فتأمل شهادة هذا المقسم به للمقسم عليه ودلالته عليه أتم دلالة ولو أن رجلا أنشأ رسالة واحدة بديعة منتظمة الأول والآخر متساوية الأجزاء يصدق بعضها بعضا أو قال قصيدة كذلك أو صنف كتابا كذلك لشهد له العقلاء بالعقل ولما استجاز أحد رميه بالجنون مع إمكان بل وقوع معارضتها ومشاكلتها والإتيان بمثلها أو أحسن منها فكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء كلهم قاطبة عن معارضته ومماثلته وعرفهم من الحق مالا تهتدي عقولهم إليه بحيث أذعنت له عقول العقلاء وخضعت له ألباب الأولياء وتلاشت في جنب ما جاء به بحيث لم يسعها إلا التسليم له والانقياد والإذعان طائعة مختارة وهي ترى عقولها أشد فقرا وحاجة إلى ما جاء به ولا كمال لها إلا بما جاء به فهو الذي كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدي ولهذا فإن أتباعه أعقل الخلق على الإطلاق وهذه مؤلفاتهم وكتبهم في الفنون إذا وازنت بينها وبين مؤلفات مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها ويكفي في عقولهم أنهم عمروا الدنيا بالعلم والعدل والقلوب بالإيمان والتقوى فكيف يكون متبوعهم مجنونا وهذا حال كتابه وهديه وسيرته وحال أتباعه وهذا إنما حصل له ولأتباعه بنعمة الله عليه وعليهم فنفى عنه الجنون بنعمته عليه
وقد اختلف في تقدير الآية فقالت فرقة الباء في بنعمة ربك باء القسم فهو قسم آخر اعتراض بين المحكوم به والمحكوم عليه كما يقول ما أنت بالله بكاذب وهذا التقدير ضعيف جدا لأنه قد تقدم القسم الأول فكيف يقع القسم الثاني في جوابه ولا يحسن أن تقول والله ما أنت بالله بقائم وليس هذا من فصيح الكلام ولا عهد في كلامهم وقالت فرقة العامل في بنعمة ربك أداة معنى النفي أو معنى أنفي عنك الجنون بنعمة ربك ورد أبو عمر ابن الحاجب وغيره هذا القول بأن الحروف لا تعمل معانيها وإنما تعمل ألفاظها وقال الزمخشري يتعلق ﴿ بنعمة ربك بمجنون ﴾ منفيا كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك أنت بنعمة الله عاقل يستويان في ذلك الاثبات والنفي استواءهما في قولك ضرب زيد عمرا وما ضرب زيد عمرا يعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا ومحله النصب على الحال أي ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي

__________


الصفحة التالية
Icon