مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ عَزَا ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَجَزَمَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ»، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ أَيْضًا تَوْقِيفِيًّا، وَلِذَلِكَ نَجِدُ
فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا مِنْ طِوَالٍ وَقِصَارٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: «هَلْ عِنْدَكَ مَا تُصْدِقُهَا؟» قَالَ: لَا، فَقَالَ: «مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ: سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ: «قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»
وَسَيَأْتِي مَزِيدُ شَرْحٍ لِهَذَا الْغَرَضِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَسْمَاءِ السُّوَرِ.
وَفَائِدَةُ التَّسْوِيرِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣] «إِنَّ الْجِنْسَ إِذَا انْطَوَتْ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَانَ أَحْسَنَ وَأَنْبَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَبَّانًا (١) وَاحِدًا، وَأَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخَرَ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَهَزَّ لِعِطْفِهِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَطَعَ مِيلًا أَوْ طَوَى فَرْسَخًا».
وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ بَعْضِهَا إِثْرَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَرْتِيبِهَا كَذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ الدَّانِي:
كَانَ جِبْرِيلُ يُوقِفُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ الْآيَةِ وَعَلَى مَوْضِعِ السُّورَةِ وَفِي «الْمُسْتَدْرَكِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَلِّفُونَ آيَاتِ السُّوَرِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْبَاقِلَّانِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ بَعْضِهَا إِثْرَ بَعْضٍ هُوَ مِنْ وَضْعِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِمُشَارَكَةِ عُثْمَانَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ الْأَثَرِ أَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ وَالْحَوَامِيمَ وَالْمُفَصَّلَ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي زمن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنَ السُّوَرِ مَا
لَمْ يُرَتَّبْ فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي رُتِّبَ وَقْتَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ طَوَائِفَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِينَا الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ نُسْخَةٌ مِنَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الَّذِي جُمِعَ وَكُتِبَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَوُزِّعَتْ عَلَى الْأَمْصَارِ نُسَخٌ مِنْهُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ ذِي النُّورَيْنِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ سُورَ الْمُفَصَّلِ كَانَتْ هِيَ آخِرَ الْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ
_________
(١) ببّانا بموحدتين ثانيتهما مُشَدّدَة وَنون. قَالَ السَّيِّد: هُوَ الشَّيْء، وَكَأن الْكَلِمَة يَمَانِية.
فَالرِّيحُ جِنْسٌ لِهَاتِهِ الْحَرَكَةِ وَالنَّسِيمُ وَالزَّوْبَعَةُ وَالزَّعْزَعُ أَنْوَاعٌ لَهُ.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَاتِهِ الرِّيَاحِ الْإِعَانَةُ عَلَى تَكْوِينِ السَّحَابِ وَنَقْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَتَنْقِيَةِ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ مِمَّا يَحِلُّ بِهَا مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْمُضِرَّةِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَنِعْمَةٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَدِ اخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ التَّصْرِيفِ هُنَا دُونَ نَحْوِ لَفْظِ التَّبْدِيلِ أَوِ الِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي يَصْلُحُ مَعْنَاهُ لِحِكَايَةِ مَا فِي نفس الْأَمْرِ مِنْ حَالِ الرِّيَاحِ لِأَنَّ التَّصْرِيفَ تَفْعِيلٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْمُبَالَغَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْشَأَ الرِّيحِ هُوَ صَرْفُ بَعْضِ الْهَوَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَصَرْفُ غَيْرِهِ إِلَى مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَدِّرَ: وَتَصْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى الرِّيَاحَ، وَجَعَلَ التَّصْرِيفَ لِلرِّيحِ مَعَ أَنَّ الرِّيحَ تَكَوَّنَتْ بذلك التصريف لِأَنَّهَا تحصل مَعَ التَّصْرِيفِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْحَاصِل فِي وَقْتَ الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [الْبَقَرَة:
١٥٩] وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ، وَأَنْ تَجْعَلَ التَّصْرِيفَ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ أَيْ تَبْدِيلِ رِيحٍ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ وَيَفُوتُ الْإِعْجَازُ الْعِلْمِيُّ وَيَكُونُ اخْتِيَارُ لَفْظِ التَّصْرِيفِ دُونَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ.
وَجَمَعَ الرِّيَاحَ هُنَا لِأَنَّ التصريف اقْتضى الْعدَد لِأَنَّهَا كُلَّمَا تَغَيَّرَ مَهَبُّهَا فَقَدْ صَارَتْ رِيحًا غَيْرَ الَّتِي سبقت. وقرأه الْجُمْهُورُ (الرِّيَاحِ) بِالْجَمْعِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الرِّيحِ) بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَاسْتِفَادَةِ الْعُمُومِ مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا سَوَاءٌ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رِيحِ الْخَيْرِ وَإِن الرّيح بِالْإِفْرَادِ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رِيحِ الشَّرِّ وَاعْتَضَدُوا فِي ذَلِكَ بِمَا
رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا رَأَى الرِّيحَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا لَا رِيحًا»
، وَهِيَ تَفْرِقَةُ أَغْلَبِيَّةٍ وَإِلَّا فَقَدْ غُيِّرَ بِالْإِفْرَادِ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ، وَالْعَكْسُ فِي قِرَاءَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ. وَالْحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّفْرِقَةِ فَأَحْسَنُ مَا يُعَلَّلُ بِهِ أَنَّ الرِّيحَ النَّافِعَةَ لِلنَّاسِ تَجِيءُ خَفِيفَةً وَتَتَخَلَّلُ مَوْجَاتِهَا فَجَوَاتٌ فَلَا تَحْصُلُ مِنْهَا مَضَرَّةٌ فَبِاعْتِبَارٍ تَخَلُّلِ الْفَجَوَاتِ لِهُبُوبِهَا جُمِعَتْ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْعَاصِفُ فَإِنَّهُ لَا يَتْرُكُ لِلنَّاسِ فَجْوَةً فَلِذَلِكَ جُعِلَ رِيحًا وَاحِدَةً وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ.
وَالرِّيَاحُ جَمْعُ رِيحٍ وَالرِّيحُ بِوَزْنِ فِعْلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَعَيْنُهَا وَاوٌ انْقَلَبَتْ يَاءً لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي الْجَمْعِ أَرْوَاحٌ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ رِيَاحٌ فَانْقِلَابُ الْوَاوِ فِيهِ يَاءً كَانْقِلَابِهَا فِي الْمُفْرِدِ لِسَبَبِ الْكَسْرَةِ كَمَا قَالُوا دِيمَةٌ وَدِيَمٌ وَحِيلَةٌ وَحِيَلٌ وَهُمَا مِنَ الْوَاوِيِّ.
الثَّانِي أَنَّ فِي تَعَاطِي الرِّبَا مَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنِ اقْتِحَامِ مَشَاقِّ الِاشْتِغَالِ فِي الِاكْتِسَابِ لِأَنَّهُ إِذَا تَعَوَّدَ صَاحِبُ الْمَالِ أَخْذَ الرِّبَا خَفَّ عَنْهُ اكْتِسَابُ الْمَعِيشَةِ، فَإِذَا فَشَا فِي النَّاسِ أَفْضَى إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالْعِمَارَةِ.
الثَّالِثُ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْقَرْضِ.
الرَّابِعُ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا، وَفِي الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، فَلَوْ أُبِيحَ الرِّبَا لَتَمَكَّنَ الْغَنِيُّ مِنْ أَخْذِ مَالِ الضَّعِيفِ.
وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا مَرَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ إِلَى عِلَّةِ تَحْرِيمِهِ وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٣٠].
هَذَا وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الْآيَةُ إِلَى حُكْمٍ هُوَ تَحْلِيلُ الْبَيْعِ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا لِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْلَانِ هَذَا التَّشْرِيعِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْمَوْعِظَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَ (الْ) فِي كُلٍّ مِنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَثَبَتَ بِهَا حُكْمُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمَا فِيهَا: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا وَالْآخَرُ يُسَمَّى رِبًا. أَوَّلُهُمَا مُبَاحٌ مُعْتَبَرٌ كَوْنُهُ حَاجِيًّا لِلْأُمَّةِ، وَثَانِيهِمَا مُحَرَّمٌ أُلْغِيَتْ حَاجِيَّتُهُ لِمَا عَارَضَهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ. وَظَاهِرُ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ بِجِنْسِهِ فَيَشْمَلُ التَّحْلِيلُ سَائِرَ أَفْرَادِهِ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ
كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [الْبَقَرَة: ٢٧٥] أَذِنَ فِيهِ كَانَ فِي قُوَّةِ قَضِيَّةٍ مُوجَبَةٍ، فَلَمْ يَقْتَضِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ بِالصِّيغَةِ، وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِغْرَاقِ قِيَامَهَا فِي نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا شُمُولَ الْحِلِّ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْبَيْعِ. وَلَمَّا كَانَ الْبَيْعُ قَدْ تَعْتَرِيهِ أَسْبَابٌ تُوجِبُ فَسَادَهُ وَحُرْمَتَهُ تَتَبَّعَتِ الشَّرِيعَةُ أَسْبَابَ تَحْرِيمِهِ، فَتَعَطَّلَ احْتِمَالُ الِاسْتِغْرَاقِ فِي شَأْنِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَحَرَّمَ الرِّبا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْفِيِّ لِأَنَّ حَرَّمَ فِي مَعْنَى مَنَعَ، فَكَانَ مُقْتَضِيًا اسْتِغْرَاقَ جِنْسِ الرِّبَا بِالصِّيغَةِ إِذْ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يُصَيِّرُهُ حَلَالًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ، أَوْ هُوَ مَنْقُولٌ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ.
بِصُورَةِ أَنْ يجْعَلُوا الدَّيْنَ مُضَاعَفًا بِمِثْلِهِ إِلَى الْأَجَلِ، وَإِذَا ازْدَادَ أَجَلًا ثَانِيًا زَادَ مِثْلَ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالْأَضْعَافُ مِنْ أَوَّلِ التَّدَايُنِ لِلْأَجَلِ الْأَوَّلِ، وَمُضَاعَفَتُهَا فِي الْآجَالِ الْمُوَالِيَةِ، وَيَصْدُقُ بِأَنْ يُدَايِنُوا بِمُرَابَاةٍ دُونَ مِقْدَارِ الدَّيْنِ ثُمَّ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْآجَالِ، حَتَّى يَصِيرَ الدَّيْنُ أَضْعَافًا، وَتَصِيرَ الْأَضْعَافُ أَضْعَافًا،
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْحَالُ وَارِدَةٌ لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ فَلَا تُفِيدُ مَفْهُومًا: لِأَنَّ شَرْطَ اسْتِفَادَةِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْقُيُودِ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَيْدُ الْمَلْفُوظُ بِهِ جَرَى لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْحَالُ وَارِدَةٌ لقصد التشنيع وإراءة هَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ غَالِبُ الْمَدِينِينَ تَسْتَمِرُّ حَاجَتُهُمْ آجَالًا طَوِيلَةً، كَانَ الْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ مُطَّرِدًا، وَحِينَئِذٍ فَالْحَالُ لَا تُفِيدُ مَفْهُومًا كَذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّقْيِيدُ بَلِ التَّشْنِيعُ، فَلَا يَقْتَصِرُ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرِّبَا الْبَالِغِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ الرِّبَا أَقَلَّ مِنْ ضِعْفِ رَأْسِ الْمَالِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. فَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ هُوَ مَصَبَّ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا حَتَّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ الضَّعْفِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَجَاءَتْ بَعْدَهَا آيَةُ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تُنَاسِبُ ابْتِدَاءَ التَّشْرِيعِ، وَصِيغَةُ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَذَابَ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا. وَذَكَرَ غُرُورَ مَنْ ظَنَّ الرِّبَا مِثْلَ الْبَيْعِ، وَقِيلَ فِيهَا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ [الْبَقَرَة: ٢٧٥] الْآيَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَمَفْهُومُ الْقَيْدِ مُعَطَّلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا هِيَ قَصْدُ الشَّرِيعَةِ حَمْلَ الْأُمَّةِ عَلَى مُوَاسَاةِ غَنِيِّهَا مُحْتَاجِهَا احْتِيَاجًا عَارِضًا مُوَقَّتًا بِالْقَرْضِ، فَهُوَ مَرْتَبَةٌ دُونَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمُوَاسَاةِ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاسَاةَ مِنْهَا فَرْضٌ كَالزَّكَاةِ، وَمِنْهَا نَدْبٌ كَالصَّدَقَةِ وَالسَّلَفِ، فَإِنِ انْتَدَبَ لَهَا الْمُكَلَّفُ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُ عِوَضٍ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ، وَذَلِكَ أَن الْعَادة الْمَاضِيَةَ فِي الْأُمَمِ، وَخَاصَّةً الْعَرَبَ، أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتَدَايَنُ إِلَّا لِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّ الْأُمَّةِ مُوَاسَاتَهُ.
وَالْمُوَاسَاةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا، فَهُوَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ يُرِيدُ الْمُعَامَلَةَ لِلرِّبْحِ كَالْمُتَبَايِعِينَ
وَالطَّاغُوتُ: الْأَصْنَامُ كَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ هُنَا وَنُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ فَيُقَالُ: لِلصَّنَمِ طَاغُوتٌ وَلِلْأَصْنَامِ طَاغُوتٌ، فَهُوَ نَظِيرُ طِفْلٍ وَفُلْكٍ.
وَلَعَلَّ الْتِزَامَ اقْتِرَانِهِ بِلَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ إِطْلَاقَهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نَظِيرَ الْكِتَابِ وَالْكُتُبِ. ثُمَّ لَمَّا شَاعَ ذَلِكَ طَرَّدُوهُ حَتَّى فِي حَالَةِ تَجَرُّدِهِ عَنِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاء: ٦٠] فَأَفْرَدَهُ، وَقَالَ:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: ١٧]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٧] إِلَخْ. وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مَنْ طَغَى يَطْغُو إِذَا تَعَاظَمَ وَتَرَفَّعَ، وَأَصْلُهُ مَصَدْرٌ بِوَزْنِ فَعَلُوتٍ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ: رَهَبُوتٍ، وَمَلَكُوتٍ، وَرَحَمُوتٍ، وَجَبَرُوتٍ، فَأَصْلُهُ طَغْوُوتٌ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبُ مَكَانِيٌّ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا فَصَارَ طَوَغُوتٌ بِوَزْنِ فَلَعُوتٍ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ تَأَتِّي إِبْدَالِ الْوَاوِ أَلِفًا بِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَهُمْ قَدْ يَقْلِبُونَ حُرُوفَ الْكَلِمَةِ لِيَتَأَتَّى الْإِبْدَالُ كَمَا قَلَبُوا أَرْءَامَ جَمْعَ رِيمٍ إِلَى آرَامَ لِيَتَأَتَّى إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ السَّاكِنَةِ أَلِفًا بَعْدَ الْأُولَى الْمَفْتُوحَةِ، وَقَدْ يُنْزِلُونَ هَذَا الِاسْمَ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ فَيَجْمَعُونَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ عَلَى طَوَاغِيتَ وَوَزْنُهُ فَعَالِيلُ،
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ»
. وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الطَّاغُوتُ عَلَى عَظِيمِ أَهْلِ الشِّرْكِ كَالْكَاهِنِ، لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ لِأَجْلِ
أَصْنَامِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: ٦٠].
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَفِيهِمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ طَمِعُوا أَنْ يَسْعَوْا فِي اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ لِيُحَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ كَعْبٌ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ، وَنَزَلَ بَقِيَّتُهُمْ فِي دُورِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ (أَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَدْنَى إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْكُمْ إِلَيْنَا فَلَا نَأْمَنُ مَكْرَكُمْ) فَقَالُوا لَهُمْ (إِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ أَرْضَى عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا) فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ (فَاسْجُدُوا لِآلِهَتِنَا حَتَّى نَطْمَئِنَّ إِلَيْكُمْ) فَفَعَلُوا، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِمَا بَيَّتَهُ الْيَهُودُ وَأَهْلُ مَكَّةَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ يَقُولُونَ لِأَجْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَيْسَ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَأُرِيدَ بِهِمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَذَلِكَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ صِفَةِ الْكُفْرِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَضْمُونِهِ، أَيْ لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَوْ مَعَ عَدُوِّكُمْ إِذا لم يبدأوكم بِحَرْبٍ.
وَمَعْنَى يَجْرِمَنَّكُمْ يُكْسِبَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَهُ يَجْرِمُهُ، مِثْلُ ضَرَبَ. وَأَصْلُهُ كَسَبَ، مِنْ جَرَمَ النَّخْلَةَ إِذَا جَذَّ عَرَاجِينَهَا، فَلَمَّا كَانَ الْجَرْمُ لِأَجْلِ الْكَسْبِ شَاعَ إِطْلَاقُ جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ، قَالُوا: جَرَمَ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ كَذَا، أَيْ كَسَبَ.
وَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ تَعْتَدُوا، وَالتَّقْدِيرُ: يُكْسِبُكُمُ الشَّنَآنُ الِاعْتِدَاءَ. وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى فِي قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا [الْمَائِدَة: ٨] فَلِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَحْمِلَنَّكُمْ.
وَالشَّنَآنُ- بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ النُّونِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ إِمَّا أَصَالَةً وَإِمَّا تَخْفِيفًا- هُوَ الْبُغْضُ. وَقِيلَ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ، لِعَطْفِهِ عَلَى الْبَغْضَاءِ فِي قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
أَنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّقَلُّبِ، لِأَنَّ الشَّنَآنَ فِيهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ، فَهُوَ مِثْلُ الْغَلَيَانِ وَالنَّزَوَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَنَآنُ- بِفَتْحِ النُّونِ-. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ النُّونِ-. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَاكِنَ النُّونِ وَصْفٌ مِثْلُ غَضْبَانَ، أَيْ عَدُوٌّ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ عَدُوُّ قَوْمٍ، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَإِضَافَةُ شَنَآنَ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ بُغْضُكُمْ قَوْمًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ صَدُّوكُمْ، لِأَنَّ الْمُبْغَضَ فِي الْغَالِبِ هُوَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ.
مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ تُحْضِرُونَهُمَا عَقِبَ أَدَائِهِمَا صَلَاتَهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ إِقْبَالِهِمَا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْوُقُوفِ لِعِبَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عُطِفَ عَلَى تَحْبِسُونَهُما فَعُلِمَ أَنَّ حَبْسَهُمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَنْ يُقْسِمَا بِاللَّه. وَضمير فَيُقْسِمانِ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ آخَرانِ. فَالْحَلِفُ يُحَلِّفُهُ شَاهِدَا الْوَصِيَّةِ اللَّذَانِ هُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِشَهَادَتِهِمَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِعَدَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.
وَقَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَاسْتُغْنِيَ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْ لِقِيلَ: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِيهِمَا تَحْبِسُونَهُمَا إِلَى آخِرِهِ. فَيَقْتَضِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ فِي صِدْقِهِمَا لَمَا لَزِمَ إِحْضَارُهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ وَقَسَمُهُمَا، فَصَارَ ذَلِكَ مَوْكُولًا لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ. وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الشَّاهِدَانِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَقُولَانِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَهَادَتِنَا فَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ الشَّهَادَةَ، أَيْ يَقُولَانِ ذَلِكَ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ مَظَنَّةُ الصِّدْقِ مَعَ احْتِمَالِ وُجُودِ مَا يُنَافِيهَا مِمَّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَأُكِّدَتْ مَظَنَّةُ الصِّدْقِ بِالْحَلِفِ فَيَكُونُ شَرْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ لِيَسْتَوِيَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَوْجِيهُ الْيَمِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ حَرَجًا على الشَّاهِدين الَّذين تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمَا الْيَمِينُ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ تَعْرِيضٌ بِالشَّكِّ فِي صِدْقِهِمَا، فَكَانَ فَرْضُ الْيَمِينِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ دَافِعًا لِلتَّحَرُّجِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ، لِأَنَّ فِي كَوْنِ الْيَمِينِ شَرْطًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْذِرَةً فِي الْمُطَالَبَةِ بِهَا، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَائِنَا فِي يَمِينِ الْقَضَاءِ الَّتِي تَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ مِنْ أَنَّهَا لَازِمَةٌ قَبْلَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا وَلَوْ أَسْقَطَهَا الْوَارِثُ الرَّشِيدُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ عَرَّجَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
وَ (ذُو الرَّحْمَةِ) خَبَرٌ ثَانٍ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِوَصْفِ الرَّحِيمِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ:
ذُو الرَّحْمَةِ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ لَا يَنْتَفِعُ الْخَلَائِقُ إِلَّا بِلَوَازِمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهِيَ جُودُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ غِنَاهُ، بِخِلَافِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَهَا يَنْفَعُ الْخَلَائِقَ، فَأُوثِرَتْ بِكَلِمَةِ ذُو لِأَنَّ ذُو كَلِمَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ، وَمَعْنَاهَا صَاحِبُ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقُوَّةِ أَوْ وَفْرَةِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ ذُو إِنْصَافٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِنْصَافِ، وَلَا يُقَالُ ذُو مَالٍ لِمَنْ عِنْدَهُ مَالٌ قَلِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِذِي الرَّحْمَةِ، هُنَا تَمْهِيدٌ لِمَعْنَى الْإِمْهَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، أَيْ فَلَا يقولنّ أحد لماذَا لَمْ يُذْهِبْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ أَمْهَلَهُمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
اسْتِئْنَافٌ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الْإِنْذَارَ بِعَذَابِ الْإِهْلَاكِ، فَيَقُولُونَ:
مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: ٢٨] وَذَلِكَ مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤].
فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَن يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِمَنْ يَغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ من الْمُشْركين، وَيجوز أَن يكون إقبالا على خطاب الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا صَرِيحًا.
وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُعَجِّلْ بِإِفْنَائِكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ من بعدكم مِنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨] أَيْ فَمَا إِمْهَالُهُ إِيَّاكُمْ إِلَّا لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٢٩ إِلَى ٣٠]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ زَعْمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ إِبْطَالًا عَامًّا بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨] اسْتَأْنَفَ اسْتِئْنَافًا اسْتِطْرَادِيًّا بِمَا فِيهِ جُمَّاعُ مُقَوِّمَاتِ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي يَجْمَعُهُ مَعْنَى الْقِسْطِ أَيِ الْعَدْلِ تَعْلِيمًا لَهُمْ بِنَقِيضِ جَهْلِهِمْ، وَتَنْوِيهًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَعْلَمُوا مَا شَأْنُهُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ. وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْغَرَضِ، وَلِمُضَادَّتِهِ لِمُدَّعَاهُمُ الْمَنْفِيِّ فِي جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨] فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَمْ يُعْطَفِ الْقَوْلُ عَلَى الْقَوْلِ وَلَا الْمَقُولُ عَلَى الْمَقُولِ: لِأَنَّ فِي إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَفِي تَرْكِ عَطْفِهِ عَلَى نَظِيرِهِ لَفْتًا لِلْأَذْهَانِ إِلَيْهِ.
وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ وَهُوَ هُنَا الْعَدْلُ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، أَيِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْفَضِيلَةُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ، فَاللَّهُ أَمَرَ بِالْفَضَائِلِ وَبِمَا تَشْهَدُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ أَنَّهُ صَلَاحٌ مَحْضٌ وَأَنَّهُ حَسَنٌ مُسْتَقِيمٌ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الْفرْقَان:
٦٧] فَالتَّوْحِيدُ عَدْلٌ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالْقِصَاصُ مِنَ الْقَاتِلِ عَدْلٌ بَيْنَ إِطْلَالِ الدِّمَاءِ وَبَيْنَ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ جِنَايَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَةِ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ. وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْإِسْرَافِ، فَالْقِسْطُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ فِي ذَاتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا لِلصَّلَاحِ عَاجِلًا وَآجِلًا، أَيْ سَالِمًا مِنْ عَوَاقِبِ الْفَسَادِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقِسْطَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ التَّوْحِيدَ مِنْ أَعْظَمِ الْقِسْطِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلْفَوَاحِشِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ لَيْسَ
تَعَلُّقًا وَرَغْبَةً فِي مُنَاجَاةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، زَادَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ عَشْرَ لَيَالٍ، فَصَارَتْ مُدَّةُ الْمُنَاجَاةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قِصَّةً فِي سَبَبِ زِيَادَةِ عَشْرِ لَيَالٍ، لَمْ تَصِحَّ،
وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: إِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ قُوَّتُهُ الْبَشَرِيَّةُ فَبَاعَدَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ السَّآمَةُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ يُجَنَّبُ عَنْهُ الْمُتَّقُونَ بَلَهَ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا
، وَإِمَّا لِأَنَّ زِيَادَةَ مَغِيبِهِ عَنْ قَوْمِهِ تُفْضِي إِلَى إِضْرَارٍ، كَمَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي الْعَشْرِ اللَّيَالِي الْأَخِيرَةِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَسُمِّيَتْ زِيَادَةُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ إِتْمَامًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ تَكُونَ مُنَاجَاةُ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهَا أَمَرَهُ بِهَا مُفَرَّقَةً، إِمَّا لِحِكْمَةِ الِاسْتِينَاسِ، وَإِمَّا لِتَكُونَ تِلْكَ الْعَشْرُ عِبَادَةً أُخْرَى فَيَتَكَرَّرَ الثَّوَابُ، وَالْمُرَادُ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا فَاقْتُصِرَ عَلَى اللَّيَالِي لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ لِأَجْلِ الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْمُنَاجَاةِ.
وَالنَّفْسُ فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ تَجَرُّدًا لِلْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الْمَلَكِيَّةِ، مِنْهَا فِي النَّهَارِ، إِذْ قَدِ اعْتَادَتِ النُّفُوسُ بِحَسَبِ أصل التكوين الاستيناس بِنُورِ الشَّمْسِ وَالنَّشَاطَ بِهِ لِلشُّغْلِ، فَلَا يُفَارِقُهَا فِي النَّهَارِ الِاشْتِغَالُ بِالدُّنْيَا وَلَوْ بِالتَّفَكُّرِ وَبِمُشَاهَدَةِ الْمَوْجُودَاتِ، وَذَلِكَ يَنْحَطُّ فِي اللَّيْلِ وَالظُّلْمَةِ، وَتَنْعَكِسُ تَفَكُّرَاتُ النَّفْسِ إِلَى دَاخِلِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَزَلِ الشَّرِيعَةُ تُحَرِّضُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَلَى الِابْتِهَالِ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَة: ١٦] الْآيَةَ، وَقَالَ: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ»
وَلَمْ يَزَلِ الشُّغْلُ فِي السَّهَرِ مِنْ شِعَارِ الْحُكَمَاءِ وَالْمُرْتَاضِينَ لِأَنَّ السَّهَرَ يُلَطِّفُ سُلْطَانَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ كَمَا يُلَطِّفُهَا الصَّوْمُ قَالَ فِي «هَيَاكِلِ النُّورِ» «النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَإِنَّمَا شَغَلَهَا عَنْ عَالَمِهَا الْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَمُشَاغَلَتُهَا فَإِذَا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالْفَضَائِلِ الرُّوحَانِيَّةِ وَضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أَحْيَانًا إِلَى عَالَمِ الْقُدُسِ وَتَتَّصِلُ بربها وتتلقى مِنْهُ الْمَعَارِفِ».
عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ التَّوْقِيتُ بِاللَّيَالِي، وَيُرِيدُونَ أَنَّهَا بِأَيَّامِهَا، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْعَرَبِيَّةَ تُبْتَدَأُ بِاللَّيَالِي إِذْ هِيَ مَنُوطَةٌ بِظُهُورِ الْأَهِلَّةِ.
وَقَوْلُهُ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَذْلَكَةُ الْحِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ حُكْمُ التَّوَارُثِ وَلَا النَّصْرِ إِلَّا إِذَا طَلَبُوا النَّصْرَ عَلَى قَوْمٍ فَتَنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَفِي نَفْيِ وَلَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَهُمْ، مَعَ السُّكُوتِ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُعْتَبَرُونَ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِمُقَاطَعَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُمْ على الْهِجْرَة.
و «الْولَايَة» - بِفَتْحِ الْوَاوِ- فِي الْمَشْهُورِ وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَصْدَرِ تَوَلَّاهُ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْفَتْحُ أَجْوَدُ هُنَا، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِكَسْرِ الْوَاوِ فِي السُّلْطَانِ يَعْنِي فِي وِلَايَاتِ الْحُكْمِ وَالْإِمَارَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ يَجُوزُ فِيهَا الْكَسْرُ، لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ كَالْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ، وَتَبِعَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَأَرَادَ إِبْطَالَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ هُنَا أَجْوَدُ. وَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بَاطِلٌ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ وَجْهَانِ مُتَسَاوِيَانِ مِثْلَ الدَّلَالَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا.
وَالظَّرْفِيَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا (فِي) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، تَؤُولُ إِلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: طَلَبُوا أَنْ تَنْصُرُوهُمْ لِأَجْلِ الدِّينِ، أَيْ لِرَدِّ الْفِتْنَةِ عَنْهُمْ فِي دينهم إِذْ حَاوَلَ الْمُشْرِكُونَ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى دِينِ الشِّرْكِ وَجَبَ نَصْرُهُمْ لِأَنَّ نَصْرَهُمْ لِلدِّينِ لَيْسَ مِنَ الْوَلَايَةِ لَهُمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْوَلَايَةِ لِلدِّينِ وَنَصْرِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ اسْتَنْصَرَهُمُ النَّاسُ أَمْ لَمْ يَسْتَنْصِرُوهُمْ إِذَا تَوَفَّرَ دَاعِي الْقِتَالِ، فَجَعَلَ اللَّهُ اسْتِنْصَارَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ جُمْلَةِ دواعي الْجِهَاد.
وفَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ، أَيْ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ، وَقُدِّمَ الْخَبَر وَهُوَ فَعَلَيْكُمُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وأل فِي النَّصْرُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ لِأَنَّ اسْتَنْصَرُوكُمْ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ نَصْرٍ
وَالْمَعْنَى: فَعَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُتَعَلِّقِ النَّصْرِ وَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِمْ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيثَاقَ يَقْتَضِي عَدَمَ قِتَالِهِمْ إِلَّا إِذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ مَعَ
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً إِلَخْ. وَوَجْهُ هَذَا الْإِبْدَالِ أَنَّ قَوْلهم هَذَا ينبىء عَنْ بُلُوغِ التَّعَجُّبِ مِنْ دَعْوَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَزِيدَ الْإِحَالَةِ وَالتَّكْذِيبِ حَتَّى صَارُوا إِلَى الْقَوْلِ: إِنَّ هَذَا لسحر مُبين [يُونُس: ٧٦] أَوْ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ
مُبِينٌ
فَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «لَسِحْرٌ» - بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونُ الْحَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُ السِّحْرٍ، أَيْ أَنَّهُ كَلَامٌ يُسْحَرُ بِهِ. فَقَدْ كَانَ مِنْ طُرُقِ السِّحْرِ فِي أَوْهَامِهِمْ أَنْ يَقُولَ السَّاحِرُ كَلَامًا غَيْرَ مَفْهُومٍ لِلنَّاسِ يُوهِمُهُمْ أَنَّ فِيهِ خَصَائِصَ وَأَسْمَاءَ غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ لِغَيْرِ السَّحَرَةِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْوَحْيِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لَساحِرٌ فَالْإِشَارَةُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْلِهِ:
إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ وَصْفَهُمْ إِيَّاه بِالسحرِ ينبىء بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدَّعُوهُ هَذَيَانًا وَبَاطِلًا فَهَرِعُوا إِلَى ادِّعَائِهِ سِحْرًا، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَقَائِدِهِمُ الضَّالَّةِ أَنَّ مِنْ طَرَائِقِ السِّحْرِ أَنْ يَقُولَ السَّاحِرُ أَقْوَالًا تَسْتَنْزِلُ عُقُولَ الْمَسْحُورِينَ.
وَهَذَا من عجزهم مِنْ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ بِمَطَاعِنَ فِي لَفْظِهِ وَمَعَانِيهِ.
وَالسِّحْرُ: تَخْيِيلُ مَا لَيْسَ بِكَائِنٍ كَائِنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَهَرَ، أَيْ سِحْرٌ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ تَلْفِيقٌ مِنْهُمْ وَبُهْتَانٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ الْحق الْمُبين.
قَالَ النَّابِغَةُ يُخَاطِبُ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ:
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَقَالَ تَعَالَى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة:
٥٦].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ لِغَرَابَتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فَ (إِنَّ) فِيهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ.
وعَمَلٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ- مَصْدَرٌ أَخْبَرَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَبِرَفْعِ غَيْرُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ (عَمَلٌ). وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ عَمَلٌ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَبِنَصْبِ غَيْرُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ (عَمِلَ). وَمَعْنَى الْعَمَلِ غَيْرِ الصَّالِحِ الْكُفْرُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْكُفْرِ (عَمَلٌ) لِأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي عَمَلِ صَاحِبِهِ كَامْتِنَاعِ ابْنِ نُوحٍ مِنَ الرُّكُوبِ الدَّالِّ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِوَعِيدِ الطُّوفَانِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيُهُ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ نَهْيَ عِتَابٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ بِسَبَبِ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، سَقَطَ مَا مَهَّدَ بِهِ لِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ، فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يَسْأَلَهُ وَأَنْ يَتَدَبَّرَ مَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ مِنَ اللَّهِ.
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ «فَلَا تَسْأَلَنِّي» - بِتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةُ وَنُونُ الْوِقَايَةِ أُدْغِمَتَا. وَأَثْبَتَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. أَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ فَقَرَأَ «فَلَا تسألنّ» - بنُون مشدة مَفْتُوحَةٍ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ
وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، فَجَاءَ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُسْنِدَ جَعْلُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُسْنَدْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِأَسْرَارٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا هِيَ مُوجِبُ تَفَاضُلِهَا. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَرِ، وَلَفْتُ النَّظَرِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْأَرْضِ الظَّاهِرُ دُونَ ضَمِيرِهَا الَّذِي هُوَ الْمُقْتَضَى لِيَسْتَقِلَّ الْكَلَامُ وَيَتَجَدَّدَ الْأُسْلُوبُ، وَأَصْلُ انْتِظَامِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَفِيهَا قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، فَعَدَلَ إِلَى هَذَا تَوْضِيحًا وَإِيجَازًا.
وَالْقِطَعُ: جَمْعُ قِطْعَةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهِيَ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَا يُقْتَطَعُ.
وَلَيْسَ وَصْفُ الْقِطَعِ بِمُتَجَاوِرَاتٍ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَيْسَ هُوَ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ بِالْآيَاتِ، بَلِ الْمَقْصُودُ وَصْفُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ مُخْتَلِفَاتُ الْأَلْوَانِ
وَالْمَنَابِتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.
وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِمُتَجَاوِرَاتٍ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْوَانِ والمنابت مَعَ التجاور أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: ٢٧].
فَمَعْنَى قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بِقَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَجَاوِرَةً مُتَلَاصِقَةً.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْأَرْضِ وَقِطَعِهَا يُشِيرُ إِلَى اخْتِلَافٍ حَاصِلٍ فِيهَا عَنْ غَيْرِ صُنْعِ النَّاسِ وَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَرَاعِي وَالْكَلَأِ. وَمُجَرَّدُ ذِكْرِ الْقِطَعِ كَافٍ فِي ذَلِكَ فَأَحَالَهُمْ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنِ اخْتِلَافِ مَنَابِتِ قِطَعِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَبِّ وَالْكَلَأِ وَهِيَ مَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ هُنَا لِاخْتِلَافِ أَكْلِهِ إِذْ لَا مَذَاقَ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ وَلكنه يخْتَلف شَرعه بَعْضِ الْحَيَوَانِ عَلَى بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [الْأَنْعَام: ٩٩].
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَهُمْ جَحَدُوا بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، أُطْلِقَ عَلَى كِتَابِهِمُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ كِتَابٌ مَقْرُوءٌ، فَأَظْهَرُوا بَعْضًا وَكَتَمُوا بَعْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [سُورَة الْأَنْعَام: ٩١] فَكَانُوا فِيمَا كَتَمُوهُ شَبِيهَيْنِ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا رَفَضُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَيْضًا جَعَلُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِضِينَ فَصَدَّقُوا بَعْضَهُ وَهُوَ مَا وَافَقَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَّبُوا بَعْضَهُ الْمُخَالِفَ لِأَهْوَائِهِمْ مِثْلَ نَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِبْطَالِ بُنُوَّةِ عِيسَى لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانُوا إِذَا سَأَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: هَلِ الْقُرْآنُ صِدْقٌ؟ قَالُوا: بَعْضُهُ صِدْقٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافَ
الْمُشْرِكِينَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة الْأَنْعَام: ٢٥]، و «قَول كَاهِن»، و «قَول شَاعِرٍ».
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ نَفَرٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ جَمَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا فَتَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ وَطُرُقَهَا لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَهُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَوْلُ كَاهِنٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، فَقَدْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ أَنْوَاعًا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ.
وَهَؤُلَاءِ النّفر هم: حنظة بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأَخُوهُ الْعَاصُ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ، وَزُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ صَيْفِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَوْسُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٠]

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ اعْتِرَاضٍ بِالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، وَعَنِ الْإِمْسَاكِ الْمُفِيدِ الْأَمْرَ بِالْقَصْدِ، بِأَنَّ هَذَا وَاجِبُ النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَوَاجِبُهُمْ نَحْوَ قَرَابَتِهِمْ وَضُعَفَاءِ عَشَائِرِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الشُّحُّ بِمُبْقٍ مَالَ الشَّحِيحِ لِنَفْسِهِ، وَلَا التَّبْذِيرُ بِمُغْنٍ مَنْ يُبَذِّرُ فِيهِمُ الْمَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِكُلِّ نَفْسٍ رِزْقَهَا.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى سَنَنِ الْخِطَابِ السَّابِقِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَّلَ الْكَلَامَ إِلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَّهَ بِالْخِطَابِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْأَوْلَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمَّتُهُ مَقْصُودَةً بِالْخِطَابِ تَبَعًا لَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْوَصَايَا مُخَلَّلَةً بِالْإِقْبَالِ عَلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَقْدِرُ ضِدُّ يَبْسُطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ هُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَمَا يَلِيقُ بِكُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَمَا يَحِفُّ بِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ النُّظُمِ الْعَالَمِيَّةِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِالْأَخْبَارِ. وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالْمُبْصَرَاتِ. وَهَذَانَ الِاسْمَانِ الْجَلِيلَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى بَعْضِ تَعَلُّقِ الْعلم الإلهي.
بَعْدَ بُدْوُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْمَوْتَ حِينَئِذٍ لَا يَدْفَعُ الطَّعْنَ فِي عِرْضِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَا الْمَعَرَّةَ عَلَى أَهْلِهَا إِذْ يُشَاهِدُ أَهْلُهَا بَطْنَهَا بِحَمْلِهَا وَهِيَ مَيْتَةٌ فَتَطْرُقُهَا الْقَالَةُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِتُّ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٧]. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْأَصْلِ. وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ مَاتَ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرُ رَفْعٍ مُتَّصِلٍ.
وَالنِّسْيُ- بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ السِّينِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُنْسَى، وَوَزْنُ فِعْلِ يَأْتِي بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ بِقَيْدِ تَهْيِئَتِهِ لِتَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقٍ حَصَلَ. وَذَلِكَ مِثْلُ الذَّبْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: ١٠٧]، أَيْ كَبْشٍ عَظِيمٍ مُعَدٍّ لِأَنْ يُذْبَحَ، فَلَا يُقَالُ لِلْكَبْشِ ذِبْحٌ إِلَّا إِذَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَذْبُوحِ ذِبْحٌ بَلْ ذَبِيحٌ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَغْلِبُ إِهْمَالُهَا أَنْسَاءً، وَيَقُولُونَ عِنْدَ الِارْتِحَالِ: انْظُرُوا أَنْسَاءَكُمْ، أَيِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي شَأْنُكُمْ أَنْ تَنْسَوْهَا.
وَوَصَفَ النِّسْيَ بِمَنْسِيٍّ مُبَالَغَةً فِي نِسْيَانِ ذِكْرِهَا، أَيْ لَيْتَنِي كُنْتُ شَيْئًا غَيْرَ مُتَذَكَّرٍ وَقَدْ نَسِيَهُ أَهْلُهُ وَتَرَكُوهُ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَا يَحُلُّ بِهِ، فَهِيَ تَمَنَّتِ الْمَوْتَ وَانْقِطَاعَ ذِكْرِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا
مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَحَفَصٌ، وَخَلَفٌ نَسْياً- بِفَتْحِ النُّونِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي النِّسْيِ، كَالْوِتْرِ وَالْوَتْرِ، والجسر والجسر.
[٢٤]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٢٤]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
ضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرُ فِي (نَادَاهَا) عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْغَائِبُ فِي فَحَمَلَتْهُ [مَرْيَم: ٢٢]، أَيْ: نَادَاهَا الْمَوْلُودُ.
وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّحِدُ الْمَآلِ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِنَفْسٍ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ مِنْ شَرٍّ يُؤْتَ بِهَا فِي مِيزَانِ أَعْمَالِهَا وَيُجَازَ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ أَتَيْنا بِها عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مُسْتَأْنَفَةٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِمَّا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ. وَضَمِيرُ بِها عَائِدٌ إِلَى مِثْقالَ حَبَّةٍ.
وَاكْتَسَبَ ضَمِيرُهُ التَّأْنِيثَ لِإِضَافَةِ مُعَادِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ حَبَّةٍ.
وَالْمِثْقَالُ: مَا يُمَاثِلُ شَيْئًا فِي الثِّقَلِ، أَيِ الْوَزْنِ، فَمِثْقَالُ الْحَبَّةِ: مِقْدَارُهَا. وَالْحَبَّةُ:
الْوَاحِدَةُ مِنْ ثَمَرِ النَّبَاتِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ السُّنْبُلِ أَوْ فِي الْمَزَادَاتِ الَّتِي كَالْقُرُونِ أَوِ الْعَبَابِيدِ كَالْقَطَانِيِّ.
وَالْخَرْدَلُ: حُبُوبٌ دَقِيقَةٌ كَحَبِّ السِّمْسِمِ هِيَ بُزُورُ شَجَرٍ يُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَرْدَلَ.
وَاسْمُهُ فِي عِلْمِ النَّبَاتِ (سينابيس). وَهُوَ صِنْفَانِ بَرِّيٍّ وَبُسْتَانِيٍّ. وَيَنْبُتُ فِي الْهِنْدِ وَمِصْرَ وَأُورُوبَّا. وَشَجَرَتُهُ ذَاتُ سَاقٍ دَقِيقَةٍ يَنْتَهِي ارْتِفَاعُهَا إِلَى نَحْوِ مِتْرٍ. وَأَوْرَاقُهَا كَبِيرَةٌ. يُخْرِجُ أَزْهَارًا صُفْرًا مِنْهَا تتكون بزوره إِذْ تَخْرُجُ فِي مَزَادَاتٍ صَغِيرَةٍ مَمْلُوءَةٍ مِنْ هَذَا الْحَبِّ، تَخْرُجُ خَضْرَاءَ ثُمَّ تَصِيرُ سَوْدَاءَ مِثْلَ الْخُرْنُوبِ الصَّغِيرِ. وَإِذَا دُقَّ هَذَا الْحَبُّ ظَهَرَتْ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُعَطَّرَةٌ إِذَا قُرِّبَتْ مِنَ الْأَنْفِ شَمًّا دَمِعَتِ الْعَيْنَانِ، وَإِذَا وُضِعَ مَعْجُونُهَا عَلَى الْجِلْدِ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ لَذْعًا وَحَرَارَةً ثُمَّ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِلْدُ تَحَمُّلَهَا طَوِيلًا وَيَتْرُكُ مَوْضِعَهُ مِنَ الْجَلْدِ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ لِتَجَمُّعِ الدَّمِ بِظَاهِرِ الْجَلْدِ وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ مَعْجُونُهُ بِالْمَاءِ دَوَاءً يُوضَعُ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُصَابِ بِاحْتِقَانِ الدَّمِ مِثْلَ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالنَّزَلَاتِ الصَّدْرِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَكَفى بِنا حاسِبِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ومفعول كَفى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَلَا يُسْمَعُ ضَمِيرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَعَادٌ إِلَّا وَيُعْلَمُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَتْ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذْ هُوَ مُجْتَمَعُهُمْ. فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَفِيهِ إِنْحَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ.
وَفِي كَوْنِ اسْتِكْبَارِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرًا لِلتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَالِاسْتِكْبَارُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي شَأْنُ الْقَائِمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا أَشْنَعُ اسْتِكْبَارٍ.
وَعَنْ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ قَاضِي قُرْطُبَةٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بِهِ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْدِيَةِ، وَتَضْمِينُ مُسْتَكْبِرِينَ مَعْنَى مُكَذِّبِينَ لِأَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ هُوَ سَبَبُ التَّكْذِيبِ.
وسامِراً حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ سَامِرِينَ. وَالسَّامِرُ:
اسْمٌ لِجَمْعِ السَّامِرِينَ، أَيِ الْمُتَحَدِّثِينَ فِي سَمَرِ اللَّيْلِ وَهُوَ ظُلْمَتُهُ، أَوْ ضَوْءُ قَمَرِهِ. وَأُطْلِقَ السَّمَرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي اللَّيْلِ، فَالسَّامِرُ كَالْحَاجِّ وَالْحَاضِرِ وَالْجَامِلِ بِمَعْنَى الْحُجَّاجُ وَالْحَاضِرِينَ وَجَمَاعَةُ الْجُمَّالِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سامِراً مُرَادًا مِنْهُ مَجْلِسُ السَّمَرِ حَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لِلْحَدِيثِ لَيْلًا وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي سَامِرِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: ٢٩].
وتَهْجُرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مُضَارِعُ أَهْجَرَ: إِذَا
قَالَ الْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَهُوَ اللَّغْوُ والسب وَالْكَلَام السيء. وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ هَجَرَ إِذَا لَغَا. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ سامِراً، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُتَحَدِّثِينَ هَجْرًا وَكَانَ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ يَسْمُرُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ يَتَحَدَّثُونَ بِالطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِكُمْ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْكَلَامِ.
فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: مَا يَعْبَأُ بِخِطَابِكُمْ.
وَالدُّعَاءُ: الدَّعْوَةُ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالْفَاعِلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ رَبِّي أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ يَدْعُوكُمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيِ الدَّاعِيَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الدُّعَاءَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ وَلَا اعْتِزَازٌ بِكُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٦، ٥٧].
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: دُعاؤُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ فَقَدْ كَذَّبْتُمُ الدَّاعِيَ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدُّعَاءَ بِالْعِبَادَةِ فَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ وَقَدْ أَغْنَى عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهَا اعْتِمَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْهَا بِتَأَمُّلٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَتَفْرِيعُ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا دُعاؤُكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَذَّبْتُمُ الَّذِي دَعَاكُمْ عَلَى لِسَانِهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَكُونُ عَائِدٌ إِلَى التَّكْذِيبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ سَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ لِزَامًا لَكُمْ، أَيْ لَازِما لكم لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِعَوَاقِبِ التَّكْذِيبِ تَهْدِيدًا مُهَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ كَمَا تَقُولُ لِلْجَانِي: قد فعلت كَذَا فَسَوْفَ تَتَحَمَّلُ مَا فَعَلْتَ.
وَدَخَلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَهَزِيمَةٍ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَاللِّزَامُ: مَصْدَرُ لَازَمَ، وَقَدْ صِيغَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِإِفَادَةِ اللُّزُومِ، أَيْ عَدَمِ الْمُفَارَقَةِ،
قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً فِي سُورَةِ طه [١٢٩]. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) عَائِدٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه:
١٢٧]، فَالْإِخْبَارُ بِاللِّزَامِ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ
جَانِبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦] فِي جَانِبِ فِرْعَوْنَ إِذْ كَانُوا فَرِحِينَ بِاسْتِخْدَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَدْبِيرِ قَطْعِ نَسْلِهِمْ.
وَخَامِسُهُ: أَنَّ إِصَابَةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَغْتَةً مِنْ قِبَلِ مَنْ أَمَّلُوا مِنْهُ النَّفْعَ أَشَدُّ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِ وَأَوْقَعُ حَسْرَةً عَلَى الْمُسْتَبْصِرِ، وَأَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِقَامَ اللَّهِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنِ انْتِقَامِ الْعَدُوِّ كَمَا قَالَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨] مَعَ قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: ٩].
وَسَادِسُهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ التَّعَقُّلِ أَنْ تُسْتَأْصَلَ أُمَّةٌ كَامِلَةٌ لِتَوَقُّعِ مُفْسِدٍ فِيهَا لِعَدَمِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِأَفْرَادِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَذِّرَةٌ فَلَا يَكُونُ الْمُتَوَقَّعُ فَسَادُهُ إِلَّا فِي الْجَانِبِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ مِنَ الْأَفْرَادِ فَتَحْصُلُ مَفْسَدَتَانِ هُمَا أَخْذُ الْبَرِيءِ وَانْفِلَاتُ الْمُجْرِمِ.
وَسَابِعُهُ: تَعْلِيمُ أَنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ بِتَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ وَلَمَا قَدَّرَ لِإِهْلَاكِهِمْ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُرَتَّبَةَ وَلَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْجَاءً أَسْرَعَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ تَنَقُّلَاتِ الْأَحْوَالِ ابْتِدَاءً مِنْ إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ إِلَى أَنْ رَدَّهُ إِلَى أُمِّهِ فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَلِيَتَوَسَّمُوا مِنْ بِوَارِقِ ظُهُورِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِقَالِ أَحْوَالِ دَعْوَتِهِ فِي مَدَارِجِ الْقُوَّةِ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ وَاقِعٌ بِأَخَرَةٍ.
وَثَامِنُهُ: الْعِبْرَةُ بِأَنَّ وُجُودَ الصَّالِحِينَ مِنْ بَيْنِ الْمُفْسِدِينَ يُخَفِّفُ مِنْ لَأْوَاءِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ وُجُودَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ كَانَ سَبَبًا فِي صَدِّ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ الطِّفْلِ مَعَ أَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: ٩] كَمَا قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ.
وَتَاسِعُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ نَصْرَهُمْ حَاصِلٌ بَعْدَ حِينٍ، وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ وَعِيدَهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ.
وَعَاشِرُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْتَى مِنْ جَهْلِهِ النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ.
وَالشُّرَكَاءُ: جَمْعُ شَرِيكٍ، وَهُوَ الْمُشَارِكُ فِي المَال لقَوْله فِي مَا رَزَقْناكُمْ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الشَّرِكَةِ، أَيْ فَتَكُونُوا مُتَسَاوِينَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ.
وَجُمْلَةُ تَخافُونَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي سَواءٌ. وَالْخَوْفُ:
انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ يَنْشَأُ مِنْ تَوَقُّعِ إِصَابَةِ مَكْرُوهٍ يَبْقَى، وَهُوَ هُنَا التَّوَقِّي مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حُظُوظِهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَلَيْسَ هُوَ الرُّعْبَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ كَمَا تَتَوَقُّونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ إِضَاعَةِ حُقُوقِكُمْ عِنْدَهُمْ.
وَالْأَنْفُسُ الثَّانِي بِمَعْنَى: أَنْفُسُ الَّذِينَ لَهُمْ شُرَكَاءُ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ.
وَهَذَا الْمَثَلُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ بِهَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ شُبِّهَتِ الْهَيْئَةُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنْ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي التَّصَرُّفِ وَدَافِعُونَ عَنْ أَوْلِيَائِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْ تَسَلُّطِ عِقَابٍ أَوْ نَحْوِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ. هَذِهِ الْهَيْئَةُ شُبِّهَتْ بِهَيْئَةِ نَاسٍ لَهُمْ عَبِيدٌ صَارُوا شُرَكَاءَ فِي أَرْزَاقِ سَادَتِهِمْ شَرِكَةً عَلَى السَّوَاءِ فَصَارَ سَادَتُهُمْ يَحْذَرُونَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ
يَتَصَرَّفُوا فِي تِلْكَ الْأَرْزَاقِ أَنْ يَكُونَ تصرفهم غير مرضِي لِعَبِيدِهِمْ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ وَإِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا لِمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْهَيْئَتَيْنِ قَدْ بَلَغَ غَايَةَ كَمَالِ نَظَائِرِهِ إِذْ هُوَ قَابِلٌ لِلتَّفْرِيقِ فِي أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ بِتَشْبِيهِ مَالِكِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالَّذِينَ يَمْلِكُونَ عَبِيدًا، وَتَشْبِيهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَمَالِيكِ النَّاسِ، وَتَشْبِيهِ تَشْرِيكِ الْأَصْنَامِ فِي التَّصَرُّفِ مَعَ الْخَالِقِ فِي مُلْكِهِ بِتَشْرِيكِ الْعَبِيدِ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَرْزَاقِ سَادَتِهِمْ، وَتَشْبِيهِ زَعْمِهِمْ عُدُولَ اللَّهِ عَنْ بَعْضِ مَا يُرِيدُهُ فِي الْخَلْقِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَشَفَاعَتِهَا بِحَذَرِ أَصْحَابِ الْأَرْزَاقِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حُظُوظِ عَبِيدِهِمُ الشُّرَكَاءِ تَصَرُّفًا يَأْبَوْنَهُ. فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا هَيْئَةٌ قَبِيحَةٌ مُشَوَّهَةٌ فِي الْعَادَةِ لَا وُجُودَ لِأَمْثَالِهَا فِي عُرْفِهِمْ فَكَانَتِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مَنْفِيَّةً مُنْكَرَةً، وَلِذَلِكَ أُدْخِلَ عَلَيْهَا اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ لِيَنْتُجَ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَزْعُومَةَ لِلْأَصْنَامِ صُورَةٌ بَاطِلَةٌ بِطَرِيقِ التَّصْوِيرِ وَالتَّشْكِيلِ إِبْرَازًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى الِاعْتِقَادِيِّ الْبَاطِلِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ الْمُشَوَّهَةِ الْبَاطِلَةِ.
أَنَّهُ عَمَلٌ مَذْمُوم لِأَن النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعَزُّ خَلْقٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّحَرُّزَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَدْنَى أَذًى.
وَمَنَاطُ دَفْعِ الِاغْتِرَارِ قَوْلُهُ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ فَإِنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَظُنُّهُ النَّاسُ رِضًى وَإِذْنًا وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ إِلَى أَذْهَانِ بَعْضِهِمْ أَنَّ جُلُوسَهُمْ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا سكت عَلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْشَدَهُمْ اللَّهُ إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ النَّاشِئَ عَنْ سَبَبٍ هُوَ سُكُوتٌ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الرِّضَى وَأَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ حَيَاءً مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ بِالْإِخْرَاجِ فَهُوَ اسْتِحْيَاءٌ خَاصٌّ مِنْ عَمَلٍ خَاصٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك مُؤْذِيًا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِيهِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَين التفرغ لشؤون النُّبُوءَةِ مِنْ تَلَقِّي الْوَحْيِ أَوِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ أَوِ التَّأَخُّرِ عَنِ الْجُلُوسِ فِي مَجْلِسِهِ لنفع الْمُسلمين ولشؤون ذَاتِهِ وَبَيْتِهِ وَأَهْلِهِ. وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ أَنْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ تَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزَلَةَ الْمُتَرَدِّدِ لِأَنَّ حَالَ النَّفَرِ الَّذِينَ أَطَالُوا الْجُلُوسَ وَالْحَدِيثَ فِي بَيْتِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَدَمَ شُعُورِهِمْ بِكَرَاهِيَّتِهِ ذَلِكَ مِنْهُمْ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمَّا وَجَدَهُمْ خَرَجَ، فَغَفَلُوا عَمَّا فِي خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَيْتِ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى كَرَاهِيَّتِهِ بَقَاءَهُمْ، تِلْكَ حَالَةُ مَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ فَخُوطِبُوا بِهَذَا الْخِطَابِ تَشْدِيدًا فِي التَّحْذِيرِ وَاسْتِفَاقَةً مِنَ التَّغْرِيرِ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
وَصِيغَ يُؤْذِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ إِفَادَةِ أَذًى مُتَكَرِّرٍ، وَالتَّكْرِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ الشِّدَّةِ.
وَالْأَذَى: مَا يُكَدِّرُ مَفْعُولُهُ وَيُسِيءُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فِي آلِ عِمْرَانَ [١١١]، وَهُوَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي أَنْوَاعِهِ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ. وَالتَّقْدِيرُ:
فَيَهِمُّ بِإِخْرَاجِكُمْ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ إِذْ لَيْسَ الِاسْتِحْيَاءُ مُفَرَّعًا عَلَى الْإِيذَاءِ وَلَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ.
وَدُخُولُ مِنَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِ يَسْتَحْيِي عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ يَسْتَحْيِي مِنْ إِعْلَامِكُمْ بِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ.
وَتَعْدَيَةُ الْمُشْتَقَّاتِ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاءِ إِلَى الذَّوَاتِ شَائِعٌ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ
بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْمُتَعَدِّدِينَ وَأَمَّا اقْتِضَاؤُهُ تَعْيِينَ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَذَلِك حَاصِل بِأَنَّهُم لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّبُّ الْعَظِيمُ وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فَحَصَلَ التَّعَدُّدُ فِي مَفْهُومِ الْإِلَهِ فَإِذَا بَطَلَ التَّعَدُّدَ تَعَيَّنَ انْحِصَارُ الْإِلَهِيَّةِ فِي رَبٍّ وَاحِدٍ هُوَ الله تَعَالَى.
[٥]
[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ٥]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
أَتْبَعَ تَأْكِيدَ الْإِخْبَارِ عَنْ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْقَسَمَ لِتَأْكِيدِهِ لَا يُقْنِعُ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ مَنْ بَلَّغَ إِلَيْهِمُ الْقَسَمَ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ مَعَ إِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَعْيِينِهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ الْمُقْتَضِي تَفَرُّدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ.
فَقَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ رَبُّ السَّمَاوَات، أَي إِلَهكُم الْوَاحِدُ هُوَ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ.
فَقَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَرَى حَذْفُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ تَقَدُّمِ حَدِيثٍ عَنْهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ».
فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الشّرك لم يتجرّأوا عَلَى ادِّعَاءِ الْخَالِقِيَةِ لِأَصْنَامِهِمْ وَلَا التَّصَرُّفِ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ، وَكَيْفَ يَبْلُغُونَ إِلَيْهَا وَهُمْ لَقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَكَانَ تَفَرُّدُ اللَّهِ بِالْخَالِقِيَةِ أَفْحَمَ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ فِي بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. وَشَمِلَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما جَمِيعَ الْعَوَالِمِ الْمَشْهُودَةِ لِلنَّاسِ بِأَجْرَامِهَا وَسُكَّانِهَا وَالْمَوْجُودَاتِ فِيهَا.
وَتَخْصِيصُ الْمَشارِقِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ مَشْهُودَةٌ كُلَّ يَوْمٍ.
وَجَمْعُ الْمَشارِقِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فِي أَيَّامِ نِصْفِ سَنَةِ دَوْرَتِهَا وَهِيَ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ شَرْقًا بِاعْتِبَارِ أَطْوَلِ نَهَارٍ فِي السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ
أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الْأَخْذَ بِثَأْرِهِ، فَأَخَذَ اللَّهُ الْأُمَمَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى هَمِّهِمْ بِرُسُلِهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ.
وَيُفْهَمُ مِنْ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ إِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ هَمَّهُمْ بِقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُنْتَهَى أَمَدِ الْإِمْهَالِ لَهُمْ، فَإِذَا صَمَّمُوا الْعَزْمَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ كَمَا أَخَذَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ قَبْلَهُمْ حِينَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فَإِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا هَمُّوا بِقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْهِجْرَةِ ثُمَّ أَمْكَنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمُرَادُ بِ كُلُّ أُمَّةٍ كُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الْأَحْزَابِ الْمَذْكُورِينَ.
وَضَمِيرُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ عَائِدٌ عَلَى كُلُّ أُمَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ: مِنْ تَعْدَادِ جَرَائِمِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْهَمِّ بِقَتْلِهِمْ وَالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ النَّازِلِ فِيهِمْ قَوْلُهُ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] بِحَالِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ سَوَاءً، لِيَنْطَبِقَ الْوَعِيدُ عَلَى حَالِهِمْ أَكْمَلَ انْطِبَاقٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْباطِلِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ جَادَلُوا مُلَابِسِينَ لِلْبَاطِلِ فَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْبَاءُ لِلْآلَةِ بِتَنْزِيلِ الْبَاطِلِ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ لِجِدَالِهِمْ فَيَكُونُ الظَّرْفُ لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ جادَلُوا. وَتَقْيِيدُ جادَلُوا هَذَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ بِالْباطِلِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَا أُطْلِقَ فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَالْإِدْحَاضُ: إِبْطَالُ الْحُجَّةِ، قَالَ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى:
١٦]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ زَوَّرُوا الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَرَوَّجُوهُ بِالسِّفَسْطَةِ فِي صُورَةِ الْحُجَّةِ لِيُبْطِلُوا حُجَجَ الْحَقِّ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْنِيعًا لِكُفْرِهِمْ.
وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ قَوْلَهُ: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ كَمَا فَرَّعَ قَوْلَهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤] عَلَى جُمْلَةِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤]
وَفَرَّعَ عَلَى تَوْبِيخِهِمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَهُوَ تَفْرِيعٌ فِيهِ خَفَاءٌ وَدِقَّةٌ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنَ التَّفْرِيعِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ إِبْطَالٌ لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَتَوْكِيدٌ لِلتَّوْبِيخِ فَكَيْفَ يُسْتَفَادُ هَذَا الْإِبْطَالُ مِنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ الْمُفَرَّعَيْنِ عَلَى التَّوْبِيخِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ هَذَا التَّفْرِيعِ وَتَرَتُّبِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَفْهَامٌ عَدِيدَةٌ لَا يَخْلُو مُعْظَمُهَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَضَعْفِ اقْتِنَاعٍ. وَالْوَجْهُ فِي بَيَانِهِ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ الْمُفَرَّعَيْنِ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ عَلَى التَّوْبِيخِ وَالْإِبْطَالِ هُمَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالتَّفْرِيعِ الْمُنَاسِبِ لِتَوْبِيخِهِمْ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَتَقْدِيرُ الْمُفَرَّعِ هَكَذَا: فَكَيْفَ يَكُونُ الِافْتِرَاءُ مِنْكَ عَلَى اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يُقِرُّ أَحَدًا أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ فَلَوْ شَاءَ لَخَتَمَ عَلَى قَلْبِكَ، أَيْ سَلَبَكَ الْعَقْلَ الَّذِي يُفَكِّرُ فِي الْكَذِبِ فَتُفْحَمُ عَنِ الْكَلَامِ فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ، أَيْ وَلَيْسَ ثَمَّةَ حَائِلٌ يَحُولُ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ لَوِ افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الِافْتِرَاءِ لَأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ كَلَامًا، فَحَصَلَ بِهَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَتَكُونُ الْآيَةُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٦].
وَلِابْنِ عَطِيَّةَ كَلِمَاتٌ قَلِيلَةٌ يُؤَيِّدُ مَغْزَاهَا هَذَا التَّقْرِيرَ مُسْتَنِدَةٌ لِقَوْلِ قَتَادَةَ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ كَوْنِ مَا بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ الْمُفَرَّعُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ كِنَايَةً عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ قَوْلِهِمُ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ رَسُولَهُ بِهَذَا تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ افْتِرَاءَهُ عَلَى اللَّهِ لَا يُهِمُّكُمْ حَتَّى تناصبوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدَاءَ، فَاللَّهُ أَوْلَى مِنْكُمْ بِأَنْ يُغَارَ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ رِسَالَتِهِ وَبِأَنْ يَذُبَّ عَنْ جَلَالِهِ فَلَا تَجْعَلُوا هَذِهِ الدَّعْوَى هَمَّكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَخَتَمَ عَلَى قَلْبِكَ فَسَلَبَكَ الْقُدْرَةَ عَلَى أَنْ تَنْسُبَ إِلَيْهِ كَلَامًا. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ هُمَا الْمُنَاسِبَانِ لِمَوْقِعِ الْآيَةِ، وَلِفَاءِ التَّفْرِيعِ، وَلِمَا فِي الشَّرْطِ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِوُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ مُضَارِعًا، فَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: عَلى قَلْبِكَ وَهُوَ انْتِهَاءُ كَلَامٍ.
وَجُمْلَةُ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى التَّفْرِيعِ، وَهِيَ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ، مُرَادٌ
وَالْفِعْلُ مِنَ التَّعْسِ يَجِيءُ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَبَابِ سَمِعَ، وَفِي «الْقَامُوسِ» إِذَا خَاطَبْتَ قُلْتَ: تَعَسْتَ كَمَنَعَ، وَإِذَا حَكَيْتَ قُلْتَ: تَعِسَ كسمع.
وانتصب فَتَعْساً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَعِسُوا تَعْسَهُمْ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ مِثْلُ تَبًّا لَهُ، وَوَيْحًا لَهُ. وَقُصِدَ مِنَ الْإِضَافَةِ اخْتِصَاصُ التَّعْسِ بِهِمْ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَى الْفَاعِلِ لَامُ التَّبْيِين فَصَارَ فَتَعْساً لَهُمْ. وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ
بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِعَامِلِهِ الْمَحْذُوفِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ مُخْتَارُ بن مَالِكٍ وَإِنَّ أَبَاهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَيَجُوزُ أَن يكون فَتَعْساً لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ لِقَصْدِ التَّحْقِيرِ وَالتَّفْظِيعِ، وَذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ هَذَا الْمُرَكَّبِ مِثْلَ سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا لَهُ وَتَبًّا لَهُ وَوَيْحًا لَهُ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ فِي الْآيَةِ فِعْلُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ اللَّهُ: تَعْسًا لَهُمْ، أَوْ فَيُقَالُ: تَعْسًا لَهُمْ.
وَدَخَلَتِ الْفَاء على فَتَعْساً وَهُوَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١]، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ هُنَالِكَ.
وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا إِلَخْ فِي مَعْنَاهُ، وَفِي مَوْقِعِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَفِي نُكْتَةِ تَكْرِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد:
٣].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّعْسِ وَإِضْلَالِ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. وَالْكَرَاهِيَةُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ.
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، قَالَ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: ١٣].
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا لِلسَّبَبِيَّةِ.
وَالْمُزَايَلَةِ،
أَيْ عِنْدَ احْتِجَابِ النُّجُومِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا (الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَشْرِقِ) وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا (الْإِشَارَةُ إِلَى جِهَة الْمغرب) فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»
. وَسُقُوطُ طَوَالِعِهَا الَّتِي تَطْلُعُ: أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْفَجْرِ إِذَا أَضَاءَ عَلَيْهَا ابْتِدَاءَ ظُهُورِ شُعَاعِ الشَّمْسِ، فَإِدْبَارُ النُّجُومِ: وَقْتُ السَّحَرِ، وَهُوَ وَقْتٌ يَسْتَوْفِي فِيهِ الْإِنْسَانُ حَظَّهُ مِنَ النَّوْمِ، وَيَبْقَى فِيهِ مَيْلٌ إِلَى اسْتِصْحَابِ الدَّعَةِ، فَأُمِرَ بِالتَّسُبِيحِ فِيهِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ النَّوْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَبَيْنَ التَّنَاوُمِ النَّاشِئِ عَنِ التَّكَاسُلِ، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ حَاجَةً إِلَى غَفْوَةٍ مِنَ النَّوْمِ اضْطَجَعَ قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَحِينَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ.
وَالنُّجُومُ: جَمْعُ نَجْمٍ وَهُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي يُضِيءُ فِي اللَّيْلِ غَيْرُ الْقَمَر، وَتقدم عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٢].
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَوْقَاتِ الرَّغَائِبِ مِنَ النَّوَافِلِ وَهِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْأَشْفَاعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَقِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: أَشَارَتْ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ.
وَالدَّوْلَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ: النَّوْبَةُ فِي الْغَلَبَةِ وَالْمِلْكُ. وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِضَمِّ الدَّالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بِنَصْبِ دُولَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ يَكُونَ. وَاسْمُ يَكُونَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ، وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ دُولَةٌ عَلَى أَنَّ يَكُونَ تَامَّةٌ ودولة فَاعِلُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَكُونَ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ تَكُونُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ جَرْيًا عَلَى تَأْنِيثِ فَاعِلِهِ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ هِشَامٍ فَبَعْضُهُمْ رَوَى عَنهُ مُوَافقَة (أَي جَعْفَرٍ) فِي تَاءِ تَكُونُ وَبَعْضُهُمْ رَوَى عَنْهُ مُوَافَقَةَ الْجُمْهُورِ فِي الْيَاءِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الْحَشْر: ٢] ثُمَّ قَوْلُهُ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الْحَشْر: ٥] وَمَا بَعْدَهُ. وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ خِطَابًا لِلْأَنْصَارِ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غِنًى.
وَالْمُرَادُ بِ الْأَغْنِياءِ الَّذِينَ هُمْ مَظَنَّةُ الْغِنَى، وَهُمُ الْغُزَاةُ لِأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بِالْمَغَانِمِ وَالْأَنْفَالِ.
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
اعْتِرَاضٌ ذَيَّلَ بِهِ حُكْمَ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ إِذْ هُوَ أَمَرَ بِالْأَخْذِ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي شَأْنِ فَيْءِ النَّضِيرِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ إِزَالَةُ مَا فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْجَيْشِ مِنْ حَزَازَةِ حِرْمَانِهِمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ النَّضِيرِ.
وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَبْلِيغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ، جَعَلَ تَشْرِيعَهُ وَتَبْلِيغَهُ كَإِيتَاءِ شَيْءٍ بِأَيْدِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْبَقَرَة: ٦٣ و٩٣] وَاسْتُعِيرَ الْأَخْذُ أَيْضًا لِقَبُولِ الْأَمْرِ والرضى بِهِ وَالْعَمَل.
وَأَكَّدُوا الْكَلَامَ لِتَنْزِيلِ أَنْفُسِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُمْ ضَالُّونَ طَرِيقَ الْخَيْرِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْغَفْلَةِ عَنْ ضَلَالِهِمْ فَفِيهِ إِيذَانٌ بِالتَّحَسُّرِ وَالتَّنَدُّمِ.
وبَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إِضْرَابٌ لِلْانْتِقَالِ إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ بِالنّظرِ لحَال تبييتهم إِذْ بَيَّتُوا حِرْمَانَ الْمَسَاكِينَ مِنْ فُضُولِ ثَمَرَتِهِمْ فَكَانُوا هُمُ الْمَحْرُومِينَ مِنْ جَمِيعِ الثِّمَارِ، فَالْحِرْمَانُ الْأَعْظَمُ قَدِ اخْتُصَّ بِهِمْ إِذْ لَيْسَ حِرْمَانُ الْمَسَاكِينِ بِشَيْءٍ فِي جَانِبِ حِرْمَانِهِمْ.
وَالْكَلَامُ يُفِيدُ ذَلِكَ إِمَّا بِطْرِيقِ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِأَنَّ أُتِيَ بِهِ ضَمِيرًا بَارِزًا مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ مُقَدَّرًا مُؤَخَّرًا عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بَعْدَ سَمَاعِ مُتَحَمَّلِهِ. فَلَمَّا أُبْرِزَ الضَّمِيرُ وَقُدِّمَ كَانَ تَقْدِيمُهُ مُؤَذِّنًا بِمَعْنَى الْاخْتِصَاصِ، أَيِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْقَرَائِنِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ حَقِيقِيًّا، أَيْ ضَلَالُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا أَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ فِي السَّيْرِ إِلَى جَنَّتِنَا لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ شَاهَدُوا جَنَّةً أُخْرَى غَيْرَ جَنَّتِهِمُ الَّتِي عَهِدُوهَا، قَالُوا ذَلِكَ تَحَيُّرًا فِي أَمْرِهِمْ.
وَيَكُونُ الْإِضْرَابُ إِبْطَالِيًّا، أَيْ أَبْطَلُوا أَنْ يَكُونُوا ضَلُّوا طَرِيقَ جَنَّتِهِمْ، وَأَثْبَتُوا أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ خَيْرِ جَنَّتِهِمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ جَنَّتُهُمْ وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ فَحُرِمُوا خَيْرَاتِهَا بِأَنْ أَتْلَفَهَا اللَّهُ.
وأَوْسَطُهُمْ أَفْضَلُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ. وَالْوَسَطُ: يُطْلَقُ عَلَى الْأَخِيرِ الْأَفْضَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣]، وَقَالَ:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: ٢٣٨] وَيُقَالُ هُوَ مِنْ سِطَةِ قَوْمِهِ، وَأَعْطِنِي مِنْ سِطَةِ مَالِكِ.
وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ بِدُونِ عَاطِفٍ لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَهُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ تَوْقِيفِهِمْ عَلَى تَصْوِيبِ رَأْيِهِ وَخَطَلِ رَأْيِهِمْ.
وَالْاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. وَالْمُرَادُ بِ تُسَبِّحُونَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يُعْصَى أَمْرُهُ فِي شَأْنِ إِعْطَاءِ زَكَاةِ ثِمَارِهِمْ.
وَكَانَ جَوَابُهُمْ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا بِأَنَّهُ وَعَظَهُمْ فَعَصَوْهُ وَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ حِينَ
وَإِنَّمَا جُعِلَ إِظْهَارُ النُّورِ إِخْرَاجًا لِأَنَّ النُّورَ طَارِئٌ بَعْدَ الظُّلْمَةِ، إِذِ الظُّلْمَةُ عَدَمٌ وَهُوَ أَسْبَقُ، وَالنُّورُ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي يُنِيرُهُ.
وَإِضَافَةُ (لَيْلٍ) وَ (ضُحًى) إِلَى ضَمِيرِ السَّماءُ إِنْ كَانَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُمَا يَلُوحَانِ لِلنَّاسِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ فَيَلُوحُ الضُّحَى أَشِعَّةً مُنْتَشِرَةً مِنَ السَّمَاءِ صَادِرَةً مِنْ جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فَتَقَعُ الْأَشِعَّةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ثُمَّ إِذَا انْحَجَبَتِ الشَّمْسُ بِدَوْرَةِ الْأَرْضِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَخَذَ الظَّلَامُ يَحُلُّ مَحَلَّ مَا يَتَقَلَّصُ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ لَيْلًا حَالِكًا مُحِيطًا بِقِسْمٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ السَّمَاءُ جِنْسًا لِلسَّمَاوَاتِ فَإِضَافَةُ لَيْلٍ وضحى إِلَى السَّمَاوَاتِ لِأَنَّهُمَا يَلُوحَانِ فِي جهاتها.
[٣٠- ٣٢]
[سُورَة النازعات (٧٩) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣٢]
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢)
وانتقل الْكَلَامُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَقْرَبُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِمْ وَمَا يُوجَدُ عَلَى الْأَرْضِ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ أَوِ الْإِجْمَالِ الْقَرِيبِ مِنَ التَّفْصِيلِ.
وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِدِلَالَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ قُدِّمَ اسْمُ الْأَرْضَ عَلَى فِعْلِهِ وَفَاعِلِهِ فَانْتُصِبَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَالِاشْتِغَالُ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدًا بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الْعَامِلِ فِي الْمُشْتَغَلِ عَنْهُ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ الْمُشْتَغِلُ بِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُقَدَّمِ.
وَالدَّحْوُ وَالدَّحْيُ يُقَالُ: دَحَوْتُ وَدَحَيْتُ. وَاقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى الْوَاوِيِّ وَهُوَ الْجَارِي فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ: الْبَسْطُ وَالْمَدُّ بِتَسْوِيَةٍ.
وَالْمَعْنَى: خَلَقَهَا مَدْحُوَّةً، أَيْ مَبْسُوطَةً مُسَوَّاةً.
وَالْإِشَارَةُ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَ ذلِكَ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النازعات: ٢٧، ٢٨]، أَيْ بَعْدَ خَلَقَ السَّمَاءَ خَلَقَ الْأَرْضَ مَدْحُوَّةً.


الصفحة التالية
Icon