آيَاتِهِ وَسُوَرِهِ فَرُبَّمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ جَمِيعًا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةُ
الْمُرْسَلَاتِ مِنَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ، وَرُبَّمَا نَزَلَتْ نُزُولًا مُتَتَابِعًا كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةُ، وَرُبَّمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ وَنزلت السورتان مفرقتان فِي أَوْقَاتٍ مُتَدَاخِلَةٍ،
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ- أَيْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ- فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ الْوَحْي فَيَقُول ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ كَذَا»
. وَلِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ السُّورَةُ بَعْضُهَا مَكِّيًّا وَبَعْضُهَا مَدَنِيًّا. وَكَذَلِكَ تَنْهِيَةُ كُلِّ سُورَةٍ كَانَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ نِهَايَاتُ السُّوَرِ مَعْلُومَةً، كَمَا
يُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ «مَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ»
وَقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «فَقَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ». وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ مُسَوَّرٌ سُوَرًا مُعَيَّنَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ اخْتِلَافِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي سُوَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفِ، وَمَرْيَمَ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءِ «هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي».
وَقَدْ جَمَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو أَيُّوبَ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَحَفِظَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ.
وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: «اصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ»
فَلَعَلَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَدْ عَكَفُوا عَلَى حِفْظِ مَا نَزَلَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ السُّوَرِ النَّازِلَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ كَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ هَاءً أَنَّ رَجُلًا نَادَى: يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ فِي الْوَقْفِ وَهِيَ لُغَةٌ، فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ: «مَا أَحْفَظُ مِنْهَا وَلَا آيَتْ» مُحَاكَاةً لِلُغَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أَيْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ مَحَبَّةِ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ أَنْدَادَهُمْ، عَلَى مَا بَلَغُوا مِنَ التَّصَلُّبِ فِيهَا، وَمِنْ مَحَبَّةِ بَعْضِهِمْ لِلَّهِ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِاللَّهِ مَعَ الْأَنْدَادِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ الْمُحِبِّينَ وَإِنْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا مِنَ التَّصَلُّبِ فِي مَحْبُوبِيهِمْ لَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةً مُجَرَّدَةً عَنِ الْحُجَّةِ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ أَصْحَابِ الِاعْتِقَادِ الصَّمِيمِ الْمَعْضُودِ بِالْبُرْهَانِ، وَلِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِهِمْ لِأَغْرَاضٍ عَاجِلَةٍ كَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الْمُلِمَّاتِ بِخِلَافِ حُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فَإِنَّهُ حُبٌّ لِذَاتِهِ وَكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْحُبِّ ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ أَغْرَاضٌ أَعْظَمُهَا الْأَغْرَاضُ الْآجِلَةُ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ.
وَالْمَقْصُودُ تَنْقِيصُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى فِي إِيمَانِهِمْ بِآلِهَتِهِمْ فَكَثِيرًا مَا كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا مَا أَمَّلُوهُ. فَمَوْرِدُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَحَبَّتَيْنِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا التَّشْبِيهُ مُخَالِفٌ لِمَوْرِدِ التَّفْضِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا، لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ نَاظِرَةٌ إِلَى فَرْطِ الْمَحَبَّةِ وَقْتَ خُطُورِهَا، وَالتَّفْضِيلُ نَاظِرٌ إِلَى رُسُوخِ الْمحبَّة وَعدم تزلزلها، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَمُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ مَعَ زِيَادَةِ تَحْرِيرِهِ، وَهَذَا يُغْنِيكَ عَنِ احْتِمَالَاتٍ وَتَمَحُّلَاتٍ عَرَضَتْ هُنَا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَبَعْضِ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ».
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ لَمَّا أَرَادَ قِتَالَ بَنِي أَسَدٍ حِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ حُجْرًا مَلِكَهُمْ مَرَّ عَلَى ذِي الْخُلَصَةِ الصَّنَمِ الَّذِي كَانَ بِتَبَالَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ فَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الصَّنَمِ فَخَرَجَ لَهُ الْقَدَحُ النَّاهِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (١) فَكَسَرَ تِلْكَ الْقِدَاحَ وَرَمَى بِهَا وَجْهَ الصَّنَمِ وَشَتَمَهُ وَأَنْشَدَ:

لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخُلَصِ الْمُوتُورَا مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا
لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا
ثُمَّ قَصَدَ بَنِي أَسَدٍ فَظَفِرَ بِهِمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَلْكَانَ جَاءَ إِلَى سَعْدٍ الصَّنَمِ بِسَاحِلِ جُدَّةَ وَكَانَ مَعَهُ إِبِلٌ
فَنَفَرَتْ إِبِلُهُ لَمَّا رَأَتِ الصَّنَمَ (٢) فَغَضِبَ الْمَلْكَانِيُّ عَلَى الصَّنَمِ وَرَمَاهُ بِحَجَرٍ وَقَالَ:
أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَمَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعِدٌ إِلَّا صَخْرَةٌ بِتَنَوْفَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو لِغَيٍّ وَلَا رُشْدِ
_________
(١) ذُو الخلصة بِضَم الْخَاء وَفتح اللَّام صنم كَانَ لخثعم وزبيد ودوس وهوازن، وَهُوَ صَخْرَة قد نقشت فِيهَا صُورَة الخلصة والخلصة زهرَة مَعْرُوفَة، وَكَانَ عِنْد ذِي الخلصة أزلام ثَلَاثَة يستقسمون بهَا وَهِي الناهي والآمر والمرتضى. وَذُو الخلصة هَدمه جرير بن عبد الله البَجلِيّ بِإِذن من صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(٢) كَانَ هَذَا الصَّنَم حجرا طَويلا ضخما.
صُبْرَةٍ مَجْمُوعَةٍ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْكُلِّ الْجَمِيعِيِّ، وَأَمَّا الْكُلُّ الْمَجْمُوعِيُّ فَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ إِلَّا مَجَازًا. فَإِذَا أُضِيفَتْ (كُلُّ) إِلَى اسْمٍ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ وَفِي النَّفْيِ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ عَلَى (كُلُّ) كَانَ الْمَعْنَى عُمُومَ النَّفْيِ لِسَائِرِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّ النَّفْيَ كَيْفِيَّةٌ تَعَرِضُ لِلْجُمْلَةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَكَيَّفُ بِالسَّلْبِ عِوَضًا عَنْ تَكَيُّفِهِ بِالْإِيجَابِ، فَإِذَا قُلْتَ كُلُّ الدِّيَارِ مَا دَخَلْتُهُ، أَوْ لَمْ أَدْخُلْ كُلَّ دَارٍ، أَوْ كُلَّ دَارٍ لَمْ أَدْخُلْ، أَفَادَ ذَلِكَ نَفْيَ دُخُولِكَ أَيَّةَ دَارٍ مِنَ الدِّيَارِ، كَمَا أَنَّ مُفَادَهُ فِي حَالَةِ
الْإِثْبَاتِ ثُبُوتُ دُخُولِكَ كُلَّ دَارٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ لِلَفْظِ كُلُّ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ النَّصْبَ لَا يُفْسِدْ مَعْنًى وَلَا يُخِلُّ بِمِيزَانٍ. وَلَا تَخْرُجُ (كُلُّ) عَنْ إِفَادَةِ الْعُمُومِ إِلَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي خَبَرٍ يُرِيدُ بِهِ إِبْطَالَ خَبَرٍ وَقَعَتْ فِيهِ (كُلُّ) صَرِيحًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: كُلُّ الْفُقَهَاءِ يُحَرِّمُ أَكْلَ لُحُومِ السِّبَاعِ، فَتَقُولُ لَهُ: مَا كُلُّ الْعُلَمَاءِ يُحَرِّمُ لُحُومَ السِّبَاعِ، فَأَنْتَ تُرِيدُ إِبْطَالَ الْكُلِّيَّةِ فَيَبْقَى الْبَعْضُ، وَكَذَلِكَ فِي رَدِّ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُخْطِئَةِ كَقَوْلِ الْمَثَلِ: «مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً»، فَإِنَّهُ لِرَدِّ اعْتِقَادِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ:
وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً
وَقَدْ نَظَرَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر الْجُرْجَانِيُّ إِلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْأَخِيرِ فَطَرَدَهُ فِي اسْتِعْمَالِ (كُلُّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ بَعْدَ أَدَاةِ النَّفْيِ وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَجَزَ أَبِي النَّجْمِ يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِ رَفْعِ (كُلُّ) وَنَصْبِهِ فِي قَوْلِهِ «كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ». وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ تَعَقُّبًا مُجْمَلًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ أَغْلَبِيٌّ، وَأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّفَ فِي مَوَاضِعَ. وَقَفَّيْتُ أَنَا عَلَى أَثَرِ التَّفْتَازَانِيِّ فَبَيَّنْتُ فِي تَعْلِيقِي «الْإِيجَازُ عَلَى دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ» أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْعَكْسُ وَحَاصِلُهُ مَا ذكرت هُنَا.
(١٣٥)
إِنْ كَانَ عَطْفَ فَرِيقٍ آخَرَ، فَهُمْ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ، بَلْ هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَإِنْ كَانَ عَطْفَ صِفَاتِ، فَهُوَ تَفْضِيلٌ آخَرُ لِحَالِ الْمُتَّقِينَ بِأَنْ ذَكَرَ أَوَّلًا حَالَ كَمَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ تَدَارُكِهِمْ نَقَائِصَهُمْ.
وَالْفَاحِشَةُ الْفَعْلَةُ الْمُتَجَاوِزَةُ الْحَدِّ فِي الْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النَّجْم: ٣٢] وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ فَحَشَ بِمَعْنَى قَالَ قَوْلًا ذَمِيمًا، كَمَا
فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا»
، أَوْ فَعَلَ فِعْلًا ذَمِيمًا،
وَمِنْهُ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨].
وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعْرِيفَ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ فَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، وَظُلْمُ النَّفْسِ هُوَ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ، وَعَطْفُهَا هُنَا عَلَى الْفَوَاحِشِ كَعَطْفِ الْفَوَاحِشِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النَّجْم: ٣٢]. فَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الْمَعْصِيَةُ الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الْكَبِيرَةُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ هِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى الْغَيْرِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الْكَبِيرَةُ الْقَاصِرَةُ عَلَى النَّفْسِ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى مَعْنَى الْمِثَالِ.
وَالذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ ذِكْرُ الْقَلْبِ وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَنْهُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَأَمَّا ذِكْرُ اللِّسَانِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ هُنَا ذِكْرُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ.
وَالِاسْتِغْفَار: طلب الغفر أَيِ السِّتْرُ لِلذُّنُوبِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، وَلِذَلِكَ صَارَ يُعَدَّى إِلَى الذَّنْبِ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: ٥٥]. وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الصَّفْحِ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ نَدَامَةٍ، وَنِيَّةِ إِقْلَاعٍ عَنِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، كَانَ الِاسْتِغْفَارُ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ، إِذْ كَيْفَ يَطْلُبُ الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ مَنْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ، أَوْ عَازِمٌ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ، وَلَوْ طَلَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَكَانَ أَكْثَرَ إِسَاءَةً مِنَ
عِمْرَانَ [٧٥]. وَأَصْلُ أَدَّى أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَ أَدَى- بِالتَّخْفِيفِ- بِمَعْنَى أَوْصَلَ، لَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا أَدَى الْمُخَفَّفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالْمُضَاعَفِ.
وَيُطْلَقُ الْأَدَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاعْتِرَافِ وَالْوَفَاءِ بِشَيْءٍ. وَعَلَى هَذَا فَيُطْلَقُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ عَلَى حَقِّهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ قِيَاسَ الْأَدْوَنِ.
وَالْأَمَانَةُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ صَاحِبُهُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٣].
وَتُطْلَقُ الْأَمَانَةُ مَجَازًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِبْلَاغُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ وَمُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْعُهُودِ وَالْجِوَارِ وَالنَّصِيحَةِ وَنَحْوِهَا، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ.
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَالْأَمَانَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى شَيْءٍ
وَكَانَ لِلْأَمِينِ حَقٌّ عِنْدَ الْمُؤْتَمَنِ جَحَدَهُ إِيَّاهُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَمَانَةِ عِوَضَ حَقِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَانَةٌ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ بِمِقْدَارِ مَا عَلَيْهِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمَكْحُولٍ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ وُلَاةُ الْأُمُورِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
وَأَهْلُ الْأَمَانَةِ هُمْ مُسْتَحِقُّوهَا، يُقَالُ: أَهْلُ الدَّارِ، أَيْ أَصْحَابُهَا. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِذْ سَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ابْن أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتِ السِّدَانَةُ فِيهِمْ، فَسَأَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ سِدَانَةَ الْكَعْبَةِ يَضُمُّهَا مَعَ السِّقَايَةِ وَكَانَتِ السِّقَايَةُ بِيَدِهِ، وَهِيَ فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَابْنَ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَدَفَعَ لَهُمَا مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَمَا كُنْتُ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْتَزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ»
، وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَأْنِيثُ النَّطِيحَةِ مِثْلُ تَأْنِيثِ الْمُنْخَنِقَةِ، وَظَهَرَتْ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَهِيَ مِنْ بَابِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى مَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ: أَيُّ بَهِيمَةٍ أَكَلَهَا السَّبُعُ، وَالسَّبُعُ كُلُّ حَيَوَانٍ يَفْتَرِسُ الْحَيَوَانَ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالضَّبْعِ وَالذِّئْبِ وَالثَّعْلَبِ، فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ كُلُّ مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ أَكِيلَةَ السَّبُعِ تَمُوتُ بِغَيْرِ سَفْحِ الدَّمِ غَالِبًا بَلْ بِالضَّرْبِ عَلَى الْمَقَاتِلِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاقِعَ بَعْدَ أَشْيَاءَ يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ بَعْضُهَا، يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَخِيرَةِ إِلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، وَالْمَذْكُورَاتُ قَبْلَ بَعْضِهَا مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا وَبَعْضُهَا مُحَرَّمَاتٌ لِصِفَاتِهَا. وَحَيْثُ كَانَ الْمُسْتَثْنَى حَالًا لَا ذَاتًا، لِأَنَّ الذَّكَاةَ حَالَةٌ، تَعَيَّنَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا عَدَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، إِذْ لَا مَعْنًى لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِ إِذَا لَمْ يُذَكَّ وَتَحْلِيلُهُ إِذَا ذُكِّيَ، لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ عِنْدَ قَصْدِ أَكْلِهِ. ثُمَّ إِنَّ الذَّكَاةَ حَالَةٌ تُقْصَدُ لِقَتْلِ الْحَيَوَانِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ، فَعُلِمَ عَدَمُ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَكَذَلِكَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الذَّكَاةُ بِمَا فِيهِ حَيَاةٌ فَلَا مَعْنًى لِتَعَلُّقِهَا بِالدَّمِ، وَكَذَا مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يُهِلُّونَ بِهِ عِنْدَ الذَّكَاةِ، فَلَا مَعْنًى لِتَعَلُّقِ الذَّكَاةِ بِتَحْلِيلِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاسْتِثْنَاءِ: الْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْوَالٌ تُفْضِي بِهَا إِلَى الْهَلَاكِ، فَإِذَا هَلَكَتْ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ مَيْتَةٌ، وَإِذَا تَدَارَكُوهَا بِالذَّكَاةِ قَبْلَ الْفَوَاتِ أُبِيحَ أَكْلُهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا إِذَا أُلْحِقَتِ الذَّكَاةُ بِهَا فِي حَالَةٍ هِيَ فِيهَا حَيَّةٌ. وَهَذَا الْبَيَانُ يُنَبِّهُ إِلَى وَجْهِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً
بُدَيْلِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَوْلَاهُ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمُطَّلِبِ ابْن أَبِي وَدَاعَةَ أَنَّ لَهُ وَلَاءً مِنْ بُدَيْلٍ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَحْلِفَ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْيَمِينِ. فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ
الْحَقِّ وَاحِدًا حَلَفَ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْحَقِّ جَمَاعَةً حَلَفُوا جَمِيعًا وَاسْتَحَقُّوا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَاحِدًا يَحْلِفُ مَعَهُ مَنْ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَلَا إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَيَسْتَحِقُّونَ كُلُّهُمْ. فَالِاقْتِصَارُ عَلَى اثْنَيْنِ فِي أَيْمَانِ الْأَوْلَيَيْنِ نَاظِرٌ إِلَى قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا خَاصَّةً بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ.
وَيَجْرِي مَا يُخَالِفُ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرِيعَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالتُّهَمِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ حكم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصِيَّةِ بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ.
وَذَلِكَ ظَاهِرُ بَعْضِ رِوَايَاتِ الْخَبَرِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ تَشْرِيعًا لِأَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْأَوْلَيَيْنِ اثْنَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ.
وَبَقِيَتْ صُورَةٌ لَمْ تَشْمَلْهَا الْآيَةُ مِثْلُ أَنْ لَا يَجِدَ الْمُحْتَضِرُ إِلَّا وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَجِدَ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُسْلِمٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْكَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْ يَمِينِ مَنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ أَوْ يَمِينِ الْمُنْكِرِ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «ذَلِكَ أَدْنَى» إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْحُكْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وأَدْنى بِمَعْنَى أَقْرَبُ، وَالْقُرْبُ هُنَا مَجَازٌ فِي قُرْبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الظَّنُّ، أَيْ أَقْوَى إِلَى الظَّنِّ بِالصِّدْقِ.
وَضَمِيرُ يَأْتُوا عَائِدٌ إِلَى «الشُّهَدَاءِ» وَهُمْ: الْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَالْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، أَيْ أَنْ يَأْتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَجَمَعَ الضَّمِيرَ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ التَّوْثِيقِ وَالضَّبْطِ، وَمِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعُثُورِ عَلَى
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي التَّهْدِيدِ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَعْلَمُ وُقُوعَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَتَصْمِيمُهُ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِهِ وَمُخَالِفٌ لِعَمَلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُوقِنٌ بِحُسْنِ عُقْبَاهُ وَسُوءِ عُقْبَاهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمِلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى الضُّرَّ لِنَفْسِهِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا هُوَ فَعَالِمٌ مِنَ الْآنِ، فَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ وُثُوقِهِ بِأَنَّهُ مُحِقٌّ، وَأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ.
وَقَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ يُعَلِّقُ فِعْلَ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، فَلَا يُعْطَى مَفْعُولَيْنِ اسْتِغْنَاءً بِمُفَادِ الِاسْتِفْهَامِ إِذِ التَّقْدِيرُ: تَعْلَمُونَ أَحَدَنَا تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ.
وَمَوْضِعُ: مَنْ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ: تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ خَبَرُهُ.
وَالْعَاقِبَةُ، فِي اللُّغَةِ: آخِرُ الْأَمْرِ، وَأَثَرُ عَمَلِ الْعَامِلِ، فَعَاقِبَةُ كُلِّ شَيْءٍ هِيَ مَا ينجلي عَنهُ الشَّيْءِ وَيَظْهَرُ فِي آخِرِهِ مِنْ أَثَرٍ وَنَتِيجَةٍ، وَتَأْنِيثُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَالَةِ فَلَا يُقَالُ: عَاقِبُ
الْأَمْرِ، وَلَكِنْ عَاقِبَةُ وَعُقْبَى.
وَقَدْ خَصَّصَ الِاسْتِعْمَالُ لَفْظَ الْعَاقِبَةِ بِآخِرَةِ الْأَمْرِ الْحَسَنَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَاقِبَةُ وَالْعُقْبَى يَخْتَصَّانِ بِالثَّوَابِ نَحْوُ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: ١٢٨]، وَبِالْإِضَافَةِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُوبَةِ نَحْوُ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى [الرّوم: ١٠] وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ مِنْ تَدْقِيقِهِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَالدَّارُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٧]، وَتَعْرِيفُ الدَّارِ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الدَّارِ مُطْلَقًا، عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَإِضَافَةُ عاقِبَةُ إِلَى الدَّارِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَيْ حُسْنُ الْأُخَارَةِ الْحَاصِلُ فِي الدَّارِ، وَهِيَ الْفَوْزُ بِالدَّارِ، وَالْفَلَجُ فِي النِّزَاعِ عَلَيْهَا، تَشْبِيهًا بِمَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَنَازَعُونَ عَلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَرَاعِي، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ
وَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَاعْتِبَارُهُمَا سَوَاءً فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ حَاصِلٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَبَرَيْنِ، فَوِلَايَةُ الشَّيَاطِينِ ضَلَالَةٌ، وَحُسْبَانُهُمْ ضَلَالَهُمْ هُدًى ضَلَالَةٌ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ خَطَأٍ أَوْ عَنْ عِنَادٍ، إِذْ لَا عُذْرَ لِلضَّالِّ فِي ضَلَالِهِ بِالْخَطَأِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الحقّ وَالْبَاطِل.
[٣١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٣١]
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
إِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ، وَتَعْرِيفُ الْمُنَادَى بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ بِوَصْفِ كَوْنِهِمْ بَنِي آدَمَ مُتَابَعَةٌ لِلْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً [الْأَعْرَاف: ٢٦].
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ، مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [الْأَعْرَاف:
٣٢] مَنْزِلَةَ النَّتِيجَةِ مِنَ الْجَدَلِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْجَدَلِ فَصَارَتْ غَرَضًا بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى وَجُعِلَ الْجَدَلُ حُجَّةً عَلَى الدَّعْوَى، وَذَلِكَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْإِنْشَاءِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَنَتَائِجِهَا.
فَالْمَقْصِدُ مِنْ قَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ لُزُومِ التَّعَرِّي فِي الْحَجِّ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ، وَعِنْدَ مَسَاجِدَ مُعَيَّنَةٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ وَتَقُولُ مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ:
إِحَاطَةِ الْإِدْرَاكِ بِذَاتِ اللَّهِ وَاسْتِحَالَةِ التَّحَيُّزِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَاطِعُونَ بِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ لَا تُنَافِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا تَبَجَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فَذَلِكَ مِنْ عُدْوَانِ تَعَصُّبِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ عَلَى عَادَتِهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِعُلَمَاءِ طَرِيقَتِنَا التَّنَازُلُ لِمُهَاجَاتِهِ بِمِثْلِ مَا هَاجَاهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فَأَوْجَبَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ مُوسَى رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ سِيَاقُ الْآيَةِ وَلَيْسَ هُوَ السُّؤَالَ الَّذِي سَأَلَهُ بنوا إِسْرَائِيلَ الْمَحْكِيَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٥] بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وَمَا تَمَحَّلَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ السُّؤَالُ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ لَهُ.
وَمَفْعُولُ أَرِنِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكَ.
وَفُصِلَ قَوْلُهُ: قالَ لَنْ تَرانِي لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ.
ولَنْ يسْتَعْمل لتأبيد النَّفْيِ وَلِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْأَبَدِ، فَنَفَتْ (لَنْ) رُؤْيَةَ مُوسَى رَبَّهُ نَفْيًا لَا طَمَعَ بَعْدَهُ لِلسَّائِلِ فِي الْإِلْحَاحِ وَالْمُرَاجَعَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ طِلْبَتَهُ مُتَعَذَّرَةُ الْحُصُولِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا النَّفْيِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لكِنِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِ الِاقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ بِدُونِ تَعْلِيلٍ وَلَا إِقْنَاعٍ، أَوْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لِغَضَبٍ عَلَى السَّائِلِ وَمَنْقَصَةٍ فِيهِ، فَلِذَلِكَ يَعْلَمُ مِنْ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ بَعْضَ مَا يَتَوَهَّمُهُ سَيُرْفَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ هَلْ يَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ، وَهَذَا يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْجَبَلَ سَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِ الْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ، وَأَنَّ قُوَّةَ الْجَبَلِ لَا تَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ الْعَظِيمِ، فَيَعْلَمُ مُوسَى أَنَّهُ أَحْرَى
بِتَضَاؤُلِ قُوَاهُ الْفَانِيَةِ لَوْ تَجَلَّى لَهُ شَيْءٌ مِنْ سُبُحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعُلِّقَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَقَامِ نُدْرَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ أَوِ التَّعْرِيضِ بِتَعَذُّرِهِ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ فِي مَكَانِهِ مَعْلُومًا لِلَّهِ انْتِفَاؤُهُ، صَحَّ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ الْمُرَادِ تَعَذُّرُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلِيلِ الِانْتِفَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، خِلَافًا لِمَا اعْتَادَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ.
حَيْثُ عَبَّرَتْ عَنْ نَوْشِ بَنِي أَبِيهِ بِتَمْزِيقِ أَرْحَامٍ.
وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْلى هُوَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَنَّ الْوَلَايَةَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا تُعْتَبَرُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَحَلِّ الْولَايَة الشَّرْعِيَّة فأولوا الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِالْوَلَايَةِ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُمْ وَلَايَةٌ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا فِي وَلَايَةِ النَّصْرِ فِي الدَّين إِذا لَمْ يَقُمْ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ تَرْكِ هِجْرَةٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ وَلَايَةَ الْإِيمَانِ، وَأُولُو الْأَرْحَامِ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ وَلَايَةَ النَّسَبِ، وَلِوَلَايَةِ الْإِسْلَامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِوَلَايَةِ الْأَرْحَامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ أَيْضًا، بِحَيْثُ لَا تُزَاحِمُ إِحْدَى الْوَلَايَتَيْنِ الْأُخْرَى، وَالِاعْتِنَاءُ بِهَذَا الْبَيَانِ مُؤذن بِمَا لَو شائج الْأَرْحَامِ مِنَ الِاعْتِبَارِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ، فَلِذَلِكَ عُلِّقَتْ أَوْلَوِيَّةُ الْأَرْحَامِ بِأَنَّهَا كَائِنَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ.
وَكِتَابُ اللَّهِ قَضَاؤُهُ وَشَرْعُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، إِمَّا بَاقٍ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى
الْمَفْعُولِ، أَيْ مَكْتُوبَةٌ كَقَوْلِ الرَّاعِي:
كَانَ كِتَابُهَا مَفْعُولَا (١) وَجَعْلُ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ كَائِنَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَن عدم تَعْبِيره، الأنّهم كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَوْكِيدَ عَهْدٍ كَتَبُوهُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
حَذَرَ الْجَوْرِ والتّطاخي وَهل ين قض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
فَتَقْيِيدُ أَوْلَوِيَّةِ أُولِي الْأَرْحَامِ بِأَنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِطْرِيٌّ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَثْبَتَهُ بِمَا وَضَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ»
الْحَدِيثَ. فَلَمَّا كَانَتْ وَلَايَةُ الْأَرْحَامِ أَمْرًا مُقَرَّرًا فِي الْفِطْرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ وَلَايَةُ الدِّينِ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ وَلَايَةَ الدِّينِ لَا تُبْطِلُ وَلَايَةَ الرَّحِمِ إِلَّا إِذَا تَعَارَضَتَا، لِأَنَّ أَوَاصِرَ الْعَقِيدَةِ وَالرَّأْيِ أَقْوَى مِنْ أَوَاصِرِ الْجَسَدِ، فَلَا يُغَيِّرُهُ مَا وَرَدَ هُنَا مِنْ أَحْكَامِ وَلَايَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْأَصْلِيِّ لِوَلَايَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَانُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى أَهْلِ الْوَلَايَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْوَلَايَةُ، وَيَنْتَفِي التَّفْضِيلُ بِانْتِفَاءِ أَصْلِهَا، فَلَا وَلَايَةَ لِأُولِي الْأَرْحَامِ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ.
_________
(١) أول الْبَيْت.
مِنَ الْمُحْسِنِينَ. فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَلْقَى كُلُّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَالَمُ صَالِحًا لِإِظْهَارِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وُضِعُ نِظَامُهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، قَابِلًا لِوُقُوعِ مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَلِصَرْفِ الْخَيْرَاتِ عَنِ الصَّالِحِينَ وَانْهِيَالِهَا عَلَى الْمُفْسِدِينَ وَالْعَكْسُ لِأَسْبَابٍ وَآثَارٍ هِيَ أَوْفَقُ بِالْحَيَاةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ قَاضِيَةً بِوُجُودِ عَالَمٍ آخَرَ مُتَمَحِّضٌ لِلْكَوْنِ وَالْبَقَاءِ وَمَوْضُوعًا فِيهِ كُلُّ صِنْفٍ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ لَا يَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا قِبَلَ فِيهِ لِتَصَرُّفَاتٍ وَتَسَبُّبَاتٍ تُخَالِفُ الْحَقَّ وَالِاسْتِحْقَاقَ. وَقُدِّمَ جَزَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِشَرَفِهِ وَلِيَاقَتِهِ بِذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ سَلَكُوا فِي عَالَمِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِتَغْلِيبِ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاحِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْقِسْطِ صَالِحَةٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ الْجَزَاءِ وَمَعْنَى الْعِوَضِ.
وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي صِفَةٍ وَالْجَزَاءُ بِمَا يُسَاوِي الْمُجْزَى عَلَيْهِ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ [١٨]. فَتُفِيدُ الْبَاءُ أَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِمَا يُعَادِلُ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ فَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ صَلَاحًا هُنَالِكَ وَهُوَ غَايَةُ النَّعِيمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ
مُكَافَأَةٌ عَلَى قِسْطِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ فِي عَدْلِهِمْ فِيهَا بِأَنْ عَمِلُوا مَا يُسَاوِي الصَّلَاحَ الْمَقْصُودَ مِنْ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ.
وَالْإِجْمَالُ هُنَا بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْبَاءِ مُفِيدٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ جَزَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لِصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ.
وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْجَزَاءَ كُلَّهُ عَدْلٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا زَائِدًا عَلَى الْعَدْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِكْرَامُهُمْ بِأَنَّ جَزَاءَهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِمَا عَمِلُوا، كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٣٢].
وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَرَمِ أَنْ يُوهِمَ الْكَرِيمُ أَنَّ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الْمُكَرَمِ هُوَ حَقُّهُ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُ فِيهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ، فَفِيهِ تَفَضُّلٌ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِأَنَّهُمْ لَوْ جُوِّزُوا عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِمْ لَكَانَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ، وَلِأَجْلِ هَذَا خُولِفَ

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤٩]

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
اسْتِئْنَافٌ أُرِيدَ مِنْهُ الامتنان على النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّسْلِيَةُ.
فَالِامْتِنَانُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها.
وَالْمَوْعِظَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِلَخْ.
وَالتَّسْلِيَةُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقِصَّةُ.
وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ. وَأَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْأَخْبَارُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ النَّاسِ أَوْ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. فَهَذِهِ الْأَنْبَاءُ مُغَيَّبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ مُجْمَلَاتِهَا، وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الزَّمن الغابر نبيء يُقَالُ لَهُ: نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَصَابَ قَوْمَهُ طُوفَانٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ غَيْبٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَدَّعُوا عِلْمَهُ. عَلَى أَنَّ فِيهَا مَا هُوَ غَيْبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مِثْلَ قِصَّةِ ابْنِ نُوحٍ الرَّابِعِ وَعِصْيَانِهِ أَبَاهُ وَإِصَابَتِهِ بِالْغَرَقِ، وَمِثْلَ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ هُبُوطِهِ مِنَ السَّفِينَةِ، وَمِثْلَ سُخْرِيَةِ قَوْمِهِ بِهِ وَهُوَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، وَمَا دَارَ بَيْنَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمِهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ أهل الْكتاب.
وَجُمْلَة مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ- ونُوحِيها- وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَخْبَارٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ بَعْضُهَا خَبَرٌ وَبَعْضُهَا حَالٌ. وَضَمِيرُ أَنْتَ تَصْرِيحٌ بِالضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: تَعْلَمُها لِتَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ.
بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي سيق الْكَلَامَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا وَالتَّفْرِيعِ عَنْهَا، فَهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِنُزُولِهِ بِهِمُ اسْتِخْفَافًا وَاسْتِهْزَاءً كَقَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢]، وَقَوْلِهِمْ:
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: ٩٣].
وَالْبَاءُ فِي بِالسَّيِّئَةِ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧].
وَالسَّيِّئَةُ: الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ. وَهِيَ هُنَا الْمُصِيبَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَنْ تَحُلُّ بِهِ. وَالْحَسَنَةُ ضِدُّهَا، أَيْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عَذَابٌ بِسُوءٍ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: ٣٢] دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا آيَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ حِكَايَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ سُؤَالِهِمُ الظَّانِّينَ أَنَّهُ تَعْجِيزٌ، وَالدَّالِّينَ بِهِ عَلَى التَّهَكُّمِ بِالْعَذَابِ.
وَقَبْلِيَّةُ السَّيِّئَةِ قَبْلِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، أَيْ مُخْتَارِينَ السَّيِّئَةَ دُونَ الْحَسَنَةِ. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٤٦] فَانْظُرْهُ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَهُوَ مَحَلُّ زِيَادَةِ التَّعْجِيبِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْذُرُونَ فِيهِ لَوْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا آثَارَ الْأُمَمَ الْمُعَذَّبَةِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَالْمَثُلَاتُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ-: جَمْعُ مَثُلَةٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ- كَسَمُرَةٍ،- وَبِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ- كَعُرْفَةٍ: وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكُونُ مِثَالًا تُمَثَّلُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. وَهَذَا كَشْفٌ لِغُرُورِهِمْ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا
بن الْمُغِيرَةِ الْبَصْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ وَكَانَ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ) وَالِيمَانُ بْنُ رِئَابٍ (كَذَا) رَأَيَاهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ وَاجِبَةً.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّاءَ مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ سَجَدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حِينَ قِرَاءَتِهِ فِي تَرَاوِيحِ رَمَضَانَ وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهَا. وَسُجُودُ الْإِمَامِ عَجِيبٌ وَسُجُودُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مَعَهُ أَعْجَبُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَجْدَةَ هُنَا، فَالسُّجُودُ فِيهَا يُعَدُّ زِيَادَةً وَهِيَ بِدْعَةٌ لَا مَحَالَةَ.
والْيَقِينُ: الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ النَّصْرُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ.
وَوُصِفَتِ النَّفْسُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ بِمُقْتَضَى كَوْنِ تَحْرِيمِ قَتْلِهَا مَشْهُورًا مِنْ قَبْلِ هَذَا النَّهْيِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ بِآيَاتٍ أُخْرَى نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَ آيَةِ الْأَنْعَامُ حُكْمًا مُفَرِّقًا وَجَمَعَتِ الْأَحْكَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَنْعَامِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الصِّلَةِ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي جَهْلُهُ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِقَتْلِ النَّفْسِ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ، تَنْوِيهًا بِهَذَا الْحُكْمِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ يَهْدِي الْعُقُولَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ لِيُعَمِّرَ بِهِ الْأَرْضَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: ٦١]، فَالْإِقْدَامُ عَلَى إِتْلَافِ نَفْسِ هَدْمٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِنَاءَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ وَشَاعَ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ صَوْنُ النُّفُوسِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِالْإِعْدَامِ، فَبِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، أَيْ عُرِفَتْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ.
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ الْقَتْلُ الْمُصَاحِبُ لِلْحَقِّ، أَيِ الَّذِي يَشْهَدُ الْحَقُّ أَنَّ نَفْسًا مُعَيَّنَةً اسْتَحَقَّتِ الْإِعْدَامَ مِنَ الْمُجْتَمَعِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ يُفَسِّرُهُ فِي وَقْتِ النُّزُولِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقَوَدِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّشْرِيعِ لِلْأُمَّةِ وَإِشْعَارًا بِأَنْ سَيَكُونُ فِي الْأُمَّةِ قَضَاءٌ وَحُكْمٌ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أُبْقِيَ مُجْمَلًا حَتَّى تُفَسِّرَهُ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مِنْ بَعْدُ، مِثْلَ آيَةِ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً إِلَى قَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النِّسَاء:
٩٢- ٩٣].
فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ إِلَّا قَتْلًا
مُلَابِسًا لِلْحَقِّ.
وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَوْ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ حَقُّ الْقَتْلِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: فَإِذَا قَالُوهَا (أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»
. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ بِالنَّهْيِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَانَ تعْيين الْحَقِّ الْمُبِيحِ لِقَتْلِ النَّفْسِ مَوْكُولًا إِلَى مَنْ لَهُمْ تَعْيِينُ الْحُقُوقِ.
فِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ رَجُلَيْنِ وَهُمَا مُقْتَرِنَانِ. فَقَالَ: مَا بَالُهُمَا؟ قَالَا: إِنَّا نَذَرْنَا لَنَقْتَرِنَنَّ حَتَّى نَأْتِيَ الْكَعْبَةَ، فَقَالَ:
أَطْلِقَا أَنْفُسَكُمَا لَيْسَ هَذَا نَذْرًا إِنَّمَا النَّذْرُ مَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ»

. وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّاوِيَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْآثَارِ رَوَاهَا بِلَفْظِ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَقِبَ حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَجْلِسَ: «قَالَ مَالِكٌ: قَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ».
وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً أَنَّهُ جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ كَنَذْرِ صَمْتِ سَاعَةٍ، وَأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلنَّفْسِ الَّتِي كَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّعْذِيبِ بِوُجُوهِ التَّعْذِيبِ إِلَّا لِعَمَلٍ اعْتَبَرَهُ الْإِسْلَامُ مَصْلَحَةً لِلْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ أَوْ لِلْأُمَّةِ أَوْ لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ مِثْلَ الْقِصَاصِ وَالْجَلْدِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: ٢٩].
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَنْفُسَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
لِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ لَا تُنَاطُ شَرَائِعُهَا إِلَّا بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ.
وَالْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ كَمَا قَالَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ». وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» :«وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ نَحْوِهُ أَوْ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ»، فَقَوْلُهُ: «وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ» بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِنَذْرِهِ مُخَالِفًا لِنَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.
(٥٧)
أُعْقِبَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ هُوَ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ إِذْ قَاوَمَهُ بِالْحُجَّةِ وَبِالْقُوَّةِ وَبِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ إِذْ أَقَامَ لِلتَّوْحِيدِ هَيْكَلًا بِمَكَّةَ هُوَ الْكَعْبَةُ وَبِجَبَلِ (نَابُو) مِنْ بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ حَيْثُ كَانَتْ مَدِينَةٌ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ (لَوْزَا) ثُمَّ بَنَى بَيْتَ إِيلَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ مَدِينَةِ (أُورْشَلِيمَ) فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُقِيمَ بِهِ هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدُ، فَكَانَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ شَاهِدًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَ مُمَاثِلًا لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِ دَابِرِهِ. وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ تَوَرُّكٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ كَانُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي نَعَاهَا جَدُّهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ أَشْهَرُ شَرِيعَةٍ بَعْدَ شَرِيعَةِ مُوسَى.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ عَنْهُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ تَنْزِيلُ الْعَرَبِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ لِشَرِيعَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ
أُوتِيَ رُشْدًا وَهَدْيًا.
وَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِيتَاءِ الرُّشْدِ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِمِثْلِ مَا قَرَّرَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْخِيمِ ذَلِكَ الرُّشْدِ الَّذِي أُوتِيَهُ.
وَالرُّشْدُ: الْهُدَى وَالرَّأْيُ الْحَقُّ، وَضِدُّهُ الْغَيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٥٦]. وَإِضَافَةُ الرُّشْدُ إِلَى ضَمِيرِ
وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٠] وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُوَافِقُ لِلْوُجُودِ الْوَاقِعِيِّ وَلِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَنَّ كَرَاهَةَ أَكْثَرِهِمْ لِلْحَقِّ نَاشِئَةٌ عَنْ كَوْنِ الْحَقِّ مُخَالِفًا أَهْوَاءَهُمْ فَسُجِّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ هَوًى وَالْهَوَى شَهْوَةٌ وَمَحَبَّةٌ لِمَا يُلَائِمُ غَرَضَ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَإِنَّمَا يَجْرِي الْهَوَى عَلَى شَهْوَةِ دَوَاعِي النُّفُوسِ أَعْنِي شَهَوَاتِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ، فَشَهْوَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ لَيْسَتْ مِنَ الْهَوَى وَإِنَّمَا الْهَوَى شَهْوَةُ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ كَشَهْوَةِ الظُّلْمِ وَإِهَانَةِ النَّاسِ، أَوْ شَهْوَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ لَكِنْ يُشْتَهَى عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَحَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ فَسَادٍ وَضُرٍّ مِثْلَ شَهْوَةِ الطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ وَشَهْوَةِ الزِّنَا، فَمَرْجِعُ مَعْنَى الْهَوَى إِلَى الْمُشْتَهَى الَّذِي لَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ.
وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ شَائِعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ، أَيْ لَوْ وَافَقَ الْحَقُّ مَا يَشْتَهُونَهُ.
وَمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ الْأَهْوَاءَ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَةُ الْحَقِّ مُوَافِقَةً لِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ. فَإِنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ لَهَا تَقَرُّرٌ فِي الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا يَشْتَهِيهِ النَّاسُ أَمْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لَهُ فَمِنْهَا الْحَقَائِقُ الْوُجُودِيَّةُ وَهِيَ الْأَصْلُ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا، وَكَوْنِهِ لَا يَلِدُ، وَكَوْنِ الْبَعْثِ وَاقِعًا لِلْجَزَاءِ، فَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ عَيْنُ تَقَرُّرِهَا فِي الْخَارِجِ.
وَمِنْهَا الْحَقَائِق المعنوية وَهِي الْمَوْجُودَةُ فِي الِاعْتِبَارِ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي الِاعْتِبَارَاتِ.
وَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ كَوْنُهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْعَالَمِ مِثْلَ كَوْنِ الْوَأْدِ ظُلْمًا، وَكَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا، وَكَوْنِ الْقِمَارِ أَخْذَ مَالٍ بِلَا حَقٍّ لِآخِذِهِ فِي أَخْذِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي أَضْدَادِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفَسَدَ مَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ.
وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفَسَادِ النَّاسِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَقَائِقِ هُوَ أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ شَتَّى فَمِنْهَا
التَّحَدِّي يُعْجِزُهُمْ عَنْ مُعاَرَضَةِ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِهِ بِآيَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: ٢].
وَالْجُمْهُور قرأوا: طسم كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَأَدْغَمُوا النُّونَ مِنْ سِينٍ فِي الْمِيمِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِظْهَارِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ حُرُوفًا مُفَكَّكَةً، قَالُوا وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ حُرُوفًا مُفَكَّكَةً (ط س م).
وَالْقَوْلُ فِي عَدَمِ مَدِّ اسْمِ (طا) مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ مَهْمُوزُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ عَرَضَ لَهُ سُكُونُ السَّكْتِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ كَمَا تحذف للْوَقْف، كَمَا تقدم فِي عَدَمِ مَدِّ (را) فِي (الر) فِي سُورَة يُونُس [١].
[٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢]
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَبْلُ، وَبَيَّنَهُ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا آيَاتُ الْكِتَابِ.
وَمَعْنَى الْإِشَارَةِ إِلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ قَصْدُ التَّحَدِّي بِأَجْزَائِهِ تَفْصِيلًا كَمَا قُصِدَ التَّحَدِّيَ بِجَمِيعِهِ إِجْمَالًا. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَهِيَ بِلُغَتِكُمْ وَحُرُوفِ هِجَائِهَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهَا وَدُونَكُمُوهَا. وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْخِطَابِ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ مُتَأَهِّلٍ لِهَذَا التَّحَدِّي مِنْ بُلَغَائِهِمْ.
والْمُبِينِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ مِنْ أَبَانَ مُرَادِفِ بَانَ، أَيْ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْوَاضِحِ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا كَانَتْ آيَاتُهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا آيَاتٍ مُبِينَةً عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ بِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينِ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِي الْهُدَى وَالْحَقِّ وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ كَالْمُشْتَرَكِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا بَلَغَكُمْ وَتُلِيَ عَلَيْكُمْ هُوَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ، أَيِ الْبَيِّنِ صِدْقُهُ وَدَلَالَتُهُ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مكابر.
وَجُمْلَةُ فَغَفَرَ لَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجُمْلَةِ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الْقَصَص: ١٧] كَانَ اعْتِرَاضُهَا إِعْلَامًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ بِكَرَامَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَغَفَرَ لَهُ عَلَّلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغُفْرَانِ وَرَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، مَعَ تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ مِنْ ظُلْمِ نَفْسِهِ وَمَا حَفَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكرنَاهَا.
[١٧]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ١٧]
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
إِعَادَةُ قالَ أَفَادَ تَأْكِيدًا لَفِعْلِ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [الْقَصَص: ١٦]. أُعِيدَ الْقَوْلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّصَالِ كَلَامِ مُوسَى حَيْثُ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُ بِجُمْلَتَيْ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الْقَصَص: ١٦]. وَنَظْمُ الْكَلَامِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مُسْتَأْنَفًا عَنْ قَوْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: ١٦] لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُوحَى إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ بِمِثْلِ مَا جُرَّ بِهِ الْمَوْصُولُ، وَالْحَذْفُ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: بِالَّذِي أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّة وَمَا صدق الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، هُوَ مَا أُوتِيَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ فَتَمَيَّزَتْ عِنْدَهُ الْحَقَائِقُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَوَائِدِ وَالتَّقَالِيدِ تَأْثِيرٌ عَلَى شُعُورِهِ. فَأَصْبَحَ لَا يَنْظُرُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ظَهِيرًا وَعَوْنًا للمجرمين.
وَأَرَادَ بالمجرمين مَنْ يُتَوَسَّمُ مِنْهُمُ الْإِجْرَامُ، وَأَرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يَسْتَذِلُّونَ النَّاسَ وَيَظْلِمُونَهُمْ لِأَنَّ الْقِبْطِيَّ أَذَلَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ بِغَصْبِهِ عَلَى تَحْمِيلِهِ الْحَطَبَ دُونَ رِضَاهُ.
وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقَهُ مَسَاقَ الِاعْتِبَارِ عَنْ قَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ وُثُوقًا بِأَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً.
وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ كَثِيرًا مَا
وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ مُتَشَابِهَاتِهَا، وَسَبَرُوا أَحْوَالَ الْبَشَرِ، وَتَعَرَّضَتْ أَفْهَامُهُمْ زَمَانًا لِتَصَارِيفِ الشَّرِيعَةِ، وَتَوَسَّمُوا مَرَامِيهَا، وَغَايَاتِهَا وَعَصَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَازِعِ الْحَقِّ عَنْ أَنْ يَمِيلُوا مَعَ الْأَهْوَاءِ.
إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الْإِنْسَانِيَّ قَدْ مُنِيَ عُصُورًا طَوِيلَةً بِأَوْهَامٍ وَعَوَائِدَ وَمَأْلُوفَاتٍ أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّضْلِيلِ، فَاخْتَلَطَتْ عِنْدَهُ بِالْعُلُومِ الْحَقِّ فَتَقَاوَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَارْتَاضُوا عَلَى قَبُولِهَا، فَالْتَصَقَتْ بِعُقُولِهِمِ الْتِصَاقَ الْعَنْكَبُوتِ بِبَيْتِهِ، فَتِلْكَ يُخَافُ مِنْهَا أَنْ تُتْلَقَّى بِالتَّسْلِيمِ عَلَى مُرُورِ الْعُصُورِ فَيَعْسُرُ إِقْلَاعُهُمْ عَنْهَا وَإِدْرَاكُهُمْ مَا فِيهَا مِنْ تَحْرِيفٍ عَنِ الْحَقِّ، فَلَيْسَ لِتَمْيِيزِهَا إِلَّا أَهْلُ الرُّسُوخِ أَصْحَابُ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقَائِقِ كُلَّ سَبِيلٍ، وَاسْتَوْضَحُوا خَطِيرَهَا وَسَلِيمَهَا فَكَانُوا لِلسَّابِلَةِ خَيْرَ دَلِيلٍ. وَكَوْنُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَمُلَازَمَةُ أَحْكَامِهِ لِمُقْتَضَيَاتِ الْفِطْرَةِ صِفَةٌ اخْتَصَّ بِهَا الْإِسْلَامُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ فِي تَفَارِيعِهِ، أَمَّا أُصُولُهُ فَاشْتَرَكَتْ فِيهَا الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ، وَهَذَا مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. فَالْإِسْلَامُ عَامٌّ خَالِدٌ مُنَاسِبٌ لِجَمِيعِ العصور وَصَالح بِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَا يَسْتَتِبُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا بُنِيَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى أُصُولِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِيَكُونَ صَالِحًا لِلنَّاسِ كَافَّةً وَلِلْعُصُورِ عَامَّةً وَقَدِ اقْتَضَى وَصْفُ الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ سَمْحًا يُسْرًا لِأَنَّ السَّمَاحَةَ وَالْيُسْرَ مُبْتَغَى الْفِطْرَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها بَيَانٌ لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي قَوْله فِطْرَتَ اللَّهِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ سَالِمَةٌ عُقُولُهُمْ مِمَّا يُنَافِي الْفِطْرَةَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ التَّلَقِّي وَالتَّعَوُّدِ، وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُولَدُ الْوَلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»
، أَيْ كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ كَامِلَةً جَمْعَاءَ أَيْ بِذَيْلِهَا، أَيْ تُوَلَدُ كَامِلَةً وَيَعْمِدُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى قَطْعِ ذَيْلِهَا وَجَدْعِهِ وَهِيَ الْجَدْعَاءُ، وَ (تُحِسُّونَ) تُدْرِكُونَ بِالْحِسِّ، أَيْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ. فَجَعَلَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مُخَالِفَةً الْفِطْرَةَ، أَي
تَتَضَاءَلُ مِنَ الْقُوَّةِ الْمُدْرَكَةِ حَتَّى يُصْبِحَ مَعْنَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى قَرِيبًا فِي النُّفُوسِ مِنْ حَقَائِقِ الْمُجَرَّدَاتِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ الْحِجَابِ الَّذِي سَنَّهُ النَّاسُ لِمُلُوكِهِمْ فِي الْقِدَمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْخَلَ لِطَاعَتِهِمْ فِي نُفُوسِ الرَّعِيَّةِ.
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَة الَّتِي تقدمتها مِنْ قَوْلِهِ: يَا نسَاء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: ٣٢] تَحَقَّقَ مَعْنَى الْحِجَابِ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرَكَّبِ مِنْ مُلَازَمَتِهِنَّ بُيُوتَهُنَّ وَعَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ ذَوَاتِهِنَّ حَتَّى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ حِجَابٌ خَاصٌّ بِهِنَّ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِنَّ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتَدُونَ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَعًا وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْعَادَاتِ، وَلَمَّا أَنْشَدَ النُّمَيْرِيُّ عِنْدَ الْحَجَّاجِ قَوْلَهُ:
حَتَّى إِذا قرت عجاجة فتْنَة عمياء كَانَ كتابها مَفْعُولا
يُخَمِّرْنَ أَطْرَافَ الْبَنَانِ مِنَ التُّقَى وَيَخْرُجْنَ جُنْحَ اللَّيْلِ مُعْتَجِرَاتٍ
قَالَ الْحَجَّاجُ: وَهَكَذَا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ لِرِجَالِ الْأمة ولنساء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّوَاءِ. وَقَدْ ألحق بِأَزْوَاج النبيء عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنْتُهُ فَاطِمَةُ فَلِذَلِكَ لَمَّا خَرَجُوا بِجِنَازَتِهَا جَعَلُوا عَلَيْهَا قُبَّةً حَتَّى دفنت، وَكَذَلِكَ جعلت قُبَّةٌ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
لَمَّا جِيءَ فِي بَيَانِ النَّهْيِ عَنِ الْمُكْثِ فِي بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يُؤْذِيِهِ أُتْبِعَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيًا عَامًا، فَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُفْتَتَحِ بِخِطَابِهِمْ آيَةُ: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الْآيَةَ.
وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ أَوْ هِيَ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً وَجُمْلَةِ لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الْأَحْزَاب: ٥٥].
وَدَلَّتْ جُمْلَةُ مَا كانَ لَكُمْ عَلَى الْحَظْرِ الْمُؤَكَّدِ لِأَنَّ مَا كانَ لَكُمْ نَفْيٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ، وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِتَأْكِيدِ انْتِفَاءِ الْإِذْنِ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْ صِيَغِ شِدَّةِ التَّحْرِيمِ.
وَحَرْفُ إِلَى يُشِيرُ إِلَى تَضْمِينِ فِعْلِ يَسَّمَّعُونَ مَعْنَى يَنْتَهُونَ فَيَسْمَعُونَ، أَيْ لَا يَتْرُكُهُمُ الرَّمْيُ بِالشُّهُبِ مُنْتَهِينَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى انْتِهَاءَ الطَّالِبِ الْمَكَانَ الْمَطْلُوبَ بَلْ تَدْحَرُهُمْ قَبْلَ وُصُولِهِمْ فَلَا يَتَلَقَّفُونَ مِنْ عِلْمِ مَا يَجْرِي فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى الْأَشْيَاءَ مَخْطُوفَةً غَيْرَ مُتَبَيَّنَةٍ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ فَلَا يَسْمَعُونَ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ سَمِعْتُ الْمَعْدَّى بِنَفْسِهِ يُفِيدُ الْإِدْرَاكَ، وَسَمِعْتُ الْمَعْدَّى بِ إِلَى يُفِيدُ الْإِصْغَاءَ مَعَ الْإِدْرَاكِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسَّمَّعُونَ بِسُكُونِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ لَا يَسَّمَّعُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: لَا يَتَسَمَّعُونَ فَقُلِبَتِ التَّاءُ سِينًا تَوَصُّلًا إِلَى الْإِدْغَامِ، وَالتَّسَمُّعُ: تَطَلُّبُ السَّمْعِ وَتَكَلُّفُهُ، فَالْمُرَادُ التَّسَمُّعُ الْمُبَاشِرُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَكَانَ الَّذِي تَصِلُ إِلَيْهِ أَصْوَاتُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَيْ أَنَّهُمْ يُدْحَرُونَ قَبْلِ وُصُولِهِمُ الْمَكَانَ الْمَطْلُوبَ، وَالْقِرَاءَتَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالِاسْتِعْمَالِ لَا يَصِحُّ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ الشُّهُبَ تَحُولُ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْمَعُوا شَيْئًا مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ رُبَّمَا اخْتَطَفُوا الْخَطْفَةَ فَأَلْقَوْهَا إِلَى الْكُهَّانِ فَلَمَّا بَعَثَ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ زِيَادَةَ حِرَاسَةِ السَّمَاءِ بِإِرْدَافِ الْكَوَاكِبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَتَّى لَا يَرْجِعَ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ سَالِمًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، فَالشُّهُبُ كَانَتْ مَوْجُودَةً مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ لَا تَحُولُ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ تَلَقُّفِ أَخْبَارٍ مُقَطَّعَةٍ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِمَتِ الشَّيَاطِينُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ أَهْلُ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمَلَائِكَةُ. وَوَصْفُ الْمَلَإِ بِ الْأَعْلى لِتَشْرِيفِ الْمَوْصُوفِ.
وَالْقَذْفُ: الرَّجْمُ، وَالْجَانِبُ: الْجِهَةُ، وَالدُّحُورُ: الطَّرْدُ. وَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ يُقْذَفُونَ. وَإِسْنَادُ فَعْلِ يُقْذَفُونَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْقَاذِفَ مَعْلُومٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
الْمُوَكَّلُونَ بِالْحِفْظِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ
وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَهُمْ وَاجْتِنَابُ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فَالْإِرْشَادُ يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي رَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا عَمِلُوا بِهِ فَكَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا السَّبِيلَ فَمَشَوْا فِيهِ فَوَصَلُوا إِلَى الْمَقْصُودِ.
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عَطْفٌ عَلَى فَاغْفِرْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّفْرِيعِ فَإِنَّ الْغُفْرَانَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْوِقَايَةَ لِأَنَّ غُفْرَانَ الذَّنْبِ هُوَ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ. وَعَذَابُ الْجَحِيمِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِجَزَاءِ الْمُذْنِبِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ عَضَّدُوا دَلَالَةَ الِالْتِزَامِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ إِظْهَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَالْجَحِيمُ: شِدَّةُ الالتهاب، وَسميت بِهِ جَهَنَّمُ دَارَ الْجَزَاءِ على الذُّنُوب.
[٨- ٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
إِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي خِلَالِ جُمَلِ الدُّعَاءِ اعْتِرَاضٌ لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ التَّضَرُّعِ، وَهَذَا ارْتِقَاءٌ مِنْ طَلَبِ وِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ إِلَى طَلَبِ إِدْخَالِهِمْ مَكَانَ النَّعِيمِ.
وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، أَيِ الْخُلُودُ. وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِذَلِكَ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُمْ مَوْعُودُونَ بِهِ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٤] قَوْلُهُ:
رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَأَدْخِلْهُمْ عَجِّلْ لَهُمْ بِالدُّخُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِمْ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مَوْعُودِينَ بِهِ صَرِيحًا. ومَنْ صَلَحَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَدْخِلْهُمْ.

[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٢٧]

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى: ٢٦] أَوْ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ جُمْلَةِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الشورى: ٢٦] وَمِنْ جُمْلَةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَمَوْقِعُ مَعْنَاهَا مُوقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إِذَا سَمِعَ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ: أَنَّ مِمَّا يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُونَ سَعَةَ الرِّزْقِ وَالْبَسْطَةَ فِيهِ فَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَيَّامَ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِي حَاجَةٍ وَضِيقِ رِزْقٍ إِذْ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَرْزَاقَهُمْ وَقَاطَعُوا مُعَامَلَتَهُمْ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ بَسَطَ الرِّزْقَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ بَسْطُهُ مُفْسِدًا لَهُمْ لَأَنَّ الَّذِي يَسْتَغْنِي يَتَطَرَّقَهُ نِسْيَانُ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ فَكَانَ مِنْ خَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْآجِلِ لَهُمْ أَنْ لَا يُبْسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَنُوطًا بِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ تَطَّرِدُ فِي النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧]. وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ لَا يَشْغَلَهُ غِنَاهُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ يَفُوزُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَشْغَلُهُ أَمْوَالُهُ عَنْهُ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا تَعَرَّضُوا لَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَدْ جَاءَهُ مَالٌ من الْبَحْرين «فو الله مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْرِدًا كُلِّيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعِبادِهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْعِبَادِ. وَمِنْ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْمَسْئُولِ عَلَيْهِ الْجُزْئِيِّ الْخَاصِّ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ إِفَادَةِ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا النِّظَامِ التَّكْوِينِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَسَّسَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قَوَانِينَ عَامَّةٍ وَلَيْسَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَخُصَّ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ بِنِظَامٍ تَكْوِينِيٍّ دُنْيَوِيٍّ وَلَكِنَّهُ خَصَّهُمْ بِمَعَانِي الْقُرْبِ
أَهْلَكْنَاهُمْ إِهْلَاكًا لَا بَقَاءَ مَعَهُ لِشَيْءٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ بَقَاءَ شَيْءٍ مِنْهُمْ نَصْرٌ لِذَلِكَ الْبَاقِي بِنَجَاتِهِ مِنَ الْإِهْلَاكِ.
وَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: فَلا ناصِرَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَلِذَلِكَ لَا يُقْصَدُ تَضَمُّنَهُ لِزَمَنٍ مَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ بَلْ مُجَرَّدُ الِاتِّصَافِ بِالْمَصْدَرِ
فَتَمَحَّضٌ لِلِاسْمِيَّةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِيهِ إِلَى زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَا فَمَعْنَى فَلا ناصِرَ لَهُمْ: فَلَمْ يَنْصُرْهُمْ أَحَدٌ فِيمَا مَضَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِجْرَاءِ مَا حَصَلَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مَجْرَى زَمَنِ الْحَالِ، وَقَوْلُهُمُ اسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِيمَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَكْسُورَةً وَهِي لُغَة.
[١٤]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: ١٣] لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ تَحْقِيقًا يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ جَاءَ بِأُسْلُوبِ التَّفْرِيعِ.
وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [مُحَمَّد: ١٢] الْآيَةَ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى اعْتِرَاضٍ. وَهَذَا تَفَنُّنٌّ فِي تَلْوِينِ الْكَلَامِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِينَ هُوَ مِنَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي ابْتَكَرَهَا الْقُرْآنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَرْفُ التَّشْبِيهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِنْكَارِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هُوَ تَفْضِيلُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَإِنْكَارُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
مَعْنَوِيَّةٍ، شُبِّهَ بِحَالَةِ نُزُولِ نَجْمٍ مِنْ أَعْلَى الْأُفق إِلَى أسلفه وَهُوَ من تَمْثِيلُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى مُشَابَهَةِ حَالَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ مِنَ السَّمَاوَاتِ بِحَالَةِ نُزُولِ النَّجْمِ مِنْ أَعْلَى مَكَانِهِ إِلَى أَسْفَلِهِ، أَوْ بِانْقِضَاضِ الشِّهَابِ تَشْبِيهُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسِ، وَقَدْ يُشَبِّهُونَ سُرْعَةَ الْجَرْيِ بِانْقِضَاضِ الشِّهَابِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ يَصِفُ فرسا:
فانقضّ كالدريّ يَتْبَعُهُ نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالُهُ طُنُبَا
وَالضَّلَالُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي سُلُوكِ مَا يُنَافِي الْحَقَّ.
وَالْغِوَايَةُ: فَسَادُ الرَّأْيِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْبَاطِلِ.
وَالصَّاحِبُ: الْمُلَازِمُ لِلَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ وَصْفُ صَاحِبٍ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ هُنَا: الَّذِي لَهُ مُلَابَسَاتٌ وَأَحْوَالٌ مَعَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ الْوَارِدِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ الْهِجْرَةِ لَمَّا دَخَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ وَفِيهَا أُمُّ مَعْبَدٍ وَذَكَرَتْ لَهُ مُعْجِزَةَ مَسْحِهِ عَلَى ضَرْعِ شَاتِهَا: «هَذَا صَاحِبُ قُرَيْشٍ»، أَيْ صَاحِبُ الْحَوَادِثِ الْحَادِثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِوَصْفِ صاحِبُكُمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ بُهْتَانٍ إِذْ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ مَعَ شِدَّةِ اطِّلَاعِهِمْ على أَحْوَاله وشؤونه إِذْ هُوَ بَيْنَهُمْ فِي بَلَدٍ لَا تَتَعَذَّرُ فِيهِ إِحَاطَةُ
عِلْمِ أَهْلِهِ بِحَالِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مَقْصُودٍ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَوَقَعَ فِي خُطْبَةِ الْحَجَّاجِ بَعْدَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ قَوْلُهُ لِلْخَوَارِجِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ» يُرِيدُ أَنَّهُ لَا تَخْفَى عَنْهُ أَحْوَالُهُمْ فَلَا يُحَاوِلُونَ التَّنَصُّلَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْمُغَالَطَةِ وَالتَّشْكِيكِ.
وَهَذَا رَدٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْركين وَإِبْطَال لقَولهم فِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَجْنُون، وَقَالُوا: سَاحر، وَقَالُوا: شَاعِرٌ، وَقَالُوا فِي الْقُرْآنِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ.
فَالْجُنُونُ مِنَ الضَّلَالِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَهْتَدِي إِلَى وَسَائِلِ الصَّوَابِ، وَالْكَذِبِ
وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أُرِيدَ بِالْوُجْدَانِ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ، وَكَنَّى بِانْتِفَاءِ وجدان الْحَاجة عَن انْتِفَاءِ وُجُودِهَا لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَأَدْرَكُوهَا فِي نُفُوسِهِمْ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ وَالْحَاجَةُ فِي الْأَصْلِ: اسْمُ مَصْدَرِ الْحَوْجِ وَهُوَ الِاحْتِيَاجُ، أَيْ الِافْتِقَارُ إِلَى شَيْءٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهِيَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمَأْرَبِ وَالْمُرَادِ، وَإِطْلَاقُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَأْرَبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ [غَافِر: ٨٠]، أَيْ لِتَبْلُغُوا فِي السَّفَرِ عَلَيْهَا الْمَأْرَبَ الَّذِي تُسَافِرُونَ لِأَجْلِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها [يُوسُف: ٦٨] أَيْ مَأْرَبًا مُهِمًّا وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَيَّامَ تُخْبِرْنِي نُعْمُ وَأُخْبِرُهَا مَا أَكْتُمُ النَّاسَ مِنْ حَاجِي وَإِسْرَارِي
وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أُوتُوا ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ مَأْرَبًا أَوْ رَغْبَةً نَاشِئَةً مِنْ فَيْءٍ أُعْطِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ. وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا النُّفُوسُ جَمْعُ الصَّدْرِ وَهُوَ الْبَاطِنُ الَّذِي فِيهِ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ الْقَلْبِ على ذَلِك.
و (مَا أُوتُوا) هُوَ فَيْءُ بَنِي النَّضِيرِ.
وَضَمِيرُ صُدُورِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ، وَضَمِيرُ أُوتُوا عَائِدٌ إِلَى مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ هَاجَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَرُوعِيَ فِي ضَمِيرِ مَعْنَى (مِنْ)
بِدُونِ لَفْظِهَا. وَهَذَانَ الضَّمِيرَانِ وَإِنْ كَانَا ضَمِيرَيْ غَيْبَةٍ وَكَانَا مُقْتَرِبَيْنِ فَالسَّامِعُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مُعَادِهِ بِحَسَبِ السِّيَاقِ مِثْلَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها
فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩]. وَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى هَوَازِنَ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا
(أَيْ أَحْرَزَ جَيْشُ هَوَازِنَ مَا جَمَعَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ).
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ تَشَوُّفٌ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ.
وَإِنْكَارُ جَعْلِ الْفَرِيقَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَزَاءَ الْخَيْرِ فِي الْآخِرَةِ وَحِرْمَانِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ، لِأَنَّ نَفْيَ التَّسَاوِي وَارِدٌ فِي مَعْنَى التَّضَادِّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: ١٨]، وَقَالَ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْر: ٢٠]، وَقَالَ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨] وَقَالَ السَّمَوْأَلُ أَوِ الْحَارِثِيُّ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
وَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حَظٌّ فِي جَزَاءِ الْخَيْرِ انْتَفَى مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ.
وَقَوْلُهُ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وهم الْمَقْصُود بالمجرمين، عَبَّرَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِظْهَارِ دُونَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِمَا فِي وَصْفِ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ لِيَكُونَ فِي الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى سَبَبِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الْتِفَاتًا عَنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَم: ٩] وَقَوْلِهِ إِنَّا بَلَوْناهُمْ [الْقَلَم:
١٧].
وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ الضَّمِيرُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ تَبَعًا لِتَغَيُّرِ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْالْتِفَاتِ أَنْ يَتَغَيَّرَ الضَّمِيرُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ.
وَمَا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ لحالة حكمهم، ف مَا لَكُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦].
وكَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ ثَانٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ، أَيِ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَيْءٌ فِي حَالِ حُكْمِكُمْ، أَيْ فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ كَانَ مُنْكَرًا بِاعْتِبَارِ حَالَةِ حُكْمِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْكُمُونَ أَنَّكُمْ مُسَاوُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ مفضلون عَلَيْهِم.
وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا حُظُوظُهَا وَمَنَافِعُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا، أَيِ الَّتِي لَا تُشَارِكُهَا فِيهَا حُظُوظُ الْآخِرَةِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: نَعِيمَ الْحَيَاةِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ فِعْلِ الْإِيثَارِ أَنَّ مَعَهُ نَبْذًا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَيَرْجِعُ إِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى إِرْضَاءِ هَوَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كِلَا الْحَظَّيْنِ بِالتَّوْقِيفِ الْإِلَهِيِّ كَمَا عُرِفَ الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَالْبَطَرُ وَالصَّلَفُ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ.
وَمِلَاكُ هَذَا الْإِيثَارِ هُوَ الطُّغْيَانُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ سَادَتَهُمْ وَمُسَيِّرِيهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ وَلَكِنَّهُمْ يَكْرَهُونَ مُتَابَعَته استكبارا عَن أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلْغَيْرِ فَتَضِيعَ سِيَادَتُهُمْ.
وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمُفَادَ بَيَانًا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ الْآيَةَ. وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ مَنَاطَ الذَّمِّ فِي إِيثَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ إِيثَارُهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الْأَخْذُ بِحُظُوظِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا يُفِيتُ الْأَخْذُ بِهَا حُظُوظَ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَهُوَ مَقَامُ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ صَالِحِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَوْلِهِمْ لِقَارُونَ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: ٧٧].
وَقَوْلُهُ: مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: مَنْ طَغى لِأَنَّ الْخَوْفَ ضِدُّ الطُّغْيَانِ وَقَوْلُهُ: نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَنَهْيُ الْخَائِفِ نَفْسَهُ مُسْتَعَارٌ لِلِانْكِفَافِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْهَوَى، فَجُعِلَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يَدْعُوهُ إِلَى السَّيِّئَاتِ وَهُوَ يَنْهَاهُ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ، يَقُولُونَ: قَالَتْ لَهُ نَفْسُهُ كَذَا فَعَصَاهَا، وَيُقَالُ: نَهَى قَلْبَهُ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ:
وَإِذَا وَجَدْتُ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةً شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا
وَالْمُرَادُ بِ الْهَوى مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، فَهُوَ مَا تَرْغَبُ فِيهِ قُوَى النَّفْسِ الشَّهَوِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ مِمَّا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَالنَّفْعَ
الْكَامِلَ. وَشَاعَ الْهَوَى فِي الْمَرْغُوبِ الذَّمِيمِ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:


الصفحة التالية
Icon