أَدْنَى مِنْهُ مُرَادًا مَعَهُ لَا مُرَادًا دُونَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ دَلَالَةُ التَّرْكِيبِ عَلَيْهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الِاحْتِمَالِ
وَالظُّهُورِ أَمْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً بَعْضَهَا أَظَهَرَ مِنْ بَعْضٍ وَلَوْ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ التَّأْوِيلِ وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ. أَمَّا إِذَا تَسَاوَى الْمَعْنَيَانِ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [النِّسَاء: ١٥٧] أَيْ مَا تَيَقَّنُوا قَتْلَهُ وَلَكِنْ تَوَهَّمُوهُ، أَوْ مَا أَيْقَنَ النَّصَارَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ عِيسَى عِلْمَ ذَلِكَ يَقِينًا بَلْ فَهِمُوهُ خَطَأً، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يُوسُف: ٤٢] فَفِي كُلٍّ مِنْ كَلِمَةِ ذِكْرَ وربه مَعْنَيَانِ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُف: ٢٣] فَفِي لَفْظِ رَبِّ مَعْنَيَانِ. وَقَدْ تَكْثُرُ الْمَعَانِي بِإِنْزَالِ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ اللَّفْظِ وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَة: ١١٤] بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (أَبَاهُ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، فَنَشَأَ احْتِمَالٌ فِيمَن هُوَ الْوَعْد. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ نَازِلًا مِنَ الْمُحِيطِ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كَانَ مَا تَسْمَحُ تَرَاكِيبُهُ الْجَارِيَةُ عَلَى فَصِيحِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بِاحْتِمَالِهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَأْلُوفَةِ لِلْعَرَبِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ التَّرَاكِيبِ، مَظْنُونًا بِأَنَّهُ مُرَادٌ لِمُنَزِّلِهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ صَرِيحٌ أَوْ غَالِبٌ مِنْ دَلَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ لُغَوِيَّةٍ أَوْ تَوْقِيفِيَّةٍ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ كِتَابَ الْأُمَّةِ كُلَّهَا وَفِيهِ هَدْيُهَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى تَدَبُّرِهِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعَانِيهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاء: ٨٣] وَقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: ٤٩] وَغَيْرِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحُجَّةُ الْعَامَّةُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِهِ حُجَّةَ شَرِيعَتِهِمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّةِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ الْخِلَافِ فِي شُرُوطِ تَصْحِيحِ الْخَبَرِ، وَلِتَفَاوُتِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا يَبْلُغُهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ مَعَ تَفَرُّقِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، فَلَا مَرْجِعَ لَهُمْ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنَ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ.
وَيَدُلُّ لِتَأْصِيلِنَا هَذَا مَا وَقَعَ إِلَيْنَا مِنْ تَفْسِيرَاتٍ مروية عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآيَاتٍ، فَنَرَى مِنْهَا مَا نُوقِنُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْأَسْبَقَ مِنَ التَّرْكِيبِ وَلَكِنَّا بِالتَّأَمُّلِ نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَرَادَ بِتَفْسِيرِهِ إِلَّا إِيقَاظَ الْأَذْهَانِ إِلَى أَخْذِ أَقْصَى الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، مِثَالُ ذَلِكَ مَا
رَوَاهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ أُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
شَامِلًا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَجَعَلَ اتِّخَاذَهُمُ الْأَنْدَادَ ظُلْمًا لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى عِدَّةِ حُقُوقٍ فَقَدِ اعْتَدَوْا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ، وَاعْتَدَوْا عَلَى مَنْ جَعَلُوهُمْ أَنْدَادًا لِلَّهِ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ مِثْلِ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى، وَمِثْلِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا رِجَالًا صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا اتَّخَذَ قَوْمُهُمْ لَهُمْ تَمَاثِيلَ ثُمَّ عَبَدُوهَا، وَمِثْلِ (اللَّاتِ) يَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَانَ يَلِتُّ السَّوِيقَ لِلْحَجِيجِ (١) وَأَنَّ أَصْلَهُ اللَّاتُّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، فَبِذَلِكَ ظَلَمُوهُمْ إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِهَوْلٍ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ السُّؤَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَقَالَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: ٤٠] الْآيَةَ- وَقَالَ:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الْفرْقَان: ١٧] الْآيَةَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ بِتَعْرِيضِهَا لِلسُّخْرِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَلِلْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَظَلَمُوا أَعْقَابَهُمْ وَقَوْمَهُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ فَتَمْضِي عَلَيْهِ الْعُصُورُ وَالْأَجْيَالُ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ مَفْعُولَ ظَلَمُوا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ ظَلَمُوا بِمَعْنَى أَشْرَكُوا كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] وَعَلَيْهِ فَالْفِعْلُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ صَارَ كَاللَّقَبِ.
وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مُعْتَرِضَةٌ وَالْغَرَضُ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ صَارَ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِمُ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَهَذَا كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسَيِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ».
وَتَرْكِيبُ لَو تَرَى وَمَا أَشْبَهَهُ نَحْوُ لَوْ رَأَيْتَ مِنَ التَّرَاكِيبِ الَّتِي جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فَبُنِيَتْ عَلَى الِاخْتِصَارِ وَقَدْ تَكَرَّرَ وُقُوعُهَا فِي الْقُرْآنِ.
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ وَتَهْوِيلِ الْأَمْرِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصْوِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ وَنَظِيرُهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَام: ٩٣] وَلَوْ تَرى
إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَام: ٢٧] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْد: ٣١]، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ عِنْدَ قَوْلِ الشَّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ:

وَقَدْ سَاءَنِي مَا جَرَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا بَنِي عَمِّنَا لَوْ كَانَ أَمْرًا مُدَانِيَا
«حَذْفُ الْجَوَابِ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ لَئِنْ قُمْتُ إِلَيْكَ ثُمَّ سَكَتَ تَزَاحَمَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الظُّنُونِ الْمُعْتَرِضَةِ لِلتَّوَعُّدِ مَا لَا يَتَزَاحَمُ
_________
(١) فِي «الرَّوْض»
لِلسُّهَيْلِي أَنه عَمْرو بن لحي.
قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خِطَابًا لِثَقِيفٍ- أَهْلِ الطَّائِفِ- إِذْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ حِصَارِ الطَّائِفِ عَلَى صُلْحٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ- الَّذِي أَوْلَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ- بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ مُعَامَلَاتٌ بِالرِّبَا مَعَ قُرَيْشٍ، فَاشْتَرَطَتْ ثَقِيفٌ قَبْلَ النُّزُولِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ كُلَّ رِبًا لَهُمْ عَلَى النَّاسِ يَأْخُذُونَهُ، وَكُلَّ رِبًا عَلَيْهِمْ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ شَرْطَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابًا لَهُمْ- وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ- فَقَالُوا: لَا يَدَيْ لَنَا (١) بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذْ مَعْنَاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ، وَانْدَفَعَتْ إِشْكَالَاتٌ عَرَضَتْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَعْنِي إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِالشَّرْطِ فَقَدِ انْتَقَضَ الصُّلْحُ بَيْنَنَا، فَاعْلَمُوا أَنَّ الْحَرْبَ عَادَتْ جَذَعَةً، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ». وَتَنْكِيرُ حَرْبٍ لِقَصْدِ تَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ عَدَلَ عَنْ إِضَافَةِ الْحَرْبِ إِلَى اللَّهِ وَجِيءَ عِوَضًا عَنْهَا بِمَنْ وَنُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا بِإِذْنِهِ عَلَى سَبِيلِ مَجَازِ الْإِسْنَادِ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ وَالْمُبَاشِرُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذُكِرَ فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا فَهُوَ مِنْ تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ قَبِلَ مِنْ ثَقِيفٍ النُّزُولَ عَلَى اقْتِضَاءِ مَا لَهُمْ مِنَ الرِّبَا عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الصُّلْحَ مَعَ ثَقِيفٍ عَلَى دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ تَمْكِينِهِمْ مِمَّا لَهُمْ قِبَلَ قُرَيْشٍ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا الثَّابِتَةِ فِي ذِمَمِهِمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ مَصْلَحَةً، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ مَا سَبَقَ التَّشْرِيعَ لَا يُنْقَضُ كَتَقْرِيرِ أَنْكِحَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يُقِرُّهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالِانْكِفَافِ عَنْ قَبْضِ مَالِ الرِّبَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ عَلَى خِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدُوهُ.
_________
(١) أَي لَا قدرَة لنا. فاليدان مجَاز فِي الْقُدْرَة لِأَنَّهُمَا آلتها، وَأَصله: لَا يدين لنا، فعاملوا الْمَجْرُور بِاللَّامِ مُعَاملَة الْمُضَاف إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلهم: لَا أَبَا لَهُ، بِإِثْبَات ألف أَبَا، قَالَه ابْن الْحَاجِب. وَقَالَ غَيره: اللَّام مقحمة بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ.
الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» إِذْ قَالَ: «وَهِيَ عِلْمٌ، وَحَالٌ، وَفِعْلٌ. فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ ضُرِّ الذُّنُوبِ، وَكَوْنِهَا حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ رَبِّهِ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْأَلَمُ يُسَمَّى نَدَمًا، فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على الْقلب انبعثت مِنْهُ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ هُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ (الْإِقْلَاعُ)، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (نَفْيُ الْإِصْرَارِ)، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمَاضِي بِتَلَافِي مَا فَاتَ».
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَكَرُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى انْفِعَالِ الْقَلْبِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِقْلَاعُ وَنَفْيُ الْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ الْمُثِيرِ لِلِانْفِعَالِ النفساني. وَقد رتّبت هَاتِهِ الْأَرْكَانَ فِي الْآيَةِ بِحَسْبِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَقْصُودِ: لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَحْصُلُ بَعْدَ الذَّنْبِ، فَيَبْعَثُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ الِاسْتِغْفَارَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْلَا حُصُولُهُ لَمَا كَانَتِ الْفَعْلَةُ مَعْصِيَةً. فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ بَعْدَ الذِّكْرِ وَنَفْيِ الْإِصْرَارِ، عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيب حُصُول مَضْمُونِهَا بَعْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ مَا جِيءَ بِهِ قَبْلَهَا فِي الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ.
ثُمَّ إِن كَانَ الْإِصْرَارِ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ، كَمَا فُسِّرَ بِهِ كَانَ نَفْيُهُ بِمَعْنَى الْإِقْلَاعِ لِأَجْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ بِحَسْبِ
الظَّاهِرِ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَنْبٍ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِصْرَارِ اعْتِقَادُ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ فَنَفْيُهُ هُوَ التَّوْبَةُ الْخَالِصَةُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْإِقْلَاعِ مَعَهُ إِذِ التَّلَبُّسُ بِالذَّنْبِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِهِ من الْآن.
الرَّدْعُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَةُ اللِّجَامِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ، وَيُقَالُ: أَحْكِمْ فُلَانًا، أَيْ أَمْسِكْهُ.
وَالْعَدْلُ: ضِدُّ الْجَوْرِ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ، يُقَالُ: عَدَلَ كَذَا بِكَذَا، أَيْ سَوَّاهُ بِهِ وَوَازَنَهُ عَدْلًا ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١]، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَدَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، إِطْلَاقًا نَاشِئًا عَمَّا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَنَّ الْجَوْرَ يَصْدُرُ مِنَ الطُّغَاةِ الَّذِينَ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَهُمْ إِنْ شَاءُوا عَدَلُوا وَأَنْصَفُوا، وَإِنْ شَاءُوا جَارُوا وَظَلَمُوا، قَالَ لَبِيدٌ:
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِي الْعَشِيرَةَ حَقَّهَا وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِهَا هَضَّامُهَا (١)
فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْعَدْلِ- الَّذِي هُوَ التَّسْوِيَةُ- عَلَى تَسْوِيَةٍ نَافِعَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الصَّلَاحُ وَالْأَمْنُ، وَذَلِكَ فَكُّ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ الْمُعْتَدِي، لِأَنَّهُ تَظْهَرُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَهُوَ كِنَايَةٌ غَالِبَةٌ. وَمَظْهَرُ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا: إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْلَاغِ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اعْتِدَاءٌ وَلَا نِزَاعٌ.
وَالْعَدْلُ: مُسَاوَاةٌ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ أُمَّةٍ: فِي تَعْيِينِ الْأَشْيَاءِ لِمُسْتَحِقِّهَا، وَفِي تَمْكِينِ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْ حَقِّهِ، بِدُونِ تَأْخِيرٍ، فَهُوَ مُسَاوَاةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَشْيَاءِ وَفِي وَسَائِلِ تَمْكِينِهَا بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي تَعْيِينِ الْحُقُوقِ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَدْلُ فِي التَّنْفِيذِ،
وَلَيْسَ الْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٍ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ.
فَالْعَدْلُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، هُمَا: الْإِفْرَاطُ فِي تَخْوِيلِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ، أَيْ بِإِعْطَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَالتَّفْرِيطُ فِي ذَلِكَ، أَيْ بِالْإِجْحَافِ لَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ يُسَمَّى جَوْرًا، وَكَذَلِكَ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي تَنْفِيذِ الْإِعْطَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِهِ، كَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِيَدِ السَّفِيهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ كَإِبْقَاءِ الْمَالِ بِيَدِ الْوَصِيِّ بَعْدَ الرُّشْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
- إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٥، ٦] فَالْعَدْلُ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصُدُّ الْمُعْتَدِيَ عَنِ اعْتِدَائِهِ،
_________
(١) المغذمر ذُو الغذمرة وَهِي ظُهُور الْغَضَب فِي القَوْل، والهضام صَاحب الهضم وَهُوَ الْكسر وَالظُّلم. [.....]
الْجِنْسُ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ وَوَاحِدُهُ نِصَابٌ، وَيُقَالُ: نَصْبٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: ٤٣]. وَهُوَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَا يُرَادِفُ الصَّنَمَ، وَقَدْ يَخُصُّ الصَّنَمَ بِمَا كَانَتْ لَهُ صُورَةٌ، وَالنُّصُبُ بِمَا كَانَ صَخْرَةً غَيْرَ مُصَوَّرَةٍ، مِثْلَ ذِي الْخَلَصَةِ وَمِثْلَ سَعْدٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ النُّصُبَ هُوَ حِجَارَةٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهَا أَنَّهَا تِمْثَالٌ لِلْآلِهَةِ، بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَنْ تُذْبَحَ عَلَيْهَا الْقَرَابِينُ وَالنَّسَائِكُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا لِلْآلِهَةِ وَلِلْجِنِّ، فَإِنَّ الْأَصْنَامَ كَانَتْ مَعْدُودَةً وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَكَانَتْ فِي مَوَاضِعَ مُعَيَّنَةٍ تُقْصَدُ لِلتَّقَرُّبِ. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَلَمْ تَكُنْ مَعْدُودَةً وَلَا كَانَتْ لَهَا أَسْمَاءٌ وَإِنَّمَا كَانُوا- يَتَّخِذُهَا كُلُّ حَيٍّ- يَتَقَرَّبُونَ عِنْدَهَا، فَقَدْ رَوَى أَئِمَّةُ أَخْبَارِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْكَعْبَةَ، وَهُمْ وَلَدُ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ فِرَاقُ الْكَعْبَةِ فَقَالُوا: الْكَعْبَةُ حَجَرٌ، فَنَحْنُ نَنْصِبُ فِي أَحْيَائِنَا حِجَارَةً تَكُونُ لَنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ، فَنَصَبُوا هَذِهِ الْأَنْصَابَ، وَرُبَّمَا طَافُوا حَوْلَهَا، وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَهَا الدُّوَّارَ- بِضَمِّ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ وَبِتَشْدِيدِ الْوَاوِ- وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا الدِّمَاءَ الْمُتَقَرَّبَ بِهَا فِي دِينِهِمْ. وَكَانُوا يَطْلُبُونَ لِذَلِكَ أَحْسَنَ الْحِجَارَةِ. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا خَيْرًا مِنْهُ أَلْقَيْنَا الْأَوَّلَ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا (أَيْ فِي بِلَادِ الرَّمْلِ) جَمَعْنَا
جَثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ لِيَصِيرَ نَظِيرَ الْحَجَرِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ.
فَالنُّصُبُ: حِجَارَةٌ أُعِدَّتْ لِلذَّبْحِ وَلِلطَّوَافِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِ الْقَبَائِلِ: مِثْلُ حَجَرِ الْغَبْغَبِ الَّذِي كَانَ حَوْلَ الْعُزَّى. وَكَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَى الْأَنْصَابِ وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَشْوُونَهُ، فَيَأْكُلُونَ بَعْضَهُ وَيَتْرُكُونَ بَعْضًا لِلسَّدَنَةِ، قَالَ الْأَعْشَى، يَذْكُرُ وَصَايَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي صَنَعَهَا فِي مَدْحِهِ:
وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَنْسُكَنَّهُ
وَمَعْنَى أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أَنْ تَرْجِعَ أَيْمَانٌ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بعد أَيْمَان الشهيدين. فَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي الِانْتِقَالِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ:
قَلَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَيُعَيَّرُوا بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَهُوَ تَقْسِيم يُفِيد تَفْصِيل مَا أجمله الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى إِلَخْ... وَجَمَعَ الْأَيْمَانَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ حُكْمِ الْآيَةِ لِسَائِرِ قَضَايَا الْوَصَايَا الَّتِي مِنْ جِنْسِهَا، عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَعْدِلُ عَنِ التَّثْنِيَةِ كَثِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما. [التَّحْرِيم: ٤] وَذَيَّلَ هَذَا الْحُكْمَ الْجَلِيلَ بِمَوْعِظَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ وَاسْمَعُوا أَمْرٌ بِالسَّمْعِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الطَّاعَةِ مَجَازًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٧].
وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ فِيمَا أَمَرَ
وَنَهَى، وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ هُدًى وَفِي الْإِعْرَاضِ فِسْقًا. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَهَانُ بِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الرَّيْنِ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ الْهُدَى مِنْ بَعْدُ فَلَا تَكُونُوهُمْ وَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ تَوَخَّيْتُ فِيهِ أَوْضَحَ الْمَعَانِي وَأَوْفَقَهَا بِالشَّرِيعَةِ، وَأَطَلْتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ مَا غَمُضَ مِنَ الْمَعَانِي تَحْتَ إِيجَازِهَا الْبَلِيغِ. وَقَدْ نَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ الْفَخْرُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عُمَرَ:
هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ.
وَلِقَصْدِ اسْتِيفَاءِ مَعَانِي الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةً تَجَنَّبْتُ التَّعَرُّضَ لِمَا تُفِيدُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاخْتِلَافِ

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٦]

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦)
عَطْفٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِمَّا حُكِيَتْ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: ١٠٠] وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَام: ١٠٩] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ فَهُوَ إِبْطَالٌ لِأَقْوَالِهِمْ، وَرَدٌّ لِمَذَاهِبِهِمْ، وَتَمْثِيلَاتٌ وَنَظَائِرُ، فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ غَرَضُ الْكَلَامِ مَنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١]. وَهَذَا ابْتِدَاءُ بَيَانِ تَشْرِيعَاتِهِمِ الْبَاطِلَةِ، وَأَوَّلُهَا مَا جَعَلُوهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لِلْأَصْنَامِ: مِمَّا يُشْبِهُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُوجِبُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِالْتِزَامِ مِثْلَ النُّذُورِ، أَوْ بَتَعْيِينٍ مِنَ الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ لَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ الصَّرْفُ وَالتَّقْسِيمُ، كَمَا فِي قَوْلِ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَصِمُ فِيهَا الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «فَيَجْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» أَيْ يَضَعُهُ وَيَصْرِفُهُ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْجَعْلِ هُوَ التَّصْيِيرُ، فَكَمَا جَاءَ صَيَّرَ لِمَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ، كَذَلِكَ جَاءَ (جَعَلَ)، فَمَعْنَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ: صَرَفُوا وَوَضَعُوا لِلَّهِ، أَيْ عَيَّنُوا لَهُ نَصِيبًا، لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ تَصْيِيرًا تَقْدِيرِيًّا وَنَقْلًا. وَكَذَلِكَ
قَول النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»
أَيْ أَنْ تَصْرِفَهَا إِلَيْهِمْ، وَجعل هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ التَّعْدِيَةُ هِيَ أَكْثَرُ أَحْوَالِ تَعْدِيَتِهِ، حَتَّى أَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى مفعولين إنّما مَا فِي الْحَقِيقَةِ مَفْعُولٌ وَحَالٌ مِنْهُ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ كَانُوا إِذَا حَجُّوا حَرَّمُوا الشَّاةَ وَلَبَنَهَا وَسَمْنَهَا. وَفِيهِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْآيَةَ أَرَادَتْ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي.
فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ لِلْوُجُوبِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا لِلْإِبَاحَةِ لَبَنِي آدَمَ الْمَاضِينَ وَالْحَاضِرِينَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَمْرِ أَوْ مِنْ حِكَايَتِهِ إِبْطَالُ التَّحْرِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِأَنَّهُمْ نَقَضُوا بِهِ مَا تَقَرَّرَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ، وَامْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ. فَإِنَّ أَصْلَهُ إِبْطَالُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَة: ٢] بَعْدَ قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: ١] وَقَدْ يَعْرِضُ لِمَا أَبْطَلَ بِهِ التَّحْرِيمَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا. فَقَدْ ظَهَرَ من السّياق والسّباق فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ
اللِّبَاسُ فِي الْحَجِّ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ إِبْطَالًا لِتَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ إِبْطَالًا لِلتَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَكْلُ اللَّحْمِ وَالدَّسَمِ.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْمِيمٌ أَيْ لَا تَخُصُّوا بَعْضَ الْمَسَاجِدِ بِالتَّعَرِّي مِثْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: ٢٩]. وَقَدْ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ مِمَّا مَضَى آنِفًا.
وَالْخُرُورُ السُّقُوطُ عَلَى الْأَرْضِ.
وَالصَّعْقُ: وَصْفٌ بِمَعْنَى الْمَصْعُوقِ، وَمَعْنَاهُ الْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ مِنْ صَيْحَةٍ وَنَحْوِهَا، مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الصَّاعِقَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ النَّارِيَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ كَهْرَبَاءِ الْبَرْقِ، فَإِذَا أَصَابَتْ جِسْمًا أَحْرَقَتْهُ، وَإِذَا أَصَابَتِ الْحَيَوَانَ مِنْ قَرِيبٍ أَمَاتَتْهُ، أَوْ مِنْ بَعِيدٍ غُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ رَائِحَتِهَا، وَسُمِّيَ خُوَيْلِدُ بْنُ نُفَيْلٍ الصَّعِقَ عَلَمًا عَلَيْهِ بِالْغَلَبَةِ، وَإِنَّمَا رَجَّحْنَا أَنَّ الْوَصْفَ وَالْمَصْدَرَ مُشْتَقَّانِ مِنَ اسْمِ الصَّاعِقَةِ دُونَ أَنْ نَجْعَلَ الصَّاعِقَةَ مُشْتَقًّا مِنَ الصَّعْقِ لِأَنَّ أَيِمَّةَ اللُّغَةِ قَالُوا:
إِنَّ الصَّعْقَ الْغَشْيُ مِنْ صَيْحَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَكِنْ تَوَسَّعُوا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى مَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَدَّةٍ أَوْ رَجَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الصَّاعِقَةِ.
وَالْإِفَاقَةُ: رُجُوعُ الْإِدْرَاكِ بَعْدَ زَوَالِهِ بِغَشْيٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ سُكْرٍ، أَوْ تَخَبُّطِ جُنُونٍ.
وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ جَاءَ عِوَضًا عَنْ فِعْلِهِ أَيْ أُسَبِّحُكَ، وَهُوَ هُنَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ وَتَنْزِيهٍ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، لِمُنَاسَبَةِ سُؤَالِهِ مِنْهُ مَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ سُؤَاله دون استيذانه وَتَحَقُّقِ إِمْكَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٦].
وَقَوْلُهُ: تُبْتُ إِلَيْكَ إِنْشَاءٌ لِتَوْبَةٍ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٧] وَصِيغَةُ- الْمَاضِي مِنْ قَوْلِهِ: تُبْتُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ مِثْلَ صِيَغِ الْعُقُودِ فِي قَوْلِهِمْ بِعْتُ وَزَوَّجْتُ. مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ الْعَقْدِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أُطْلِقَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمُبَادِرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِطْلَاقُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمُبَادِرِ مَجَازٌ شَائِعٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا وَفِي نَظَائِرِهِ- الْكِنَايَةُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُبَادِرُ إِلَيْهِ حِينَ تَرَدُّدِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤١]، وَقَوْلِهِ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦٣].
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ الْإِيمَانُ وَصْفَهُمْ وَلَقَبَهُمْ، أَيِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ فَالْإِيمَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللَّقَبِيِّ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ الْوَصْفُ بِأَفْعَالِ السَّجَايَا فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَدِّرُ لَهُ مُتَعَلِّقًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَهْجِ الْمَعْنَى.
وَالْقَمَرِ عَلَى صُورَتِهِمَا وَتَقْدِيرُ تَنَقُّلَاتِهِمَا تَقْديرا مضبوطا ألهم اللَّهُ الْبَشَرَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي شُؤُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ.
فَجَعْلُ الشَّمْسِ ضِيَاءً لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِضِيَائِهَا فِي مُشَاهَدَةِ مَا تُهِمُّهُمْ مُشَاهَدَتُهُ بِمَا بِهِ قِوَامُ أَعْمَالِ حَيَاتِهِمْ فِي أَوْقَاتِ أَشْغَالِهِمْ. وَجَعْلُ الْقَمَرِ نُورًا لِلِانْتِفَاعِ بِنُورِهِ انْتِفَاعًا مُنَاسِبًا لِلْحَاجَةِ الَّتِي قَدْ تُعَرِّضُ إِلَى طَلَبِ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ فِي وَقْتِ الظُّلْمَةِ وَهُوَ اللَّيْلُ. وَلِذَلِكَ جُعِلَ نوره أَضْعَف لينْتَفع بِهِ بِقَدْرِ ضَرُورَةِ الْمُنْتَفِعِ، فَمَنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يَشْعُرُ بِنُورِهِ وَلَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ سُكُونِهِ الَّذِي جُعِلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ لِحُصُولِهِ، وَلَوْ جُعِلَتِ الشَّمْسُ دَائِمَةَ الظُّهُورِ لِلنَّاسِ لَاسْتَوَوْا فِي اسْتِدَامَةِ الِانْتِفَاعِ بِضِيَائِهَا فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنِ السُّكُونِ الَّذِي يَسْتَجْدُونَ بِهِ مَا فَتَرَ مِنْ قُوَاهُمُ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا نَشَاطُهُمْ وَكَمَالُ حَيَاتِهِمْ.
وَالضِّيَاءُ: النُّورُ السَّاطِعُ الْقَوِيُّ، لِأَنَّهُ يُضِيءُ لِلرَّائِي. وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّوْءِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي يُوَضِّحُ الْأَشْيَاءَ، فَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنَ الضَّوْءِ، وَيَاءُ (ضِيَاءٍ) مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ لِوُقُوعِ الْوَاوِ إِثْرَ كَسْرَةِ الضَّادِ فَقُلِبَتْ يَاءً لِلتَّخْفِيفِ.
وَالنُّورُ: الشُّعَاعُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ النَّارِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الضِّيَاءِ، يَصْدُقُ عَلَى الشُّعَاعِ الضَّعِيفِ وَالشُّعَاعِ الْقَوِيِّ، فَضِيَاءُ الشَّمْسِ نُورٌ، وَنُورُ الْقَمَرِ لَيْسَ بِضِيَاءٍ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَكِنْ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ بَعْضِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي مَوْضِعِ بَعْضٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَعْسُرُ انْضِبَاطُهُ. وَلَمَّا جُعِلَ النُّورُ فِي مُقَابَلَةِ الضِّيَاءِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نُورٌ مَا.
وَقَوْلُهُ: ضِياءً ونُوراً حَالَانِ مُشِيرَانِ إِلَى الْحِكْمَةِ وَالنِّعْمَةِ فِي خَلْقِهِمَا.
وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مِقْدَارٍ عِنْدَ صُنْعِهَا.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (قَدَّرَهُ) : إِمَّا عَائِدٌ إِلَى النُّورِ فَتَكُونُ الْمَنَازِلُ بِمَعْنَى الْمَرَاتِبِ،
وَهِيَ مَرَاتِبُ نُورِ الْقَمَرِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ التَّابِعَةُ لِمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ نَيِّرًا مِنْ كُرَةِ الْقَمَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: ٣٩]. أَيْ حَتَّى نَقُصَ نُورُهُ

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٢]

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
عَطْفٌ عَلَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥]، فَعَطَفَ وَإِلى عادٍ عَلَى إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥]، وَعَطَفَ أَخاهُمْ على نُوحاً [هود: ٢٥]، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. وَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْعَطْفَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّ الْجَارَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَقَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ لِيُحْضَرَ ذِكْرُ عَادٍ مَرَّتَيْنِ بِلَفْظِهِ ثُمَّ بِضَمِيرِهِ.
وَوَصْفُ (هُودٍ) بِأَنَّهُ أَخُو عَادٍ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ نَسَبِهِمْ كَمَا يُقَالُ: يَا أَخَا الْعَرَبِ، أَيْ يَا عَرَبِيُّ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ وَهُودٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ قالَ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِي أَرْسَلْنا [هود: ٢٥].
وَوَجْهُ التَّصْرِيحِ بِفِعْلِ الْقَوْلِ لِأَنَّ فِعْلَ (أَرْسَلْنَا) مَحْذُوفٌ، فَلَوْ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا كَمَا بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: ٢٥] لَكَانَ بَيَانًا لِمَعْدُومٍ وَهُوَ غَيْرُ جَلِيٍّ.
وَافْتِتَاحُ دَعْوَتِهِ بِنِدَاءِ قَوْمِهِ لِاسْتِرْعَاءِ أَسْمَاعِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَهَمِّيَّةِ مَا سَيُلْقِي إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمَذْكُورَةَ مَغْفِرَةٌ دَائِمَةٌ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْعِقَابَ حَالٌّ بِهِمْ من بعد.
[٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ الْآيَةَ. وَهَذِهِ حَالَةٌ مِنْ أُعْجُوبَاتِهِمْ وَهِيَ عَدَمُ اعْتِدَادِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَأَيَّدَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْظَمُهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَلَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ آيَةً كَمَا يَقْتَرِحُونَهَا، فَلَهُ اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: ١٧].
وَمُرَادُهُمْ بِالْآيَةِ فِي هَذَا خَارِقُ عَادَةٍ عَلَى حِسَابِ مَا يَقْتَرِحُونَ، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لِأَنَّ تِلْكَ فِي تَعْجِيلِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَمَا هُنَا فِي مَجِيءِ آيَةٍ تُؤَيِّدُهُ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨].
وَلِكَوْنِ اقْتِرَاحِهِمْ آيَةً يَشِفُّ عَنْ إِحَالَتِهِمْ حُصُولَهَا لِجَهْلِهِمْ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى سِيقَ هَذَا فِي عِدَادِ نَتَائِجِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام:
٣٦] فَبِذَلِكَ انْتَظَمَ تَفَرُّعُ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَتَفَرُّعُ جَمِيعِهَا عَلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ عَيْنُ أَصْحَابِ ضَمِيرِ يَسْتَعْجِلُونَكَ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ الْكُفْرِ عَلَيْهِم، وَلما يومىء إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنْ تَعْلِيلِ صُدُورِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ.
إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [سُورَة النَّحْل: ١١٠]، وَبَعْضَهَا مُتَأَخِّرُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة النَّحْل: ١١٨]، يَعْنِي بِمَا قَصَّ مِنْ قَبْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٤٦]
الْآيَاتِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَرَأْتُهَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ فَتَعَجَّبَ وَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ اتَّبِعُوا ابْنَ أخي تُفْلِحُوا فو اللَّهَ إِن الله أَرْسَلَهُ لِيَأْمُرَكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ
. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَبْلَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ.
وَآيُهَا مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ بِلَا خِلَافٍ. وَوَقَعَ لِلْخَفَاجِيِّ عَنِ الدَّانِيِّ أَنَّهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ. وَلَعَلَّهُ خَطَأٌ أَوْ تَحْرِيفٌ أَوْ نَقْصٌ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
مُعْظَمُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ إِكْثَارٌ مُتَنَوِّعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى فَسَادِ دِينِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ شَنَاعَتِهِ.
وَأَدِلَّةُ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-.
وَإِنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَائِمَة على صول مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِثَالًا سَيِّئًا يُقَابِلُوا الظُّلْمَ بِالظُّلْمِ كَعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الْإِنْصَافِ فَيَقْبَلُوا الْقَوَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.
وَالسَّرَفُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالْمَالِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَالسَّرَفُ فِي الْقَتْلِ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ الْقَاتِلِ، أَمَّا مَعَ الْقَاتِلِ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا قَالَ الْمُهَلْهَلُ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ كُلَيْبٍ:
كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّةٌ حَتَّى يَعُمُّ الْقَتْلُ آلَ مُرَّةَ
وَأَمَّا قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ فَقَدْ كَانُوا يَقْتَنِعُونَ عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقَاتِلِ بِقَتْلِ رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ. وَكَانُوا يَتَكَايَلُونَ الدِّمَاءَ، أَي يجْعَلُونَ كليها مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ شَرَفِ الْقَتِيلِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَة بنت معديكرب:
فَيقْتل جبرا بامرىء لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ
الْبَوَاءُ: الْكُفْءُ فِي الدَّمِ. تُرِيدُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَهُوَ الْمُسَمَّى جَبْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ التَّكَايُلَ بِالدَّمِ.
وَضَمِيرُ يُسْرِفْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ مَظِنَّةِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ بِحَسَبِ مَا تَعَوَّدُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- أَيْ خِطَابٍ لِلْوَلِيِّ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً اسْتِئْنَافٌ، أَيْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ كَانَ مَنْصُورًا بِحكم الْقود فَلَمَّا ذَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ مِنَ النَّصْرِ إِلَى الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ بِالسَّرَفِ فِي الْقَتْلِ. حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنَ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْوَلِيِّ سُلْطَانًا عَلَى الْقَاتِلِ.
وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِإِقْحَامِ (كَانَ) الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَقِرُّ الثُّبُوتِ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْعَدْلِ إِلَى السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ لَا يُنْصَرُ.
وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ تَرَيِنَّ نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي صَارَ آخِرُهُ يَاءً بِسَبَبِ حَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ لِأَجْلِ حَرْفِ الشَّرْطِ فَحُرِّكَتِ الْيَاءُ بِحَرَكَةٍ مُجَانِسَةٍ لَهَا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ.
وَالْإِنْسِيُّ: الْإِنْسَانُ، وَالْيَاءُ فِيهِ لِلنَّسَبِ إِلَى الْإِنْسِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ إِنْسَانٍ، فَيَاءُ النَّسَبِ لِإِفَادَةِ فَرْدٍ مِنَ الْجِنْسِ مِثْلَ: يَاءُ حَرَسِيٍّ لِوَاحِدٍ مِنَ الْحَرَسِ. وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ لَنْ أُكَلِّمَ أَحَدًا.
وَعَدَلَ عَنْ أَحَدٍ إِلَى إِنْسِيًّا لِلرَّعْيِ عَلَى فَاصِلَةِ الْيَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ تَكْلِيمِهَا الْمَلَائِكَةَ إِذْ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِمَنْ هُيِّئَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ سماجة.
[٢٧- ٢٨]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ جَاءَتْ أَهْلَهَا عَقِبَ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهَا ابْنُهَا. وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا: أَنَّهَا بَقِيَتْ فِي بَيْتِ لَحْمٍ إِلَى انْتِهَاءِ وَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّطْهِيرِ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْفَاءِ تَعْقِيبًا عُرْفِيًّا مِثْلَ: تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ.
وقَوْمَها: أَهْلُ مَحَلَّتِهَا. وَجُمْلَةُ تَحْمِلُهُ حَالٌ من تَاء فَأَتَتْ. وَهَذِهِ الْحَالُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا أَتَتْ مُعْلِنَةً بِهِ غَيْرَ سَاتِرَةٍ لِأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ اللَّهَ سَيُبَرِّئُهَا مِمَّا يُتَّهَمُ بِهِ مِثْلُ مَنْ جَاءَ فِي حَالَتِهَا.
ثُمَّ سَكَنَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُهُ (حَارَانَ) وَحَارَانُ هِيَ (حَرَّانُ)، وَكَانَتْ بَعْدُ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِصْحَاحِ ١٢ مِنَ التَّكْوِينِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ
عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ»
. وَمَاتَ أَبُوهُ فِي (حَارَانَ) كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ١١ مِنَ التَّكْوِينِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مِنْ (حَارَانَ) لِأَنَّهُ مِنْ حَارَانَ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ حَرَّانَ بِأَنَّهُ بَلَدُ الصَّابِئَةِ وَفِيهِ هَيْكَلٌ عَظِيمٌ لِلصَّابِئَةِ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَجْعَلُونَ لَهَا صُوَرًا مُجَسَّمَةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا عِبَادَتُكُمْ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ؟. وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِأُسْلُوبِ تَوَجُّهِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ذَاتِ التَّمَاثِيلِ لِإِبْهَامِ السُّؤَالِ عَنْ كُنْهِ التماثيل فِي بادىء الْكَلَامِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ حَقِيقَتِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ وَبَيْنَ وَصْفِهَا بِالْمَعْبُودِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِعُكُوفِهِمْ عَلَيْهَا. وَهَذَا مِنْ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ اسْتَعْمَلَهُ تَمْهِيدًا لِتَخْطِئَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ جَوَابَهُمْ فَهُمْ يَظُنُّونَهُ سَائِلًا مُسْتَعْلِمًا وَلِذَلِكَ أَجَابُوا سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِمْ وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فَإِنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ (مَا) أَنَّهُ لِطَلَبِ شرح مَاهِيَّة الْمَسْئُول عَنْهُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ لِزِيَادَةِ كَشْفِ مَعْنَاهَا الدَّالِّ عَلَى انْحِطَاطِهَا عَنْ رُتْبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ يَسْلُبُ عَنْهَا الِاسْتِقْلَالَ الذَّاتِيَّ.
وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْكَلْدَانُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ (بَعْلُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَكَانَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ رَمْزُ الشَّمْسِ فِي عَهْدِ سَمِيرَمِيسَ، وَعَبَدُوا رُمُوزًا لِلْكَوَاكِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوحٍ: وَدًّا، وَسُوَاعًا، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرًا، إِمَّا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَإِمَّا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى. وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْنَامِ أَشُورَ (إِخْوَانِ الْكَلْدَانِ) صَنَمًا اسْمُهُ (نَسْرُوخُ) وَهُوَ نَسْرٌ لَا مَحَالَةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ فِيهِنَّ صَادِقَةٌ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ.
فَفَسَادُ الْبَشَرِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْمَلَائِكَةِ فَلِأَنَّ مِنْ أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ زَعْمَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَلَائِكَةِ بُنُوَّةُ اللَّهِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَنهم ءالهة لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ جِنْسٍ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِمَا تَوَلَّدَ هُوَ مِنْهُ إِذِ الْوَلَدُ نُسْخَةٌ مِنْ أَبِيهِ فَلَزِمَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُصُولِ حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ مُسَخَّرُونَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ لَفَسَدَتْ حَقَائِقُهُمْ فَأَفْسَدُوا مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِإِصْلَاحِهِ وَبِالْعَكْسِ فَتَنْتَقِضُ الْمَصَالِحُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ صَادِقًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ فِي اسْتِعْمَالِ (مَنْ). وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ يَنْتَظِمُ بِالْأَصَالَةِ مَعَ وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَبَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ يسري إِلَى اختلال مَوَاهِي الْمَوْجُودَاتِ فَتُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِمَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَيَفْسَدُ الْعَالَمُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَرَضَ بَحْثًا فِي إِمْكَانِ فَنَاءِ الْعَالَمِ وَفَرَضَ أَسْبَابًا إِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَعَدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ تَحْدُثَ حَوَادِثُ جَوِّيَّةٌ تُفْسِدُ عُقُولَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ فَيَتَأَلَّبُونَ عَلَى إِهْلَاكِ الْعَالَمِ فَلَوْ أَجْرَى اللَّهُ النِّظَامَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا يَشْتَهُونَ لَعَادَ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ فَكَانُوا مَشْمُولِينَ لِذَلِكَ الْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَنَاهِيكَ بِأَفْنِ آرَاءٍ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّافِعِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَكَفَى بِذَلِكَ شَنَاعَةً لِكَرَاهِيَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِبْطَالًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَصَرُّفَاتُ مَجْنُونٍ.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَيْ بَلْ لَمْ يَتَّبِعِ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ فَأَبْلَغْنَا إِلَيْهِمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ ذِكْرٌ لَهُمْ
الْفَاعِلِ لِ باخِعٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ (لَعَلَّ). وَإِسْنَادُ باخِعٌ إِلَى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ جُعِلَ سَبَبًا لِلْبَخْعِ.
وَجِيءَ بِمُضَارِعِ الْكَوْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَأْسَفُ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَلَوِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ فِيمَا مَضَى أَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤْسَفَ لَهُ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُؤْمِنِينَ إِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ مُؤْمِنِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِمُؤْمِنِينَ الْمَعْنَى اللَّقَبِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْفَرِيقِ الْمَعْرُوفِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ. وَضَمِيرُ أَلَّا يَكُونُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وهم الْمُشْركُونَ الَّذين دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعُدِلَ عَنْ: أَنْ لَا يُؤْمِنُوا، إِلَى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ فِي فِعْلِ الْكَوْنِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَفَادَتْهُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ، فَتَأَكَّدَ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ إِيمَانِهِمُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الْإِقْلَاعِ عَنِ الْحُزْنِ لَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بِحَرْفِ نَفْيِ الْمَاضِي وَهُوَ (لَمْ) لِأَنَّ سُورَةَ الْكَهْفِ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ قَدْ تَقَرَّرَ حِينَئِذٍ وَبَلَغَ حَدَّ الْمَأْيُوسِ مِنْهُ.
وَضَمِيرُ يَكُونُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ التَّحَدِّي الْحَاصِلِ بِقَوْلِهِ: طسم تِلْكَ
آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ
[الشُّعَرَاء: ١، ٢] لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ هُمُ الْكَافِرُونَ المكذبون.
[٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٤]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] لِأَنَّ التَّسْلِيَةَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ تُثِيرُ فِي النَّفْسِ سُؤَالًا عَنْ إِمْهَالِهِمْ دُونَ عُقُوبَةٍ لِيُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ مُوسَى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٨٨]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْأَمْسِ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِأَمْسِهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ أَمْسًا لِوَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَالِاسْتِصْرَاخُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الصُّرَاخِ، أَيِ النِّدَاءِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ بِالِاسْتِغَاثَةِ فَخُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ لِلتَّفَنُّنِ. وَقَوْلُ مُوسَى لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ تَذَمُّرٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ إِذْ كَانَ اسْتِصْرَاخُهُ السَّالِفُ سَبَبًا فِي قَتْلِ نَفْسٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ إِجَابَةِ اسْتِصْرَاخِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّشَاؤُمِ وَاللَّوْمِ عَلَيْهِ فِي كَثْرَةِ خُصُومَاتِهِ.
وَالْغَوِيُّ: الشَّدِيدُ الْغَوَايَةِ وَهِيَ الضَّلَالُ وَسُوءُ النَّظَرِ، أَيْ أَنَّكَ تُشَادُّ مَنْ لَا تُطِيقُهُ ثُمَّ تَرُومُ الْغَوْثَ مِنِّي يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ظَالِمٌ أَوْ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِعَدُوِّهِ.
وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الضَّرْبُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَدُوٌّ لَهُما أَنَّهُ قِبْطِيٌّ.
وَرُبَّمَا جُعِلَ عَدُوًّا لَهُمَا لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ مَعْرُوفَةٌ فَاشِيَةٌ بَيْنَ الْقِبْطِ وَأَمَّا عَدَاوَتُهُ لِمُوسَى فَلِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ رَجُلًا وَالظُّلْمُ عَدُوٌّ لِنَفْسِ مُوسَى لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى زَكَاءِ نَفْسٍ هَيَّأَهَا اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ.
وَالْجَبَّارُ: الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِمَّا يُضِرُّ بِالنَّاسِ وَيُؤَاخِذُ النَّاسَ بِالشِّدَّةِ دُونَ الرِّفْقِ.
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة إِبْرَاهِيم [١٥] قَوْلُهُ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٢] قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا.
وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ مُتَصَرِّفًا بِالِانْتِقَامِ وَبِالشِّدَّةِ وَلَا تُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَنْ تَسْعَى فِي التَّرَاضِي بَيْنَهُمَا. وَيَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَ الْقِبْطِيِّ زَجْرٌ لِمُوسَى عَنِ الْبَطْشِ بِهِ وَصَارَ بَيْنَهُمَا حِوَارًا أَعْقَبَهُ مَجِيءُ رَجُلٍ مِنْ أقْصَى الْمَدِينَة.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الرِّعَايَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْكَفَالَةِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْقِيَامَ وَالتَّعَهُّدَ قَالَ تَعَالَى أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْد: ٣٣]، وَمِنْهُ قُلْنَا لِرَاعِي التَّلَامِذَةِ وَمُرَاقِبِ أَحْوَالِهِمْ: قَيَّمٌ. وَيُطْلَقُ الْقَيِّمُ عَلَى الْمُهَيْمِنِ وَالْحَافِظِ. وَالْمَعَانِي كُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا هُنَا، فَإِنَّ هَذَا الْكُتَّابَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ وَمُتَكَفِّلٌ بِمَصَالِحِ النَّاسِ، وَشَاهِدٌ عَلَى الْكُتُبِ السَّالِفَةِ تَصْحِيحًا وَنَسْخًا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِي طالع سُورَة الْمَائِدَة [٤٨]. فَهَذَا الدِّينُ بِهِ قِوَامُ أَمْرِ الْأُمَّةِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: يَا مُعَاذُ مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ:
الْإِخْلَاصُ وَهُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الدِّينُ، وَالطَّاعَةُ وَهِيَ الْعِصْمَةُ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ. يُرِيدُ مُعَاذٌ بِالْإِخْلَاصِ التَّوْحِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [الْبَيِّنَة: ٥].
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ وَاهِمٍ يَقُولُ إِذا كَانَ هُوَ دين الْفطْرَة وَهُوَ القيّم فَكيف أعرض كثير من النَّاس عَنهُ بعد تبليغه، فَاسْتُدْرِكَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ فَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ فَإِنَّهُمْ جَهِلُوا مَعَانِيَهُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَلَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا لَا يُفِيدُهُمْ مُهِمُّهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَنْ يَبْلُغَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَفِعْلُ لَا يَعْلَمُونَ غَيْرُ مُتَطَلَّبٍ مَفْعُولًا بَلْ هُوَ مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ إِذْ أَبَوُا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَارَقَةَ أَدْيَانِهِمْ بَعْدَ إِبْطَالِهَا لِانْتِهَاءِ صَلَاحِيَّةِ تَفَارِيعِهَا بِانْقِضَاءِ الْأَحْوَالِ الَّتِي شَرَعَتْ لَهَا انْقِضَاءً لَا مَطْمَعَ بَعْدَهُ لِأَنْ تَعُودَ.
وَمُقَابِلُ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَشِرْذِمَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلِمُوا أَحَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ وَبَقُوا عَلَى أَدْيَانِهِمْ عِنَادًا: فَهُمْ يَعْلَمُونَ وَيُكَابِرُونَ، أَوْ تَحَيُّرًا: فَهُمْ فِي شَكٍّ بَيْنَ علم وَجَهل.
لِأَنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: ٦].
وَإِضَافَةُ الْبَعْدِيَّةِ إِلَى ضمير ذَات النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعِيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ حَيَاتِهِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي اسْتِعْمَالِ مِثْلِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بَعْدَ عِصْمَتِهِ مِنْ نَحْوِ الطَّلَاقِ لِأَن طَلَاق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ شَرْعًا لِقَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الْأَحْزَاب: ٥٢].
وَأُكِّدَ ظَرْفُ (بَعْدُ) بِإِدْخَالِ مِنَ الزَّائِدَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُكِّدَ عُمُومُهُ بِظَرْفِ أَبَداً لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَطَرَّقُهُ النُّسَخُ ثُمَّ زِيدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَحْذِيرًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ من إِيذَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوُّجِ أَزْوَاجِهِ، أَيْ ذَلِكُمُ الْمَذْكُورُ.
وَالْعَظِيمُ هُنَا فِي الْإِثْمِ وَالْجَرِيمَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَتَقْيِيدُ الْعَظِيمِ بِكَوْنِهِ عِنْدَ اللَّهِ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّخْوِيفِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الشَّنَاعَةِ. وَعِلَّةُ كَوْنِ تَزَوَّجِ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ إِحْدَى نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْمًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، أَنَّ اللَّهَ جعل نسَاء النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ تَزَوُّجَ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ إِحْدَاهُنَّ لَهُ حُكْمُ تَزَوُّجِ الْمَرْءِ أُمَّهُ، وَذَلِكَ إِثْمٌ عَظِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ هَلِ التَّحْرِيمُ الَّذِي فِي الْآيَةِ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ اللَّاتِي بَنَى بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ يَعُمُّ كُلَّ امْرَأَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا مِثْلَ الْكِنْدِيَّةِ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَقَالَ لَهَا:
الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَتَزَوَّجَهَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِثْلَ قُتَيْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْكَلْبِيَّةِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَخُوهَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَمَلَهَا مَعَهُ إِلَى حَضْرَمَوْتَ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ قَبْلَ قُفُولِهِمَا فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هَمَّ بِعِقَابِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا.
وَالْمَرْوِيَّاتُ فِي هَذَا الْبَابِ ضَعِيفَةٌ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْعَقْدَ كَانَا يَكُونَانِ مُقْتَرَنَيْنِ
وَأَنَّ مَا يَسْبِقُ الْبِنَاءَ مِمَّا يُسَمُّونَهُ تَزْوِيجًا فَإِنَّمَا هُوَ مُرَاكَنَةٌ وَوَعْدٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا
فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أُحْضِرَتْ إِلَيْهِ الْكِنْدِيَّةُ وَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ

[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ١١]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)
الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: ٦] بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، أَيْ فَسَلْهُمْ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَإِحَالَتِهِمْ إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَصِيرُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَخَلْقُهُمْ حِينَئِذٍ أَشُدُّ عَلَيْنَا أَمْ خَلْقُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؟
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَقَامِ وَهُمُ الَّذِينَ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَكَذَلِكَ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ وَضَمِيرُ الْخِطَابِ مِنْهُ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَسَلْهُمْ، وَهُوَ سُؤَالُ مَحَاجَّةٍ وَتَغْلِيطٍ.
وَالِاسْتِفْتَاءُ: طَلَبُ الْفَتْوَى بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْوَاوِ، وَيُقَالُ: الْفُتْيَا بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِالْيَاءِ. وَهِيَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ يَخْفَى عَنْ غَيْرِ الْخَوَاصِّ فِي غَرَضٍ مَا. وَهِيَ:
إِمَّا إِخْبَارٌ عَنْ عِلْمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ الْمُخْبِرُ قَالَ تَعَالَى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ [يُوسُف: ٤٦] الْآيَةَ، وَقَالَ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاء: ١٧٦]، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٤١].
وَإِمَّا إِخْبَارٌ عَنْ رَأْيٍ يُطْلَبُ مِنْ ذِي رَأْيٍ مَوْثُوقٍ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٣٢].
وَالْمَعْنَى: فَاسْأَلْهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ فَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَمْرًا مُحْتَاجًا إِلَى إِعْمَالِ نَظَرٍ أَطُلِقَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ فِعْلُ الِاسْتِفْتَاءِ.
وَهَمْزَةُ: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلتَّقْرِيرِ بِضَعْفِ خَلْقِ الْبَشَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَؤُولُ إِلَى الْإِقْرَارِ حَيْثُ إِنَّه يلجىء الْمُسْتَفْهِمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ طَرَفَيِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالِاسْتِفْتَاءُ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ. وأَشَدُّ بِمَعْنَى: أَصْعَبُ وَأَعْسَرُ.
فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَمُمْسِكًا تَلَفًا»
أَيْ كُلَّ مُنْفِقٍ وَمُمْسِكٍ.
وَالْمُرَادُ: إِبْلَاغُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرِّضَى وَالْقَبُولِ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهُمُ الْعَذَابُ وَيَكُونُونَ فِي بُحْبُوحَةِ النَّعِيمِ وَلَا يَعْتَرِيهِمْ مَا يُكَدِّرُهُمْ مِنْ نَحْوِ التَّوْبِيخِ وَالْفَضِيحَةِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ [الْإِنْسَان: ١١].
وَجُمْلَةُ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ تَذْيِيلٌ، أَيْ وَكُلُّ مَنْ وُقِيَ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ نَالَتْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، أَيْ نَالَتْهُ الرَّحْمَةُ كَامِلَةً فَفِعْلُ رَحِمْتَهُ مُرَادٌ بِهِ تَعْظِيمُ مَصْدَرِهِ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِذْ أُشِيرَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ وِقَايَةِ السَّيِّئَاتِ إِشَارَةً لِلتَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَوُصِفَ الْفَوْزُ بِالْعَظِيمِ لِأَنَّهُ فَوْزٌ بِالنَّعِيمِ خَالِصًا مِنَ الْكُدْرَاتِ الَّتِي تُنْقِصُ حَلَاوَةَ النِّعْمَةِ.
وَتَنْوِينُ يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تُدْخِلُهُمْ جنَّات عدن.
[١٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠)
مُقَابَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّعِيمِ الْخَالِصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ وَمَا يُرَاجَعُونَ بِهِ مِنْ طَلَبِ الْعَفْوِ مُؤْذِنَةٌ بِتَقْدِيرِ مَعْنَى الْوَعْدِ بِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَطَيُّ ذِكْرِ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى بَيَانِ مَا سَيَحِلُّ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ ضَرْبٌ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ الْآيَاتِ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا
أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ كَمَا عَلِمْتَ فَيَجِدُ مِنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ الْمُقَاوَمَةَ وَهَكَذَا، وَذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى اخْتِلَالِ نِظَامِهِمْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَا يُفْضِي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْفَسَادِ لِأَنَّ الْغِنَى قَدْ يُصَادِفُ نَفْسًا صَالِحَةً وَنَفْسًا لَهَا وَازِعٌ مِنَ الدِّينِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْبَغْيِ، فَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا خَبِيثَةً لَا وَازِعَ لَهَا فَتِلْكَ حَالَةٌ نَادِرَةٌ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ السَّيِّئَةِ فِي الْعَالَمِ وَلَهَا مَا يُقَاوِمُهَا فِي الشَّرِيعَةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَغَيْرَةِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَامٍّ وَلَا إِلَى اخْتِلَالِ نِظَامٍ.
وَإِطْلَاقُ فِعْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى إِعْطَاءِ الرِّزْقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ اسْتِعَارَةٌ
لِأَنَّهُ عَطَاءٌ مِنْ رَفِيعِ الشَّأْنِ، فَشُبِّهَ بِالنَّازِلِ مِنْ عُلُوٍّ وَتَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْقَدَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: الْمِقْدَارُ وَالتَّعْيِينُ.
وَمَعْنَى مَا يَشاءُ أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَعَلَى مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَسْبَابِ عَلَى حسب مُخْتَلف صَالح مَخْلُوقَاتِهِ وَتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَصَرُّفَاتٌ وَتَقْدِيرَاتٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُهُ تَعَالَى. وَكُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ، وَهِيَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلَّتِي قَبْلَهَا.
وَافْتُتِحَتْ بِ (إِنَّ) الَّتِي لَمْ يُرَدْ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَلَكِنَّهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَالْإِيذَانِ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تَقُومُ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، فَالْجُمْلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْفَاءِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفَيْ خَبِيرٌ وبَصِيرٌ لِأَنَّ وَصْفَ خَبِيرٌ دَالٌّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَحْوَالِهِمْ قَبْلَ تَقْدِيرِهَا وَتَقْدِيرِ أَسْبَابِهَا، أَيِ الْعِلْمِ بِمَا سَيَكُونُ. وَوَصْفُ بَصِيرٌ دَالٌّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْوَالِهِمُ الَّتِي حَصَلَتْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعَلُّقَيْنِ للْعلم الإلهي.
أَوْ لِجَلْبِ الرِّئَاسَةِ، أَيْ زَيَّنَ لَهُ مُزَيِّنٌ سُوءَ عَمَلِهِ، وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ إِلَى الْمَجْهُولِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ أَيْضًا لِيَرْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَأَمَّلُوا فِيمَنْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ تَزْيِينُ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الدَّأْبِ عَلَيْهَا كَانَ يَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ إِلْفُهُمْ بِهَا وَوَلَعُهُمْ بِهَا فَتَصِيرُ لَهُمْ أَهْوَاءً لَا يَسْتَطِيعُونَ مُفَارَقَتَهَا أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَيِّنٌ لِلْعَاقِلِ الْمُتَأَمِّلِ بِحَيْثُ يَحِقُّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْفَرِيقَيْنِ سُؤَالَ مَنْ يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَزْعُمَهَا. وَالْمُرَادُ بِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ الْكِنَايَةُ عَنِ التَّفَاضُلِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفَضْلِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي وَقَعَ الثَّنَاء عَلَيْهِ.
[١٥]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [مُحَمَّد: ١٢] مِمَّا يَسْتَشْرِفُ السَّامِعُ إِلَى تَفْصِيلِ بَعْضِ صِفَاتِهَا، وَإِذْ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ مُوهِمٌ السَّامِعَ أَنَّهَا أَنْهَارُ الْمِيَاهِ لِأَنَّ جَرْيَ الْأَنْهَارِ أَكْمَلُ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ تَوْصِيفِ حَالِ
فَرِيقَيِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمِمَّا أَعَدَّ لِكِلَيْهِمَا، وَمِنْ إِعْلَانِ تَبَايُنِ حَالَيْهِمَا ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي الْجنَّة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنْوَاعِ الْأَنْهَارِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ كَانَ قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا سَيُوصَفُ أَوْ مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مُقَدَّرٌ فِيهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [مُحَمَّد: ١٤].

[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٤ إِلَى ١٠]

إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (١٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: ٣].
وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يَنْطِقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨] أَيِ الْعَدْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ اعْدِلُوا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا فِي أَقْوَالِهِمُ الْمَرْدُودَةِ بِقَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْم: ٢] زَعَمُوا الْقُرْآنَ سِحْرًا، أَوْ شِعْرًا، أَوْ كَهَانَةً، أَوْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ إِفْكًا افْتَرَاهُ.
وَإِنْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْطِقُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ عَنْ وَحْيٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي جَوَابِهِ لِلَّذِي سَأَلَهُ: مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَمِرُ؟
وَكَقَوْلِهِ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا»
، وَمِثْلَ جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَحْوُهُ.
وَفِي «سُنَنِ أبي دَاوُد» و «التِّرْمِذِيّ» مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَام بن معد يكرب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكَ رَجُلٌ شَبْعَانَ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ»
. وَقَدْ يَنْطِقُ عَنِ اجْتِهَادٍ كَأَمْرِهِ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ فِيهَا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ
فَقيل لَهُ:
أَو نهريقها ونغسلها؟ فَقَالَ: «أَو ذَاك»
. فَهَذِهِ الْآيَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِيرَادِهَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا كَانَ نُزُولُهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَالْوَحْيُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ فِي سُورَةِ
وَذُكِرَتْ قَصَصٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي التَّفَاسِيرِ، قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
ولَوْ وَصْلِيَةٌ وَهِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ تَعْلِيقِ جَوَابِهَا بِشَرْطٍ يُفِيدُ حَالَةً لَا يُظَنُّ حُصُولَ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ لَآثَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيُعْلَمُ أَنَّ إِيثَارَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي دُونَ ذَلِكَ بِالْأَحْرَى دُونَ إِفَادَةِ الِامْتِنَاعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَالْخَصَاصَةُ: شِدَّةُ الِاحْتِيَاجِ.
وَتَذْكِيرُ فِعْلِ كانَ لِأَجْلِ كَوْنِ تَأْنِيثِ الْخَصَاصَةِ لَيْسَ حَقِيقِيًّا، وَلِأَنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ كانَ وَاسْمِهَا بِالْمَجْرُورِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، فَإِنَّ التَّذْيِيلَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ. وَتَذْيِيلُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ فَضْلِ مَنْ يُوقَوْنَ شُحَّ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِيثَارَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى فِي حَالَةِ الْخَصَاصَةِ هُوَ سَلَامَةٌ مِنْ شُحِّ الْأَنْفُسِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ شُحِّ الْأَنْفُسِ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَالشُّحُّ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَسْرِهَا: غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ بِمَنْعِ مَا هُوَ لَهَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْبُخْلِ. وَقَالَ الطِّيبِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَسِيرٌ جِدًّا وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبُخْلَ أَثَرُ الشُّحِّ وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدٌ مَا يُرَادُ مِنْهُ بَذْلُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النِّسَاء: ١٢٨] أَيْ جُعِلَ الشُّحُّ حَاضِرًا مَعَهَا لَا يُفَارِقُهَا، وَأُضِيفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى النَّفْسِ لِذَلِكَ فَهُوَ غَرِيزَةٌ لَا تَسْلَمُ مِنْهَا نَفْسٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ فِي بَيَانِ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ «أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ
وَتَأْمُلُ الْغِنَى»

وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَتَفَاوَتُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَإِذَا غَلَبَ
مَحْكِيٌّ لَفْظُهَا، أَيْ تَدْرُسُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَمَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: ٧٨، ٧٩] أَيْ تَدْرُسُونَ جُمْلَةَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ.
وَيَكُونُ فِيهِ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ تَدْرُسُونَ، قَصَدَ مِنْ إِعَادَتِهَا مَزِيدَ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا كَمَا أُعِيدَتْ كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً [النَّحْل: ٦٧] وَأَصْلُهُ: تَتَّخِذُونَ سَكَرًا.
وتَخَيَّرُونَ أَصْلُهُ تَتَخَيَّرُونَ بِتَاءَيْنِ، حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا. وَالتَّخَيُّرُ: تَكَلُّفُ الْخَيْرِ، أَيْ تَطَلُّبُ مَا هُوَ فِي أَخْيَرِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ لَكُمْ مَا تَخْتَارُونَ مِنْ خير الْجَزَاء.
[٣٩]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : آيَة ٣٩]
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩)
أَمْ لِلْانْتِقَالِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ زَعْمِهِمْ عَهْدًا أَخَذُوهُ عَلَى اللَّهِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يُعَامِلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا يَحْكُمُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَالْاسْتِفْهَامُ اللَّازِمُ تَقْدِيرَهُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارِيٌّ وبالِغَةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَأَصْلُ الْبَالِغَةِ: الْوَاصِلَةُ إِلَى مَا يُطْلَبُ بِهَا، وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ لِمَعْنَى مُغْلِظَةٍ، شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْبَالِغِ إِلَى نِهَايَةِ سَيْرِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الْأَنْعَام: ١٤٩].
وَقَوْلُهُ: عَلَيْنا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ أَيْمانٌ أَيْ أَقْسَمْنَاهَا لَكُمْ لِإِثْبَاتِ حَقِّكُمْ عَلَيْنَا.
وإِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِ أَيْمانٌ، أَيْ أَيْمَانٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَحِلَّةَ مِنْهَا فَحَصَلَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ أَنَّهَا عُهُودٌ مُؤَكَّدَةٌ وَمُسْتَمِرَّةٌ طُولَ الدَّهْرِ، فَلَيْسَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُنْتَهَى الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ بَلْ هُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى التَّأْيِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٥].
وَيَتَعَلَّقُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بِالْاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ أَيْمانٌ وَلَا
وَتَعْرِيفُ النَّفْسَ فِي قَوْلِهِ: وَنَهَى النَّفْسَ هُوَ مِثْلُ التَّعْرِيفِ فِي الْمَأْوى وَفِي تَعْرِيفِ «أَصْحَابِ الْجَحِيمِ» وَ «أَصْحَابِ الْجَنَّةِ» بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصِّلَتَيْنِ عِلَّتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِك المأوى.
[٤٢- ٤٥]
[سُورَة النازعات (٧٩) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٥]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ حُلُولِ السَّاعَةِ الَّتِي يَتَوَعَّدُهُمْ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨].
وَكَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِهْزَاءً وَاسْتِخْفَافًا لِأَنَّهُمْ عَقَدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى اسْتِحَالَةِ وُقُوعِ السَّاعَةِ وَرُبَّمَا طَلَبُوا التَّعْجِيلَ بِوُقُوعِهَا وَأَوْهَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَشْيَاعَهُمْ أَنَّ تَأَخُّرَ وُقُوعِهَا دَلِيلٌ عَلَى الْيَأْسِ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ صَادِقًا لَحَمِيَ غَضَبُ اللَّهِ مُرْسِلِهِ سُبْحَانَهُ فَبَادَرَ بِإِرَاءَتِهِمُ الْعَذَابَ وَهُمْ يَتَوَهَّمُونَ شُؤُونَ الْخَالِقِ كَشِؤُونَ النَّاسِ إِذَا غَضِبَ أَحَدُهُمْ عَجَّلَ بِالِانْتِقَامِ طَيْشًا وَحَنَقًا قَالَ تَعَالَى: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الْكَهْف: ٥٨].
فَلَا جَرَمَ لَمَّا قُضِيَ حَقُّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَعُرِّضَ بعقاب الَّذين استحقوا بِهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [النازعات: ٣٤]، كَانَ ذَلِكَ مَثَارًا لِسُؤَالِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ لِمَجِيءِ هَذِهِ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى وَقْتٌ مَعْلُومٌ؟ فَكَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا هَذَا الِاسْتِئْنَافَ الْبَيَانِيَّ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَقَامِ وَجَوَابًا عَنْ سَابِقِ الْكَلَامِ.
فَضَمِيرُ «يَسْأَلُونَ» عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ الْوَاجِفَةِ وَالَّذِينَ قَالُوا: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: ١٠].


الصفحة التالية
Icon