اختلف حولها الإنسان في عالم الجسد المادي بما له من مقتضيات الخلاف واللدد في الخصومة، وتلك الحقيقة العظمى هي الوجود الإلهي، وإذعان كل الكائنات لسلطانه طوعًا أو كرهًا؛ ولذلك ارتبط إثبات البعث بإثبات الوجود الإلهي، وإثبات الدلائل على شمول علمه وقدرته، وارتبط كل ذلك بأصل الفطرة على الوجه الذي بيناه في هذه العجالة، وكان من تلك المسائل شطر كبير من القرآن، تبعًا لجهل أكثر الناس بها، ونسيان فطرتهم وهم يحاولون علمها، وتشددهم في إنكارها أو الغفلة عنها ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ١.
فلما كان الخلاف مركوزًا في الفطرة، لم تكن هناك سبيل إلى إدراك حقيقة البعث المؤكد للحقيقة الإلهية العظمى إلا حين يرتفع الخلاف بنقل الحياة إلى صورة أخرى ذات فطرة لا خلاف فيها، فيتحقق وجود حالة من الحياة مغايرة لتلك الحياة التي يحياها الإنسان في الدنيا ينكشف فيها الغطاء، ويحد البصر، فيرى ما لم يكن يراه من قبل ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ ٢، فلا خلاف ولا تطاحن حول الحقائق.
ويطول بنا القول لو ذهبنا نستقصي منهج القرآن في إثبات هذا الشطر من فطرة الإنسان؛ ولكننا نشير إلى قسم آخر من أقسام تلك الفطرة؛ هو الحرية الإنسانية التي ترتبط هي الأخرى بموضوع البعث ارتباطًا وثيقًا؛ بحيث تشكل معه ومع العبودية والفقر إلى الله موضوعًا واحدًا، يتصل بموضوعات أخرى فرعية هي مقومات أو شواهد على صدق تلك الفطرة الإلهية الحكيمة، وتستغرق شطرًا كبيرًا من القرآن.
٢ سورة الحجر، الآية: ٤٧.