إِلَى أَنَّهَا دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى عَلَاقَةٍ وَقَرِينَةٍ، كَدَلَالَةِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ مَعَانِيهِ جَمِيعًا أَوْ بَعْضًا إِطْلَاقًا لُغَوِيًّا، فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَجُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الْمَجَازُ وَجَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ مُرَادُ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ «التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ» إِنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى إِلَّا بِقَرِينَةٍ، فَفَهِمَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْقَرِينَةَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ هِيَ الْقَرِينَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي مَوْضُوعِنَا إِذْ مَعَانِي الْمُشْتَرَكُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَة وَإِلَّا لاقتضت حَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكِ فَارْتَفَعَ الْمَوْضُوعُ مِنْ أَصْلِهِ. وَإِنَّمَا سَهَا أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ قَرِينَةِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَقَرِينَةِ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ مَعَانِيهِ، فَإِنَّ قَرِينَةَ الْمَجَازِ مَانِعَةٌ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَقَرِينَةَ الْمُشْتَرَكِ مُعَيِّنَةٌ لِلْمَعَانِي الْمُرَادَةُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا نَذْكُرُهُ اسْتِيعَابًا لِآرَاءِ النَّاظِرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ صِحَّةُ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرِكِ عَلَى مَعَانِيهِ فِي النَّفْيِ وَعَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ فِي الْإِيجَابِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى بُرْهَانِ، عَلِيٍّ الْمَرْغِينَانِيِّ الْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ «الْهِدَايَةِ» فِي الْفِقْهِ، وَمَثَارُهُ- فِي مَا أَحْسَبُ- اشْتِبَاهُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ بِدَلَالَةِ النَّكِرَةِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى أَفْرَادِهَا حَيْثُ تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَلَا تُفِيدُهُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ.
وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُشْتَرَكُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ الْمُشْتَرَكُ، وَالتَّرْكِيبُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الِاسْتِعْمَالَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَعَانِي حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةُ، مَحْضَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً. مِثَالُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الْحَج: ١٨] فَالسُّجُودُ لَهُ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَمَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ التَّعْظِيمُ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ يَسْجُدُ هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: ٢] فَبَسْطُ الْأَيْدِي حَقِيقَةٌ فِي مَدِّهَا لِلضَّرْبِ وَالسَّلْبِ، وَبَسْطُ الْأَلْسِنَةِ مَجَازٌ فِي عَدَمِ إِمْسَاكِهَا عَنِ الْقَوْلِ الْبَذِيءِ،
وَالْكَرَّةُ الرَّجْعَةُ إِلَى مَحَلٍّ كَانَ فِيهِ الرَّاجِعُ وَهِيَ مَرَّةٌ مِنَ الْكَرِّ وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِمَكَانٍ سَابِقٍ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (الْكَرَّةِ) هُنَا لِظُهُورِهِ.
وَالْكَافُ فِي كَمَا تَبَرَّءُوا لِلتَّشْبِيهِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْمُجَازَاةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ أَنْ يُمَاثِلَ الْفِعْلَ الْمَجَازَى قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]، وَهَذِهِ الْكَافُ قَرِيبَةٌ مِنْ كَافِ التَّعْلِيلِ أَوْ هِيَ أَصْلُهَا وَأَحْسَنُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:

أَهُزُّ بِهِ فِي نَدْوَةِ الْحَيَّ عِطْفَهُ كَمَا هَزَّ عِطْفِي بِالْهِجَانِ الْأَوَارِكِ
وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْكَافِ وَبَيْنَ كَافِ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا إِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيْتِ أَبِي كَبِيرٍ جُعِلَتْ لِلْمُجَازَاةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَمَا بَعْدَ الْكَافِ بَاعِثٌ عَلَى الْمُشَبَّهِ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة:
١٩٨].
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا بعد مَا عَلِمُوا الْحَقِيقَةَ وَانْكَشَفَ لَهُمْ سُوءُ صَنِيعِهِمْ فَيَدْعُوهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى دِينِهِمْ فَلَا يُجِيبُونَهُمْ لِيُشْفُوا غَيْظَهُمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ خَذَلُوهُمْ وَلِتَحْصُلَ لِلرُّؤَسَاءِ خَيْبَةٌ وَانْكِسَارٌ كَمَا خَيَّبُوهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ هُمْ إِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا جَمِيعًا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ فَلَا يَدْعُوهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ حَتَّى يَمْتَنِعُوا مِنْ إِجَابَتِهِمْ، قُلْتُ بَابُ التَّمَنِّي وَاسْعٌ فَالْأَتْبَاعُ تَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ وَيَعُودَ الْمَتْبُوعُونَ فِي ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ وَقَدْ يُقَالُ اتَّهَمَ الْأَتْبَاعُ مَتْبُوعِيهِمْ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ لِعِلْمِهِمْ غَالِبًا وَالْأَتْبَاعُ مَغْرُورُونَ لِجَهْلِهِمْ فَهُمْ إِذَا رَجَعُوا جَمِيعًا إِلَى الدُّنْيَا رَجَعَ الْمَتْبُوعُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّضْلِيلِ عَلَى عِلْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا رَأَوْهُ يَوْمَ الْقِيَامَة لم يزعهم لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُوقِنِينَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَرَجَعَ الْأَتْبَاعُ عَالِمِينَ بِمَكْرِ الْمَتْبُوعِينَ فَلَا يُطِيعُونَهُمْ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِقِصَّةِ تَبَرِّي الْمَتْبُوعِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ لِلْإِرَاءَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ يُرِيهِمُ عَلَى أُسْلُوبِ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣].
وَقَالَ الطِّيبِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْفَرَائِدِ: يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ اسْتِعْمَالُ التَّدَايُنِ مَجَازًا فِي الْوَعْدِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا
فَذَكَرَ قَوْلَهُ «بِدَيْنٍ» دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الْمَجَازِ. وَالدَّيْنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِوَضُ الْمُؤَخَّرُ قَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ
وَقَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى طَلَبُ تَعْيِينِ الْآجَالِ لِلدُّيُونِ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الْخُصُومَاتِ وَالتَّدَاعِي فِي الْمُرَادَاتِ، فَأُدْمِجَ تَشْرِيعُ التَّأْجِيلِ فِي أَثْنَاءِ تَشْرِيعِ التَّسْجِيلِ.
وَالْأَجَلُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَحْدُودَةُ النِّهَايَةِ مَجْعُولَةٌ ظَرْفًا لِعَمَلٍ غَيْرِ مَطْلُوبٍ فِيهِ الْمُبَادَرَةُ، لِرَغْبَةِ تَمَامِ ذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا.
وَالْأَجَلُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَالْمَصْدَرُ التَّأْجِيلُ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْأَجَلِ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّوْسِعَةِ فِي الْعَمَلِ أُطْلِقَ الْأَجَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [الْبَقَرَة: ٢٣٤] وَقَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٥].
وَالْمُسَمَّى حَقِيقَتُهُ الْمُمَيَّزُ بِاسْمٍ يُمَيِّزُهُ عَمَّا يُشَابِهُهُ فِي جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ، فَمِنْهُ أَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، وَالْمُسَمَّى هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُعَيَّنِ الْمَحْدُودِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ تَحْدِيدُهُ بِنِهَايَةٍ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَ النَّاسِ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالتَّحْدِيدِ بِوَضْعِ الِاسْمِ بِجَامِعِ التَّعْيِينِ إِذْ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْ أَمْثَالِهِ إِلَّا بِذَلِكَ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّسْمِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى. فَالْمَعْنَى أَجَلٌ مُعَيَّنٌ بِنِهَايَتِهِ. وَالدَّيْنُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ وصف أجل بمسمّى إِدْمَاجًا لِلْأَمْرِ بِتَعْيِينِ الْأَجَلِ.
وَقَوْلُهُ: بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعُمُّ كُلَّ دَيْنٍ: مِنْ قَرْضٍ أَوْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ- يَعْنِي بَيْعَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ إِذَا كَانَ ذَا ذِمَّةٍ إِلَى أَجَلٍ- وَكَانَ السَّلَمُ مِنْ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ.
وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قُصِدَ بِهِ تَهْيِيجُ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِذْ قَدْ عَلِمَ الله أنّهم مُؤمنُونَ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَاحَ عَلَيْهِمُ الْوَهَنُ وَالْحَزَنُ مِنَ الْغَلَبَةِ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ عَلِمْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ، وَجِيءَ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا عَدَمُ تَحْقِيقِ شَرْطِهَا، إِتْمَامًا لِهَذَا الْمَقْصِدِ.
[١٤٠، ١٤١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٤٠ الى ١٤١]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.
تَسْلِيَةٌ عَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ عَجِيبٍ فِي الْحَرْبِ، إِذْ لَا يَخْلُو جَيْشٌ مِنْ أَنْ يُغْلَبَ فِي بَعْضِ مَوَاقِعِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَدُوَّ غَلَبَ. وَالْمَسُّ هُنَا الْإِصَابَةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٤] مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ. وَالْقَرْحُ- بِفَتْحِ الْقَافِ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ- الْجُرْحُ، وَبِضَمِّهَا فِي لُغَةِ غَيرهم، وقرأه الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ: بِضَمِّ الْقَافِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلْهَزِيمَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ، فَإِنَّ الْهَزِيمَةَ تُشَبَّهُ بِالثُّلْمَةِ وَبِالِانْكِسَارِ، فَشُبِّهَتْ هُنَا بِالْقَرْحِ حِينَ يُصِيبُ الْجَسَدَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ الْجِرَاحَ الَّتِي تُصِيبُ الْجَيْشَ لَا يُعْبَأُ بِهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا النَّصْرُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّسْلِيَةَ وَقَعَتْ عَمَّا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ.
وَالْقَوْمُ هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ.
وَالْمَعْنَى إِنْ هُزِمْتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكُنْتُمْ كفافا. وَلذَلِك أعقبه بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يَمْسَسْكُمْ لِقُرْبِهِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ، وَعَمَّا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِبُعْدِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَقَوْلُهُ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ لَيْسَ هُوَ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَغْنَى عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، وَالْمعْنَى: إِن يمسكم قَرْحٌ فَلَا تَحْزَنُوا أَوْ فَلَا تَهِنُوا وَهُنَا بِالشَّكِّ فِي وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ دِينِهِ إِذْ قَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ»، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ
. وَعَرْضُ الْحَوَادِثِ عَلَى مِقْيَاسِ تَصَرُّفَاتِهِ والصريح من سنّته.
وَالتَّنَازُعُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، أَيِ الْأَخْذِ، قَالَ الْأَعْشَى:
نَازَعْتُهُمْ قُضْبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ
فَأَطْلَقَ التَّنَازُعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الشَّدِيدَ يُشْبِهُ التَّجَاذُبَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: ٤٦] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى [طه: ٦٢].
وَضَمِيرُ تَنازَعْتُمْ رَاجِعٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يُمْكِنُ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولَ، إِذْ لَا يُنَازِعُهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُمُومِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، كَتَنَازُعِ الْوُزَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ أَوْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الرَّعِيَّةِ مَعَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بعض فِي شؤون عِلْمِ الدِّينِ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ نَجِدُ الْمُرَادَ ابْتِدَاءً هُوَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ فَسَّرُوهُ بِبَعْضِ صُوَرٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلَيْسَ مَقْصِدُهُمْ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرُوا بِهِ، وَأَحْسَنُ عِبَارَاتِهِمْ فِي هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: «يَعْنِي فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَوْ أَنْتُمْ وَأُولُو أَمْرِكُمْ فِيهِ». وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَإِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ رَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ».
وَلَفْظُ (شَيْءٍ) نَكِرَةٌ مُتَوَغِّلَةٌ فِي الْإِبْهَامِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي اخْتِلَافِ الْآرَاءِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ أَوْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ عَمَلٍ مَا، كَتَنَازُعِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي إِجْرَاءِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ. وَلَقَدْ حَسَّنَ مَوْقِعَ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) هُنَا تَعْمِيمُ الْحَوَادِثِ وَأَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، فَكَانَ مِنَ الْمَوَاقِعِ الرَّشِيقَةِ فِي تَقْسِيمِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَوَاقِعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ الْمُسَبَّبَاتُ مِنْ أَسْبَابِهَا كَتَعَرُّفِ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّحَابِ، وَتَرَقُّبِ خُرُوجِ الْفَرْخِ مِنَ الْبَيْضَةِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنُ غُدَيْقَةٍ»
أَيْ سَحَابَةٍ مِنْ جِهَةِ بَحْرِهِمْ، وَمَعْنَى «عَيْنُ» أَنَّهَا كَثِيرَةُ الْمَطَرِ.
وَأَمَّا أَزْلَامُ الْمَيْسِرِ، فَهِيَ فِسْقٌ، لِأَنَّهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ.
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
جُمْلَةٌ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبَيْنَ آيَةِ الرُّخْصَةِ الْآتِيَةِ: وَهِيَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْآيَةِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ يَقْضِي بِاتِّصَالِهَا بِمَا تَقَدَّمَهَا.
وَلَا يَصْلُحُ لِلِاتِّصَالِ بِهَا إِلَّا قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الْآيَةَ.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ: هِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ أُمُورًا كَانَ فِعْلُهَا مِنْ جُمْلَةِ دِينِ الشِّرْكِ، وَهِيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَتَحْرِيمُ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَكَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ بِمُفَارَقَةِ مُعْتَادِهِمْ، وَالتَّقْلِيلِ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، أَعْقَبَ هَذِهِ الشِّدَّةَ بِإِينَاسِهِمْ بِتَذْكِيرِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إِكْمَالٌ لِدِينِهِمْ، وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ أَحْوَالِ ضَلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ كَمَا أُيِّدُوا بِدِينٍ عَظِيمٍ سَمْحٍ فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوا مَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِصْلَاحِهِمْ: فَالْبَعْضُ مَصْلَحَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَنَافِعِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْبَعْضُ مَصْلَحَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّرَفُّعِ عَنْ حَضِيضِ الْكُفْرِ: وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَذْكَرَهُمْ بِفَوْزِهِمْ عَلَى مَنْ يُنَاوِيهِمْ، وَبِمَحَاسِنِ دِينِهِمْ وَإِكْمَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ إِكْمَالِ الْإِصْلَاحِ إِجْرَاءَ الشِّدَّةِ عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ. وَذُكِّرُوا بِالنِّعْمَةِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الشِّدَّةِ بِاللِّينِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ، زَمَانًا، إِذَا سَمِعُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ رَجَوْا أَنْ تَثْقُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، وَيَرْجِعُوا
قالُوا لَا عِلْمَ لَنا... إِلَخْ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَأَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ: يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ إِلَخْ. فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، فَيَفْتَتِحُ بِهَذَا الظَّرْفِ الْمَهُولِ وَلِيُورِدَ الِاسْتِشْهَادَ فِي صُورَةِ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالرُّسُلِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ مَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] لِأَنَّهُ لَا جَدْوَى فِي نَفْيِ الْهِدَايَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّ جَزَالَةَ الْكَلَامِ تُنَاسِبُ اسْتِئْنَافَهُ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ غَيْرُ وَاسِعِ الْمَعْنَى.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] عَلَى أَنَّ يَوْمَ
مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] لِأَنَّ جَمْعَ الرُّسُل ممّا يَشْمَل عَلَيْهِ شَأْنُ اللَّهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِشْهَادِ. يَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ تَوْبِيخُ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي حَيَاتِهِمْ أَوْ بَدَّلُوا وَارْتَدُّوا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ.
وَظَاهِرُ حَقِيقَةِ الْإِجَابَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا أَجَابَكُمُ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أُرْسِلْتُمْ إِلَيْهِمْ، أَيْ مَاذَا تَلَقَّوْا بِهِ دَعَوَاتِكُمْ، حَمْلًا عَلَى مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [النَّمْل: ٥٦]. وَيُحْمَلُ قَوْلُ الرُّسُلِ: لَا عِلْمَ لَنا عَلَى مَعْنَى لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يُضْمِرُونَ حِينَ أَجَابُوا فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. أَوْ هُوَ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَجَابَتْ بِهِ الْأُمَمُ يُعلمهُ رسلهم فلابدّ مِنْ تَأْوِيلِ نَفْيِ الرُّسُلِ الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَتَفْوِيضِهِمْ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَجْمَعَ الرُّسُلُ فِي الْجَوَابِ عَلَى تَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ عِلْمَكَ سُبْحَانَكَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَشَهَادَتَكَ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَهَادَةٍ، فَكَانَ جَوَابَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنًا أُمُورًا: أَحَدُهَا: الشَّهَادَةُ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ أُمَمِهِمْ بِأَنَّ مَا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ.
الثَّانِي: تَسْفِيهُ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي إِنْكَارِهِمُ الَّذِي لَا يُجْدِيهِمْ. الثَّالِث: تَذْكِيرُ أُمَمِهِمْ بِمَا عَامَلُوا بِهِ رُسُلَهُمْ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، تَعْمِيمًا لِلتَّذْكِيرِ بِكُلِّ مَا صَدَرَ مِنْ أُمَمِهِمْ مِنْ تَكْذِيبٍ وَأَذًى وَعِنَادٍ. وَيُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَا أَزِيدُكَ عِلْمًا بِذَلِكَ، أَوْ أَنْتَ تَعْرِفُ مَا جَرَى.
وَمَعْنَى تَزْيِينِ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لَهُمْ فَوَائِدَ وَقُرَبًا فِي هَذَا الْقَتْلِ، بِأَنْ يُلْقُوا إِلَيْهِمْ مَضَرَّةَ الِاسْتِجْدَاءِ وَالْعَارِ فِي النِّسَاءِ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُرْجَى مِنْهُنَّ نَفْعٌ لِلْقَبِيلَةِ، وَأَنَّهُنَّ يُجَبِّنَّ الْآبَاءَ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَيُؤْثِرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ على آبائهن، فقتلهنّ أصلح وأنفع من استبقائهن، وَنَحْو هَذَا من الشّبه والتّمويهات، فَيَأْتُونَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَرُوجُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُفْرِطِينَ فِي الْغَيْرَةِ، وَالْجُمُوحِ مِنَ الْغَلَبِ وَالْعَارِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
وَإِنَّمَا قَالَ: لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ،
وَكَانَ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَهُمَا جَمْهَرَةُ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ كُلُّ الْآبَاءِ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ يَفْعَلُهُ.
وَأَسْنَدَ التَّزْيِينَ إِلَى الشُّرَكَاءِ: إِمَّا لِإِرَادَةِ الشَّيَاطِينِ الشُّرَكَاءِ، فَالتَّزْيِينُ تَزْيِينُ الشَّيَاطِينِ بِالْوَسْوَسَةِ، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّزْيِينَ نَشَأَ لَهُمْ عَنْ إِشَاعَةِ كُبَرَائِهِمْ فِيهِمْ، أَوْ بِشَرْعٍ وَضَعَهُ لَهُمْ مَنْ وَضَعَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَفَرَضَ لَهَا حُقُوقًا فِي أَمْوَالِهِمْ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَيَكُونُ إِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى الشُّرَكَاءِ مَجَازًا عَقْلِيًّا لِأَنَّ الْأَصْنَامَ سَبَبُ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَتَيْنِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١].
وَالْمَعْنِيُّ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْوَأْدُ، وَهُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ الصَّغِيرَاتِ أَحْيَاءً فَيَمُتْنَ بِغُمَّةِ التُّرَابِ، كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١]، وخشية أَنْ تُفْتَضَحَ الْأُنْثَى بِالْحَاجَةِ إِذَا هَلَكَ أَبُوهَا، أَوْ مَخَافَةَ السِّبَاءِ، وَذَكَرَ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» عَنِ النَّقَّاشِ فِي «تَفْسِيرِهِ» : أَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ مِنَ الْبَنَاتِ مَنْ
وَالْمُرَادُ بِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَهِمُوا الْآيَاتِ وَشَكَرُوا عَلَيْهَا، وَالتَّعْرِيضُ بِجَهْلِ وَضَلَالِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، رَغْمَ مَا فُصِّلَ لَهُمْ من الْآيَات.
[٣٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
لَمَّا أَنْبَأَ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الْأَعْرَاف: ٣٢] إِلَى آخِرِهِ، بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ حُرِمُوا مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَنْبَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى- قَبْلَ ذَلِكَ- وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: ٢٨] بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْزُونَ ضَلَالَهُمْ فِي الدِّينِ إِلَى اللَّهِ، فَأَنْتَجَ ذَلِكَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَعْقَبَ مُجَادَلَتَهُمْ بِبَيَانِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ حقّا وهم ملتبسون بِهِ وَعَاكِفُونَ عَلَى فِعْلِهِ.
فَالْقَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ مُفَادُهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا لَا مَا حَرَّمْتُمُوهُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، فَأَفَادَ إِبْطَالَ اعْتِقَادِهِمْ، ثُمَّ هُوَ يُفِيدُ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَنَّ مَا عَدَّهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهَا قَدْ تَلَبَّسُوا بِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَّ أَشْيَاءَ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِيهَا، عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ مَا عَيَّنَهُ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْيِينُ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ فَحَصَلَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ مِنْ جَانِبَيْ مَا فِي صِيغَةِ (إِنَّمَا) مِنْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ: إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (مَا- وَإِلَّا)، فَأَفَادَ تَحْلِيلَ مَا زَعَمُوهُ حَرَامًا وَتَحْرِيمَ مَا اسْتَبَاحُوهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَمَا مَعَهَا.
فِي الْإِعَادَةِ زِيَادَةٌ، فَأُخِّرَ مُقَيِّدُ الْأَخْذِ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِقُوَّةٍ، عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ،
وَعُلِّقَ بِالْأَمْرِ الثَّانِي الرَّابِطُ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: فَخُذْها بِتَأْكِيدٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظْمُ حِكَايَةِ الْخِطَابِ لِمُوسَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ الْخِطَابِ الْمَحْكِيِّ إِعَادَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ هَذَا الْأَخْذِ، فَيَكُونُ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَيَكُونُ تَأْخِيرُ الْقَيْدِ تَحْسِينًا لِلتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِيَكُونَ مَعَهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَيَكُونَ الِاعْتِرَاضُ قَدْ وَقَعَ بَين التوكيد والموكّد وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظْمُ الْخِطَابِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى حُكِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أُسْلُوبِهِ الصَّادِرِ بِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها عَائِدٌ إِلَى الْأَلْوَاحِ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ. وَالْمَقُولُ لِمُوسَى هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ، وَفِي هَذَا الضَّمِيرِ تَفْسِيرٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: ١٤٤] وَفِي هَذَا تَرْجِيحُ كَون مَا صدق مَا آتَيْتُكَ هُوَ الْأَلْوَاحُ، وَمَنْ جعلُوا مَا صدق مَا آتَيْتُكَ الرِّسَالَةَ وَالْكَلَامَ جَعَلُوا الْفَاءَ عَاطِفَةً لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى جُمْلَةِ وَكَتَبْنا وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: وَكَتَبْنَا فَقُلْنَا خُذْهَا بِقُوَّةٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَحْسَنُ وَأَوْفَقُ بِالنَّظْمِ.
وَالْأَخْذُ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِقُوَّةٍ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى لَهُ بِهَا أَنْ يَعْمَلَ مَا يَشُقُّ عَمَلُهُ فِي الْمُعْتَادِ فَتَكُونُ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِثْلَ قُوَّةِ الْيَدَيْنِ عَلَى الصُّنْعِ الشَّدِيدِ، وَالرِّجْلَيْنِ عَلَى الْمَشْيِ الطَّوِيلِ، وَالْعَيْنَيْنِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمَرْئِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ. وَتَكُونُ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مِثْلَ قُوَّةِ الدِّمَاغِ عَلَى التَّفْكِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُهُ غَالِبُ النَّاسِ، وَعَلَى حِفْظِ مَا يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهِ غَالِبُ النَّاسِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قُوَّةُ الْعَقْلِ.
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْقُوَى عَلَى الْعَقْلِ وَفِيمَا أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
وَصَاحِبَيْنِ حَازِمًا قُوَاهُمَا
مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى الْحَجِّ وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ صَدْرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ (١). ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَقَعُ خَلْطٌ فِي الْأَخْبَارِ بَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَحُجَّ بِالْمُسْلِمِينَ عِوَضًا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ اشْتَبَهَ بِهِ الْغَرَضَانِ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يتلبّس وعَلى بِمن لُبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَأَرَدْنَا إِيقَاظَ الْبَصَائِرِ لِذَلِكَ. فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِهَا، وَذِكْرُهُ أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا.
فَافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَحْدِيدِ مُدَّةِ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ حَالَةِ حَرْبٍ وَأَمْنٍ وَفِي خِلَالِ مُدَّةِ الْحَرْبِ مُدَّةُ تَمْكِينِهِمْ مِنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الدِّينِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ.
وَأُتْبِعَ بِأَحْكَامِ الْوَفَاءِ وَالنَّكْثِ وَمُوَالَاتِهِمْ.
وَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحُضُورِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
وَإِبْطَالِ مَنَاصِبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا.
وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ.
وَإِعْلَانِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بَعِيدًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ لَا تَنْفَعُهُمْ قُوَّتُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ.
وَحُرْمَة الْأَشْهر الْحرم.
وَضَبْطِ السَّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِبْطَالِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِجَابَةِ إِلَى النَّفِيرِ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ الله، وَنصر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ نَبِيِّهِ وَنَاصِرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِنَصْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَبِنَصْرِهِ إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا هَيَّأَ لَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
_________
(١) من أول السُّورَة حَتَّى قَوْله: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: ٤٠].
وَلِوُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعَ الْوَعِيدِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ عُدِلَ فِيهَا عَنْ طَرِيقَةِ الْخِطَابِ بِالضَّمِيرِ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِظْهَار، وَجِيء بالموصولة لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي حُصُولِ الْخَبَرِ.
وَقَدْ جُعِلَ عُنْوَانُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا عَلَامَةً عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَكَرَّرَ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَمِنَ الْمَوَاقِعِ مَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَوْصُولِيَّةِ إِلَّا لِلِاشْتِهَارِ بِالصِّلَةِ كَمَا سَنَذْكُرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٥].
وَالرَّجَاءُ: ظَنُّ وُقُوعِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ كَوْنِ الْمَظْنُونِ مَحْبُوبًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ. فَمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَا يَظُنُّونَهُ وَلَا يَتَوَقَّعُونَهُ.
وَمَعْنَى: رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْمِلُوا النَّظَرَ فِي حَيَاةٍ أُخْرَى أَرْقَى وَأَبْقَى لِأَنَّ الرِّضَا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالِاقْتِنَاعَ بِأَنَّهَا كَافِيَةٌ يَصْرِفُ النَّظَرَ عَنْ أَدِلَّةِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْهُدَى يَرَوْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حَيَاةً نَاقِصَةً فَيَشْعُرُونَ بِتَطَلُّبِ حَيَاةٍ تَكُونُ أَصْفَى مِنْ أَكْدَارِهَا فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ تَطْلُعَ لَهُمْ أَدِلَّةُ وُجُودِهَا، وَنَاهِيكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ بِهَا وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَعَيُّنِ حُصُولِهَا، فَلِهَذَا جُعِلَ الرِّضَى بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَذَمَّةً وَمُلْقِيًا فِي مَهْوَاةِ الْخُسْرَانِ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَهْجَةَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالرِّضَى بِهَا يَكُونُ مِقْدَارُ التَّوَغُّلِ فِيهِمَا بِمِقْدَارِ مَا يَصْرِفُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَلَيْسَ ذَلِك بِمُقْتَضى الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فِيهَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِ بِهَا وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا وَالتَّعَرُّفِ بِهَا إِلَى مَرَاتِبَ أَعْلَى هِيَ مَرَاتِبُ حَيَاةٍ أُخْرَى وَالتَّزَوُّدِ لَهَا. وَفِي ذَلِكَ مَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ بِمِقْدَارِ مَا تَهَيَّأَتْ لَهُ النُّفُوسُ الْعَالِيَةُ مِنْ لَذَّاتِ الْكَمَالَاتِ الرُّوحِيَّةِ، وَأَعْلَاهَا مَقَامُ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَقُلْتُ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا»
. وَالِاطْمِئْنَانُ: السُّكُونُ يَكُونُ فِي الْجَسَدِ وَفِي النَّفْسِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: ٢٧]. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَقُولِ اللِّسَانِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي اعْتِقَادَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ.
قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦).
لَمَّا جَاءُوا فِي كَلَامِهِمْ بِرَفْضِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَبِجَحْدِ آيَاتِهِ وَبِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى مُلَازَمَةِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ وَبِالتَّنْوِيهِ بِتَصَرُّفِ آلِهَتِهِمْ أَجَابَهُمْ هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ وَأَنَّهُمْ كَابَرُوا وَجَحَدُوا آيَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ أُشْهِدُ اللَّهَ إِنْشَاءٌ لِإِشْهَادِ اللَّهِ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْشَاءٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي
الْخَلْقِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ قَصْدِ إِعْلَامِ السَّامِعِ بِمَا يُضْمِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى صِيَغِ الْعُقُودِ إِنْشَاءً بِلَفْظِ الْخَبَرِ. ثُمَّ حَمَّلَهُمْ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ شُرَكَائِهِمْ مُبَادَرَةً بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ أَتَوْا بِهِ اسْتِطْرَادًا، فَلِذَلِكَ كَانَ تَعَرُّضُهُ لِإِبْطَالِهِ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَجُمْلَةِ فَإِنْ تَوَلَّوْا [هود: ٥٧] بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ فَإِنْ تَوَلَّوْا إِلَى آخِرِهَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَيَأْتِي. وَمَعْنَى إِشْهَادِهِ فَيُرَادُ مِنْ شُرَكَائِهِمْ تَحْقِيقُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ عَلَى أَمْرٍ جَازِمٍ قَدْ أَوْجَبَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَتَى فِي إِشْهَادِهِمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِزَاجَةَ إِنْشَاءِ الْإِشْهَادِ دُونَ رَائِحَةِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا يشركونه.
وَمَا صدق الْمَوْصُولِ الْأَصْنَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمُؤَكَّدِ فِي
الْمَنْقُوصِ غَيْرِ الْمُنَوَّنِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ فِي الْقَافِيَةِ أَوْ فِي الْفَوَاصِلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ مِنْ والٍ [الرَّعْد: ١١]، والْآصالِ [الرَّعْد: ١٥].
وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا يُخْتَارُ إِثْبَاتُهُ مِنَ الْيَاءَاتِ وَالْوَاوَاتِ يُحْذَفُ فِي الْفَوَاصِلِ وَالْقَوَافِي، وَالْإِثْبَاتُ أَقْيَسُ وَالْحَذْفُ عَرَبِيّ كثير.
[١٠]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٠]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَفِيَّاتِ وَالظَّوَاهِرِ. وَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الضَّمَائِرِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْخِطَابِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ يَصْلُحُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ.
وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُتَآمِرِينَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ. وَإِنَّمَا يَقَعُ مَعْنَاهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا. وَاسْتُعْمِلَ سَوَاءٌ فِي الْكَلَامِ مُلَازِمًا حَالَةً وَاحِدَةً فَيُقَالُ: هُمَا سَوَاءٌ وَهُمْ سَوَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ. وَمَوْقِعُ سَوَاءٌ هُنَا مَوْقِعُ الْمُبْتَدَأِ. ومَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ سَواءٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا ومَنْ أَسَرَّ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا ومِنْكُمْ حَالٌ مَنْ أَسَرَّ.
وَالِاسْتِخْفَاءُ: هُنَا الْخَفَاءُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ.
وَالسَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَبَ إِذَا ذَهَبَ فِي السَّرْبِ- بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُوَ الطَّرِيقُ. وَهَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ. وَذِكْرُ الِاسْتِخْفَاءِ مَعَ اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ خَفَاءً، وَذِكْرُ السُّرُوبِ مَعَ النَّهَارِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ ظُهُورًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ سَوَاءٌ لَدَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَوَجْهُ تَشْبِيهِ الْوَحْيِ بِالرُّوحِ أَنَّ الْوَحْيَ إِذَا وَعَتْهُ الْعُقُولُ حَلَّتْ بِهَا الْحَيَاةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهُوَ الْعِلْمُ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ إِذَا حَلَّ فِي الْجِسْمِ حَلَّتْ بِهِ الْحَيَاةُ الْحِسِّيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [سُورَة الشورى: ٥٢].
وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِهِ الْجِنْسُ، أَيْ مِنْ أُمُوره، وَهِي شؤونه وَمُقَدَّرَاتُهُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بهَا.
وَذَلِكَ وَجه إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا هُنَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، وَقَوْلَهِ تَعَالَى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [سُورَة الرَّعْد: ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سُورَة الْإِسْرَاء: ٨٥] لِمَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّخْصِيصِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنَزِّلُ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَكْسُورَةً-.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّاي مَكْسُورَةً، والْمَلائِكَةَ مَنْصُوبًا.
وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةً وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً وَرَفْعِ الْمَلائِكَةَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَنَزَّلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ رَدٌّ عَلَى فُنُونٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فَقَدْ قَالُوا:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سُورَة الزخرف: ٣١] وَقَالُوا:
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [سُورَة الزخرف: ٥٣] أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَقَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: ٧]. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٤].
وأَنْ أَنْذِرُوا تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ يُنَزِّلُ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْوَحْيِ.
وَقَوْلُهُ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ بَيْنَ فِعْلِ يُنَزِّلُ وَمُفَسِّرِهِ.
وَالْمُسْتَقِيمُ: السَّوِيُّ، مُشْتَقٌّ مِنِ الْقَوَامِ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَهُوَ اعْتِدَالُ الذَّاتِ. يُقَالُ:
قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ. وَوَصْفُ الْمِيزَانِ بِهِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ وَصْفٌ لَهُ كَاشِفٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ كُلَّهُ اسْتِقَامَةٌ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ خَيْرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلَيْ كِلْتُمْ وزِنُوا.
وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ، أَيْ خَيْرٌ لَكُمْ. فُضِّلَ عَلَى التَّطْفِيفِ تَفْضِيلًا لِخَيْرِ الْآخِرَةِ الْحَاصِلِ مِنْ ثَوَابِ الِامْتِثَالِ عَلَى خَيْرِ الدُّنْيَا الْحَاصِلِ مِنَ الِاسْتِفْضَالِ الَّذِي يُطَفِّفُهُ الْمُطَفِّفُ، وَهُوَ أَيْضًا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ انْشِرَاحَ النَّفْسِ الْحَاصِلَ لِلْمَرْءِ مِنَ الْإِنْصَافِ فِي الْحَقِّ أفضل من الارتباح الْحَاصِلِ لَهُ بِاسْتِفْضَالِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ.
وَالتَّأْوِيلُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْأَوَلِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ. يُقَالُ: أَوَّلَهُ إِذَا أَرْجَعَهُ، أَيْ أَحْسَنَ إِرْجَاعًا، إِذَا أَرْجَعَهُ الْمُتَأَمِّلُ إِلَى مَرَاجِعِهِ وَعَوَاقِبِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَكُونُ كَالْمُنْتَقِلِ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَاهِيَّةُ صَلَاحًا اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْمُتَأَمِّلِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ، فَكَأَنَّهُ أَرْجَعَهَا بَعْدَ التَّطْوَافِ إِلَى مَكَانِهَا الصَّالِحِ بِهَا وَهُوَ مَقَرُّهَا، فَأَطْلَقَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الرَّأْي بعد التَّأَمُّل اسْمَ التَّأْوِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ.
وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا: أَنَّ النَّظَرَ إِذَا جَالَ فِي مَنَافِعِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَفِي مَضَارِّ الْإِيفَاءِ فِيهِمَا ثُمَّ عَادَ فَجَالَ فِي مَضَارِّ التَّطْفِيفِ وَمَنَافِعِ الْإِيفَاءِ اسْتَقَرَّ وَآلَ إِلَى أَنَّ الْإِيفَاءَ بِهِمَا خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ، لِأَنَّ التَّطْفِيفَ يَعُودُ عَلَى الْمُطَفِّفِ بِاقْتِنَاءِ جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْمَالِ وَيُكْسِبُهُ الْكَرَاهِيَةَ وَالذَّمَّ عِنْدَ النَّاسِ وَغَضَبَ اللَّهِ وَالسُّحْتَ فِي مَالِهِ مَعَ احْتِقَارِ نَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ، وَالْإِيفَاءُ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُكْسِبُهُ مَيْلَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَرِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْبَرَكَةَ فِي مَالِهِ
وَالْمُبَارَكُ: الَّذِي تُقَارِنُ الْبَرَكَةُ أَحْوَالَهُ فِي أَعْمَالِهِ وَمُحَاوَرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُبَارَكَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَهُ، إِذَا جَعَلَهُ ذَا بَرَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَارَكَ فِيهِ، إِذَا جَعَلَ الْبَرَكَةَ مَعَهُ.
وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ وَالْيُمْنُ.
ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِرَحْمَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُحِلَّ لَهُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلِيَدْعُوَهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ أَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَغَيَّرُوا مِنْ دِينِهِمْ، فَهَذِهِ أَعْظَمُ بَرَكَةٍ تُقَارِنُهُ. وَمِنْ بَرَكَتِهِ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ حُلُولَهُ فِي الْمَكَانِ سَبَبًا لِخَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ مِنْ خِصْبِهَا وَاهْتِدَاءِ أَهْلِهَا وَتَوْفِيقِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِذَا لَقِيَهُ الْجَهَلَةُ وَالْقُسَاةُ وَالْمُفْسِدُونَ انْقَلَبُوا صَالِحِينَ وَانْفَتَحَتْ قُلُوبُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَكْثَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا مِنْ عَامَّةِ الْأُمِّيِّينَ مِنْ صَيَّادِينَ وَعَشَّارِينَ فَصَارُوا دُعَاةَ هَدًى وَفَاضَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْحِكْمَةِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُبَارَكًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيئًا عُمُومًا وَجْهِيًّا، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْله وَجَعَلَنِي نبيئا غُنْيَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً.
وَالتَّعْمِيمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أَيْنَ مَا كُنْتُ تَعْمِيمٌ لِلْأَمْكِنَةِ، أَيْ لَا تَقْتَصِرُ بَرَكَتُهُ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْهَيْكَلِ بِالْمَقْدِسِ أَوْ فِي مَجْمَعِ أَهْلِ بَلَدِهِ، بَلْ هُوَ حَيْثُمَا حَلَّ تَحُلَّ مَعَهُ الْبَرَكَةُ.
وَالْوِصَايَةُ: الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ بِعَمَلٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَيْ قَدَّرَ وَصِيَّتَي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، أَيْ أَنْ يَأْمُرَنِي بِهِمَا أَمْرًا مُؤَكَّدًا مُسْتَمِرًّا، فَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَوْصانِي مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا
فِي قَوْلِهِ آتانِيَ الْكِتابَ.
وَالزَّكَاةُ: الصَّدَقَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يُصَلِّيَ وَيُزَكِّيَ. وَهَذَا أَمْرٌ خَاصٌّ بِهِ كَمَا أُمِرَ نَبِيئُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَرِينَةُ
وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَمِلَهُ بَعْدَ أَنْ جَادَلَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ وَرَأَى جِمَاحَهُمْ عَنِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَقَوْلُ قَوْمِهِ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُ الْآلِهَةِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمْ فَرِيقٌ لَمْ يَسْمَعْ تَوَعُّدَ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدَ أَصْنَامَهُمْ وَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَ إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ.
وَالْفَتَى: الذَّكَرُ الَّذِي قَوِيَ شَبَابُهُ. وَيَكُونُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْإِبِلِ. وَالْأُنْثَى: فَتَاةٌ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ صِفَةَ مَدْحٍ دَالَّةً عَلَى اسْتِكْمَالِ خِصَالِ الرَّجُلِ الْمَحْمُودَةِ.
وَالذِّكْرُ: التَّحَدُّثُ بِالْكَلَامِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «يَذْكُرُ» لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِتَوَعُّدٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَوْضِعُ جُمْلَتَيْ يَذْكُرُهُمْ ويُقالُ لَهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ فَتًى.
وَفِي قَوْلِهِمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَحْثِ فِي الْقَضِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا
يَعْرِفُونَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَرَادُوا تَحْقِيرَهُ بِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَإِنَّمَا يُدْعَى أَوْ يُسَمَّى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ لَيْسَ هُوَ مِنَ النَّاسِ الْمَعْرُوفِينَ.
وَرُفِعَ إِبْراهِيمُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ يُقالُ، لِأَنَّ فِعْلَ الْقَوْلِ إِذَا بُنِيَ إِلَى الْمَجْهُولِ كَثِيرًا مَا يَضْمَنُ مَعْنَى الدَّعْوَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ، فَلِذَلِكَ
وَالتَّعْرِيفُ فِي الصِّرَاط للْجِنْس، أَيْ هُمْ نَاكِبُونَ عَنِ الصِّرَاطِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيْثُ لَمْ يَتَطَلَّبُوا طَرِيقَ نَجَاةٍ فَهُمْ نَاكِبُونَ عَنِ الطَّرِيقِ بَلْهَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ التَّعْرِيفُ
فِي قَوْلِهِ عَنِ الصِّراطِ لِلْعَهْدِ بِالصِّرَاطِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ أَتَمُّ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ فَهُمْ إِذَنْ نَاكِبُونَ عَنْ كُلِّ صِرَاطٍ مُوصِلٍ إِذْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ فِي الْوُصُولِ.
وَالنَّاكِبُ: الْعَادِلُ عَنْ شَيْءٍ، الْمُعْرِضُ عَنْهُ، وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَفَرِحَ. وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَنْكَبِ وَهُوَ جَانِبُ الْكَتِفِ لِأَنَّ الْعَادِلَ عَنْ شَيْءٍ يُوَلِّي وَجْهَهُ عَنهُ بجانبه.
[٧٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٥]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٤] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ بِاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ وَتَنْدِيمٍ وَقَطْعٍ لِمَعَاذِيرِهِمْ، أَيْ لَيْسُوا بِحَيْثُ لَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ جُؤَارَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ لَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَمْرَةِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ سَجِيَّةً لَهُمْ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْهُمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥].
ولَوْ هُنَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمُرَادِ مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ إِذِ الْمَقَامُ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّأْيِيسِ مِنَ الْإِغَاثَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَلَيْسَ مَقَامَ اعْتِذَارٍ مِنَ اللَّهِ عَنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ أَوْ عَنْ إِمْسَاكِ رَحْمَتِهِ عَنْهُمْ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وَأَمَّا مَجِيءُ هَذَا الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ فَذَلِكَ مُرَاعَاةً لِمَا شَاعَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مُقَارَنَةِ (لَوْ) لِصِيغَةِ الْحَاضِرِ لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الْمَاضِي وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَزْمِ الْفِعْلِ بَعْدَهَا.
وَالْأَنْبَاءُ: ظُهُورُ صِدْقِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِتْيَانِ هُنَا الْبُلُوغَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: ٢١] لِأَنَّ بُلُوغَ الْأَنْبَاءِ قَدْ وَقَعَ فَلَا يُحْكَى بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ:
فَسَيَأْتِيهِمْ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً فَيَجُوزُ أَن يكون مَا صدقهَا الْقُرْآنَ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: ٢٣١]. وَجِيءَ فِي صلته بِفعل يَسْتَهْزِؤُنَ دُونَ (يُكَذِّبُونَ) لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كذّبوا بِهِ واستهزأوا بِهِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي بِهِ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ، وَأَنْبَاؤُهُ أَخْبَارُهُ بِالْوَعِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَا صدق مَا جِنْسَ مَا عُرِفُوا بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَهُوَ التَّوَعُّدُ، كَانُوا يَقُولُونَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ؟ وَنَحْوُ ذَلِك.
وَإِضَافَة أَنْبؤُا إِلَى مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عَلَى هَذَا إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ الَّذِي هُوَ أَنْبَاءُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ.
وَجَمْعُ الْأَنْبَاءِ عَلَى هَذَا بِاعْتِبَار أَنهم استهزأوا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْبَعْثُ، وَمِنْهَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهَا نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨]، وَمِنْهَا فَتْحُ مَكَّةَ، وَمِنْهَا عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: زَقُّمُونَا، اسْتِهْزَاءٌ.
وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ أَنْبَاءُ كَوْنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، أَيْ حُصُولِهِ، وَضَمِيرِ بِهِ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُرَادُ بِأَنْبَاءِ اسْتِهْزَائِهِمْ أَنْبَاءُ جَزَائِهِ وَعَاقِبَتِهِ وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ.
وَالْقَوْلُ فِي إِقْحَامِ فِعْلِ كانُوا هُنَا كَالْقَوْلِ فِي إِقْحَامِهِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: ٥] وَلَكِنْ أُوثِرَ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارع وَهُوَ يَسْتَهْزِؤُنَ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَتَجَدَّدُ عِنْدَ تَجَدُّدِ وَعِيدِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ.
وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ الْعَدَدِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي الْبَقَرَةِ [٢١٣]. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْقُونَ لِتَعْمِيمِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْقَى وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالنَّاسُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْمَسْقِيِّ وَلَكِنْ بِمَا بَعْدَهُ مِنِ انْزِوَاءِ الْمَرْأَتَيْنِ عَنِ السَّقْيِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» تَبَعًا «لِدَلَائِلِ الْإِعْجَازِ»، فَيَكُونُ مِنْ تَنْزِيلِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَوِ الْحَذْفُ هُنَا لِلِاخْتِصَارِ كَمَا اخْتَارَهُ السَّكَّاكِيُّ وَأَيَّدَهُ شَارِحَاهُ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ. وَأَمَّا حَذْفُ مَفَاعِيلِ تَذُودانِ- لَا نَسْقِي- فَسَقى لَهُما فَيَتَعَيَّنُ فِيهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخَانِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَشَارِحَاهُ فَشَيْءٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ وَإِنَّمَا اسْتِفَادَةُ كَوْنِهِمَا تَذُودَانِ غَنَمًا مَرْجِعُهَا إِلَى كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ.
وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِمُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي حَوْلَ الْمَاءِ، أَيْ فِي جَانِبٍ مُبَاعِدٍ لِلْأُمَّةِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلِمَةِ (دُونَ) أَنَّهَا وَصْفٌ لِلشَّيْءِ الْأَسْفَلِ مِنْ غَيْرِهِ. وَتَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ مُخْتَلِفَةُ الْعَلَاقَاتِ، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَ (دُونَ) بِمَعْنَى جِهَةٍ يَصِلُ إِلَيْهَا الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ السَّاقُونَ. شَبَّهَ الْمَكَانَ الَّذِي يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَ بَعْدَ مَكَانٍ آخَرَ بِالْمَكَانِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْآخَرِ كَأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْمَاشِي لِأَنَّ الْمَشْيَ يُشَبَّهُ بِالصُّعُودِ وَبِالْهُبُوطِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ.
وَيُحْذَفُ الْمَوْصُوفُ بِ (دُونَ) لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَيَصِيرُ (دُونَ) بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْمَحْذُوفِ.
وَحَرْفُ مِنَ مَعَ (دُونَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: ٩]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَهُوَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: ١٠]. وَالْمَعْنَى: وَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ فِي جِهَةٍ مُبْتَعِدَةٍ عَنْ جِهَةِ السَّاقِينَ.
وتَذُودانِ تَطْرُدَانِ. وَحَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الْأَنْعَامِ عَنِ الْمَاءِ وَلِذَلِكَ سَمُّوا الْقَطِيعَ مِنَ الْإِبِلِ الذَّوْدَ فَلَا يُقَالُ: ذُدْتُ النَّاسَ، إِلَّا مَجَازًا مُرْسَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
فِي الْحَدِيثِ «فَلَيُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي»
الْحَدِيثَ.
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: تَمْنَعَانِ إِبِلًا عَنِ الْمَاءِ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ صَاحِبَ
يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ وَالْخِزْيِ وَهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِعَذَابٍ مِنْ جِنْسِ مَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ، وَكَانَتِ الْغَايَةُ وَاحِدَةً، فَإِنَّ إِصَابَتَهُمْ بِعَذَابِ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ فِي كَوْنِ اسْتِئْصَالِهِمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُبَاشَرَةً، وَأَظْهَرُ فِي إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَذَابٍ لَا يُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا خَاصَّةً وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٥، ١٦]. وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى: بَطْشَةُ يَوْم بدر.
[٣٥]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٣٥]
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
أَمْ مُنْقَطِعَةٌ، فَهِيَ مِثْلُ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ هُوَ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ. وَإِذْ كَانَ حَرْفُ أَمْ حَرْفَ عَطْفٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا إِضْرَابًا عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَهُوَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءٍ، وَالْكَلَامُ تَوْبِيخٌ وَلَوْمٌ مُتَّصِلٌ بِالتَّوْبِيخِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الرّوم: ٣٤]. وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْ مُخَاطَبَتِكُمْ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بَقَوْلِهِ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الرّوم: ٢٩] فَهُوَ عَطْفُ ذَمٍّ عَلَى ذَمٍّ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَحَيْثُمَا وَقَعَتْ أَمْ فَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ.
فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَنَّهُ تَقْرِيرٌ عَلَى الْإِنْكَارِ كَأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ الْمَسْئُولَ لِيُقِرَّ بِنَفْيِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَلَمَّا جُعِلَ السُّلْطَانُ مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كِتَابٌ كَمَا قَالُوا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣]. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكَلُّمِ الدَّلَالَةُ بِالْكِتَابَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٩]، أَيْ تَدُلُّ كِتَابَتُهُ، أَيْ كُتِبَ فِيهِ بِقَلَمِ الْقُدْرَةِ أَنَّ الشِّرْكَ حَقٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ آتَيْناهُمْ
الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَلَوْ كَانَ نَاسِيا.
وَظَاهر حكايتهم عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَرْكَهَا إِنَّمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إِذَا كَانَ عَمْدًا وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ بَيَانًا لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي الْأَمْرِ مِنْ جِهَةِ الْوَقْتِ وَالْعَدَدِ، فَجَعَلُوا الْوَقْتَ هُوَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ لِلْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالتَّسْلِيمُ وَارِدٌ فِي التَّشَهُّدِ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ مَعَهُ عَلَى نَحْوِ مَا اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَرِدْ فِي مَقَامِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مُجْمَلًا بِلَا دَلِيلٍ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ فِي الصَّلَاةِ مُسْتَحَبَّةٌ وَهِيَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الَّذِي
جَرَى عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قُدْوَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ السَّلَفِ قَبْلَهُ، وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جِدًّا. وَهَذَا تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ فِيهِ الصَّلَاة على النبيء، كَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا تُعَلِّمُونَ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ، وَعَلَّمَهُ أَيْضًا عَلَى الْمِنْبَرِ عُمَرُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الصَّلَاة على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا سَنَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسْتَحَبَّ.
وَأَمَّا
حَدِيثُ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ»
فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ مَنْ جَرَى ذِكْرُهُ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ فِي افْتِتَاحِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْآذَانِ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُؤَذِّنِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ.
وَفِي التَّوْطِئَةِ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي يُصَلُّونَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَسِّيًا بِصَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا لَمْ نَقِفْ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى النبيء كلما جرى ذُكِرَ اسْمُهُ وَلَا أَنْ يَكْتُبُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إِذَا كَتَبُوا اسْمَهُ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَبْدَأِ كِتَابَةِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَوَجْهُ الْعَطْفِ بِـ أَوْ هُوَ جَعْلُهُمُ الْآبَاءَ الْأَوَّلِينَ قِسْمًا آخَرَ فَكَانَ عَطْفُهُ ارْتِقَاءً فِي إِظْهَارِ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّ آبَاءَهَمْ طَالَتْ عُصُورُ فَنَائِهِمْ فَكَانَتْ إِعَادَةُ حَيَاتِهِمْ أَوْغَلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْعَطْفِ وَالْهَمْزَةَ هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ فَهُمَا حَرْفَانِ. وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ حَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الْكثير. وَالتَّقْدِير: وأ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ مِثْلُنَا.
وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَرَفْعُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ الَّذِي كَانَ مُبْتَدَأً قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ، وَالْغَالِبُ فِي الْعَطْفِ عَلَى اسْمِ إِنَّ يَرْفَعُ الْمَعْطُوفَ اعْتِبَارًا بِالْمَحَلِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: ٣] أَوْ يُجْعَلُ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي خَبَرِ إِنَّ وَهُوَ هُنَا مَرْفُوعٌ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَبَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ، أَوْ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْهَمْزَةِ الْمُفْضِي إِلَى إِعْمَالِ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ فِيمَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ يُنَافِي صَدَارَةَ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ صَدَارَةَ الِاسْتِفْهَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُمْلَتِهِ فَلَا يُنَافِيهَا عَمَلُ عَامِلٍ مِنْ جُمْلَةٍ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْإِعْمَالَ اعْتِبَارٌ يَعْتَبِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ وَيَفْهَمُهُ السَّامِعُ فَلَا يُنَافِي التَّرْتِيبَ اللَّفْظِيَّ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: أَإِذا مِتْنا إِنْكَارِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ فَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَعَمْ جَوَابا لقَولهم أَإِذا مِتْنا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِصَرْفِ قَصْدِهِمْ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ظَاهِرِ الِاسْتِفْهَامِ فَجُعِلُوا كَالسَّائِلِينَ: أَيُبْعَثُونَ؟ فَقِيلَ لَهُمْ: نَعَمْ، تَقْرِيرًا لِلْبَعْثِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، أَيْ نَعَمْ تُبْعَثُونَ. وَجِيءَ بِ قُلْ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وأَنْتُمْ داخِرُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالدَّاخِرُ: الصَّاغِرُ الذَّلِيلُ، أَيْ تُبْعَثُونَ بَعْثَ إِهَانَةٍ مُؤْذِنَةٍ بِتَرَقُّبِ الْعِقَابِ لَا بَعْثَ كَرَامَةٍ.
وَفُرِّعَ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ الْحَاصِلِ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، أَنَّ بَعْثَهُمْ وَشِيكُ الْحُصُولِ لَا يَقْتَضِي مُعَالَجَةً وَلَا زَمَنًا إِنْ هِيَ إِلَّا إِعَادَةٌ تَنْتَظِرُ زَجْرَةً وَاحِدَةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِحَرْفِ هَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِعْطَافِ. وَحَرْفُ مِنْ زَائِدٌ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي النَّكِرَةِ لِيُفِيدَ تَطَلُّبَهُمْ كُلَّ سَبِيلٍ لِلْخُرُوجِ وَشَأْنُ زِيَادَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ دُونَ الْإِثْبَاتِ. وَقَدْ عدّ الِاسْتِفْهَام بهل خَاصَّةً مِنْ مَوَاقِعِ زِيَادَةِ مِنْ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: ٣٠]، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٣]، وَأَنَّ وَجْهَ اخْتِصَاصِ هَلْ بِوُقُوعِ مِنْ الزَّائِدَةِ فِي الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ بِهَا أَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ بِهَا فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَزِيَادَةُ مِنْ حِينَئِذٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَتَنْصِيصِ عُمُومِ النَّفْيِ، فَخَفَّ وُقُوعُهَا بَعْدَ هَلْ عَلَى أَلْسُنِ أَهْلِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَتَنْكِيرُ خُرُوجٍ لِلنَّوْعِيَّةِ تَلَطُّفًا فِي السُّؤَالِ، أَيْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخُرُوجِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِأَنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يَنْتَفِعُونَ بِهِ رَاحَةٌ مِنَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِمُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٩].
وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ وَاسْتُعِيرَ إِلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْأَمْرُ الْمَرْغُوبُ، وَكَثُرَ تَصَرُّفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِطْلَاقَاتِ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَالْمَسْلَكِ وَالْبُلُوغِ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَبِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.
وَتَنْكِيرُ سَبِيلٍ كَتَنْكِيرِ خُرُوجٍ أَيْ مِنْ وَسِيلَةٍ كَيْفَ كَانَتْ بِحَقٍّ أَوْ بِعَفْوٍ بِتَخْفِيفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»«وَهَذَا كَلَامُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ» يُرِيدُ أَنَّ فِي اقْتِنَاعِهِمْ بِخُرُوجٍ مَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ حُصُول الْخُرُوج.
[١٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٢]
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
عَدَلَ عَنْ جَوَابِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى ذِكْرِ سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ، وَإِذْ قَدْ كَانُوا عَالمين بِهِ حِين قَالُوا: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا [غَافِر: ١١]، كَانَتْ إِعَادَةُ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِ
يُلَاحِظُوا أَحْوَالَهُمْ نَحْو امْتِثَال رضى خَالِقِهِمْ وَمُحَاسِبَةِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَا يَحْسَبُوا أَنَّ الْجَزَاءَ الَّذِي أُوعِدُوا بِهِ مَقْصُورٌ عَلَى الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُهُمُ اللَّهُ بِمَا هُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا كَانَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الْقَحْطِ وَالْجُوعِ اسْتِجَابَةً لدَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّعْوَةُ نَاشِئَةً على مَا لاقوه بِهِ مِنَ الْأَذَى، لَا جَرَمَ كَانَ مَا أَصَابَهُمْ مُسَبَّبًا عَلَى مَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ.
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: ٢٨]،
وَأُطْلِقَ كَسْبُ الْأَيْدِي عَلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ بِمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنْ أَقْوَال الشّرك والأذى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ دِينِ الشِّرْكِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءٌ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ كُلِّهَا وَهُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِ الْآخِرَةِ وَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَبِمَا دَلَّ عَلَى شُمُولِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ سَبَبُ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ هُوَ أَعْمَالُكُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَر فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ عَلَى أَنَّ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَهِي مُبْتَدأ. وفَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ بِفَاءٍ قَبْلَ الْبَاءِ وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي مُصْحَفِ الْبَصْرَةِ وَمُصْحَفِ الْكُوفَةِ، عَلَى أَنَّ (مَا) مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَاقْتَرَنَ خَبَرُهَا بِالْفَاءِ لِذَلِكَ، أَوْ هِيَ شَرْطِيَّةٌ وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ وَيَكُونُ وُقُوعُ فِعْلِ الشَّرْطِ مَاضِيًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحَقُّقِ.
ومِنْ بَيَانِيَّةٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ وَاسْمِ الشَّرْطِ مِنَ الْإِبْهَامِ.
وَالْمُصِيبَةُ: اسْمٌ لِلْحَادِثَةِ الَّتِي تُصِيبُ بِضُرٍّ وَمَكْرُوهٍ، وَقَدْ لَزِمَتْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَادِثَةِ فَلِذَلِكَ تُنُوسِيَتْ مِنْهَا الْوَصْفِيَّةُ وَصَارَتِ اسْمًا لِلْحَادِثَةِ الْمَكْرُوهَةِ.
فَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تُعَيِّنُ مَعْنَى عُمُومِ التَّسَبُّبِ لِأَفْعَالِهِمْ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ لِأَنَّ (مَا) فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِمَّا شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطُ دَالٌّ عَلَى التَّسَبُّبِ وَإِمَّا مَوْصُولَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِالشَّرْطِيَّةِ، فَالْمَوْصُولِيَّةُ تُفِيدُ الْإِيمَاءَ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، وَتَشْبِيهُهَا بِالشَّرْطِيَّةِ يُفِيدُ التَّسَبُّبَ.
بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ وَرِفَاعَة بن التابوت وَالْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ وَمَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ (١).
وَالِاسْتِمَاعُ: أَشَدُّ السَّمْعِ وَأَقْوَاهُ، أَيْ يَسْتَمِعُونَ بِاهْتِمَامٍ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى وَعْيِ مَا يَقُوله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ يُلْقُونَ إِلَيْهِ بَالَهُمْ، وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِظْهَارِهِ لَا فِي مَعْنَى حُصُولِهِ. وَحَقُّ فِعْلِ اسْتَمَعَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الْأَحْقَاف: ٢٩] فَإِذَا أُرِيدَ تَعَلُّقُهُ بِالشَّخْصِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ يُقَالُ: اسْتَمَعَ إِلَى فُلَانٍ كَمَا قَالَ هُنَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَكَذَا جَاءَ فِي مَوَاقِعِهِ كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ابْتِدَائِيَّةٌ وإِذا اسْمُ زَمَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِ قالُوا.
وَالْمَعْنَى: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا إِلَخْ.
وَالْخُرُوجُ: مُغَادَرَةُ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مَحْصُورًا وَغَيْرَ مَحْصُورٍ، فَمِنْهُ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يُوسُف: ١٠٠]، وَمِنْهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١٠]. وَالْخُرُوجُ مِنْ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغَادِرَةُ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ هُنَا بِلَفْظِ عِنْدِكَ.
ومَنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ خَرَجُوا وَلَيْسَتِ الَّتِي تُزَادُ مَعَ الظُّرُوفِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٨٩].
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلَازِمُونَ لِمَجْلِسِهِ وَسُمِّيَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَسُئِلْتُ فِيمَنْ سُئِلَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يَقُولُهُ مِنَ الْإِرْشَادِ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْتَمِعُ لِيَشْمَلَ ذَلِكَ.
_________
(١) أَي فِي أول الْمدَّة من الْهِجْرَة ثمَّ حسن إِسْلَام مَالك بن الدخشم وَشهد بَدْرًا وَشهد لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخلاص إِسْلَامه كَمَا فِي حَدِيث عتاب بن مَالك فِي «صَحِيح البُخَارِيّ».
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْفُؤادُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فُؤَادُهُ وَعَلَيْهِ فَيَكُونَ تَفْرِيعُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا لِأَنَّهُمْ مَارَوْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ [النَّجْم: ٩] فَإِنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ بِمَرْأًى من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرفع احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي تَشْبِيهِ الْقُرْبِ، أَيْ هُوَ قُرْبٌ حِسِّيٌّ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اتِّصَالٍ رُوحَانِيٍّ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى مُسْتَعْمَلًا فِي الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ أَفَسَتُكَذِّبُونَهُ فِيمَا يَرَى بِعَيْنَيْهِ كَمَا كَذَّبْتُمُوهُ فِيمَا بَلَغَكُمْ عَنِ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُ قَائِلٌ: «أَتَحْسَبُنِي غَافِلًا» وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِي قَضِيَّتِهِمَا «أَتُحَاوِلَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا كَذَبَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ عَلَى حَالِهِمَا كَمَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَالْفُؤَادُ: الْعَقْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الْقَصَص: ١٠].
وَالْكَذِبُ: أُطْلِقَ عَلَى التَّخْيِيلِ وَالتَّلْبِيسِ مِنَ الْحَوَاسِّ كَمَا يُقَالُ: كَذَّبَتْهُ عَيْنُهُ.
وَمَا
مَوْصُولَةٌ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى عَبْدِهِ
فِي قَوْلِهِ:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
[النَّجْم: ١٠] أَيْ مَا رَآهُ عَبْدُهُ بِبَصَرِهِ.
وَتَفْرِيعُ أَفَتُمارُونَهُ عَلَى جُمْلَةِ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَفَتُمارُونَهُ مِنَ الْمُمَارَاةِ وَهِيَ الْمُلَاحَاةُ وَالْمُجَادَلَةُ فِي الْإِبْطَالِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ أَفَتَمْرُونَهُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مُضَارِعُ مَرَاهُ إِذَا جَحَدَهُ، أَيْ أَتَجْحَدُونَهُ أَيْضًا فِيمَا رَأَى، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَقَارِبٌ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَهُمْ قَائِلِينَ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِقَصْدِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدِينَهُ وَمُكَرِّرِينَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبِدَاءِ أَوِ الْخَاطِرِ الْمَعْدُولِ عَنْهُ.
والَّذِينَ نافَقُوا الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ هُنَا هُمْ فَرِيقٌ مِنْ بَنِي عَوْفٍ مِنَ الْخَزْرَجِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ سُمِّيَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَرَافِعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَأَوْس بن قيظي، وَوَدِيعَةُ بْنُ أَبِي قَوْتَلٍ، أَوِ ابْنُ قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدٌ (لَمْ يُنْسَبْ) وَدَاعِسٌ (لَمْ يُنْسَبْ)، بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ حِينَ حَاصَرَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ بَنِي النَّضِيرِ يَقُولُونَ لَهُمْ:
اثْبُتُوا فِي مَعَاقِلِكُمْ فَإِنَّا مَعَكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِإِخْوَانِهِمْ بَنُو النَّضِيرِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْإِخُوَّةِ لَهُمْ لِأَنَّهُمَ كَانُوا مُتَّحِدِينَ فِي الْكُفْرِ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ أُخُوَّةَ النَّسَبِ فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْمُنَافِقِينَ
الَّذِينَ بَعَثُوا إِلَيْهِمْ مِنْ بَنِي عَوْفٍ مِنْ عَرَبِ الْمَدِينَةِ وَأَصْلُهُمْ مِنَ الْأَزْدِ.
وَفِي وَصْفِ إِخْوَانِهِمْ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنْ جَانِبَ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ هُوَ الْكُفْرُ إِلَّا أَنَّ كُفْرَ الْمُنَافِقِينَ كُفْرُ الشِّرْكِ وَكُفْرَ إِخْوَانِهِمْ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْكُفْرُ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَامُ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، أَيْ قَالُوا لَهُمْ كَلَامًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ.
وَإِنَّمَا وَعَدُوهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ لِيَطْمَئِنُّوا لِنُصْرَتِهِمْ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّصْرِ وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُفَارِقُوا بِلَادَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ فَهِيَ مِنَ الْمَقُولِ لَا مِنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أُعْرِيَتْ عَنِ الْمُؤَكَّدِ لِأَنَّ بَنِي النَّضِيرِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يطيعون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْخَبَرِ.
وَمَعْنَى فِيكُمْ فِي شَأْنِكُمْ، وَيُعْرَفُ هَذَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فِي ضُرِّكُمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُوَالَاةِ إِخْوَانِهِمْ، وَيُقَدَّرُ الْمُضَافُ فِي مِثْلِ هَذَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، [الْمَائِدَة: ٥٢]
وَقَدِ اتَّبَعَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالُوا: يَكْشِفُ اللَّهُ عَنْ سَاقِهِ، أَيْ عَنْ مِثْلِ الرِّجْلِ لِيَرَاهَا النَّاسُ ثُمَّ قَالُوا هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، عَلَى أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ ساقٍ قَالَ يَكْشِفُ عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ يَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا
. وَرُوِيَتْ أَخْبَارٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ لَا جَدْوَى فِي ذِكْرِهَا.
والسُّجُودِ الَّذِي يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ: سُجُودُ الضَّرَاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِأَجْلِ الْخَلَاصِ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ.
وَعَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِمُ السُّجُودَ لِسَلْبِ اللَّهِ مِنْهُمُ الْاسْتِطَاعَةَ عَلَى السُّجُودِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا رَجَاءَ لَهُمْ فِي النَّجَاةِ.
وَالَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى السُّجُودِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْمَحْشَرِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [الْقَمَر: ٦- ٨]، أَوْ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ الدَّعْوَةِ إِلَى الشَّفَاعَةِ فِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ «فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَوْقِفِنَا هَذَا».
وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ: هَيْئَةُ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ بِذِلَّةٍ وَخَوْفٍ، اسْتُعِيرَ لَهُ وَصْفُ خاشِعَةً لِأَنَّ الْخَاشِعَ يَكُونُ مُطَأْطِئًا مُخْتَفِيًا.
وتَرْهَقُهُمْ: تَحِلُّ بِهِمْ وَتَقْتَرِبُ مِنْهُمْ بِحِرْصٍ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ، رَهِقَ مِنْ بَابِ فَرِحَ قَالَ تَعَالَى: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: ٤١].
وَجُمْلَةُ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَطِيعُونَ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهَا، أَيْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُمْ سَالِمُونَ مِنْ مِثْلِ الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا فِي يَوْمِ الْحَشْرِ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِلْاعْتِرَاضِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ سالِمُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُدْعَوْنَ أَيْ وَهُمْ قَادِرُونَ لَا عِلَّةَ تَعُوقُهُمْ عَنْهُ فِي أَجْسَادِهِمْ. وَالسَّلَامَةُ: انْتِفَاءُ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُمْ مُلْجَأُونَ لعدم السُّجُود.
أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْعَشِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الضُّحَى، فَالْعَشِيَّةُ أَقْرَبُ وَالضُّحَى أَسْبَقُ.
وَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ أَيْضًا رِعَايَةٌ عَلَى الْفَوَاصِلِ الَّتِي هِيَ عَلَى حَرْفِ الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ أَيَّانَ مُرْساها وَبِانْتِهَاءِ هَاتِهِ السُّورَةِ انْتَهَتْ سُوَرُ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ الَّتِي مَبْدَؤُهَا سُورَةُ الْحُجُرَاتِ.


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
نُبِّهَتْ وَالرُّقَادُ قَدْ عَلَاهُمَا إِلَى أَمُونَيْنِ فَعَدَّيَاهُمَاِِِِِِِِ