كخطوة في الطريق إلى تحرير موطن النزاع، وأتكلًّمُ عن حكمه ودليل وقوعه عند القائلين به، وأذكر أنواعه بشيء من التفصيل، إلى آخر ما يتعلق به من المسائل، وأحاول جهدي أن أتحرَّى الدقة والأمانة في تحرير المسائل ونسبة الأقوال لقائليها، والفصل بين القائلين بالنَّسْخِ والمنكرين له، على ضوء ما قال هؤلاء وهؤلاء في تفسير الآيات التي بدا لكثير من الباحثين أنها منسوخة.
والحق أننا لو عرفنا تعريف النَّسْخِ عند المتقدمين وعند المتأخرين لاستطعنا أن نعتبر الخلاف في هذه القضية لفظيًّا، نشأ من توسعة دائرته عند المتقدمين وتضيقها عند المتأخرين؛ ولهذا كان تحرير مواطن النزاع ضروريًّا في أي قضية يراد البتّ فيها.
ولقد قرأت في موضوع النَّسْخِ كثيرًا من الكتب التي ألَّفَها كبار العلماء من القدامى والمعاصرين، ووقفت على وجهات النظر المختلفة، وخرجت برأي يجمع بين ما رآه هؤلاء وهؤلاء في هذه القضية الشائكة، ولكني لا أصرِّح به الآن، وسوف يعلمه القارئ من خلال العرض في هذا الكتاب -إن شاء الله تعالى.
مفهوم النَّسْخِ في اللغة:
يذكر اللغويون لمادة النَّسْخِ عدة معانٍ تدور حول: النقل والإثبات، والتبديل والتحويل، والرفع والإزالة.
قال ابن فارس في مقاييس اللغة: "النون والسين والخاء أصل واحد، إلّا أنه مختلف في قياسه.
قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه.
وقال آخرون: قياسه تحويل شيء إلى شيء". أ. هـ.
وقال ابن منظور في لسان العرب: النَّسْخُ تبديلُ الشيء من الشيء وهو غيره... ، والنسخ: نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو.
يقال -مثلًا- نسخت الكِتَاب، أي: نقلت ما فيه مع بقائه كما هو.
وقد سُمِّيَتْ النسخة نسخة؛ لأنه ينقل الشيء من غيرها إليها.