْ سَلَمَ لَهُمْ لَكَانَ يَقْتَضِي إِمْكَانَ الْبَعْثِ بِقِيَاسِ الْأَحْرَى فَإِنَّ إِعَادَةَ الْمَصْنُوعِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَهْوَنُ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ صَنْعَتِهِ الْأُولَى وَأُدْخِلَ تَحْتَ تَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِيمَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي مَقْدُورَاتِهِمْ. فَقَوْلُهُ أَهْوَنُ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَمَوْقِعُهُ مَوْقِعَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ أَهْوَنُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُفَاضَلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانَ وَالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَيِ الْخَلْقُ الثَّانِي أَسْهَلُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]. وَمُرَادُهُ: أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ مَرَّةً ثَانِيَةً مُسَاوِيَةٌ لِبَدْءِ الْخَلْقِ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَتَحْمِلُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ عَلَى مَعْنَى قُوَّةِ الْفِعْلِ الْمَصُوغَةِ لَهُ كَقَوْلِهِ قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣].
النبيء فَيَدْخُلُونَ قَبْلَ أَنْ يُدْرَكَ الطَّعَامُ فَيَقْعُدُونَ إِلَى أَنْ يُدْرَكَ ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ اهـ. وَقَدْ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ قَبْلَ قَضِيَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ حَضَرُوا وَلِيمَةَ الْبِنَاءِ بِزَيْنَبَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ خَاتِمَةَ الْقَضَايَا، فَكُنِّيَ بِالِانْتِظَارِ عَنْ مُبَادَرَةِ الْحُضُورِ قَبْلَ إِبَانِ الْأَكْلِ. وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ تَشْوِيهُ السَّبْقِ بِالْحُضُورِ بِجَعْلِهِ نَهَمًا وَجَشَعًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَحْضُرُونَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى صَرِيحِ الِانْتِظَارِ.
وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ التَّأَخُّرَ عَنْ إِبَانِ الطَّعَامِ أَفْضَلُ فَأَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى أَنَّ تَأَخُّرَ الْحُضُورِ عَنْ إِبَانِ الطَّعَامِ لَا يَنْبَغِي بَلِ التَّأَخُّرُ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ صَاحِبَ الطَّعَامِ فِي انْتِظَارٍ، وَكَذَلِكَ الْبَقَاءُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ تَجَاوْزٌ لِحَدِّ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لِحُضُورِ شَيْءٍ تَقْتَضِي مُفَارَقَةَ الْمَكَانِ عِنْدَ انتهائه لِأَن تقيد الدَّعْوَةِ بِالْغَرَضِ الْمَخْصُوصِ يَتَضَمَّنُ تَحْدِيدَهَا بِانْتِهَاءِ مَا دُعِيَ لِأَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ دُخُولٍ لِغَرَضٍ مِنْ مُشَاوَرَةٍ أَوْ مُحَادَثَةٍ أَوْ سَمَرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَحَدَّدُ بِالْعُرْفِ وَمَا لَا يَثْقُلُ عَلَى صَاحِبِ الْمَحَلِّ، فَإِنْ كَانَ مَحَلٌّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ كَدَارِ الشُّورَى وَالنَّادِي فَلَا تَحْدِيدَ فِيهِ.
وطَعِمْتُمْ مَعْنَاهُ أَكَلْتُمْ، يُقَالُ: طَعِمَ فُلَانٌ فَهُوَ طَاعِمٌ، إِذَا أَكَلَ.
وَالِانْتِشَارُ: افْتِعَالٌ مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ إِبْدَاءُ مَا كَانَ مَطْوِيًّا، أُطْلِقَ عَلَى الْخُرُوجِ مَجَازًا وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٤٧].
وَالْوَاوُ فِي وَلا مُسْتَأْنِسِينَ عَطَفٌ عَلَى ناظِرِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَزِيَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ مُسْتَأْنِسِينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَطْفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَفِي تَصْدِيرِ الْمَنْفِيِّ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَة [النِّسَاء: ٦٥] وَقَوْلِهِ: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: ١١] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١].
وَالِاسْتِئْنَاسُ: طَلَبُ الْأُنْسِ مَعَ الْغَيْرِ. وَاللَّامُ فِي لِحَدِيثٍ لِلْعِلَّةِ، أَيْ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِأَجْلِ حَدِيثٍ يَجْرِي بَيْنَكُمْ.
وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ حُذِفَ مَوْصُوفُهُا ثُمَّ
وَ"التَّالِياتِ ذِكْراً" يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الرَّسُولِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ.
هَذَا وَفِي الِافْتِتَاحِ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ السَّامِعُ بِشَرَاشِرِهِ.
فَقَدِ اسْتُكْمِلَتْ فَاتِحَةُ السُّورَةِ أَحْسَنَ وُجُوهِ الْبَيَان وأكملها.
[١- ٤]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَهُوَ قَسَمٌ وَاحِدٌ وَالْمُقْسَمُ بِهِ نَوْعٌ وَاحِدٌ مُخْتَلِفُ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ طَوَائِفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ:
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً.
وَعَطْفُ «الصِّفَاتِ» بِالْفَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ ثَابِتَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ جِهَةٍ تَرْجِعُ إِلَيْهَا وَحْدَتُهُ، وَهَذَا الْمَوْصُوفُ هُوَ هَذِهِ الطَّوَائِفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الشَّأْنَ فِي عَطْفِ
الْأَوْصَافِ أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ بِالْفَاءِ اتِّصَالُ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِهَا لِمَا فِي الْفَاءِ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ وَلِذَلِكَ يَعْطِفُونَ بِهَا أَسْمَاءَ الْأَمَاكِنِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فحومل... فتوضح فالمقرة... الْبَيْتَ
وَكَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
بِمَشَارِقِ الْجَبَلِيَّيْنِ أَوْ بِمُحَجِّرِ | فتضمنتها فَرده فَمر خاها |
وَيَعْطِفُونَ بِهَا صِفَاتِ مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ ابْنِ زِيَّابَةَ:
يَا لَهَفَ زِيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الْ | صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ |
وَلِمُتَعَلِّقِ الْجَدَلِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَالْمُرَادُ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْظِيرُ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَالَ فِيهِمْ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ [غَافِر: ٥] فَإِذَا أُرِيدَ الْجِدَالُ بِالْحَقِّ يُقَيَّدُ فِعْلُ الْجِدَالِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْفِيقٌ وَتَسَتُّرٌ عَنْ عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَاعْتِصَامٌ بالمكابرة فمجادلتهم بعد مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحَدِّي دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ وَبِذَلِكَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ فَائِدَةِ هَذَا وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ كُفَّارًا مَعْلُومٌ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فِي آيَاتِهِ، لِتَفْظِيعِ أَمْرِهَا بِالصَّرِيحِ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ الْجَلَالَةِ مُؤْذِنٌ بِتَفْظِيعِ جِدَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلِلتَّصْرِيحِ بِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ.
وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ عَلَى مَضْمُونِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نَفْسِ مَنْ يَرَاهُمْ فِي مُتْعَةٍ وَنِعْمَةٍ أَنْ يَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَتْرُكُهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أَيْ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَمِقْدَارٌ مِنْ حِلْمِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ وَقْتًا مَا،
أَوْ أَنَّ مَعْنَاهُ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا إِصْرَارًا عَلَى الْكُفْرِ فَلَا يُوهِمُكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ أَنَّا لَا نُؤَاخِذُهُمْ بِذَلِكَ.
وَالْغُرُورُ: ظَنُّ أَحَدٍ شَيْئًا حَسَنًا وَهُوَ بِضِدِّهِ يُقَالُ: غَرَّكَ، إِذَا جعلك تظن السيّء حَسَنًا. وَيَكُونُ التَّغْرِيرُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِتَحْسِينِ صُورَةِ الْقَبِيحِ.
وَالتَّقَلُّبُ: اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَاوُلِ مَحْبُوبٍ وَمَرْغُوبٍ. والْبِلادِ الْأَرْضُ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الدُّنْيَا كِنَايَةً عَنِ الْحَيَاةِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَغْرُرْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَعُمَّ كُلَّ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَغُرَّهُ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّهْيُ جَارِيًا
وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَضْرَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَابْتَدَرَ سَعِيدٌ فَقَالَ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَتَبْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْأَلُهُ عَنْهَا فَكَتَبَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْسَطَ النَّاسِ فِي قُرَيْشٍ فَلَيْسَ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، أَيْ تُرَاعُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَتَصُدِّقُونِي، فَالْقُرْبَى هَاهُنَا قَرَابَةُ الرَّحِمِ كَأَنَّهُ قَالَ:
اتَّبَعُونِي لِلْقَرَابَةِ إِنْ لم تتبعوني للنبوءة. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ
الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا أَقَارِبِي تَلْفِيقُ مَعْنًى عَنْ فَهْمٍ غَيْرِ مَنْظُورٍ فِيهِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِفَهْمِهِ.
أَمَّا كَوْنُ محبَّة آل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ مَا لَهُ اتِّصَالٌ بِهِ خُلُقًا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَحَاصِلٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَتَحْدِيدُ حُدُودِهَا مُفَصَّلٌ فِي «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ فَلَيْسَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ عُمُومِ الْأَجْرِ الْمَنْفِيِّ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا. وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى التَّبْلِيغِ أَجْرًا وَأَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ لِأَجْلِ الْقُرْبَى. وَإِنَّمَا سَأَلَهُمُ الْمَوَدَّةَ لِأَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ إِيَّاهُ مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ مُعِينَةٌ عَلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، إِذْ تَلِينُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ شَكِيمَتُهُمْ فَيَتْرُكُونَ مُقَاوَمَتَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْمَوَدَّةُ غَرَضًا دِينِيًّا لَا نَفْعَ فِيهِ لنَفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تَنُوبُهُ نَوَائِبُ لَا يَسَعُهَا مَا فِي يَدَيْهِ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هَدَاكُمُ اللَّهُ بِهِ فَنَجْمَعُ لَهُ مَالًا، فَفَعَلُوا ثُمَّ أَتَوْهُ بِهِ، فَنَزَلَتْ.
أَيْ أُمِرْتُمْ بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ الله لَو شَاءَ لَاسْتَأْصَلَهُمْ وَلَمْ يُكَلِّفْكُمْ بِقِتَالِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ نَاطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا الْمُعْتَادَةِ وَهِيَ أَنْ يَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
وَتَعْدِيَةُ (انْتَصَرَ) بِحَرْفِ (مِنْ) مَعَ أَنَّ حَقَّهُ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى:
انْتَقَمَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَرَكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَا بَعْدَ الِاسْتِدْرَاكِ.
وَالْبَلْوُ حَقِيقَتُهُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ ظُهُورُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ رَفْعِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَقْعِ بَأْسِهِمْ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ وَمِنْ إِهَانَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَنَّ شَأْنَهُمْ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ النَّاس.
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) هَذَا مِنْ مَظَاهِرِ بَلْوَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَهُوَ مُقَابِلُ مَا فِي قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِمَّا فِداءً، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ إِهَانَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَذُكِرَ هُنَا مَا هُوَ مِنْ رِفْعَةِ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَعْقَبَ الْأَمْرَ بِوَعْدِ الْجَزَاءِ عَلَى فِعْلِهِ.
وَذكر الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَلَنْ يُضِلَّ اللَّهُ أَعْمَالَكُمْ، وَهَكَذَا بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنَ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ إِفَادَةٌ تُقَوِّي الْخَبَرَ، وَلِيَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّنْوِيهِ بِصِلَتِهِ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّلَةِ بِأَنَّ تِلْكَ الصِّلَةَ هِيَ عِلَّةُ مَا وَرَدَ بَعْدَهَا مِنَ الْخَبَرِ.
الْعِلْمِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ فِيهِمْ أَهْلَ رَأْيٍ وَنَظَرٍ يَتَوَقَّعُونَ حُلُولَ الشَّرِّ إِذَا كَانُوا فِي خَيْرٍ.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ.
[٤٨، ٤٩]
[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ٤٨ الى ٤٩]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ [الطّور: ٤٥] إِلَخْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَكَانَ مُفْتَتَحُ السُّورَةِ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاء مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: ٧] الْمَسُوقِ مَسَاقَ التَّسْلِيَةِ لَهُ، وَكَانَ فِي مُعْظَمِ مَا فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يُخَالِطُهُ فِي نَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَدَرِ وَالْأَسَفِ عَلَى ضَلَالِ قَوْمِهِ وَبُعْدِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى
خُتِمَتِ السُّورَةُ بِأَمْرِهِ بِالصَّبْرِ تَسْلِيَةً لَهُ وَبِأَمْرِهِ بِالتَّسْبِيحِ وَحَمْدِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى تَفْضِيلِهِ بالرسالة.
وَالْمرَاد بِحكم رَبِّكَ مَا حَكَمَ بِهِ وَقَدَّرَهُ مِنِ انْتِفَاءِ إِجَابَةِ بَعْضِهِمْ وَمِنْ إِبْطَاءِ إِجَابَةِ أَكْثَرِهِمْ.
فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِحُكْمِ رَبِّكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَلَى) فَيَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ اصْبِرْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: ١٠]. وَيَجُوزُ فِيهَا مَعْنَى (إِلَى) أَيِ اصْبِرْ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ [يُونُس: ١٠٩] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونَ لِحُكْمِ رَبِّكَ هُو مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَى النَّاسِ، أَيِ اصْبِرْ لِأَنَّكَ تَقُومُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْكَ.
فَلِلَّامِ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَوْقِعٌ جَامِعٌ لَا يُفِيدُ غَيْرُ اللَّامِ مِثْلَهُ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ اصْبِرْ لِأَنَّكَ بِأَعْيُنِنَا، أَيْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ مِنَّا، نَحْنُ نَعْلَمُ مَا تُلَاقِيهِ وَمَا يُرِيدُونَهُ بِكَ
النَّازِلُونَ بِالْبَوَادِي فَلَا يُغْلَبُونَ إِلَّا بَعْدَ إِيجَافٍ وَقِتَالٍ فَلَيْسَ لِقَيْدِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى مَفْهُومٌ عِنْدِنَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْفَيْءِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِدُونِ إِيجَافٍ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَإِنَّمَا تُخَمَّسُ الْغَنَائِمُ وَهِيَ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِيجَافٍ وَقِتَالٍ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ غَيْرَ الْأَرْضِينَ وَبَيْنَ الْأَرْضِينَ. فَأَمَّا غَيْرُ الْأَرْضِينَ فَهُوَ مُخَمَّسٌ، وَأَمَّا الْأَرْضُونَ فَالْخِيَارُ فِيهَا لِلْإِمَامِ بِمَا يَرَاهُ أَصْلَحَ إِنْ شَاءَ قَسَّمَهَا وَخَمَّسَ أَهْلَهَا فَهُمْ أَرِقَّاءُ، وَإِن شَاءَ تَركهَا على ملك أَهْلَهَا وَجَعَلَ خَرَاجًا عَلَيْهَا وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْوَالِ الْحَرْبِ مُخَمَّسَةٌ وَحَمَلَ حُكْمَ هَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى حُكْمِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ بِالنَّسْخِ.
وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى التَّفْصِيل بَين الْأَمْوَال غير الْأَرْضين وَبَين الْأَرْضين. فَأَما غير الْأَرْضين فَهُوَ مخمّس، وَأما الأرضون فالتفويض فِيهَا للْإِمَام بِمَا يرَاهُ أصلح إِن شَاءَ قسّمها وَخمْس أَهلهَا فهم أرقاء، وَإِن شَاءَ أقرّ أَهلهَا بهَا وَجعل خراجا عَلَيْهَا وعَلى أنفسهم.
وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ أَنَّ صِنْفًا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نَصِيبًا لِلْغُزَاةِ وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ مُقْتَضَاهَا وَبَيْنَ قَصْرِ آيَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي لَمْ تَجْعَلْ لِمَنْ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْخُمْسَ، فَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ نَسَخَتْ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ جَمْعٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَةَ الْأَنْفَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْغَنَائِمُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ، وَبِذَلِك قَالَ زَيْدُ بْنُ رُومَانَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ اه. عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْأَنْفَالَ نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَسُورَةُ الْحَشْرِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِسَنَتَيْنِ.
إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْحَشْرِ تَجْدِيدًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنَ التَّخْمِيسِ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ، أَيْ فَتَكُونُ آيَةُ الْحَشْرِ نَاسِخَةً لِمَا فَعَلَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ مَغَانِمِ بَدْرٍ، ثُمَّ نَسَخَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ آيَةَ الْحَشْرِ. فَيَكُونُ إِلْحَاقُهَا بِسُورَةِ الْأَنْفَالِ بِتَوْقِيفٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ إِنَّ سُورَةَ الْحَشْرِ
وَالتَّنَادِي: أَنْ يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْغُدُوِّ إِلَى جَنَّتِهِمْ مُبَكِّرِينَ.
وَالْغُدُوُّ: الْخُرُوجُ وَمُغَادَرَةُ الْمَكَانِ فِي غَدْوَةِ النَّهَارِ، أَيْ أَوله.
وَلَيْسَ قَوْله: إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ بِشَرْطِ تَعْلِيقٍ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْاسْتِبْطَاءِ فَكَأَنَّهُمْ لِإِبْطَاءِ بَعْضِهِمْ فِي الْغُدُوِّ قَدْ عَدَلَ عَنِ الْجَذَاذِ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِلْحَجَّاجِ عِنْدَ زَوَالِ عَرَفَةَ يُحَرِّضُهُ عَلَى التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ إِلَى الْمَوْقِفِ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وعَلى مِنْ قَوْلِهِ: عَلى حَرْثِكُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ:
اُغْدُوا تَكُونُوا عَلَى حَرْثِكُمْ، أَيْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَيْهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ فِعْلُ الْغُدُوِّ مَعْنَى الْإِقْبَالِ كَمَا يُقَالُ: يُغْدَى عَلَيْهِ بِالْجَفْنَةِ وَيُرَاحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: «وَمِثْلُهُ قِيلَ فِي حَقِّ الْمُطَّلِبِ تَغْدُو دِرَّتُهُ (الَّتِي يَضْرِبُ بِهَا) عَلَى السُّفَهَاءِ، وَجَفْنَتُهُ عَلَى الْحُلَمَاءِ».
وَالْحَرْثُ: شَقُّ الْأَرْضِ بِحَدِيدَةٍ وَنَحْوِهَا لِيُوضِعَ فِيهَا الزَّرِيعَةَ أَوِ الشَّجَرَ وَلِيُزَالَ مِنْهَا الْعُشْبُ.
وَيُطْلَقُ الْحَرْثُ عَلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ يَتَعَاهَدُونَهَا بِالْحَرْثِ لِإِصْلَاحِ شَجَرهَا، وَهُوَ المارد هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرْثٌ حِجْرٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٨]، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
وَالتَّخَافُتُ: تَفَاعُلُ مِنْ خَفَتَ إِذَا أَسَّرَ الْكَلَامَ.
وأَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ يَتَخافَتُونَ وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَن التخافت فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَتَأْكِيدُ فِعْلِ النَّهْيِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا تَقَاسَمُوا عَلَيْهِ.
وَأُسْنِدَ إِلَى مِسْكِينٌ فَعْلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ وَالْمُرَادُ نَهْيُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ دُخُولِ الْمِسْكِينِ إِلَى جَنَّتِهِمْ، أَيْ لَا يَتْرُكُ أَحَدٌ مِسْكِينًا يَدْخُلُهَا. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي
اسْتِعْمَالِ النَّهْيِ كَقَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِينَ الَّذِينَ سِيقَتْ لَهُمُ الْقِصَّةُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِمَا فِيهَا من المواعظ.
[٢٧- ٢٩]
[سُورَة النازعات (٧٩) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٩]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِي هُوَ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ وَهِي قَوْله: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: ١٠] وَمَا أَعْقَبُوهُ بِهِ مِنَ التَّهَكُّمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَوَهُّمِ إِحَالَةِ الْبَعْثِ. وَإِذْ قَدْ فَرَضُوا اسْتِحَالَةَ عَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَى الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ إِذْ مَثَّلُوهَا بِأَجْسَادِ أَنْفُسِهِمْ إِذْ قَالُوا: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ [النازعات: ١٠] جَاءَ إِبْطَالُ شُبْهَتِهِمْ بِقِيَاسِ خَلْقِ أَجْسَادِهِمْ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَقِيلَ لَهُمْ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ هُنَا أَأَنْتُمْ بِضَمِيرِهِمْ وَلَمْ يُقَلْ: آلْإِنْسَانُ أَشَدُّ خَلْقًا، وَمَا هُمْ إِلَّا مِنَ الْإِنْسَانِ، فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عُبِّرَ عَنْهُمْ آنِفًا بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: ١٠- ١٤]، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِقَصْدِ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَتِهِمْ لِأَنَّ حِكَايَةَ شُبْهَتِهِمْ ب يَقُولُونَ أَإِنَّا إِلَى آخِرِهِ، تَقْتَضِي تَرَقُّبَ جَوَابٍ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْله: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ [النازعات: ١٠].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْرِيرِ إِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِمْ، أَيْ مِنْ خَلْقِ نَوْعِهِمْ وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاءِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَيُنْتِجُ ذَلِكَ أَنَّ إِعَادَةَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ فَنَائِهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: ٥٧]، ذَلِكَ أَنَّ نَظَرَهُمُ الْعَقْلِيَّ غَيَّمَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ فَجَعَلُوا مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ مُحَالًا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِمْكَانِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَحَالُوهُ بِالضَّرُورَةِ.