ولما كان القلب ملك البدن ومعدنا للحرارة الغريزية فإذا دخل الهواء البارد وصل إليه فاعتدلت حرارته وبقي هنالك ساعة فسخن واحترق فاحتاج القلب إلى دفعه وإخراجه فجعل أحكم الحاكمين إخراجه سببا لحدوث الصوت في الحنجرة والحنك واللسان والشفتين والأسنان مقاطع ومخارج مختلفة وبسبب اختلافها تميزت الحروف بعضها عن بعض ثم ألهم العبد تركيب تلك الحروف ليؤدي بها عن القلب ما يأمر به
فتأمل الحكمة الباهرة حيث لم يضع سبحانه ذلك النفس المستغنى عنه المحتاج إلى دفعه وإخراجه بل جعل فيه إذا استغنى عنه منفعة ومصلحة هي من أكمل المنافع والمصالح فإن المقصود الأصلي من النفس هو اتصال الريح البارد إلى القلب فأما إخراج النفس فهو جار مجرى دفع الفضلة الفاسدة فصرف ذلك سبحانه إلى رعاية مصلحة ومنفعة أخرى وجعله سببا للأصوات والحروف والكلام
ثم أنه سبحانه جعل الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة لتختلف الأصوات باختلافها فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان وهذا من أظهر الأدلة فإن هذا الاختلاف الذي بين الصور والأصوات على كثرتها وتعددها فقلما يشتبه صوتان أو صورتان ليس في الطبيعة ما يقتضيه وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين فميز سبحانه بين الأشخاص بما يدركه السمع والبصر فصل
وأودع اللسان من المنافع منفعة الكلام وهي أعظمها ومنفعة الذوق والإدراك وجعله دليلا على اعتدال مزاج القلب وانحرافه كما جعله دليلا على استقامته واعوجاجه فترى الطبيب يستدل بما يبدو البصر على اللسان من الخشونة والملاسة والبياض والحمرة والتشقق وغيره على حال القلب والمزاج وهو دليل قوي على أحوال المعدة والأمعاء كما يستدل السامع بما يبدو عليه من الكلام على ما في القلب فيبدو عليه صحة القلب وفساده معنى وصورة