وَاخْتَصَرْتُ هَذَا الِاسْمَ بِاسْمِ «التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ مِنَ التَّفْسِيرِ» وَهَا أَنا (١) أبتدىء بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ تَكُونُ عَوْنًا لِلْبَاحِثِ فِي التَّفْسِيرِ، وَتُغْنِيهِ عَنْ معاد كثير.
_________
(١) عَن قصد قلت «وَهَا أَنا» وَلم أقل «وَهَا أَنا ذَا» كَمَا الْتَزمهُ كثير من المتحذلقين أخذا بِظَاهِر كَلَام «مُغنِي اللبيب» لما بَينته عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٨٥].
وَهَذَا مِمَّا يُعَضِّدُ حَمْلَ «السُّفَهَاءُ» عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِمُ الْيَهُودُ لَقِيلَ عَنْ قِبْلَتِنَا إِذْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُضِيفُوا تِلْكَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ فَسَّرَ «السُّفَهَاءُ» بِالْيَهُودِ وَنَسَبَ إِلَيْهِمُ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَمَلَ الْإِضَافَةَ عَلَى أَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَقْبَلُوا تِلْكَ الْقِبْلَةَ مُدَّةَ سَنَةٍ وَأَشْهُرٍ فَصَارَتْ قِبْلَةً لَهُمْ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورِ اللَّفْظِ حِكَايَةً لِقَوْلِ السُّفَهَاءِ وَهُمْ يُرِيدُونَ بِالضَّمِيرِ أَوْ بِمُسَاوِيهِ فِي كَلَامِهِمْ عَوْدَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: الَّتِي كانُوا عَلَيْها أَيْ كَانُوا ملازمين لَهَا فعلى هُنَا لِلتَّمَكُّنِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ شِدَّةُ الْمُلَازَمَةِ مِثْلُ وَقَوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥]، وَفِيهِ زِيَادَةُ تَوْجِيهٍ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِغْرَابِ أَيْ كَيْفَ عَدَلُوا عَنْهَا بعد أَن لارموها وَلَمْ يَكُنِ اسْتِقْبَالُهُمْ إِيَّاهَا مُجَرَّدَ صُدْفَةٍ فَإِنَّهُمُ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِقْبَالُ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِنَّمَا بُنِيَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا تَجِدُ فِي أَسْفَارِ «التَّوْرَاةِ» الْخَمْسَةِ ذِكْرًا لِاسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَكِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي سَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِنَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ جَمَعَ شُيُوخَ إِسْرَائِيلَ وَجُمْهُورَهُمْ وَوَقَفَ أَمَامَ الْمَذْبَحِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا اللَّهَ دُعَاءً جَاءَ فِيهِ: «إِذَا انْكَسَرَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ أَمَامَ الْعَدُوِّ ثُمَّ رَجَعُوا وَاعْتَرَفُوا وَصَلَّوْا نَحْوَ هَذَا الْبَيْتِ فَأَرْجِعْهُمْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتَ لِآبَائِهِمْ وَإِذَا خَرَجَ الشَّعْبُ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَصَلَّوْا إِلَى الرَّبِّ نَحْوَ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَهَا وَالْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتَهُ لِاسْمِكَ فَاسْمَعْ صَلَاتَهُمْ وَتَضَرُّعَهُمْ» إِلَخْ، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِسُلَيْمَانَ وَقَالَ لَهُ «قَدْ سَمِعْتُ صَلَاتَكَ وَتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي»، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَقُصَارَاهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ هَيْئَةٌ فَاضِلَةٌ، فَلَعَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْتَزَمُوهُ لَا سِيَّمَا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمُ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ الْيَهُودُ يَظُنُّونَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الْقِبْلَةِ رُبَّمَا تَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُوَافِقًا لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَجَرَى كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ»
وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النَّحْل:
١٠٢]،
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا»
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ».
وَإِنَّمَا وُصِفَ عِيسَى بِهَذَيْنِ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الرُّسُلِ أُيِّدُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، لِلرَّدِّ
عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ، وَلِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فَزَعَمُوا أُلُوهِيَّتَهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا ذُكِرَ مَعَهُ اسْمُ أُمِّهِ- مَهْمَا ذُكِرَ- لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَعَلَى أَنَّ مَرْيَمَ أَمَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا صَاحِبَةٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَذْكُرُ أَسْمَاءَ نِسَائِهَا وَإِنَّمَا تَكْنِي، فَيَقُولُونَ رَبَّةُ الْبَيْتِ، وَالْأَهْلُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يَذْكُرُونَ أَسْمَاءَ النِّسَاءِ إِلَّا فِي الْغَزَلِ، أَوْ أَسْمَاءَ الْإِمَاءِ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْفَذْلَكَةِ- الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الرُّسُلُ إِلَى آخرهَا- وَبَين الْجُمْلَة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٤]، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ: فَإِنَّ مَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَتْ خِصَالَ الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ وَآثَارَهُمَا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَشْرِيعًا وَتَمْثِيلًا قِتَالُ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَنَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَبَثِّ الْهُدَى وَإِزْهَاقِ الضَّلَالِ. بَيَّنَ اللَّهُ بِهِذَا الِاعْتِرَاضِ حُجَّةَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا: بِأَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِذِ اخْتَلَفُوا عَلَى مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَوِ اتَّبَعُوا الْحَقَّ لَسَلَّمُوا وَسَالَمُوا.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ مُرَادًا بِهِ جُمْلَةُ الرُّسُلِ أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعَقَائِدِ
وَتَعْرِيفُ (الطَّعَامِ) تَعْرِيف الْجِنْس، و (كلّ) لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ مَا فِي التَّوْرَاةِ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ النَّسَخِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَكْلَ عِرْقِ النَّسَا الَّذِي عَلَى الْفَخِذِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّذُرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ نَهَوْهُ عَنْ أَكْلِ مَا فِيهِ عِرْقُ النَّسَا لِأَنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِوَجَعِ نَسَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ فِي الْبَدْوِ فَلَمْ تَسْتَقِمْ عَافِيَتُهُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهِ النَّسَا. وَمَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الطَّعَامِ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَبَعْضُهُ أَرَادَ بِهِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الْمُشْتَهَاةِ، وَهَذَا مِنْ جِهَادِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْعَزْمِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي التَّشْرِيعِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَعَلَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ تَأَسَّوْا بِأَبِيهِمْ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ تَصْرِيحٌ بِمَحَلِّ الْحُجَّةِ مِنَ الرَّدِّ إِذِ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا تَنَاسَوْهُ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِكَوْنِ يَعْقُوبَ كَانَ قَبْلَ مُوسَى، وَقَالَ الْعِصَامُ: يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ بِقَوْلِهِ: حِلًّا لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ حِلًّا وَتَبَيَّنَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، صَارَ ذِكْرُ الْقَيْدِ لَغْوًا لَوْلَا تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، وَقَصْدُ إِعْلَانِ التَّسْجِيلِ بِخَطَئِهِمْ وَالتَّعْرِيضُ بِغَبَاوَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قُلْنَاهُ أَوْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ: مِنْ قَوْلِكُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلتَّعْجِيزِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِهَا إِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الصِّدْقِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا فَاءُ التَّفْرِيعِ.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
تَفْرِيعٌ عَلَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَهُوَ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِبَيَانِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء:
٤] سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ رُكْنًا لِلنِّكَاحِ، أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُجَرَّدَ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) اسْمَ شَرْطٍ صَادِقًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَالِاسْتِمْتَاعُ: الِانْتِفَاعُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ النِّكَاحَ اسْتِمْتَاعًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: ٢٦].
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى (مَا). وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِمْتَاعٌ بِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ.
أَوْ يَكُونُ (مَا) صَادِقَةً عَلَى النِّسَاءِ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، أَيْ فَأَيُّ امْرَأَةٍ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَآتُوهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَيَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا لِمُعَامَلَتِهَا مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَجِيءَ حِينَئِذٍ بِ (مَا) وَلَمْ يُعَبَّرْ بِ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النِّسَاءِ لَا الْقَصْدُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى أَنَّ (مَا) تَجِيءُ لِلْعَاقِلِ كَثِيرًا وَلَا عَكْسَ: وفَرِيضَةً حَالٌ مِنْ أُجُورَهُنَّ أَيْ مَفْرُوضَةً، أَيْ مُقَدَّرَةً بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الْخُصُومَاتِ فِي أَعْظَمِ مُعَامَلَةٍ يُقْصَدُ مِنْهَا الْوِثَاقُ وَحُسْنُ السُّمْعَةِ.
وَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنِ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَجَوَازُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَوِّضُونَ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ مُعْتَادَ أَمْثَالِهِمْ، وَيَكُونُ (فَرِيضَةً) بِمَعْنَى تَقْدِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ فِيمَا زِدْتُمْ لَهُنَّ أَوْ أَسْقَطْنَ لَكُمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: ٤٤]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا»
. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ مُسْتَمِرٌّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا فِي الْمَاضِي ثُمَّ رَجَعُوا لَمَا كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالذَّمِّ.
وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ: أَنَّهُمْ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ صِفَاتِهِ مِنَ التَّجْسِيمِ
وَاتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْحُلُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ آمَنُوا بِالِاسْمِ لَا بِالْمُسَمَّى، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ كَفَرُوا بِالْمُسَمَّى، كَمَا إِذَا كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ فُلَانًا فَقُلْتَ لَهُ: صِفْهُ لِي، فَوَصَفَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ، تَقُولُ لَهُ: «أَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ» عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْحَوَادِثِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِإِلَهِيَّتِهِ الْحَقَّةِ، إِذْ مِنْهُمْ مَنْ جَسَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَلَّثَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَتِ الْإِرَادَةُ عَلَى الْمُحَاوَلَةِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبُ الْمَنَالِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يُحَاوِلُونَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ وَلَوْ بَلَغُوا إِلَيْهِ لَقَالَ: وَفَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ.
وَمَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ صِدْقَ بَعْضِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ، وَيَعْتَرِفُونَ بِصِدْقِ بَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ إِذْ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ فَأَبْعَدُوهُمْ مِنْهُ، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ الْأَمْرَ الْمُتَخَيَّلَ فِي نُفُوسِهِمْ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرِيدُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَحْبَابِ، فَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ، وَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ الْمُشَبَّهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُتَّصِلِينَ ذَمِيمَةٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦]، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥]،

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
يُرِيدُ بِضَمِيرِ (أَحْرَزُوا) جَمَاعَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِضَمِيرِ (جَمَّعُوا) جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْمَعْنِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ كَانُوا فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَأَتَوْا الْمَدِينَةَ مَعَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ رَاهِبًا مِنَ الْحَبَشَةِ مُصَاحِبِينَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنْ هِجْرَتِهِمْ بِالْحَبَشَةِ وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ وَأَسْلَمُوا. وَهُمْ: بَحِيرَا الرَّاهِبُ، وَإِدْرِيسُ، وَأَشْرَفُ، وَأَبْرَهَةُ، وَثُمَامَةُ، وَقُثَمُ، وَدُرَيْدٌ، وَأَيْمَنُ، أَيْ مِمَّنْ يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ عِنْدَ سَمَاعِهِ. وَهَذَا الْوَفْدُ وَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ الَّذِينَ عَادُوا مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، سَنَةَ سَبْعٍ فَكَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْكِيرًا بِفَضْلِهِمْ. وَهِيَ مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ النَّصَارَى أَسْلَمُوا فِي زمن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَعَلَّ اللَّهَ أَعْلَمَ رَسُولَهُ بِفَرِيقٍ مِنَ النَّصَارَى آمنُوا بمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ لِقَائِهِ وَلَا مِنْ إِظْهَارِ إِيمَانِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ تَمَسَّكُوا بِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا اشْتِرَاطَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، لِأَنَّ بُلُوغَ الدَّعْوَةِ مُتَفَاوِتُ الْمَرَاتِبِ. وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ أَوْ بِالْيَمَنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّجَاشِيِّ (أَصْحَمَةَ) مِنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ أَخْبَرَ عَنْهُ بذلك النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي فِيهَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ تَكُونُ قَرِيبَةً مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّسُولُ هُوَ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ غَالِبٌ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ.
وَ (شَياطِينَ) بَدَلٌ مِنْ عَدُوًّا وَإِنَّمَا صِيغَ التَّرْكِيبُ هَكَذَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعدَاء للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَعْرَبَ شَياطِينَ مَفْعُولا لجعل ولِكُلِّ نَبِيٍّ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ عَدُوًّا فَقَدْ أَفْسَدَ الْمَعْنَى.
وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ على الْوَاحِد والمعتدّد، قَالَ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المُنَافِقُونَ: ٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَالشَّيْطَانُ أَصْلُهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُجَرَّدَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: ١٠٢].
وَيُطْلَقُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُضَلِّلِ الَّذِي يَفْعَلُ الْخَبَائِثَ مِنَ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَمِنْهُ «شَيَاطِينُ الْعَرَبِ» لِجَمَاعَةٍ مِنْ خَبَاثِهِمْ، مِنْهُمْ: نَاشِبٌ الْأَعْوَرُ، وَابْنُهُ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ الشَّاعِرُ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ.
وَالْإِنْسُ: الْإِنْسَانُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّأَنُّسِ وَالْإِلْفِ، لِأَنَّ الْبَشَرَ يَأْلَفُ بِالْبَشَرِ وَيَأْنَسُ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِنْسًا وَإِنْسَانًا.
وَ «شَيَاطِينَ الْإِنْسِ» اسْتِعَارَةٌ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلَ الشَّيَاطِينِ: مِنْ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.
وَإِضَافَةُ شَيَاطِينَ إِلَى الْإِنْسِ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ مَجَازًا، بِنَاءً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، فَهُمْ شَيَاطِينُ، وَهُمْ بَعْضُ الْإِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْإِنْسَ: لَهُمْ أَفْرَادٌ مُتَعَارَفَةٌ، وَأَفْرَادٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الشَّيَاطِينِ، فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ إِلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ حَقِيقَة، وَالْإِضَافَة حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ الْجِنَّ مِنْهُمْ شَيَاطِينٌ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ شَيَاطِينٍ، وَمِنْهُمْ صَالِحُونَ، وَعَدَاوَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ لِلْأَنْبِيَاءِ ظَاهِرَةٌ، وَمَا جَاءَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِلَّا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: ١١٧].
وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَصَرُّفَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَتَخَلَّلَ قِصَّتَهُ بِشَارَةُ اللَّهِ ببعثة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَفَضْلِ دِينِهِ.
ثُمَّ تَخَلَّصَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ بَدَّلُوا الْحَنِيفِيَّةَ وَتَقَلَّدُوا الشِّرْكَ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِمَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْآيَاتِ فَوَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَانْسَلَخَ عَنِ الْهُدَى.
وَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَوَصَفَ تَكْذِيبَهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَوَصَفَ آلِهَتَهُمْ بِمَا يُنَافِي الإلاهيّة وَأَنَّ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى صِفَاتِ الْكَمَالِ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْإِقْبَالِ على عِبَادَته.
[١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١)
هَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا هَاتِهِ السُّورَةُ، يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا (أَلِفْ- لَامْ- مِيمْ- صَادْ) كَمَا يَنْطِقُ بِالْحُرُوفِ مُلَقِّنُ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْهِجَاءِ فِي الْمَكْتَبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ لَا مُسَمَّيَاتُهَا وَأَشْكَالُهَا، كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ أَحَدٍ بِخَبَرٍ تَذْكُرُ اسْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ دُونَ أَنْ تَعْرِضَ صُورَتَهُ أَوْ ذَاتَهُ، فَتَقُولُ مَثَلًا: لَقِيتُ زَيْدًا، وَلَا تَقُولُ: لَقِيتُ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا لَقِيتُ هَذِهِ الذَّاتَ.
فَالنُّطْقُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ هُوَ مُقْتَضَى وُقُوعِهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا، لقصد التّعريض بتعجيز الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَعْجِيزِ بُلَغَائِهِمْ عَنْ
مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْكَافِرِينَ مِنْ عَوْدِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، بِخِلَافِ حَالِهِمُ الْأُولَى قَبْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يُوصَفُونَ بِالْكُفْرِ لَا بِالِافْتِرَاءِ إِذْ لَمْ يَظْهَرُ لَهُمْ وَجْهُ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ فَيَلْقِي نَفْسَهُ فِي الضَّلَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْعَذَابِ.
وَانْتِصَابُ كَذِباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ تَأْكِيدًا ل افْتَرَيْنا بِنَا هُوَ مَا سوله أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٣].
وَقَدْ رَتَّبَ عَلَى مُقَدِّمَةِ لُزُومِ الِافْتِرَاءِ نَتِيجَةَ تَأْيِيسِ قَوْمِهِ مِنْ أَنْ يَعُودَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها فَنَفَى الْعَوْدَ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ إِلَخْ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩].
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ وَتَفْوِيضُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، أَيْ:
إِلَّا أَنْ يُقَدِّرَ اللَّهُ لَنَا الْعَوْدَ فِي مِلَّتِكُمْ فَإِنَّهُ لَا يسْأَل عمّا يفعل، فَأَمَّا عَوْدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ فَمُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ حُصُولُهُ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ اسْتِحَالَتُهُ، وَالِارْتِدَادُ وَقَعَ فِي طَوَائِفَ مِنْ أُمَمٍ.
وَأَمَّا ارْتِدَادُ شُعَيْبٍ بَعْدَ النُّبُوءَةِ فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا لِعِصْمَةِ اللَّهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ سَلَبَ الْعِصْمَةَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُحَالٌ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فَعِصْمَتُهُمْ مِنْهُ بَعْدَ النُّبُوءَةِ بِالْأَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
وَفِي قَوْلِ شُعَيْبٍ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَقْيِيدُ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ مُسَاوٍ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّأَدُّبُ وَتَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اللَّهِ، وَالْكِنَايَةُ عَنْ سُؤَالِ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمرَان: ٨].
وَمِنْ هُنَا يُسْتَدَلُّ لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ الْفَقِيهُ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْفَيْء «مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ»
فَيُقَاسُ عَلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ رَسُولِ اللَّهِ فِي انْتِفَاعِهِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي مَالِ اللَّهِ. وَأَوْضَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، حِينَ تَحَاكَمَا إِلَيْهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَرِجَال «الصَّحِيحِ»، قَالَ عُمَرُ: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ قَالَ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [الْحَشْر: ٧] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لرَسُول الله، وو اللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ».
وَالْغَرَضُ مِنْ جَلْبِ كَلَامِ عُمَرَ قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ».
وَأَمَّا ذُو الْقُرْبى فَ (أَلْ) فِي الْقُرْبى عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧] وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى أَيْ ذَوِي قَرَابَةِ الْمُؤْتِي الْمَالَ.
وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ (الرَّسُولُ) الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَيْ وَلِذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ بِ (ذِي) الْجِنْسُ، أَيْ: ذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، أَيْ: قَرَابَتَهُ، وَذَلِكَ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَعَلَ لِأَهْلِ قَرَابَتِهِ حَقًّا فِي مَالِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَاةِ. فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أَغْنَاهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُمْ فِي الْخُمُسِ ثَابِتًا بِوَصْفِ الْقَرَابَةِ.
فَذُو الْقُرْبَى مُرَادٌ بِهِ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِقَرَابَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَهُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْقُرْبى جِنْسٌ فَهُوَ مُجْمَلٌ، وَأُجْمِلَتْ رُتْبَةُ الْقَرَابَةِ إِحَالَةً عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي قُرْبَى الرَّجُلِ، وَتِلْكَ هِيَ قُرْبَى نَسَبِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ. ثُمَّ إِنَّ نَسَبَ الْآبَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ يُعَدُّ مُشْتَرَكًا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ الْفَصَائِلُ، وَمَحْمَلُهَا الظَّاهِرُ عَلَى عَصَبَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَبْنَاءِ جَدِّهِ الْأَدْنَى. وَأَبْنَاءُ أَدْنَى أَجْدَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، لِأَنَّ هَاشِمًا لَمْ يَبْقَ لَهُ عَقِبٌ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَالْأَرْجَحُ أَنَّ قُرْبَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمَا سَيُلَاقِي بِهِ الْمُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَ رُجُوعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْغَزْوِ.
وإِذا هُنَا ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي. وَحَذْفُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، وَلِتَقَدُّمِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ [التَّوْبَة: ٤٢] إِلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي حَلِفِهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٤٤].
وَصَرَّحَ بِعِلَّةِ الْحَلِفِ هُنَا أَنَّهُ لِقَصْدِ إِعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ عِتَابِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ تَطْيِيبَ خَوَاطِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ أَرَادُوا التَّمَلُّصَ مِنْ مَسَبَّةِ الْعِتَابِ وَلَذْعِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ
[التَّوْبَة: ٦٢] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التَّوْبَة: ٩٦] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ فَلَمَّا فَاتَ الْأَمْرُ وَعَلِمُوا أَنَّ حَلِفَهُمْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُسْلِمُونَ صَارُوا يَحْلِفُونَ لِقَصْدِ أَنْ يُعْرِضَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ.
وَأُدْخِلَ حَرْفُ (عَنْ) عَلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْإِعْرَاضَ عَنْ لَوْمِهِمْ. فَفِي حَذْفِ الْمُضَافِ تَهْيِئَةٌ لِتَفْرِيعِ التَّقْرِيعِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ:
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، أَيْ فَإِذَا كَانُوا يَرُومُونَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ تَمَامًا.
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّقْرِيعِ فِيهِ إِطْمَاعٌ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ الطَّالِبِ بِأَنَّهُ أُجِيبَتْ طِلْبَتُهُ حَتَّى إِذَا تَأَمَّلَ وَجَدَ مَا طَمِعَ فِيهِ قَدِ انْقَلَبَ عَكْسَ الْمَطْلُوبِ فَصَارَ يَأْسًا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُعَاتَبَةِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهَا وَاسْتِدَامَةِ مُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا بِهِمْ يُوَاجَهُونَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُكَالَمَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَذَلِكَ أَشَدُّ مِمَّا حَلَفُوا للتفادي عَنهُ. فهم مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ أَوْ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ رِجْسٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَوُقُوعُ (إِنَّ) فِي أَوَّلِهَا مُؤْذِنٌ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: ٣٨]. فَإِنْ حُمِلَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ كَانَتِ الْحَالُ مَقَدَّرَةً مِنْ فَاعِلِ خَلَقَ أَيْ خَلَقَ ذَلِكَ مُقَدِّرًا أَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ، وَإِنْ حُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً.
وُوَجْهُ جَعْلِهَا جُمْلَةً شَرْطِيَّةً إِفَادَةُ تَجَدُّدِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ كُلِّ إِخْبَارٍ بِالْبَعْثِ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَيَقُولَنَّ إِلَخْ، فَاللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَجَوَابُ (إِنَّ) مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ الْقَسَمِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ أَنْ يُحْذَفَ جَوَابُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِغَرَابَةِ صُدُورِهِ مِنَ الْعَاقِلِ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ الْقَوِيُّ وَالتَّنْزِيلُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يُحِيلُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَقَدْ شَاهَدُوا آثَارَ بَدْءِ الْخَلْقِ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَبْدَعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا سِحْرٌ عَلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِ (قُلْتَ)، وَمَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا السَّحَرَةُ لِخَصَائِصَ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: إِلَّا سَاحِرٌ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَفْهُومِ مِنْ ضَمِيرِ قُلْتَ أَيْ أَنَّهُ يَقُولُ كَلَامًا يَسْحَرُنَا بِذَلِكَ.
وَوَجْهُ جَعْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ سِحْرًا أَنَّ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَخُرَافَاتِهِمْ أَنَّ مِنْ وَسَائِلِ السِّحْرِ الْأَقْوَالَ الْمُسْتَحِيلَةَ وَالتَّكَاذِيبَ الْبُهْتَانِيَّةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ كُلَّمَا أُخْبِرُوا بِهِ لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ حُصُولِهِ بَلْهَ إِيمَانُهُمْ بِهِ.
ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ الْمَهْمُوزَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ الْمُجَرَّدِ، أَيْ بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ أَنَّهُ سَاحِرٌ
وَعَلَّلَ طَلَبَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ الْمُفِيدُ تَعْلِيلَ مَا قَبْلَهَا لِوُقُوعِ (إِنَّ) فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَتَيْنِ يَعْسُرُ حُصُولُ إِحْدَاهُمَا فِي النَّاس بله كِلْتَيْهِمَا، وَهُمَا: الْحِفْظُ لِمَا يَلِيهِ، وَالْعِلْمُ بِتَدْبِيرِ مَا يَتَوَلَّاهُ، لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنَّ مَكَانَتَهُ لَدَيْهِ وَائْتِمَانَهُ إِيَّاهُ قَدْ صَادَفَا مَحَلَّهُمَا وَأَهْلَهُمَا، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَفِي بِوَاجِبِهِمَا، وَذَلِكَ صِفَةُ الْحِفْظِ الْمُحَقِّقِ لِلِائْتِمَانِ، وَصِفَةُ الْعِلْمِ الْمُحَقِّقِ لِلْمَكَانَةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيفٌ بِفَضْلِهِ لِيَهْتَدِيَ النَّاسُ إِلَى اتِّبَاعِهِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحِسْبَةِ.
وَشَبَّهَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَقَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي دُخُولِهِ فِي الْخِلَافَةِ مَعَ نَهْيِهِ الْمُسْتَشِيرَ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَنْ يَتَأَمَّرَ عَلَى اثْنَيْنِ. قُلْتُ: وَهُوَ تَشْبِيهٌ رَشِيقٌ، إِذْ كِلَاهُمَا صِدِّيقٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ لِوُجُوبِ عَرْضِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِوِلَايَةِ عَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ عَلَى إِيثَار مَنْفَعَة نَفسه عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ عَلِمَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ هُنَالِكَ لِأَنَّهُ كَانَ الْمُؤْمِنَ الْوَحِيدَ فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ، فَهُوَ لِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ يَبُثُّ أُصُولَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا شَرِيعَةُ آبَائِهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. فَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا
جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَن عبد الرحمان بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عبد الرحمان لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»
، لِأَن عبد الرحمان بْنَ سَمُرَةَ لَمْ يَكُنْ مُنْفَرِدًا بِالْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ أَمْثَالِهِ وَلَا رَاجِحًا عَلَى جَمِيعِهِمْ.
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ جَوَازَ طَلَبِ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَهْلٌ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَلَّ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: «يَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ إِنَّ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَلِهِ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ
وَعَطَفَ وَقُرْآنٍ عَلَى الْكِتابِ لِأَنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ وَالتَّشْرِيعِ، فَهُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ لِكِتَابِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ اسْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ لِلْكُتُبِ الْمُشْتَهِرَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ.
فَاسْمُ الْقُرْآنِ أَرْسَخُ فِي التَّعْرِيفِ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْعَلَمَ الْأَصْلِيَّ أَدْخَلُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ، فَسَوَاءٌ نُكِّرَ لَفْظُ الْقُرْآنِ أَوْ عُرِّفَ بِاللَّامِ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى كِتَابِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ نُكِّرَ فَتَنْكِيرُهُ عَلَى أَصْلِ الْأَعْلَامِ، وَإِنْ عُرِّفَ فَتَعْرِيفُهُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ كَتَعْرِيفِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ لِأَنَّ «الْقُرْآنَ» مَنْقُولٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى الْقِرَاءَةِ، أَيِ الْمَقْرُوءِ الَّذِي إِذا قرىء فَهُوَ مُنْتَهَى الْقِرَاءَةِ.
وَفِي التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى قُوَّةِ الِاتِّصَافِ بِمَادَّةِ الْمَصْدَرِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْعَلَمَيْنِ مِنْ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْعَلَمِ الْآخَرِ حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعَطْفِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ «قُرْآنٍ» بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ «كِتَابٍ» وَهُوَ شَبِيهٌ بِعَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَمَا هُوَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَشْبَهَهُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مَتْبُوعٌ بِوَصْفٍ وَهُوَ مُبِينٍ. وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارٌ بِالْمَعْنَى.
وَابْتُدِئَ بِالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ لِمَا فِي التَّعْرِيفِ مِنْ إِيذَانٍ بِالشُّهْرَةِ وَالْوُضُوحِ وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ الْمُعَرَّفَ هُوَ أَصْلُ الْإِخْبَارِ وَالْأَوْصَافِ. ثُمَّ جِيءَ بِالْمُنَكَّرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ وَصْفُهُ بِالْمُبِينِ، وَالْمُنَكَّرُ أَنْسَبُ بِإِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَوُزِّعَتِ الدَّلَالَتَانِ عَلَى نُكْتَةِ التَّعْرِيفِ وَنُكْتَةِ التَّنْكِيرِ.
فَأَمَّا تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الذِّكْرِ فَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْكَافِرِينَ وَتَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَجِيءُ وَقْتٌ يَتَمَنَّوْنَ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُنْكِرِينَ نَاسَبَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
عَلَى أَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا فِي الْأَلْوَاحِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ الْآيِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تَزِيدُ بِأَحْكَامٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ كَفُوراً [الْإِسْرَاء: ٢٥- ٢٧]، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١]، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الْإِسْرَاء: ٣٤- ٣٩]، مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَفْصِيلٍ وَتَبْيِينٍ عَرِيَتْ عَنْهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْأَلْوَاحِ.
وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
وَالْحَثُّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا.
وَالتَّحْذِيرُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَعَدَاوَتِهِ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَقِصَّةُ إِبَايَتِهِ مِنَ السُّجُودِ.
وَالْإِنْذَارُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَذِكْرُ مَا عَرَضَ لِلْأُمَمِ مِنْ أَسْبَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَالْهَلَاكِ.
وَتَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَنْصُرَ الْإِسْلَامَ عَلَى بَاطِلِهِمْ.
وَمَا لَقِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاسْتِعَانَتِهِمْ بِالْيَهُودِ. وَاقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ، وَتَحْمِيقِهِمْ فِي جَهْلِهِمْ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْتَطْرَدَاتِ وَالنُّذُرِ وَالْعِظَاتِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ مَا هُوَ علم وَحِكْمَة.
[١]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
الِافْتِتَاحُ بِكَلِمَةِ التَّسْبِيحِ مِنْ دُونِ سَبْقِ كَلَامٍ مُتَضَمِّنٍ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ
خَبَرًا عَجِيبًا يَسْتَقْبِلُهُ السَّامِعُونَ دَالًّا عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَرَفِيعِ مَنْزِلَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ.
وَقَوْلُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لَوْمٌ، أَيْ كَانَ فِي مُكْنَتِكَ أَنْ تَجْعَلَ لِنَفْسِكَ أَجْرًا عَلَى إِقَامَةِ الْجِدَارِ تَأْخُذُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَلَا تُقِيمُهُ مَجَّانًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ الضِّيَافَةِ وَنَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى مَا نُنْفِقُهُ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْأَتْبَاعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ.
وَهَذَا اللَّوْمُ يَتَضَمَّنُ سُؤَالًا عَنْ سَبَبِ تَرْكِ الْمُشَارَطَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْجِدَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ
إِلَى الْأَجْرِ، وَلَيْسَ هُوَ لَوْمًا عَلَى مُجَرَّدِ إِقَامَتِهِ مَجَّانًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَهُوَ غَيْرُ مَلُومٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَاتَّخَذْتَ- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ بَعْدَ اللَّامِ وَبِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (اتَّخَذَ).
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ لَتَخِذْتَ بِدُونِ هَمْزَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (تَخِذَ) الْمُفْتَتَحُ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (تَخِذَ) أَوَّلُهُ فَوْقِيَّةٌ، وَهُوَ مِنْ بَاب علم.
[٧٨- ٨٢]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٧٨ إِلَى ٨٢]
قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً
غَافِلُونَ عَنْ تَطَلُّبِ الْحِسَابِ إِيَّاهُمْ كَمَا يَكُونُ قَوْمٌ غَارِّينَ مُعْرِضِينَ عَنِ اقْتِرَابِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْحِسَابِ إِمَّا يَوْمُ الْحِسَابِ، وَمَعْنَى اقْتِرَابِهِ أَنَّهُ قَرِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، أَوْ قَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
، أَوِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ مَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رَأَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتهديد بِقرب هَلَاكِهِمْ وَذَلِكَ بِفَنَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
أَوِ الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذَّنْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: ١١٣] وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِرَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلنَّاسِ إِنْ أُبْقِيَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ فَذِكْرُهَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ حِسابُهُمْ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: حِسَابٌ لَهُمْ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ فَصَارَ قَوْلُهُ لِلنَّاسِ مُسَاوِيًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ (حِسَابُ) فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فَكَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَكَمَا تَقُولُ: أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، أَصْلُهُ أَزِفَ الرَّحِيلُ لِلْحَيِّ ثُمَّ صَارَ أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
لَا أَبَا لَكَ، أَصْلُهُ لَا أَبَاكَ، فَكَانَتْ لَامُ (لَكَ) مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ لِإِمْكَانِ إِغْنَاءِ الْإِضَافَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّامِ. قَالَ الشَّاعِر:
أَبَا لمَوْت الَّذِي لَا بُدَّ أَنِّي مُلَاقٍ لَا أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي
وَأَصْلُ النَّظْمِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ الْحِسَابُ. وَإِنَّمَا نُظِمَ التَّرْكِيبُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِأَنْ قُدِّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَعُرِّفَ النَّاسُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لِيَحْصُلَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبْهَامِ ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَهُ التَّبْيِينُ، وَلِمَا فِي تَقْدِيمِ الْجَارِ

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٢]

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)
إِجْرَاءُ الصِّفَاتِ على الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] بِالتَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَبِتَكْرِيرِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ فَلَاحِهِمْ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مَنْ هَاتِهِ الْخِصَالِ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ فَلَاحِهِمْ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ سَبَبَ فَلَاحِهِمْ مَجْمُوعُ الْخِصَالِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا فَإِنَّ الْفَلَاحَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِخِصَالٍ أُخْرَى مِمَّا هُوَ مَرْجِعُ التَّقْوَى، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِه الْخِصَال تنبىء عَنْ رُسُوخِ الْإِيمَانِ مِنْ صَاحِبِهَا اعْتُبِرَتْ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، كَمَا كَانَتْ أَضْدَادُهَا كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: ٤٢- ٤٦] عَلَى أَنَّ ذِكْرَ عِدَّةِ أَشْيَاءٍ لَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ.
وَالْخُشُوعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥] وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٠]. وَهُوَ خَوْفٌ يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُشُوعَ، أَيِ الْخُشُوعَ لِلَّهِ، يَقْتَضِي التَّقْوَى فَهُوَ سَبَبُ فَلَاحٍ.
وَتَقْيِيدُهُ هُنَا بِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَبِالْخُشُوعِ
وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْخُشُوعَ لِلَّهِ يَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، إِذِ الْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ صَلَاتِهِ.
وَذُكِرَ مَعَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى الْحَالَاتِ بِإِثَارَةِ الْخُشُوعِ وَقُوَّتِهِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ، وَلِأَنَّهُ بِالصَّلَاةِ أَعْلَقُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خُشُوعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعٌ لَهُ، وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ لَمَّا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِهِ حَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَخْشَعُ لَهُ. وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَهِيَ رَأْسُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَصْدَرُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا.
أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ عُلِمَ أَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَتَعَيَّنَتِ الْجَنَّةُ لِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، إِذْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ: مُشْرِكُونَ ومُؤْمِنُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَهُمْ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وَالْخَيْرُ هُنَا: تَفْضِيلٌ، وَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ أَحْسَنُ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ.
وَالْمَقِيلُ: الْمَكَان الَّذِي يؤوى إِلَيْهِ فِي الْقَيْلُولَةِ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عَادَة المترفين.
[٢٥، ٢٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ [الْفرْقَان: ٢٢]. وَالْمَقْصُودُ تَأْيِيسِهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِأَعْمَالِهِمْ وَبِآلِهَتِهِمْ وَتَأْكِيدُ وَعِيدِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ وصف بعض شؤون ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ يَوْمُ تَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ.
وَأُعِيدَ لَفْظُ يَوْمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَمَكَانِ الضَّمِيرِ.
وَالتَّشَقُّقُ: التَّفَتُّحُ بَيْنَ أَجْزَاءٍ مُلْتَئِمَةٍ، وَمِنْهُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١]. وَلَعَلَّهُ انْخِرَاقٌ يَحْصُلُ فِي كُوَرِ تِلْكَ الْعَوَالِمِ، وَالَّذين قَالُوا: السَّمَوَات لَا تَقْبَلُ الْخَرْقَ ثُمَّ الِالْتِئَامَ بَنَوْهُ عَلَى تَخَيُّلِهِمْ إِيَّاهَا كَقِبَابٍ مِنْ مَعَادِنَ صُلْبَةٍ، وَالْحُكَمَاءُ لَمْ يَصِلُوا إِلَى حَقِيقَتِهَا حَتَّى الْآنَ.
وَتَشَقُّقُ السَّمَاءِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَاهُ زَوَالُ الْحَوَاجِزِ وَالْحُدُودِ الَّتِي كَانَتْ تَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ مُبَارَحَةِ سَمَاوَاتِهِمْ إِلَّا مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِذَلِكَ، فَاللَّامُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ بَيْنَ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: يَوْمَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاء. قَالَ [تَعَالَى] : وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: ١٩] عَلَى أَنَّ التَّشَقُّقَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى انْجِلَاءِ النُّورِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
لِأَنَّ الْعِبَادَ الَّذِينَ اصطفاهم الله جاؤوا كُلُّهُمْ بِحَاصِلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَأُمِرَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَامِعِ
الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَمَّا تُشْرِكُونَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَلَا يُفِيضُ النِّعَمَ وَلَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ، فَلَيْسَ هَذَا لِقَصْدِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِلْجَاءِ وَإِلْزَامِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى خَطَئِهِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ ابْتِدَاءُ النَّظَرِ فِي التَّحْقِيقِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ. فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ فُورَكَ إِنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ أَوَّلُ النَّظَرِ أَوِ الْقَصْدِ إِلَى النَّظَرِ ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَهُ الْأَدِلَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَقَدْ نَاسَبَ إِجْمَالَهُ أَنَّهُ دَلِيلٌ جَامِعٌ لِمَا يَأْتِي مِنَ التَّفَاصِيلِ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ. فَقِيلَ: آللَّهُ خَيْرٌ. وَجِيءَ فِيمَا بَعْدُ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي صِلَاتِهِ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَجَاءَ خَيْرٌ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِقَصْدِ مُجَارَاةِ مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِحَيْثُ كَانَ لَهُمْ حَظٌّ وَافِرٌ مِنَ الْخَيْرِ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَبَّرَ بِ خَيْرٌ لِإِيهَامِ أَنَّ الْمَقَامَ لِإِظْهَارِ رُجْحَانِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَصْنَامِهِمِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَإِ مَعَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ آثَرُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. وَالْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ إِلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إِلَى إِيثَارِهِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْأَفْضَلِ فِي الْخَيْرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى الْخَطَإِ الْمُفْرِطِ وَالْجَهْلِ الْمُوَرِّطِ لِتَنْفَتِحَ بَصَائِرُهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِنْ أَرَادُوا اهتداء. وَالْمعْنَى: ءَاللَّه الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ أم مَا تشركونهم مَعَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِقَرِينَةِ وُجُودِ أَمِ الْمُعَادِلَةِ لِلْهَمْزَةِ فَإِنَّ التَّهَكُّمَ يُبْنَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ.
وَهَذَا الْكَلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ جَمِيعِهَا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ كَمَا سَتَعْلَمُهُ..
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُشْرِكُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ
وَإِنَّمَا قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَأَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّ فِي آتَيْناهُمُ الْكِتابَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ٤٤].
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ إِيمَانِ هَذَا الْفَرِيقِ بِهِ، أَيْ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مُسْتَمِرٌّ يَزْدَادُ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ فِي الذِّهْنِ بِكَثْرَةِ مُمَارَسَةِ أَحْوَالِهِمْ وَجِدَالِهِمْ. وَهَكَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ حَيْثُ يُذَكِّرُ هؤُلاءِ بِدُونِ سَبْقٍ مَا يَصْلُحُ لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ أَلْهَمَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٩]. وَالْمَعْنَى: وَمِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أَيْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَالَّذِينَ يُسَلِمُونَ مِنْ بَعْدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي بَاطِنِهِ وَلَا يُظْهِرُ ذَلِكَ عِنَادًا وَكِبَرًا مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ إِلَى أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ مَكَّةَ مَنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ جُحُودًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ تَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْوَصْفِ الْمُعَرَّفِ، أَيْ إِلَّا الْمُتَوَغِّلُونَ فِي الْكُفْرِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ، لِيَظْهَرَ وَجْهُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَا يَجْحَدُ وَبَيْنَ الْكافِرُونَ
إِذْ لَوْلَا الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يَجْحَدُ إِلَّا الْجَاحِدُونَ.
وَعَبَّرَ عَن الْكِتابَ ب (الْآيَات) لِأَنَّهُ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِعْجَازِهِ وَتَحَدِّيهِ وَعَجْزِ الْمُعَانِدِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ ابْتِدَاءً إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ جُحُودَهُمْ وَاقِعٌ، وَفِيهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَجْحَدَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دُونِ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْآنَ فَإِنْ فَعَلُوهُ فَقَدْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ على أنفسهم.
تُخْضِعْنَ الْقَوْلَ، أَيْ تَجْعَلْنَهُ خَاضِعًا ذَلِيلًا، أَيْ رَقِيقًا مُتَفَكِّكًا. وَمَوْقِعُ الْبَاءِ هُنَا أَحْسَنُ مِنْ مَوْقِعِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ لِأَنَّ بَاءَ التَّعْدِيَةِ جَاءَتْ مِنْ بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّ أَصْلَ قَوْلِكَ: ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، أَنَّكَ ذَهَبْتَ مُصَاحِبًا لَهُ فَأَنْتَ أَذْهَبْتَهُ مَعَكَ، ثُمَّ تُنُوسِيَ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ فِي نَحْوِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧]، فَلَمَّا كَانَ التَّفَكُّكُ وَالتَّزْيِينُ لِلْقَوْلِ يُتْبِعُ تَفَكُّكَ الْقَائِلِ أَسْنَدَ الْخُضُوعَ إِلَيْهِنَّ فِي صُورَةٍ، وَأُفِيدَتِ التَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي)، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكُنَّ لِينٌ فِي الْقَوْلِ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِمَّا هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ النِّسَاءِ مِنَ الرِّقَّةِ وَذَلِكَ تَرْخِيمُ الصَّوْتِ، أَيْ لِيَكُنْ كَلَامُكُنَّ جَزْلًا.
وَالْمَرَضُ: حَقِيقَتُهُ اخْتِلَالُ نِظَامِ الْمَزَاجِ الْبَدَنِيِّ مَنْ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاخْتِلَالِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ لَمْ تَرْسَخْ فِيهِ أَخْلَاقُ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَخَلَّقُوا بِسُوءِ الظَّنِّ فَيَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَضِيَّةُ إِفْكِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَاهِدٌ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [١٠].
وانتصب فَيَطْمَعَ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ سَبَبٌ فِي هَذَا الطَّمَعِ.
وَحذف مُتَعَلق فَيَطْمَعَ تَنَزُّهًا وَتَعْظِيمًا لشأن نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ.
وَعَطْفُ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً على فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ لِئَلَّا يَحْسَبْنَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُنَّ بِخَفْضِ أَصْوَاتِهِنَّ كَحَدِيثِ السِّرَارِ.
وَالْقَوْلُ: الْكَلَامُ.
وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ الَّذِي يَأْلَفُهُ النَّاسُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَيَشْمَلُ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هَيْئَةَ الْكَلَامِ وَهِيَ الَّتِي سِيقَ لَهَا الْمَقَامُ، وَيَشْمَلُ مَدْلُولَاتُهُ أَنْ لَا يَنْتَهِرْنَ مَنْ يُكَلِّمُهُنَّ أَوْ
يُسْمِعْنَهُ قَوْلًا بَذِيئًا مِنْ بَابِ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ
الرُّسُلَ فَهَلَكُوا، فَعُلِمَ وَجْهُ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ إِجْمَالًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ تَفْصِيلًا مِنْ قَوْلِهِ بَعْدُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا [يس:
٣١] إِلَخْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْتِيهِمْ أَيْ لَا يَأْتِيهِمْ رَسُولٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إلّا فِي حَال اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِالرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِاسْتِفْظَاعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ مَعَ تَأَتِّي الْفَاصِلَةَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ فَحَصَلَ مِنْهُ غَرَضَانِ مِنَ الْمَعَانِي وَمن البديع.
[٣١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣١]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: ٣٠] لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّسُولِ كَانَتْ هَلَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَعَدَمُ اعْتِبَارِ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهَا يُثِيرُ الْحَسْرَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى نُظَرَائِهَا كَمَا أَثَارَهَا اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرَّسُولِ وَقِلَّةِ التَّبَصُّرِ فِي دَعْوَتِهِ وَنِذَارَتِهِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِ.
وَضَمِيرُ يَرَوْا عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ. وَالْمُعَادُ فِيهِ عُمُومٌ ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَخُصَّ مِنْهُ أَوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَسْبِقْ قَبْلَهُمْ هَلَاكُ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا، فَهَذَا مِنَ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
قَبْلَهُمْ يُرْشِدُ بِالتَّأَمُّلِ إِلَى عَدَمِ شُمُولِهِ أَوَّلَ أُمَّةٍ أُرْسِلَ إِلَيْهَا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَلَمْ يَرَوْا عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [يس: ١٣] وَيَكُونُ الْمَثَلُ قَدِ انْتَهَى بِجُمْلَةِ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ... [يس: ٣٠] الْآيَةَ.
وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تُعْطَفَ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧]، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١]،
وَوَعْدِ الْإِيجَابِ، يُقَالُ: لَكَ عِنْدِي كَذَا أَيْ أَلْتَزِمُ لَكَ بِكَذَا، ثُمَّ يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُهُمْ أَنْ يَشَاءُوا مَا لَا يَتَجَاوَزُ قَدْرَ مَا عَيَّنَ اللَّهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تَمَنَّهْ، فَلَا يَزَالُ يَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الْأَمَانِيُّ فَيَقُولُ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ»
. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ مِمَّا يَقَعُ تَحْتَ أَنْظَارِهِمْ فِي قُصُورِهِمْ وَيَحْجُبُ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يسْأَلُون إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِمْ وَهُوَ عَظِيمٌ وَيَقْلَعُ اللَّهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْ حُظُوظِهِمْ. وَيَجُوزُ أَن مَا يَشاؤُنَ كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ مَا يُعْطَوْنَهُ كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
وَهَذَا كَمَا يَقُولُ مَنْ أَسْدَيْتَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ:
لَكَ عَلَيَّ حُكْمُكَ، أَوْ لَكَ عِنْدِي مَا تَسْأَلُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ مَا هُوَ غَايَةُ الْإِحْسَانِ لِأَمْثَالِهِ.
وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ
يُعْطِيهِمْ عَطَاءَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِيثَارِ بِالْخَيْرِ.
ثُمَّ نَوَّهَ بِهَذَا الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا يَشَاءُونَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَنَّهُ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ. وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَضَمُّنِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ الْمُتَّقُونَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِمْ فَيُقَالُ: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ.
وَالْإِحْسَانُ: هُوَ كَمَالُ التَّقْوَى لِأَنَّهُ
فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
وَأَيُّ إِحْسَانٍ وَأَيُّ تَقْوًى أَعْظَمُ مِنْ نبذهم مَا نشأوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ تَحَمُّلِهِمْ مُخَالَفَةَ أَهْلِيهِمْ وَذَوِيهِمْ وَعَدَاوَتِهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَمِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى مُصَادَرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمُفَارَقَةِ نِسَائِهِمْ تَصْدِيقًا لِلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَإِيثَارًا لِرِضَى اللَّهِ عَلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ وَرِضَى الْعَشِيرَةِ.

[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٤٩ الى ٥٠]

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَعَلِمُوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ. وَقَدْ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نَعْمَاءُ كَذَّبُوا بِقِيَامِ السَّاعَةِ فَجُمْلَةُ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ إِلَى قَوْلِهِ:
قَنُوطٌ تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا إِلَخْ...
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ [فصلت: ٤٧] إِلَخْ يَقْتَضِي مُنَاسَبَةً فِي النَظْمِ دَاعِيَةً إِلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ فَتِلْكَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ صِنْفِ النَّاسِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُ قَصَصِهِمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرِيقًا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَيَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الْعَامِّ لَكِنَّ عُمُومَهُ عُرْفِيٌّ بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ الْمُمَثَّلُ لَهُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي بِقَوْلِكَ: جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ. كَمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، صَرِيحٌ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ عَامًّا عُمُومًا عُرْفِيًّا. فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ، وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ مُشْرِكٌ مُعَيَّنٌ، قِيلَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِخْبَارُ عَنِ إِنْسَانٍ كَافِرٍ.
وَمَحْمَلُ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ إِنَاطَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِصِنْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بِمُشْرِكٍ مُعَيَّنٍ بعنوان إِنْسَان يومىء بِأَنَّ لِلْجِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَثَرًا قَوِيًّا فِي الْخُلُقِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِوَازِعِ الْإِيمَانِ. فَأَصْلُ هَذَا الْخُلُقِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى طَلَبِ الْمُلَائِمِ وَالنَّافِعِ وَنِسْيَانُ مَا عَسَى أَنْ يَحِلَّ بِهِ مِنَ الْمُؤْلِمِ وَالضَّارِّ، فَبِذَلِكَ يَأْنَسُ بِالْخَيْرِ إِذَا حَصَلَ لَهُ فَيَزْدَادُ مِنَ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِهِ وَيَحْسَبُهُ كَالْمُلَازِمِ الذَّاتِيِّ فَلَا يَتَدَبَّرُ فِي مُعْطِيهِ حَتَّى يَشْكُرَهُ وَيَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ تَخَضُّعًا،

[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٤]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ على بطلَان نفي صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ. فَجُمْلَةُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ أَمْرٌ بِإِلْقَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ أَصْلُ ضَلَالِهِمْ.
وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ المناظرة فَجعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاجِهًا لَهُمْ بِالِاحْتِجَاجِ لِيَكُونَ إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَةِ حُجَّتِهِ، وَكَذَلِكَ جَرَى الِاحْتِجَاجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِطَرِيقَةِ أَمْرِ التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ الْآيَة. وأَ رَأَيْتُمْ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى:
أَخْبِرُونِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٠] قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.
وَقَوْلُهُ: أَرُونِي تَصْرِيحٌ بِمَا كَنَّى عَنْهُ طَرِيقُ التَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ وَمُوقِعُ جُمْلَةِ أَرُونِي فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ.
وَالْأَمْرُ فِي أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ وَالتَّعْجِيزِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّفْيِ إِنْ لَمْ يَخْلُقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا فَلَا تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُرُونِي شَيْئًا خَلَقُوهُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا من رُؤُوس مَسَائِلِ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْمُدَّعِي بِالدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ. وماذا بِمَعْنَى مَا الَّذِي خَلَقُوهُ، فَ (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي. وَأَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ نَابَ عَنِ الْمَوْصُولِ. وأصل التَّرْكِيب: مَاذَا الَّذِي خَلَقُوا، فَاقْتَصَرَ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَحَذْفُ اسْم الْمَوْصُول غَالِبا فِي الْكَلَامِ وَقَدْ يَظْهَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) أَوَ (مَنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَاذَا خَلَقُوا إِنْكَارِيٌّ. وَجُمْلَةُ مَاذَا خَلَقُوا بَدَلٌ مِنْ
فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
بِتَشْبِيهِ إِبْقَاءِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ فِي مَكَانٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ عَدَمُ التَّغَيُّرِ.
وَالتَّرْكُ فِي الْآيَةِ: كِنَايَةٌ عَنْ إِبْقَاءِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مُفَارَقَةِ التَّارِكِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ نَظِيرَ مَا فِي بَيت النَّابِغَة.
ولِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدِلَالَةِ مَوَاقِعِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى أَسْبَابِ ذَلِكَ الِاسْتِئْصَالِ نُزِّلَتْ دِلَالَةُ آيَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَنْزِلَةَ مَا لَيْسَ بِآيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ يَخَافُونَ اتَّعَظُوا بِآيَةِ قَوْمِ لُوطٍ فَاجْتَنَبُوا مثل أَسبَاب إهلاكهم، وَأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَا يَتَّعِظُونَ فَيُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَاب أَلِيم.
[٣٨- ٤٠]
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٤٠]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠)
قَوْلُهُ: وَفِي مُوسى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فِيها آيَةً [الذاريات: ٣٧].
وَالتَّقْدِيرُ: وَتَرَكْنَا فِي مُوسَى آيَةً، فَهَذَا الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ لِتَقْدِيرِ فِعْلِ: تَرَكْنَا، بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فِي قِصَّةِ مُوسَى حِينَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بَسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى إِلَخْ، فَيَكُونُ التَّرْكُ الْمُقَدَّرُ فِي حَرْفِ الْعَطْفِ مُرَادًا بِهِ جَعْلُ الدَّلَالَةِ بَاقِيَةً فَكَأَنَّهَا مَتْرُوكَةٌ فِي الْمَوْضِعِ لَا تُنْقَلُ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ.
وَأَعْقَبَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ بِقِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ أَمْرِ مُوسَى وَشَرِيعَتِهِ، فَالتَّرْكُ الْمُقَدَّرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازَيْهِ الْمُرْسَلِ وَالِاسْتِعَارَةِ. وَفِي الْوَاوِ اسْتِخْدَامٌ مِثْلُ اسْتِخْدَامِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُلَقَّبِ مُعَوِّدِ الْحُكَمَاءِ (لَقَّبُوهُ بِهِ لِقَوْلِهِ فِي ذِكْرِ قَصِيدَتِهِ) :
وَالْاشْتِكَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الشَّكْوَى وَهِيَ ذِكْرُ مَا آذَاهُ، يُقَالُ: شَكَا وَتَشَكَّى وَاشْتَكَى وَأَكْثَرُهَا مُبَالَغَةً. اشْتَكَى، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ الشِّكَايَةُ لِقَصْدِ طَلَبِ إِزَالَةِ الضُّرِّ الَّذِي يَشْتَكِي مِنْهُ بِحُكْمٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ إِشَارَةٍ بِحِيلَةِ خَلَاصٍ.
وَتَعَلُّقِ فِعْلِ التَّجَادُلِ بِالْكَوْنِ فِي زَوْجِهَا عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ فِي مثل هَذَا بِكَثْرَة: أَيْ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا وَقَضِيَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤]، وَقَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٧] وَهُوَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ فِي «أُصُولِ الْفِقْهِ» بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ فِي نَحْوِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣].
وَالتَّحَاوُرُ تَفَاعُلُ مِنْ حَارَ إِذَا أَجَابَ. فَالتَّحَاوُرُ حُصُولُ الْجَوَابِ مِنْ جَانِبَيْنِ، فَاقْتَضَتْ مُرَاجَعَةً بَيْنَ شَخْصَيْنِ.
وَالسَّمَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُنَاسِبِ لِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ لَا صَارِفَ يَصْرِفُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَكَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمًا بِمَا جَرَى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعْلُومٌ لَا يُرَادُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ إِفَادَةُ الْحُكْمِ، فَتَعَيَّنَ صَرْفُ الْخَبَرِ إِلَى إِرَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ التَّحَاوُرِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ وَبِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ترقّب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُنْزِلُهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيٍ، وَتَرَقُّبُ الْمَرْأَةِ الرَّحْمَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِتَحَاوُرِهِمَا.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُجادِلُكَ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارع لاستحضار حَالَة مُقَارَنَةِ عِلْمِ اللَّهِ لِتَحَاوُرِهِمَا زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ ذَلِكَ التَّحَاوُرِ.
وَجُمْلَةُ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أَيْ: أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ صَوْتٍ وَبِكُلِّ مَرْئِيٍّ. وَمِنْ ذَلِكَ مُحَاوَرَةُ الْمُجَادِلَةِ وَوُقُوعُهَا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ إِضْمَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ وَإِثَارَةِ تَعْظِيمِ مِنَّتِهِ تَعَالَى ودواعي شكره.
[٢]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٢]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى افْتِتَاحًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا حَوَتْهُ يَحُومُ حَوْلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقْصِ الَّذِي افْتَرَاهُ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَهُ وَالتَّعْطِيلِ لِبَعْضِ مُرَادِهِ. فَفِي هَذَا الْاِفْتِتَاحِ بَرَاعَةُ الْاِسْتِهْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَفِعْلُ تَبارَكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي وَفْرَةِ الْخَيْرِ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ وَفْرَةٍ مِنَ الْكَمَالِ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ نَوْعٌ مِنْهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ تَعَالَى.
وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ إِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى وَاحِدٍ تَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ فِعْلِ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ نَحْوُ تَطَاوَلَ وَتَغَابَنَ، وَتَرِدُ كِنَايَةً عَنْ قُوَّةِ الْفِعْلِ وَشِدَّتِهِ مِثْلُ: تَوَاصَلَ الْحَبْلُ.
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ زِيَادَةُ الْخَيْرِ وَوَفْرَتُهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْبَرَكَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي [سُورَةِ هُودٍ: ٤٨].
وَتَقَدَّمَ تَبارَكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي أَوَّلِ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
وَهَذَا الْكَلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ أَثْنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كَيْفَ يُثْنُونَ عَلَى اللَّهِ وَيَحْمَدُونَهُ كَمَا فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢] : إِمَّا عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ بِالْجُمْلَةِ عَنْ إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ، وَإِمَّا بِاسْتِعْمَالِ الصِّيغَةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي مَعْنَيَيْهَا، وَلَوْ صِيغَ بِغَيْرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ لما احْتمل هاذين الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١].
وَجُعِلَ الْمسند إِلَيْهِ اسْم مَوْصُول لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَعْنَى الصِّلَةِ، مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْمَوْصُولِ فَصَارَتِ الصِّلَةُ مُغْنِيَةً عَنِ الْاِسْمِ الْعَلَمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْاِخْتِصَاصِ بِهِ إِذْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْاِخْتِصَاصَ بِالْمُلْكِ الْكَامِلِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ.
قَالَ؟ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّسَاؤُلِ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمِثْلِ تِلْكَ الْمُسَاءَلَةِ وَقَصْدُهُمْ مِنْهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بَلْ تَهَكُّمِيٌّ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَا فِي قَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ لَيْسَ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء:
٢٢١].
وَالْمُوَجَّهُ إِلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَضَمِيرُ يَتَساءَلُونَ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ مُرَادًا بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ مُتَكَرِّرٌ فِي الْقُرْآنِ فَصَارُوا مَعْرُوفِينَ بِالْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ ضَمَائِرِهِ، وَإِشَارَاتِهِ الْمُبْهَمَةِ، كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] (يَعْنِي الشَّمْسَ) كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَة: ٢٦] (يَعْنِي الرُّوحَ)، فَإِنْ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ طَلَبِ الْفَهْمِ حَسُنَ تَعْقِيبُهُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فَجَوَابه مستعملة بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ فَبُيِّنَ جَانِبُ التَّفْخِيمِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٢٢١، ٢٢٢]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
لِمَنِ الدَّارُ أَقْفَرَتْ بِمَعَانِ بَيْنَ أَعْلَى الْيَرْمُوكِ وَالصَّمَّانِ
ذَاكَ مَغْنَى لِآلِ جَفْنَة فِي الده ر وَحَقٌّ تَقَلُّبُ الْأَزْمَانِ
وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، قِيلَ: مُطْلَقًا فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ إِطْلَاق «الْقَامُوس» و «الصِّحَاح» و «اللِّسَان».
وَقَالَ الرَّاغِبُ: «النَّبَأُ الْخَبَرُ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ وَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَيَكُونَ صَادِقًا» اهـ. وَهَذَا فَرْقٌ حَسَنٌ وَلَا أَحْسَبُ الْبُلَغَاءَ جَرَوْا إِلَّا عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ الرَّاغِبُ فَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ: نَبَأٌ وَذَلِكَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النَّبَأِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِينَ أَطْلَقُوا مُرَادَفَةَ النَّبَأِ لِلْخَبَرِ رَاعَوْا مَا يَقَعُ فِي بَعْضِ كَلَامِ النَّاسِ مِنْ


الصفحة التالية
Icon