ولا يخلو موضوع من موضوعات التشريع من دليل واضح على تلك الفطرة الثابتة، وخير ما يمكن أن ندرك من خلاله موضوع الحرية الإنسانية هو موضوع الرق وما يتصل به من تشريعات؛ إذ إن الرق والعبودية لما كانا من فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وأن الملكية للإنسان في الدنيا ما هي إلا ابتلاء ينال الإنسان من خلالها ومن خلال الأوامر المتصلة بها حقيقة الحرية، فقد شرع الله من التشريعات السلوكية في هذا الصدد ما تتضح به تلك الفطرة لكل ذي عينين.
يملك الرجل أخاه ملك يمين بسبب مشروع هو أن يكون أو أحد أصوله ممن تمردوا على دعوة العبودية لله بالسلاح فأسروا في الحرب الدينية؛ ولكن رحمة الله اقتضت أن يشرع له وجه من وجوه الحرية هو "المكاتبة"، والكتابة باب واسع في الفقه الإسلامي، يشتري العبد حريته من سيده بمال معلوم، ولما كان العبد لا يملك، فقد ندب السيد إلى أن يأذن له في العمل بجزء من المال إحسانًا، ويتصرف العبد بقدر ما انفك عنه الحجر، كأنه مالك وليس إلا عبدًا، فإذا أدى عتق، وإذا عجز بقي عبدًا، ومن هذه القضية التي يمارسها الإنسان بأمر الله يمكن الفصل في قضية الحرية الكبرى على المستوى الغيبي، بعد دراستها على المستوى المشهود.
فالحرية الممنوحة من الله تعالى لعباده الذين أدوا ما وجب عليهم في دار الابتداء تشمل الذات في الدنيا والصفات في الآخرة جميعًا، ويشهد لذلك قوله تعالى عن هؤلاء الأحرار في دار النعيم: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ ١، فما يريده هؤلاء الأحرار يتحقق بمجرد المشيئة، وتحقق المراد بمجرد المشيئة وإن كان حقًّا لله فقد أكرم الله به عبده المطيع بتكوين ما يشاؤه.
فإذا كانت الحرية في الدنيا هي خلاص حق الحر في نفسه وماله، فما

١ سورة "ق"، الآية: ٣٥.


الصفحة التالية
Icon